الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
تقديم الكفارة على الحنث في اليمين
اتفق الفقهاء على أن من حلف على يمين ثم حنث فيه وتراجع عن إمضائه، ثم كفر بعد ذلك فإن الكفارة تجزئه.
واختلفوا فيما إذا كفر عن يمينه قبل الحنث، هل تجزئ الكفارة أم لا؟
القول الأول: أن الكفارة تجزئ قبل الحنث، وهو رواية لمالك، وهو مذهب أحمد (1).
القول الثاني: أن الكفارة لا تجزئ قبل الحنث، وهو قول أبي حنيفة، ورواية لمالك (2).
القول الثالث: أن الكفارة قبل الحنث تجزئ في الإطعام، والكسوة والعتق دون الصيام، وهو مذهب الشافعية (3).
وسبب اختلافهم شيئان:
أحدهما: اختلاف الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه). فإن قومًا رووه هكذا،
(1) بداية المجتهد (2/ 182)، المغني (9/ 520).
(2)
المبسوط (8/ 147).
(3)
الحاوي (15/ 290)، البيان للعمراني (10/ 587).
وقوم رووه: (فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير). وظاهر هذه الرواية أن الكفارة تجوز قبل الحنث، وظاهر الثانية أنها بعد الحنث.
والسبب الثاني: اختلافهم في هل يجزئ تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه؟ لأنه من الظاهر أن الكفارة إنما تجب بعد الحنث، كالزكاة بعد الحول.
ولقائل أن يقول: إن الكفارة إنما تجب بإرادة الحنث والعزم عليه كالحال في كفارة الظهار، فلا يدخله الخلاف من هذه الجهة.
وكان سبب الخلاف من طريق المعنى هو: هل الكفارة رافعة للحنث إذا وقع، أو مانعة له؟ فمن قال: مانعة، أجاز تقديمها على الحنث، ومن قال: رافعة، لم يجزها إلا بعد وقوعه (1).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، فالآية الكريمة رتبت الكفارة على اليمين المنعقدة لا على الحنث.
(1) بداية المجتهد (2/ 182).
قال القرطبي: "اليمين سبب الكفارة؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ذَلِكَ} [المائدة: 89] فأضاف الكفارة إلى اليمين، والمعاني تضاف إلى أسبابها؛ وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث"(1).
2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: (إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها .. فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير)(2)(3).
3 ـ وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(وإني - إن شاء الله - لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير. أو أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني)(4).
4 ـ ولأنه كفر بعد وجود السبب، فأجزأ، كما لو كفر بعد الجرح، وقبل الزهوق، والسبب هو اليمين بدليل قوله تعالى {ذلك كفارة أيمانكم} [المائدة: 89]. وقوله سبحانه {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2].
5 ـ ولأنه حق مال يتعلق بسببين يختصان به، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها
(1) الجامع لأحكام القرآن (6/ 275).
(2)
أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652)، وأبو داود (3277).
(3)
البيان للعمراني (10/ 587)،
(4)
أخرجه البخاري (6623)، ومسلم (1649).
خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك) (1) فالحديث رتب الكفارة على الحنث لا على اليمين.
2 ـ أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة؛ لأن أدنى حد السبب أن يكون مؤديًا إلى
الشيء طريقًا له، واليمين مانعة من الحنث محرمة له فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث (2).
3 ـ الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك إثم حتى يُرفع فلا معنى لفعلها.
4 ـ الآية الكريمة فيها إضمار فيصبح المعنى: (أي: إذا حلفتم وحنثتم)، ورده مخالفوه فقالوا: بل التقدير (إذا حلفتم فأردتم الحنث .. ).
5 ـ وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح قياساُ على الصلوات وسائر العبادات (3).
وفرق أصحاب القول الثالث وهم الشافعية بين تقديم الخصال الثلاث، وبين الصوم، أنه عبادة بدنية لا حاجة به إلى تقديمها، فلم يجز تقديمها قبل الوجوب، كصوم رمضان (4).
والراجح هو القول الأول:
لقوة أدلته، ولأن الحنث شرط وليس بسبب، وتعجيل حق المال بعد وجود سببه
(1) أخرجه البخاري (6722)
(2)
المبسوط (8/ 148)
(3)
بدائع الصنائع (3/ 19).
(4)
البيان للعمراني (10/ 588).
وقبل وجود شرطه جائز، بدليل تعجيل الزكاة بعد وجود النصاب وقبل الحول، وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الزهوق.
قال ابن عبد البر: "وكان أبو حنيفة وأصحابه لا يجيزون الكفارة قبل الحنث؛ لأنها إنما تجب بالحنث، والعجب لهم أنهم لا تجب الزكاة عندهم إلا بتمام مرور الحول، ويجيزون تقديمها قبل الحول من غير أن يروا في ذلك مثل هذه الآثار، ويأبون من تقديم الكفارة قبل الحنث مع كثرة الرواية بذلك والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها"(1).
وأما أصحاب الشافعي فهم محجوجون بالأحاديث، مع أنهم قد احتجوا بها في البعض، وخالفوها في البعض، وفرقوا بين ما جمع بينه النص، ولأن الصيام نوع تكفير، فجاز قبل الحنث، كالتكفير بالمال، وقياس الكفارة على الكفارة أولى من قياسها على الصلاة المفروضة بأصل الوضع (2).
ولا يصح قياس كفارة اليمين على الصلاة وغيرها من العبادات المؤقتة؛ لأن الصلاة ونحوها عبادة مؤقتة بوقت له بداية ونهاية فلا يجوز فعلها قبل وقتها ولا بعد خروج وقتها بخلاف الكفارة فهي غير مؤقتة وإنما تتعلق بسببها ووقتها موسع، وأما الزكاة فقد قلنا إنه يجوز أدائها بعد وجود سببها، وقبل تحقق شرطها فيجوز إخراجها بعد امتلاك النصاب وقبل حولان الحول، وقياس الكفارة على الزكاة أولى من قياسها على الصلاة.
(1) التمهيد (21/ 247).
(2)
المغني (9/ 521).