الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وَلَا يَنْبَغِيْ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى
أَقَارِبٍ أَوْ أَجَانِبٍ؛ لِئَلَّا يُصَادِفَ بَذْلَةً مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ.
وَيَسْتَأْذِنُ ثَلَاثَاً، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ.
(فصل: ولا ينبغي لأحد أن يهجم ....... وإلا رجع).
هذا الفصل يتعلق بمسألة الاستئذان.
والاستئذان طلب الإذن من أجل الدخول في البيوت، والمحالّ التي يستتر فيها الناس كالحُجر، والأبنية، والمجالس المستورة، ومثله في عصرنا الاستراحات وما أشبه ذلك، فالأصل أن الإنسان لا يتقحم بيت غيره، ولا مكاناً يستتر به الناس عادة، سواء كان هذا المستتر واحداً أو جماعة إلا بإذن، وهذا الإذن إما أن يكون إذناً صريحاً، أو إذناً جرت به العادة.
فالإذن الصريح: بأن يسمح صاحب الدار بكلام، أو إرسال من يأذن له، ثم الإتيان فوراً.
والعرفي: كأن يكون الباب مفتوحاً وقد سبق له سماح بالقدوم.
وأما فتح الباب من دون سبق إذن بالدخول فلا يبيح الدخول، فإن بعض الناس قد يفتح بابه، فهذا لا يعني جواز الدخول، ولا يعني جواز النظر أيضاً.
وقال بعض الناس: أن الإنسان إذا فتح باب داره، فيجوز للمار أن ينظر؛ لأنه لا ينظر من ثقب الباب، بل ينظر والباب مفتوح، وليس هذا بصحيح فلا يجوز النظر للعورة، ولو كانت مكشوفة في الشارع، فكيف وهي في البيت، وأما الدخول فمتفقون على أنه لا يدخل إلا باستئذان، سواءً كان الباب مفتوحاً أو مغلقاً.
وقد ثبت في السنة: أن الإنسان إذا أتى دار غيره أن يستأذن ثلاث مرات من أجل أن يسمع أهل الدار، وينظروا في الأمر ويتأملوا، فإن شاؤوا بعد الثالثة سمحوا بالدخول، وإن شاؤوا سكتوا، وعلى الذي في الخارج أن يرجع، كما قال تعالى:{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} (1)
وصفة الاستئذان: إن كان الإنسان قريباً يسمع الكلام أن يقول: السلام عليكم يا فلان أأدخل؟ ثلاث مرات، ويفرق بينها، فإن لم يجد جواباً فليرجع، وإن لم يكن أهل الدار قريبين والباب مقفل أو به جرس فبالدق بحيث يغلب على الظن أن أهل الدار يسمعون، وقد روى أبو
(1) النور: 28.
داود في باب الاستئذان بالدق (1) في سننه، فهذا يجري مجرى الاستئذان، وجرت به العادة في هذه الأعصار وقبلها بأزمنة، بل وجد في عهد الصحابة أن طرق الباب يؤذن بأن شخصاً عند الباب، فيضربه ثلاث مرات متفرقة، فالمرة الثالثة إن لم يؤذن له فينصرف، وحينئذٍ يجب الانصراف ويحرم أن يزيد رابعة ،ويجب على الإنسان إذا سئل عن اسمه وهو يستأذن على أهل البيت، أن يصرح باسمه، ولا يقول: أنا، وقد استأذن جابر مرةً على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«من» ؟ ، فقال: أنا، فقال:"أنا أنا"، فكأنه كرهها. (2)؛ لأنه لا يحصل بها التعريف، فإن (أنا) تصدُق على جميع الناس، فلا يقول الإنسان: أنا، بل يقول: أنا فلان، وإن كان معروفاً بصوته، لأجل أنه قد تختلط الأصوات على صاحب المكان، وصح عن أبي موسى رضي الله عنه: أنه أتى عمر، فاستأذن ثلاثاً، فقال: يستأذن أبو موسى، يستأذن الأشعري، يستأذن عبد الله بن قيس. فلم يؤذن له، فرجع، فبعث إليه عمر ما ردك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع» (3)
(1) سنن أبي داود (4/ 512).
(2)
أخرجه البخاري (رقم: 8965) ومسلم (رقم: 2155).
(3)
أخرجه ومالك (رقم: 3540) والطيالسي (رقم: 2164) والبخاري (رقم: 1956) ومسلم (رقم: 2153) وأبو داود (رقم: 5183) وابن ماجه (رقم: 3706).
يعني أتى بالاسم والكنية واللقب، هذا ما يتعلق بالاستئذان من خارج البيوت.
أما بالنسبة للاستئذان من داخل البيوت: فهو أشد على أهل الدار، وقد يقال أيضاً: الاستئذان من الخارج أشد؛ لأجل أنه أجنبي.
واستئذان أهل الدار بعضهم على بعض، هذا جاء في قوله تعالى في سورة النور:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} (1) ثم قال تعالى في الآية التي بعدها: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)} (2)
هذه الآية دلت على وجوب الاستئذان داخل الدور إذا كان للشخص مكان خاص ليس مفتوحاً؛ كالصالة أو نحوها، يجب أن يعلم الولد أدب الاستئذان، فالذي لم يبلغ يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة،
(1) النور: 58.
(2)
النور: 59.
وكذلك الخدم الذين يخدمون أهل الدار يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة، فلهم أن يدخلوا على أهل الدار في كل وقت؛ إلا في هذه الأوقات الثلاثة، فيجب عليهم أن يستأذنوا قبل صلاة الفجر، وحين وضع الثياب من الظهيرة وعند القيلولة، وبعد صلاة العشاء، فإن الناس في هذه الأوقات قد يدخلون أماكنهم الخاصة، ويستريحون فيها، ويضعون ثيابهم، وقد يكون المرء على أهله فيجب حينئذٍ الاستئذان؛ حتى على الصبية الذين لم يبلغوا، حتى ينشأ هذا الولد على الطهر والعفاف، ولا يألف المناظر السيئة بذاكرته، أما إذا بلغ الأطفال الحلم، فيجب أن يستأذنوا في كل وقت، إنما الذي يستأذن في الأوقات الثلاثة هم الخدم (1) لدعاء الحاجة والتردد للخدمة، والصبية الصغار الذين لم يبلغوا، وأما إذا بلغوا فيستأذنون في كل وقت.
فمن الآداب أن الإنسان إذا دخل على أمه في غرفة النوم، ولو كان الوقت ظهراً أو عصراً أو مغرباً أو عشاءً، أن يستأذن عند الباب، فيدخل إذا سمح له بالدخول، وإلا انصرف، وقد روى مالك عن صفوان بن سليم وكان أحد كبار العُبَّاد، عَبَدَ اللهَ عز وجل حتى انحنت جبهته، عن عطاء بن يسار: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: أستأذن على أمي؟ قال:
(1) المراد بالخدم هم المملوكين.
«نعم» قال: إني معها في البيت! قال: «استأذن عليها» فقال: إني أخدمها!! قال: «أتحب أن تراها عريانة» ؟ قال: لا، قال:«فاستأذن عليها» (1)
ويستأذن الإنسان على أمه؛ لأنه قد تكون الأم في غرفتها الخاصة على هيئة لا تحب أن يرى منها هذا الشيء، وكذلك الأخ على أخيه، والبنت على أخيها، ومن باب أولى الذكر على الأنثى، وهذا الأثر عند مالك وقال عنه ابن عبد البر:(2) هو مرسل صحيح لا يصح وصله من طريق. ا. هـ
لكن معناه لا شك فيه، وسواءً كان باب الغرفة التي يستأذن عليها مفتوحاً أو مغلقاً، أما الصبية الذين لا يميزون، فينبغي أن يكون معهم من يربيهم على هذه الآداب، ومما ذكر عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه إذا أراد جماع أهله يُخرج من في البيت، حتى الصبي الذي في المهد يأمر به فيخرج، فيأتي أهله.
ولأن بعض الصبية الصغار تقع هذه الرؤية في مخيلته وذاكرته فلا ينساها، فإذا كبر صارت هذه الصورة في مخيلته، وقد تقوده إلى ما لا
(1) أخرجه مالك (رقم:3538) عن عطاء، وابن أبي شيبة (رقم:17890) عن زيد بن أسلم.
(2)
التمهيد (16/ 229) طبعة: مؤسسة قرطبة.
ينبغي، وهذا من محاسن الشريعة، ولهذا قال ابن كثير (1) عند هذه الآية: هذا كله لما يُخشى من هجوم الأولاد على أبيهم، أو على أمهم، وهي مع زوجها، وقد علاها فيكون هناك مالا تحمد عقباه. ا. هـ
قوله: (لئلا يصادف بِذلة من كشف عورة)
البذلة: هي التبذل وهي اللباس الغير ساتر.
وقوله: (ويستأذن ثلاثاً، فإن أُذن له وإلا رجع)
فينبغي للمرء تعليم أولاده هذا الأدب.
(1) تفسير ابن كثير - (6/ 81) دار طيبة للنشر والتوزيع (ط2).