المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلولبس الحرير محرم على الرجال - اللباب «شرح فصول الآداب»

[عبد الله بن مانع الروقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فَصْلٌالسَّلَامُ المُبْتَدَأُ يَكُوْنُ مِنَ المَاشِي عَلَى القَاعِدِ

- ‌وهل بعد هذه الصورة الأخيرة رتبة فضل في رد السلام

- ‌فَصْلٌوَالمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ

- ‌مسألة: من أحكام المصافحة:

- ‌ومن المسائل الملحقة بهذا الفصل المهم:

- ‌فَصْلٌوَيَنْبَغِيْ لِلإِنْسَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيْ سِرِّ قَوْمٍ

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ الخُيَلَاءُ وَالزَّهْوُ فِيْ المَشْيِ

- ‌فَصْلٌوَمِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ

- ‌فَصْلٌوَعَشَرَةٌ مِنَ الفِطْرَةِ

- ‌والشعور في البدن تنقسم ثلاثة أقسام:

- ‌فصل في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الباب

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ

- ‌مسألة: أما الصبغ بغير السواد

- ‌فَصْلٌوَلَا يَنْبَغِيْ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى

- ‌فَصْلٌوَيَحْرُمُ أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُوْنَ ثَالِثٍ

- ‌فَصْلٌوَيُسْتَحَبُّ اِفْتِتَاحُ الأَكْلِ بِبِسْمِ اللهِ

- ‌فَصْلٌوَمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ يُغْلِقُ بَابَهُ

- ‌فَصْلٌويُسْتَحَبُّ تَحْوِيْلُ غَسْلِ اليَدِ مِنَ الزُّهَامِ

- ‌ مسقطات وجوب إجابة الدعوة:

- ‌مسألة ضرب الدف:

- ‌فَصْلٌوَالغِيْبَةُ حَرَامٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ

- ‌فَصْلٌفَصَارَتِ الغِيْبَةُ:

- ‌فَصْلٌوَلُبْسُ الحَرِيْرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ

- ‌مباحث في ضرب الدف

- ‌فَصْلٌوَالتَّدَاوِيْ بِالحِجَامَةِ وَالفَصْدِ وَالكَيِّ

- ‌فَصْلٌوَمَنْ رَأَى مِنَ الحَيَّاتِ شَيْئًا فِي مَنْزِلِهِ

- ‌فَصْلٌوَيَجُوْزُ قَتْلُ الأَوْزَاغِ

- ‌فَصْلٌوَلَا يَجُوْزُ إِخْصَاءُ البَهَائِمِ

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ إِزَالَةُ الأَوْسَاخِ فِي الْمَسَاجِدِ

- ‌فَصْلٌوَبِرُّ الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ الاتِّكَاءُ عَلَى يُسْرَى يَدَيْهِ

- ‌قوله: (ويكره الجلوس بين الشمس والظل)

- ‌فَصْلٌوَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُوْلَ عِنْدَ النُّهُوْضِ مِنَ المَجْلِسِ:

الفصل: ‌فصلولبس الحرير محرم على الرجال

‌فَصْلٌ

وَلُبْسُ الحَرِيْرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ

، مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ التَحَلِّيْ بِالذَّهَبِ حَتَى الخَاتَمِ، وَلَو بِقَدْرِ عَيْنِ الجَرَادَةِ.

وَلَا يُكْرَهُ لُبْسُ الخَزِّ الَّذِي يَشُوْبُهُ الوَبَرُ؛ وَكَذَلِكَ القَبَاطِيُّ الَّذِيْ يَكُوْنُ القُطْنُ فِيْهِ أَكْثَرَ مِنَ القَزِّ.

وَلَا يَجُوْزُ جَعْلُ الصُّوَرِ فِي الثِيَابِ، وَلَا المَفَارِشِ وَالسُّتُوْرِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى صُوْرَةِ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَة)).

وَالاخْتِيَارُ: التَخَتُّمُ فِي اليَسَارِ، وَإِنْ تَخَتَّمَ فِي اليَمِيْنِ فَلَا بَأْس.

وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءً وَبَطَرًا.

وَدُخُوْلُ الحَمَّامِ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ بِالمَيَازِرِ السَّاتِرَةِ، وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ؛ إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ وَحَاجَةٍ.

وَلَا بَأْسَ بِالخِضَابِ بِالحِنَّاءِ، وَهُوَ يُسْتَحَبُّ، وَكَذَلِكَ الكَتَمُ، وَيُكْرَهُ بِالسَّوَادِ.

وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ لَهُ بِمَحْرَمٍ.

ص: 226

وَلَا يَجْتَمِعُ رَجُلَانِ وَلَا امْرَأَتَانِ عَرْيَانَيْنِ، فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَلَا إِزَارٍ وَاحِدٍ.

وَلَا يَجُوْزُ تَعَمُّدُ حُضُوْرِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَلَا شَيءٌ مِنَ المَلَاهِي المُطْرِبَةِ، كَالطَّبْلِ وَالزَّمْرِ، وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ الدُّفُ لِلنِّكَاحِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوْا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ)).

وَلَا بَأْسَ بِالرُّقْيَةِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ التَعْوِيْذُ بِهِ.

قوله: (ولبس الحرير محرم على الرجال مباح للنساء

)

اتفق العلماء رحمهم الله على تحريم أن يلبس الرجل الحرير، وأن يجلس عليه، وأن يلتحف به، أو أن يقعد عليه في حال الاختيار والسعة، والأدلة في ذلك كثيرة:

منها حديث البراء رضي الله عنه المتفق عليه، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: ومنها-: خاتم الذهب ولبس الحرير. (1) وكذلك ما أخرجه

(1) أخرجه البخاري (رقم: 1182 و 4880 و 5326) ومسلم (رقم: 2066).

ص: 227

البخاري عن حذيفة رضي الله عنه، قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه» (1)

والديباج، هو: ضرب من الثياب الجميلة، ولحمته من الحرير فهو فارسي معرب.

وكذلك في حديث عمر المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (2)

وكذلك حديث أنس (3) المتفق عليه، وكذلك حديث عمر:

(1) أخرجه البخاري (رقم: 5110 و 5312 و 5499) وفي لفظ: قال: عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنهم كانوا عند حذيفة فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين؛ كأنه يقول: لم أفعل هذا ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:«لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» وفي لفظ: كان حذيفة بالمداين فاستسقى، فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به، فقال: إني لم أرمه؛ إلا أني نهيته فلم ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال:«هن لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة» .

(2)

أخرجه البخاري (رقم: 5496) ومسلم (رقم: 2069).

(3)

أخرجه البخاري (رقم: 5494) ومسلم (رقم: 2073).

ص: 228

«إنما يلبس هذه في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» (1) والأحاديث في ذلك كثيرة.

وأما التحلي بالذهب: ففي الباب حديث علي: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ذهباً بيمينه وحريراً بشماله، فقال:«إن هذين حرام على ذكور أمتي حِل لإناثهم» رواه الأربعة. (2)

(1) أخرجه البخاري (رقم: 2470 و 2476) ومسلم (رقم: 2068) ولفظه: عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: رأى عمر عطارداً التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء، وكان رجلاً يغشى الملوك ويصيب منهم، فقال عمر: يا رسول الله إني رأيت عطارداً يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك، وأظنه، قال: ولبستها يوم الجمعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة، وأعطى علي بن أبي طالب حلة، وقال:«شققها خمرا بين نسائك»

قال: فجاء عمر بحلته يحملها، فقال: يا رسول الله بعثت إلي بهذه، وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت، فقال:«إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها» وأما أسامة فراح في حلته، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله ما تنظر إلي؟ فأنت بعثت إلي بها، فقال:«إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك» .

(2)

أخرجه أحمد (رقم: 750 و 935) وأبو داود (رقم: 4059) والنسائي (رقم: 5144) وابن ماجه (رقم: 3595) وأخرجه أيضًا: ابن أبى شيبة (رقم: 24659) والبزار (رقم: 886) وأبو يعلى (رقم: 272) وابن حبان (رقم: 5434) والبيهقي (رقم: 4019).

ص: 229

وله شاهد من حديث أبي موسى (1) ، وفي أسانيدها نظر، فحديث أبي موسى فيه اضطراب، والأشبه أن فيه انقطاعاً.

والعلماء متفقون على تحريم الحرير على الرجال، وأن هذه الحرمة لبساً وافتراشاً وتلحفاً في حال السعة والاختيار.

أما في حال الحرج؛ كأن لا يجد ما يستر عورته إلا ثوب حرير فيجب أن يستر عورته به، وكذلك إذا كان به حكة ومشقة في لبس غيره، فلا بأس، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير، لحكة كانت بهما.

وأما لباس الذهب؛ كخاتم الذهب على الرجال، ففيه خلاف قديم، وجمهور أهل العلم على تحريم لبس الخاتم من الذهب على الرجال، وقد

(1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 24645) وأحمد (رقم: 19533) والنسائي (رقم: 5148) وابن حبان (رقم: 5434) وقال: قال أبو حاتم: خبر سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح. والبيهقي (رقم: 4020)

قال الدارقطني في " العلل (رقم: 1320) ": وقد رواه أسامة بن زيد، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أبي موسى، ورواه عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى، قال: وهذا أشبه بالصواب؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئاً ورواه سويد بن عبد العزيز، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي موسى، ووهم في موضعين، في قوله: سعيد المقبري، وإنما هو سعيد بن أبي هند، وفي تركه نافعاً من الإسناد.

ص: 230

نُقلت الإباحة عن بعض الصحابة؛ ولكن الصحيح أنه محرم، وفي الباب حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتماً من ذهب، قال:«يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده» ثم أخذه ورمى به. فقيل للرجل خذه، قال: والله لا أرفعه وقد طرحه النبي صلى الله عليه وسلم. (1)

والحكمة في تحريم الذهب والحرير على الرجال ظاهرة، ففيه سرف وتشبه بالنساء، وفيه كذلك التخنث والنعومة والليونة المنافية لشهامة الرجل وخشونته، وقد تكلم ابن القيم كلاماً حسناً في مسألة تحريم الحرير على الرجال في الزاد. (2)

(1) أخرجه مسلم (رقم: 2090).

(2)

قال ابن القيم: في "الصحيحين" من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك قال: رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام - رضي الله تعالى عنهما - في لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما.

وفى رواية: أنَّ عبدَ الرَّحمن بن عَوْف، والزُّبَير بن العوَّام - رضى الله تعالى عنهما - شكَوْا القَمْلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في غَزاةٍ لهما، فَرَخَّص لهما في قُمُصِ الحرير، ورأيتُه عليهما.

هذا الحديثُ يتعلق به أمران؛ أحدُهما: فِقْهي، والآخر: طِبي.

فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سُنَّته صلى الله عليه وسلم إباحةُ الحرير للنساء مطلقاً، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، فالحاجة إمَّا من شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه.

ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحِكةِ، وكثرة القَمْل كما دلّ عليه حديث أنس هذا الصحيح.

والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمدَ، وأصحُ قولي الشافعي، إذ الأصلُ عدمُ التخصيص، والرخصةُ إذا ثبتت في حقِّ بعض الأُمة لمعنى تعدَّتْ إلى كُلِّ مَن وُجِدَ فيه ذلك المعنى، إذ الحكمُ يَعُم بعُمُوم سببه.

ومَن منع منه، قال: أحاديثُ التَّحريم عامةٌ، وأحاديثُ الرُّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرَّحمن بن عَوف والزُّبَيْر، ويُحتمل تَعديها إلى غيرهما. وإذا احتُمِلَ الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث: فلا أدرى أبَلغتِ الرُّخصةُ مَنْ بعدهما، أم لا؟

والصحيح: عمومُ الرُّخصة، فإنه عُرْف خطاب الشرع في ذلك ما لم يُصرِّحْ بالتخصيص، وعدم إلحاق غير مَن رخَّص له أوَّلا به، كقوله لأبى بُرْدة في تضحيته بالجذعة من المَعْز:

«تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أحدٍ بَعْدَك» وكقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في نكاح مَن وهبتْ نفسَها له: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الأحزاب: 50

وتحريمُ الحرير: إنما كان سداً للذرِيعة، ولهذا أُبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحةِ الراجحة، وهذه قاعدةُ ما حُرِّم لسد الذرائع، فإنه يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حَرُمَ النظر سداً لذريعة الفعل، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة، وكما حَرُمَ التنفلُ بالصلاة في أوقات النهى سداً لذريعة المشابهة الصوريةِ بعُبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سداً لذريعةِ رِبا النَّسيئة، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العَرَايا، وقد أشبَعْنا الكلام فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من لباس الحرير في كتاب:"التَّحْبِير لِمَا يَحلُّ وَيَحْرُمُ من لِباس الحَريرِ".

ص: 231

وقد قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} (1) حيث عاب الله على المشركين أن جعلوا له البنات اللاتي هذه صفتهن قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير وقرأ هذه الآية.

قوله: (حتى الخاتم ولو بقدر عين الجرادة)

وهذا إشارة إلى رواية جاءت في الباب، والخلاصة أن الخاتم من الذهب لا يحل للرجال، ويجوز من لباس الحرير على الرجال ما كان فيه أربعة أصابع في أربعة أصابع فما دون فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون في ثوب الحرير الأصبع والأصبعين والثلاثة والأربعة، يعني مجموع ما يكون في الثوب من الحرير أربعة أصابع في أربعة، يعني لو جمع لكان مجموعها أربعة في أربعة فهذا يجوز.

والمراد بالحرير هنا: الحرير الطبيعي الذي تنتجه الدودة المعروفة، دودة القز.

وأما الحرير الصناعي: ما يسمى بالسلك، فهذه مباحة لا كراهة فيها، على القول الراجح.

(1) الزخرف: 18.

ص: 233

قوله: (ولا يكره لبس الخز الذي يشوبه الوبر وكذلك العتّابي الذي يكون القطن فيه أكثر من القز).

السلف بينهم خلاف في لبس الخز، وأبو داود بعدما أخرج حديث:«يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» قال: وقد لبس الخز أكثر من عشرين نفساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (1)

والظاهر أن الخز حرير يشوبه شيء من الوبر، ففيه حرير مخلوط، والمعروف في النهي:«يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر والحرير» وجاءت في لفظ عند أبي داود: «الخز والحرير»

وفي هذا اللفظ نكارة، والصحيح المحفوظ:«الحر» أي: الفرج، ومما يدل على نكارته أيضاً أنه أردفه على الحرير، فيكون عطف شيء على شيء من جنسه، بل دونه، فإذا نهي عن الخز لأجل بعض الحرير فالنهي عما هو أكثر من باب اولى! ، فالمحفوظ في رواية البخاري:«الحر والحرير والخمر والمعازف» فتكون أربعة أجناس.

(1) أخرجه أبو داود (رقم: 4041) وأخرجه البخاري معلقاً عن هشام بن عمام بصيغة الجزم (رقم: 5268) وابن حبان (رقم: 6754) والطبراني (رقم: 3417) وابن حبان (رقم: 6754) والبيهقي (رقم: 5895).

ص: 234

قوله: (ولا يجوز جعل الصور في الثياب ولا في المفارش والستور وهو ما كان على صورة الحيوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة» (1)

المراد بالصورة هنا صورة الوجوه، والصورة إذا أطلقت في اللفظ فالمراد بها صورة الوجه.

وفي صحيح مسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم» أي: وجوهكم، وفي قصة الرجل الذي لطم جاريه، قال: أما علمت أن الصورة محترمة. (2) أي: ضرب الوجه.

ومنه قول العلماء الذين يتكلمون في الأخلاق والسلوك ويذكرون ما يسمى بعشق الصور، والمراد به عشق صور الوجوه، وفي الجنة أن الإنسان ما يشتهي صورة إلا دخل فيها، أي: وجهاً، فالصورة هي الوجه، وصح عن ابن عباس عند البيهقي، أنه قال: الصورة الرأس. (3)

(1) أخرجه أحمد (رقم: 16389) والبخاري (رقم: 3054 و 5613) ومسلم (رقم: 2106) وأبو داود (رقم: 227 و 4154) والنسائي (رقم: 5350) وابن حبان (رقم: 5850) والبيهقي (رقم: 14360).

(2)

أخرجه البخاري (رقم: 1658).

(3)

أخرجه البيهقي (رقم: 14974) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس بصورة.

ص: 235

والمراد به الوجه والرأس جميعاً، ومما يدل على أن الصورة هي الوجه ما أخرجه النسائي بسند قوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة جبرائيل حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمثال بأن يقطع ويجعل كهيئة الشجرة. (1) فإذا زال الوجه والرأس زال الحكم.

وقوله: (لا يجوز جعل الصور في الثياب)

أي: الملبوسة، ولا المفارش الموطوءة، ولا الستور المعلقة، وهو ما كان على صورة حيوان.

واحتج بما ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة» وهذا يشمل الصورة المنحوتة، والصورة المعلقة.

(1) الحديث أخرجه أخرجه أحمد (رقم: 8032)، وأبو داود (رقم: 4160) والترمذي (رقم: 2806) وقال: حسن صحيح، والنسائي (رقم: 5365) والبيهقي (رقم: 14353) ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام، فقال: لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان فى البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن ومر بالكلب فليخرج» . ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب لحسن أو حسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج. قال أبو داود والنضد شيء توضع عليه الثياب شبه السرير.

ص: 236

واتفق العلماء على تحريم الصور المنحوتة، وهو أصل شرك العالم، وشرك قوم نوح، وأجمعوا أيضاً على تحريم الصورة المرقومة، وهي المرسومة باليد؛ إلا ما روي عن القاسم بن محمد.

واختلف المعاصرون في صور الآلات الحديثة.

فالصور إما أن تكون معظمة: -سواءً كانت منحوتة أو مرقومة أو غيرهما - فهي محرمة.

ومن صور التعظيم: التعليق أو وضع المنحوت في الرفوف والدواليب، فهذا لا شك في تحريمه.

وأما غير المعظمة التي لا تكون معلقة، لا في ثياب ولا على ستور ولا على جدر، ولا تكون ممتهنة تداس بالأقدام، ففيها خلاف بين أهل العلم، حتى بين المعاصرين، والصحيح أنها محرمة لعموم الحديث:«لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة»

أو ممتهنة: الصور الممتهنة التي تداس، وهذه من أهل العلم من حرمها، وقال: هذه داخلة في عموم الصور.

والصحيح أن هذا مما جاء استثناؤه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بشق الوساد الذي فيه التصاوير، قالت: فجعلنا منه وسادتين توطآن. (1)

(1) أخرجه أحمد (رقم: 8032).

ص: 237

فيدل على أنه إذا امتهنت زال حكمها؛ لأنه يخشى من أن تكون وسيلة للغلو فيها وتعظيمها لا سيما صور المعظمين من الملوك والعلماء وهذا ما حصل في قوم نوح حتى أفضى إلى عبادتهم من دون الله ولا تقل هذا بعيد فشواهد العصر كالشمس من عبادة الأبقار والأصنام .. وهذا الخليل الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (1) فمن يأمن على نفسه بعده؟!.

وعليه فتكون الصور الآن الموجودة في الألبومات وما يحتفظ به لأجل الذكرى محرمة على القول الراجح.

أما الصور التي للضرورة، كصور بطاقة الأحوال، وجواز السفر، فهذه للضرورة، وتكون بقدر الحاجة أيضاً، والصحيح أنه يدخل فيها الصور التي للحاجة، كالصور التي تفرض على العاملين في بعض المنشآت، فإن هذه قد تكون حاجة وليست ضرورة، لكن الصحيح جوازها أيضاً.

ولكن ينبغي عدم إظهارها في الصلاة، وعدم وضعها على النحر مكشوفة، إلا عند الرؤية والمعاينة للتأكد من الشخصية.

(1) إبراهيم: 35.

ص: 238

قوله: (والاختيار التختم باليسار، وإن تختم باليمين فلا بأس)

يظهر من خطابه مسألة تختم الرجال بالفضة، والسياق ليس بظاهر.

ولكن لمّا ذكر أنه يحرم تختم الرجال بالذهب؛ كأن فيه إلماحاً إلى هذا.

وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، واختلف العلماء رحمهم الله في التختم بالفضة، فأصل المسألة: أنه يجوز للرجال التختم بالفضة بالاتفاق، وإن كان فيه نزاع يسير لبعض أهل الشام يأتي تحريره

واختلفوا هل هو سنة أم لا، على أقوال:

القول الأول: أنه مباح للرجال، وهذا مذهب كثير من أهل العلم، وهو مشهور قول الأحناف، وبعض أصحاب أحمد ومالك.

القول الثاني: أنه مستحب، وهذا مذهب بعض السلف، وهو منصوص مالك، ووجه عند الحنابلة.

القول الثالث: أنه مكروه إلا لذي السلطان، وهذا ما ذهب إليه بعض الحنفية، وبعض الشافعية، ووجه عند الحنابلة.

القول الرابع: أن التختم للرجل مكروه مطلقاً، وحكاه ابن عبد البر عن طائفة من العلماء.

ص: 239

من أدلة القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، ثم رمى به وألقاه، ثم اتخذ خاتماً من وَرِق، وحديث ابن عمر في الصحيحين، وكذلك لبس أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم وقع من عثمان في بئر أريس. (1)

ولبس جماعة من الصحابة كطلحة وسعد وابن عمرو والبراء والمغيرة رضي الله عنهم وحكي الإجماع على جوازه.

ومن قال بالاستحباب قال أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم يدل على استحبابه، وكذلك لبس الخلفاء له من بعده، وكذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسه مطلقاً، ولم يكن يلبسه عند الختم فقط، وتأسى به عامة الصحابة فلبسوه ..

ودليل من قال أنه مكروه؛ إلا لذي سلطان حديث أبي ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان. رواه أبو داود والنسائي (2) ، ولكن إسناده ضعيف.

وقد سئل عنه مالك فضعفه، وقال أحمد: إن الكراهة لغير ذي سلطان إنما تروى عن أهل الشام، وإن كثيراً من السلف تختّموا، ولم ينكروا لبس الخاتم،

وبعض أهل العلم كرهه لغير السلطان، وقال: لذي السلطان سنة أما لغير السلطان فهو مكروه.

(1) أخرجه البخاري (رقم: 5540).

(2)

أخرجه أبو داود (رقم: 4051) والنسائي (رقم: 9313).

ص: 240

ويرد على هؤلاء بأحاديث الإباحة المتقدمة، ويأتي أيضا أحاديث أخرى، واحتج هؤلاء أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه حينما أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر وقيل له أنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً وصاغه من فضة، ونقش عليه: "محمد رسول الله، ثم قال:«لا ينقش أحد كنقشنا» (1)

والحديث أصله متفق عليه، وقالوا أن هذا سبب اتخاذ الخاتم، وإلا فكانت العرب لا تلبسه ولم يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لهذا، فقالوا لغير ذي السلطان مكروه، وقالوا: لأنه زينة والنساء أحق بالزينة من الرجال، وقالوا أيضاً: أنه مقيد بالحاجة، والحاجة يقتصر عليها.

فالأجوبة على ما تقدم:

من قال: مكروه مطلقاً فهذا لا وجه له.

وأما من قال: أنه مباح لذي السلطان، مكروه لغيره، أنه لو كان مقيد بالحاجة لما استدام لبسه، ولبسه أصحابه، فإنهم استداموا لبسه أيضاً مطلقاً، ولم يكونوا بأهل ولايات، فحينما لبس الخاتم اتخذ الناس خواتم، ولبسوا الفضة، واشتروه بالأموال، وأنفقوها فيه، وهذا يدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على ذلك، وهذا الدليل الذي أوردناه فيه رد على من قال

(1) أخرجه أحمد (رقم: 14123) والبخاري (رقم: 5539) ومسلم (رقم: 2092).

ص: 241

بالكراهة، وعلى من قال بالإباحة، ولا شك أن كون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يتخذون خاتماً من فضة، والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم، يدل على أن أقل أحواله أنه مشروع، والصحابة كانوا يتأسون بالنبي صلى الله عليه وسلم التأسي المطلق.

فإن قيل: قد روى النسائي من حديث ابن عمر وفيه: «اتخذ خاتم من فضة فكان يختم به ولا يلبسه» (1)

وهذا احتج به من قال أنه مكروه إلا للسلطان، وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه عند الختم، فنقول أن لفظة «ولا يلبسه» في هذا الحديث شاذة.

قوله: (والاختيار التختم باليسار ،وإن تختم في اليمين فلا بأس)

(1) أخرجه النسائي (رقم: 5218) أخرجه أحمد (رقم: 5366) وابن حبان (رقم: 5500) قال السندي: قوله: «ولا يلبسه» قد جاء أيضا أنه كان يلبسه فلعل النفي محمول على الغالب أو على القصد أي كان لا يقصد اللبس وإنما كان يقصد الختم وإن كان أحيانا يلبسه أيضاً. والله أعلم.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 5): فإنه حديث غريب جداً، وفي السنن من حديث ابن جريج عن الزهري عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، قلت: وهو معلول أيضاً.

ص: 242

والمشهور عن الإمام أحمد رحمه الله وهذا على أحد الأقوال فإنه قال: وأحاديث التختم باليسار أحب لي وهي أقوى وأثبت، وفي المسألة أقوال:

القول الأول: أنه مباح في اليمين والشمال، قالوا: والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التختم، وفي الخنصر.

وأما في اليمين أو الشمال فلا يصح شيء، والأحاديث في ذلك متدافعة ومضطربة.

والقول الثاني: أنه باليمين أفضل وهذا مذهب البخاري، وقد أخرج فيه حديث أنس المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً وكان في يمينه. (1)

(1) أخرجه البخاري (رقم: 5530) ومسلم (رقم: 2094) وأخرجه وأبو داود (رقم: 4216) وابن ماجه (رقم: 3641) والترمذي (1739) والنسائي (رقم: 9447) عن ابن شهاب، عن أنس.

وأخرجه البخاري (رقم: 5531 و 5532) عن حميد عن أنس.

أخرجه أحمد (رقم:13215) ومسلم (رقم:5537) وأبو داود (رقم:4216) وابن ماجه (رقم: 3641) والترمذي (رقم: 1739) والنسائي (رقم: 9448) عن الزهري، عن أنس.

وأخرجه البخاري (رقم: 5534 و 5537) والنسائي (رقم: 9453) وأبو يعلى (رقم: 3119) عن قتادة، عن أنس.

ص: 243

وفيه كذلك حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه البخاري (1) رحمه الله.

وأيضاً فإنه زينة واليمين أحق بالزينة، وأيضاً فإنه قد ينقش فيه ذكراً فيصان ويكون باليمنى حتى لا يمتهن، واتفقوا على أن مكانه الخنصر، وهو أصغر الأصابع، فإن قيل قد روى مسلم عن أنس: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى. (2)

فنقول الأحاديث في يمينه أصح، وعلى كل حال فالترجيح في كونه في يمينه ليس بذلك الوضوح، فإن الأحاديث كما قال غير واحد من الحفاظ: القدر الصحيح فيها التختم، ومنهم من صحح الأيسر، ومنهم من صحح الأيمن، فالذي يظهر لي أنه يكون في اليمين أكثر، وإن تختم باليسار أحياناً فلا بأس، فيكون فيه جمع بين القولين، وظاهر كلام المؤلف خلاف

(1) أخرجه أبو داود (رقم: 4231) والترمذي (رقم: 1742) قال أبو عيسى: قال: محمد بن إسماعيل حديث محمد بن إسحاق عن الصلت بن عبد الله بن نوفل حديث حسن صحيح.

(2)

أخرجه مسلم (رقم: 2095) قال ابن أبي حاتم في العلل (رقم: 1451): قال أبي: أما قوله اتخذ خاتما من فضة، ونقش عليه، فهو صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله فكان يلبسه في شماله، فلا أعلم أحداً رواه إلا ما رواه عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى بعضهم عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم والحفاظ ترويه عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقولون إنه لبس في يساره.

ص: 244

ما اخترنا بقوله: (والاختيار التختم باليسار ومن تختم باليمين فلا بأس).

قوله: (ولا يحل لأحد أن يجر ثوبه خيلاءً وبطراً)

هذا الحكم مما يختص به الرجال.

والإسبال هو إرخاء الرجل لباسه تحت الكعب، فقولنا:"لباسه" يشمل السراويل والأزر والثياب والعمائم والمشالح وغيرها، ودونكم مما يتعلق في الباب من مسائل:

أولاً: اتفق العلماء على تحريم الإسبال، إذا كان للخيلاء وللعجب وللكبر، بل عدّوه من كبائر الذنوب، فهذه المسألة لا خلاف فيها، وحججهم ظاهرة:«من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. (1)

(1) أخرجه مالك (رقم: 1630) وأحمد (رقم: 4884) والبخاري (رقم: 3465 و 5446) ومسلم (رقم: 2085) وأبو داود (4/ 56، رقم 4085) والترمذي (رقم: 1730) والنسائي (رقم: 5328) وابن ماجه (رقم: 3569).

ص: 245

وفي لفظ: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، قال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء. (1)

ثانياً: من أقسام الإسبال: إذا أرخى إزاره بغير خيلاء تحت الكعب، فهنا انقسم العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قسمين:

القسم الأول: أنه محرم، ولهم أدلة:

الدليل الأول: أن مجرد جر الثوب معدود من الخيلاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إياك والإسبال فإنه من المخيلة» (2) رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر بن سليم، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو. (3)

(1) أخرجه أحمد (رقم: 5351) النسائي (رقم: 5335) وابن حبان (رقم: 5444).

(2)

أخرجه الطيالسي (رقم: 1208) وأحمد (رقم: 20651) وأبو داود (رقم: 4084) والنسائي (رقم: 9691) وابن حبان (رقم: 522) والبخاري في الأدب المفرد (رقم: 1182).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25374) وأحمد (رقم:6695) والنسائي (رقم:2559).

ص: 246

واحتجوا كذلك بما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار» (1) وليس فيه تعرض للخيلاء.

واحتجوا بحديث أبي سعيد: «إزرة المؤمن إلى نصف الساق، لا جناح فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل الكعبين فهو في النار» (2) أخرجه أهل السنن وأحمد وإسناده صحيح، واحتج بعضهم بحديث أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ....» (3) وذكر المسبل، ولكن الصحيح أن هذا الحديث المطلق، محمول على حديث ابن عمر في معناه؛ لأنه له عقوبة خاصة، فوجب

(1) أخرجه البخاري (رقم: 5450).

(2)

أخرجه مالك (رقم: 1631) والطيالسي (رقم: 2228) وأحمد (رقم: 11944) وأبو داود (رقم: 4093) والنسائي (رقم: 9714) وابن ماجه (رقم: 3573) وابن حبان (رقم: 5446).

(3)

أخرجه مسلم (رقم: 106) أبو داود (رقم: 4089) والنسائي (رقم: 2563) وابن ماجه (رقم: 2208) ولفظه: عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.

ص: 247

حمل المطلق على المقيد؛ لأنه إذا اتحد الحكم والسبب وجب حمل المطلق على المقيد.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ....»

فالحكم: لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، والسبب: الإسبال.

فوجب حمله على حديث ابن عمر: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (1) فيكون هذا من حجج الأولين.

ومن أدلة القائلين أنه محرم مطلقاً قول عمر رضي الله عنه: ارفع إزارك فإنه أتقى لربك. (2) ولم يستفصل، وكان في كرب الموت، فدل على أن إسبال الإزار ليس من التقوى في شيء، وإذا لم يكن من التقوى كان من الإثم.

وعلى هذا يكون جر الإزار ينقسم إلى قسمين:

الأول: إن كان خيلاء فهو من الكبائر المغلظة، المستحق عليه بالوعيد الخاص مع النار.

الثاني: وإن كان بغير خيلاء فإنه كبيرة؛ لأنه متوعد عليه بالنار.

(1) سبق تخريجه.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3497) وابن أبي شيبة (رقم: 25312).

ص: 248

وقد مر معنا أن التوعد على الذنب بالنار يكون من الكبائر، ففيه الدلالة على أن الكبائر تتفاوت.

والقول الثاني: أنه مكروه وليس بمحرم، وحملوا الأدلة المطلقة التي فيها التحريم على أحاديث الخيلاء، وهذا لا يتأتّى؛ لأنه إنما يصح حمل المطلق على المقيد في صورتين:

الصورة الأولى: أن يتحد الحكم والسبب.

والصورة الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الحكم: دخول النار، والسبب: الإسبال، فلا يمكن حمله على حديث ابن عمر وغيره؛ لأن الحكم هنا دخول النار، والحكم هناك لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.

وإذا اختلف الحكم فإنه لا يحمل المطلق على المقيد عند جمهور الأصوليين.

واحتجوا أيضاً بحديث ابن عمر: «إنك لست ممن يفعله خيلاء» (1)

(1) سبق تخريجه.

ص: 249

والجواب عن هذا: أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلبس إزاره، وكان إزاره ينحل فيرفعه، ثم ينزل ثم يرفعه، ولا شك أن هذه ليست صورة الإسبال الموجودة أصلاً، فإنه منذ أن يتجاوز الكعب فإنه يرفعه.

وأيضاً فإن أبا بكر قد زكاه النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عهدة المحظور.

واحتجوا بحديث ابن عمر: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (1)

وقالوا: مفهومه إن من لم يجره خيلاء لا يدخل في هذا الوعيد، وعليه فيكون مباحاً.

ونقول: هذا المفهوم عارضه المنطوق في أحاديث أُخر بإثبات الوعيد بالنار لمن جر إزاره تحت الكعبين.

وخلاصة ما تقدم أن الإسبال على قسمين:

القسم الأول: الإسبال بخيلاء فيستحق الوعيد بعدم نظر الله إليه، وهو كبيرة مغلظة.

القسم الثاني: الإسبال بغير خيلاء فهذا متوعد عليه بالنار، وهو كبيرة.

(1) سبق تخريجه.

ص: 250

مسألة: وضع اللباس ينقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يكون إلى نصف الساق، وهذا سنة.

القسم الثاني: أن يكون إلى الكعبين وهذا مباح.

القسم الثالث: أن يكون على الكعب، وهذا منهم من قال بالكراهة، ومنهم من قال: بالتحريم.

والصحيح أنه محرم، لرواية في حديث أبي سعيد: ليس للكعبين حق في الإزار. (1) وإسناده صحيح.

القسم الرابع: ما نزل من الكعبين وقد تقدم الكلام عليه.

مسألة: نصف الساق هل هو سنة وما تحته مباح إلى الكعبين أم كله سنة؟

(1) أخرجه أحمد (رقم: 23632 و 23748) وابن ماجه (رقم: 3572) والترمذي (رقم: 1783) والنسائي (رقم: 9608)

ولفظه: عن حذيفة رضي الله عنه، قال: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعضَلَةِ ساقي فقال: هذا موْضِعُ الإزار، فإن أبيْتَ فأسفلُ، فإن أَبيت، فلا حقَّ للإزار في الكعبين» أخرجه الترمذي.

وفي رواية النسائي، قال:«الإزار إلى أنصَافِ السَّاقين: العَضَلَةِ، فإن أَبَيْتَ فأسفلَ، فإن أبيْتَ فمن وراءِ السَّاق، لا حقَّ للكعبين في الإزار» .

ص: 251

فمنهم من قال: إن السنة إلى نصف الساق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إزرة المؤمن إلى نصف الساق» (1)

واختلفوا في التقدير هنا، فمن قال: إزرة المؤمن محلها إلى نصف الساق، قال: إن نصف الساق سنة.

ومن قال: أن إزرة المؤمن منتهية إلى نصف الساق والخبر محذوف تقديره "منتهية" قال: من نصف الساق إلى الكعب كله سنة، وهذا اختيار شيخنا الشيخ عبدالله بن قعود، واحتج بكلام الطيبي أنه قال: أن التقدير في هذا الحديث إزرة المؤمن منتهية.

ومعنى هذا أنه من فوق الكعب إلى النصف كله مضاف إلى المؤمن، والإضافة هنا إضافة تشريف، أي: إزرة المؤمن الكامل الإيمان، المتمسك المهتدي بالهدي النبوي.

والذي يظهر لي: أنه إذا ارتفع إلى نصف الساق فهو أفضل قد جاءت أحاديث؛ كحديث أبي جحيفة قال: دفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح في قبة وكان بالهاجرة خرج بلال فنادى بالصلاة ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه ثم دخل فأخرج

(1) سبق تخريجه

(إضافة حكم لبس السراويل المتصلة بالشراب).

ص: 252

العنزة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وبيص ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين يمر بين يديه الحمار والمرأة

فدلَّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع حتى يخرج كثير من ساقه، وهذا المعروف عنه وهو التشمير وكان يحبه عليه الصلاة والسلام في لباسه.

وجاء في حديث عمرو بن زرارة عند أحمد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على ركبته مقدار أربعة أصابع، فقال:«هذا موضع الإزار» ثم ضرب أخرى فقال: «هذا موضع الإزار» (1)

ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الإزار يكون تحت الركبة بأربعة أصابع، والحديث رواه أحمد بإسناد لا بأس به، فعلى هذا يكون نهايته إلى نصف الساق، وهو الأشهر في الأحاديث، أو قبل الركبة بأربعة أصابع، ورواية أربعة أصابع، ثم أربعة أصابع، توافق نصف الساق، فإن الأربعة ثم الأربعة تكون إلى العضلة، وفي رواية أخرى: أخذ بعضلة ساقي، وقال:«هذا معقد الإزار» (2) ونصف الساق يكون من ثمانية أصابع تحت الركبة.

(1) أخرجه أحمد (رقم: 7909) والطبراني (رقم: 7909) قال الهيثمي (5/ 216): رواه أحمد ورجاله ثقات.

(2)

أخرجه الترمذي (رقم: 1783) والنسائي (رقم: 9685).

ص: 253

ومن أهل العلم من فرق بين الإزار والثياب أو السراويل، فقال: السراويل أربعة أصابع أو نصف الساق، وأما الثياب فلا تكون أربعة أصابع؛ لأن الإزار بانحناء الإنسان وركوعه وسجوده وجلوسه يكون ساتراً.

أما الثياب وهي القمص إذا لم يكن عليه سراويل فإنه لا يجوز أن يجعله تحت الركبة بأربعة أصابع؛ لأنه ينشمر ويرتفع عند ركوعه وسجوده، فيتثنى على جسده فيصل الثوب إلى الركبة، ويخرج جزء من العورة وهذا محرم، وأيضاً لو صلى به لم تصح صلاته لانكشاف عورته.

وقال: وإنما هذا في حق من عليه سراويل، وهذا رأي الشيخ بكر أبو زيد، وهو بذلك نظر إلى المعنى.

ولا شك أن الإنسان إذا كان عليه ثوب وليس عليه سراويل ولا إزار، ثم لبس قميصاً تحت الركبة بأربعة أصابع، ثم ركع، فلا شك أنه يخرج من الخلف أطراف فخذيه.

وأما إذا سجد فينشمر إلى ثلث الفخذ، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله:واتفق العلماء على وجوب ستر العورة ما بين السرة والركبة، حتى على القول بأن الفخذ فيه خلاف، ففي الصلاة يجب ستره ونص كلامه: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ}.

ص: 254

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ فِي الصَّلَاةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ: الْفَخْذِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلرَّجُلِ النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ. فَإِذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد: أَنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ وَأَنَّ الْفَخْذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ فَهَذَا فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَيْهَا؛ لَيْسَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَكْشُوفَ الْفَخْذَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ هُمَا عَوْرَةٌ أَوْ لَا. وَلَا يَطُوفَ عُرْيَانَا. بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ ضَيِّقًا اتَّزَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ بَادِيَ الْفَخْذَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِزَارِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَمَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَوْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ فَقَدْ غَلِطُوا؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُصَلِّي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. كَيْفَ وَأَحْمَد يَأْمُرُهُ بِسَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ كَشْفَ الْفَخْذِ فَهَذَا هَذَا.

وقد شغب بعض الناس على الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله بسبب هذا، والشيخ لم يرد إلا خيراً، وقد لحظ معنىً صحيحاً، بل إن من جعل ثوبه إلى نصف الساق وليس عليه سراويل لا يأمن انكشافه في حال السجود.

مسألة: هل كان إزار أبي بكر رضي الله عنه إلى نصف الساق أو لا؟

ص: 255

الظاهر من الأدلة أن إزار أبي بكر لم يكن إلى نصف الساق؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه، قال: إن إزاري يسترخي، يعني ينزل إلى تحت الكعب إلا أن أتعاهده، فلو كان إزار أبي بكر رضي الله عنه إلى نصف الساق فيحتاج من النزول من نصف الساق إلى تحت الكعب أن تظهر العورة بالكلية، وهذه من حجج شيخنا الشيخ عبد الله بن قعود رحمه الله على أن إزار أبي بكر لم يكن إلى نصف الساق، إذ لو كان إلى نصف الساق فنزل حتى تحت الكعب لانكشف القبل بل وبعض الفخذين والاستدلال بهذا ظاهر لا يمكن دفعه.

واحتج أيضاً بحديث رواه أحمد في مسنده: أن عكرمة، قال: رأيت ابن عباس وإزاره على ظهر قدمه. (1) وهذا لا يكون إلا مع طول الإزار.

وهذا صحيح عن ابن عباس .. وهنا تنبيه أن هذا من أدلة المجيزين للإسبال من غير خيلاء تحت الكعب ولكن لم تتم فرحتهم به فلفظه عند كل من خرجه" أن ابن عباس كان إذا اتزر أرخى مقدم إزاره، حتى تقع حاشيته على ظهر قدمه، ويرفع الإزار مما وراءه، فقلت لم تتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزر هذه الأزرة" فانظر كيف يستدلون ببعض ويكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك؟!

(1) أخرجه أبو داود (رقم: أبو داود (4096) والنسائي (رقم: 9681).

ص: 256

مسألة: يجوز الإسبال في صور:

الصورة الأولى: لستر جرح يتأذى بالذباب ونحوه، كما لو كان هذا الجرح على كعبه أو تحته، فيكون هذا من باب دفع الضرر وهل يلتحق بذلك ما إذا كان هناك عيب كحموشة (دقة في الساقين ونحو ذلك) فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه «أنه كان يُسبل إزاره، فقيل له في ذلك، فقال: إني حمش الساقين» لكن يعارض هذا حديث أبي أمامة قال: «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه لله ويقول: عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حتى سمعها فقال يا رسول الله: إني حمش الساقين ،فقال: ياعمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، ياعمرو إن الله لا يحب المسبل ..» الحديث وأخرجه أحمد عن عمرو نفسه بلفظ عمرو بن فلان، وله سياق آخر عند الطبراني،

وحينئذ يكون المنقول عن ابن مسعود مؤولا بأنه أسبله زيادة على المستحب - وهو أن يكون إلى نصف الساق - ولا يظن أنه جاوز به

ص: 257

الكعبين ، والتعليل يرشد إليه فإن الإسبال إلى ما فوق الكعب تندفع به المفسدة المذكورة، ولا يقع في المحذور (1) ،.

الصورة الثانية: يجوز أن يكون مسبلاً إذا انحنى الإنسان ونزل الثوب تحت الكعب - حال نزوله - فلا بأس؛ لأن هذا إسبال عارض، ومن أهل العلم من رخص في الإسبال عند الحرب، ولم أقف على دليل لهؤلاء.

وعُلم من قول المؤلف: (ولا يحل لأحد أن يجر ثوبه خيلاء وبطرا)

أنه يجوز أن يكون لغير خيلاء، وهذا قول مشهور، وينسب هذا للشافعي ولا يصح، وهو رواية عن أحمد، بل قيل أنه المشهور من المذهب، وتقدم دحضه بالأدلة.

بقي أن نقول أن هناك إسبال واجب وهو في حق النساء لأنهن عورة ويجب ستر أرجلهن ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرخاء ذيل المرأة ذراعاً حتى لا تنكشف أقدامهن كما في حديث أم سلمة رضي الله عنه وفيه «يرخين شبراً فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: يرخين ذراعاً لا يزدن

»، وعلم من هذا (وهو حديث ثابت) أن الإرخاء الزائد كما يفعله ضعيفات العقل في حفلات النكاح أنه من السرف الممنوع ومن المفاخرة من الناقصات ..

(1) وانظر فتح الباري (10\ 264).

ص: 258

فائدة:

الكلام في ذيل المرأة في الحديث السابق إنما هو في حال الخروج ، وأما في البيوت فإلى الكعب قال شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع (1): وأما الثوب التي كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" شبرًا " فقلن: إذن تبدو سوقهن، فقال:" ذراع لا يزدن عليه ". وقول عمر بن أبي ربيعة:. .

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

فهذا كان إذا خرجن من البيوت؛ ولهذا سئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر، فقال:" يطهره ما بعده ". وأما في نفس البيت، فلم تكن تلبس ذلك. كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن، وهن لا يلبسنها في البيوت؛ ولهذا قلن: إذن تبدو سوقهن. فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي ا. هـ.

(1) مجموع الفتاوي (ط: دار الوفاء - تحقيق أنور الباز) - (22/ 118).

ص: 259

قول المؤلف: (ودخول الحمام جائز للرجال في الميازر الساترة ويكره للنساء إلا من علة وحاجة).

الحمام هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، والحميم هو الماء الحار، ومن ثم قيل للاغتسال بالماء الاستحمام، سواءً كان ماءً حاراً، أو بارداً مع أنه في الأصل كان الاغتسال بالماء الساخن، ثم أُطلق على كل غسل من ماء بارد وحار.

والأحاديث الواردة في الحمام فيها كلام، وقد ألفت مؤلفات في الحمام وأحكامه، ومن أحسنها كتاب آداب الحمام، أو أحكام الحمام، للحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - وهو مطبوع.

والمراد به ما يغتسل به لواجب أو مستحب أو نظافة، ويكون الماء ساخناً، وقد كان هذا موجوداً في البلاد الباردة في الشام وفلسطين، ولم يكن موجوداً في الحجاز، لشدة الحر واستغناء الناس عن ذلك، ويشبه في عصرنا هذا ما يسمى بحمام " السونا " الذي يدخلها الرجال، وقد يكون هناك حمامات يدخلها النساء من أجل إزالة الوسخ وما على الجسم من قذر، ولا يخرج إلا بالحرارة العالية، وقد يكون في هذا شفاء من بعض الأمراض.

ص: 260

واختلف العلماء في دخول الحمام على أقوال:

القول الأول: المنع المطلق للرجال والنساء.

القول الثاني: الإباحة للرجال والنساء، ولكن بشروط.

القول الثالث: الإباحة للرجال دون النساء.

القول الرابع: الإباحة للرجال دون النساء إلا مريضة أو نفساء، وهذا الذي أخذ به المؤلف وأنه يكره للنساء إلا من علة وحاجة.

القول الخامس: كراهة دخول الحمام تورعاً، وهذا منقول عن الإمام أحمد، وأصح الأقوال في هذه المسألة القول بالإباحة مطلقاً، ولكن بشروط، وهذا الذي صححه ابن كثير في كتابه الآنف الذكر.

ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، وقد دخله جماعة من الصحابة، فصح عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه دخله في الجحفة، (1) وروي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه دخله بحمص. (2)

وشروط جوازه:

(1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 1175).

(2)

أخرجه ابن عساكر (16/ 264).

ص: 261

1 -

أن يكون دخوله لحاجة، كإزالة وسخ أو غسل حيض أو جنابة أو غسل مستحب، كجمعة وعيد.

2 -

أن يكون مستور العورة.

3 -

أن يكن النساء في الخروج إليه متسترات، غير متبرجات.

4 -

أن لا يعهد في الحمام كشف العورات ولا وجود منكرات.

5 -

أن يحفظ بصره عن عورات الناس.

6 -

أن تكون حمامات الرجال مفصولة عن حمامات النساء.

قوله: (ولا بأس بالخضاب بالحناء، وهو يستحب وكذلك الكتم، ويكره بالسواد).

الخضاب: تغيير الشعر بشيء، إما بحناء، أو حناء وكتم، أو بصفرة، أو بسواد، واختلف العلماء رحمهم الله في الخضاب بغير السواد للشيب على أقوال:

الأول: أنه مسنون، وهذا المشهور من مذهب الجمهور عند الحنفية والشافعية والحنابلة.

الثاني: أنه مباح، وهذا ظاهر مذهب المالكية.

الثالث: أنه لا يسن تغيير الشيب.

الرابع: أن خضاب الشيب واجب.

ص: 262

وأدلة من قال أنه مسنون قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» (1)

قالوا: فأقل المخالفة الاستحباب.

وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قد خضب، وقالوا: وقد خضب الصحابة؛ كأبي بكر رضي الله عنه ، وقد صح أنه خضب بالحناء والكتم.

وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» (2)

ومن أدلة من قال إن الخضاب مباح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصبغ، مع أنه كان فيه شعرات بيض في لحيته وصدغيه، وقالوا أيضاً: مع أنه صلى الله عليه وسلم، قال:«إن اليهود والنصارى يصبغون فخالفوهم» فهو صلى الله عليه وسلم قد ترك، وقد ترك أيضاً الخضاب جماعة من الصحابة، قال الحافظ (3) رحمه الله: وترك

(1) أخرجه أحمد (رقم: 7272) والبخاري (رقم: 3275) ومسلم (رقم: 2103) وأبو داود (رقم: 4203) والنسائي (رقم: 5241) وابن ماجه (رقم: 3621).

(2)

أخرجه أحمد (رقم: 17184) وأبو داود (رقم: 4607) والترمذي (رقم: 2676) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (رقم: 42) والحاكم (رقم: 329) وقال: صحيح ليس له علة. والبيهقى (رقم: 20125) وابن حبان (رقم: 5) والدارمي (رقم: 95).

(3)

فتح الباري (10/ 355).

ص: 263

الخضاب جماعة من الصحابة كعلي، وأبي بن كعب، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وجماعة رضي الله عنهم، وصح عن هؤلاء.

ومن أدلتهم، ما رواه مسلم عن أنس: أنه يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء. (1)

وحديث أبي نجيح السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شاب شيبة كانت له نوراً» (2) رواه الطيالسي بسند صحيح.

وأيضاً ما رواه بعض أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم» (3) والصبغ يذهب الشيب.

ويجاب عن هذا القول الأخير بأن الصبغ لا يغير الخلقة، فإن الشيب موجود، ولكن حصل به صبغ، فهو لا يمنع الفضل في الآخرة، بخلاف

(1) أخرجه مسلم (رقم: 2341).

(2)

أخرجه أبو داود الطيالسي (رقم: 1154) وأخرجه ابن أبي شيبة (قم: 19732) وعبد الله المبارك في الجهاد (177) وابن حبان (رقم: 2984) والحاكم (رقم: 4371) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي (رقم: 18979).

(3)

أخرجه أحمد (رقم: 6672) والترمذي (رقم: 2821) وأبو داود (رقم: 4202) وابن ماجه (رقم: 372) والنسائي (رقم: 9285) والبيهقى (رقم: 14605).

ص: 264

النتف فإنه يزيل الخلقة بالكلية ففرق بين إزالة الأصل وبين تغيير الوصف مع بقاء الأصل.

وأدلة من قال أن الصبغ واجب، أنهم احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمخالفة، وقال:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وهذا أمر يقتضي الوجوب، واحتجوا بأن الصحابة قد صبغوا، وقال أحمد: الخضاب عندي هو كالفرض. واحتج بالأمر بالمخالفة.

والقائلون بأن هذا الأمر للاستحباب أجابوا عن هذه الأدلة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصبغ، وتقدم الكلام على هذا، وكذلك بعض أصحابه فيكون الأمر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه للاستحباب، وهذا هو أصح الأقوال، أن صبغ الشيب مستحب متأكد الاستحباب ولا يصل إلى الوجوب، وأصحابه رضي الله عنهم هم خير من يفهم هذا عنه، والخلفاء الراشدون منهم من فعل ومنهم من ترك، فأبو بكر رضي الله عنه خضب وعلي رضي الله عنه ترك، واشتهر هذا عند التابعين، حتى أنكر بعضهم الصبغ، وقال سعيد بن جبير: يعمد أحدكم إلى نور قد جعله الله في وجهه فيطفئه.

وقد أدركنا جماعة من شيوخنا فمنهم من يصبغ ومنهم من يترك، وسئل شيخنا ابن عثيمين رحمه الله عن تركه الصبغ، فقال: له كلفة ويشق علي.

ص: 265

وكذلك شيخه ابن سعدي رحمه الله لا يصبغ، وأما شيخنا ابن باز رحمه الله فهو وإن كان خفيف شعر اللحية فإنه كان يصبغ وقد يبطيء رحمه الله في صبغه فتبيض لحيته .. وسمعته يقول إن من أدلة عدم وجوب الصبغ أن الصحابة قد يتأخرون في الصبغ.

وأفضل ما يصبغ به الحناء والكتم، والحناء معروف، وهو يصبغ بالحمرة الشديدة. والكتم هو خضاب بالسواد، وإذا خُلط الحناء بالكتم صار لونه جميلاً؛ لأن الكتم أسود فاحم جداً، وإذا خُلط الحناء بالكتم كما كان يفعل أبو بكر رضي الله عنه فإنه يكون شديد الشقرة يضرب إلى اللون الداكن، ويقرب إلى السواد وليس بسواد.

قوله: (ويكره بالسواد).

ومن المسائل المهمة الخلاف في الخضاب بالسواد وله أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون الخضاب بالسواد في الحرب، فنقل جماعة من أهل العلم الإجماع على جوازه، قال الحافظ: وقال مالك: الحناء والكتم واسع والصبغ بغير السواد أحب إلي ويستثني من ذلك المجاهد اتفاقاً. (1) وعلله بعضهم بإيقاع الرهبة في قلوب العدو.

(1) فتح الباري لابن حجر (6/ 499).

ص: 266

الحالة الثانية: الخضاب بالسواد في غير الحرب على أقوال:

القول الأول: أنه يحرم، وهو قول في مذهب الشافعية، واختاره جماعة منهم ورجحه النووي.

القول الثاني: أنه يكره وهو قول في مذهب الحنفية، وهو مذهب مالك، وهو قول في مذهب الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة وأخذ به المؤلف.

القول الثالث: أنه جائز بلا كراهة، وهو قول في مذهب الحنفية، واختيار صاحبي أبي حنيفة، أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهو مذهب بعض الصحابة، وجماعة من التابعين.

القول الرابع: أنه يجوز للمرأة دون الرجل وهو قول إسحاق بن راهويه واختاره الحليمي.

واحتج القائلون بتحريم الصبغ بالسواد بما أخرجه مسلم عن أبي الطاهر، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير،

ص: 267

عن جابر رضي الله عنه، قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثَّغَامة بياضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد» (1)

والثغامة هي نبت أبيض اللون، واحتجوا بما رواه أحمد وأبو داود وغيرهم، من طريق عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون قوم يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة» (2)

وحديث جابر السابق اختلف فيه، فأُعِلَّ بعدة علل:

العلة الأولى: أن أبا الزبير نفى أن لفظة: «واجتنبوا السواد» من الحديث،

فهذا الحديث يرويه عن أبي الزبير جماعة فيرويه زهير بن معاوية، وعزرة بن ثابت، وعبد الملك بن جريج، وليث بن أبي سليم، والأجلح، وأيوب السختياني، ومطر الوراق، وفي رواية زهير بن معاوية وعزرة بن ثابت:«غيروا هذا بشيء» وليس فيه «وجنبوه السواد»

(1) أخرجه مسلم (رقم: 2102) وأبو داود (رقم: 4204) والنسائي (رقم: 5076) وابن ماجه (رقم: 3624) وأبو يعلى (رقم: 2831) وابن حبان (رقم: 5471).

(2)

أخرجه أبو داود (رقم: 4214) والنسائي (رقم: 9346) وأبو يعلى (رقم: 2603) وابن سعد (1/ 441) والبيهقي (رقم: 14601).

ص: 268

وفي رواية ابن جريج ومن طريقه أخرجه مسلم جاءت: «واجتنبوا السواد» وجاءت من طريق ليث بن أبي سليم، وليث ضعيف، ورواه عبد الرزاق من طريق أحمد.

ورواية الأجلح عن أبي الزبير عن جابر فيها «وجنبوه السواد» رواه أبو يعلى، ولكن في الطريق إلى الأجلح شريك بن عبد الله القاضي، وشريك في حفظه شيء، ورواه أيضاً أيوب السختياني عن أبي الزبير عن جابر، ورواه أبو عوانة وإسناده صحيح، وكذلك رويت من طريق مطر الوراق وهي ضعيفة جداً، وفي إسنادها ابن الزبرقان وهو متروك ومطر الوراق ضعيف.

وفي لفظ أحمد أن زهير بن معاوية قال لأبي الزبير: أقال أجنبوه السواد؟ قال: لا، ونفى أن تكون هذه الرواية من الحديث أصلاً.

ويجاب عن هذه العلة بأن أبا الزبير مثله مثل أي راوٍ، فقد يكون يحدث بالشيء ثم ينساه، والمصحح عند أهل العلم أن التلاميذ إذا حفظوا عن شيخهم ما كان حدث به ثم نسي الشيخ ما حدث به أنهم يقبلون ما حدث به، بل إن بعض الشيوخ قد يجحد هذه الرواية، والعبرة بحفظ من حفظ من تلاميذه، وفيه مؤلف اسمه:"تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي".

ص: 269

وحِفظُ من حَفِظَ عنه مقدم على هذا الإنكار، ولعل أبا الزبير كان يتردد، فمرة يذكرها ومرة ينفيها، وأجابوا أيضاً بإجابة أخرى فقالوا: إن ابن جريج كان يصبغ بالسواد، وهو الذي روى عن أبي الزبير، ولو كان عن النبي صلى الله عليه وسلم لما صبغ.

والجواب: أن ابن جريج ليس صحابياً ولا تابعياً، وإذا كنا نقول الصحابي إذا خالف ما روى يؤخذ بروايته لا برأيه، فكيف بمن دونه؟ وابن جريج تابع تابعي وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم معضلة.

وليس الأمر كما يقول بعضهم: إنها مدرجة، فالإدراج عادةً يكون من راوٍ في طريق واحدة، وهذه قد جاءت من عدة طرق، فالصواب أن يقال أن أبا الزبير يذكرها مرة وينفيها أخرى هكذا يقول المجيبون.

ومن أدلة من قال إن هذه الزيادة محفوظة ما ذكره الخلال في كتاب الوقوف والترجل، قال: أخبرنا عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول وأكره السواد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«وجنبوه السواد»

وأيضاً فقد ثبت عن أحمد كراهة السواد، وأجيب عن قول أحمد بأجوبة: فيقال أن كراهية السواد عن أحمد صحيحة؛ لكن الكلام في ثبوت هذه اللفظة عنه؛ لأنها من طريق حنبل وكتاب "الوقوف والترجل"

ص: 270

مطبوع صغير للخلال، فإن حنبل يروي عن أحمد روايات لا يتابعه فيها أصحاب الإمام أحمد، بل يغلِّطه أيضاً بعض أصحاب أحمد، وقد غلطوه في عدة مسائل معروفة مشهورة، يعرفها من له نظر في مذهب أحمد رحمه الله وأيضاً فأحمد قد يذكرها تسمّحاً في المذاكرة، كما أن الإمام أحمد يقول بمقتضى أحاديث التسمية في الوضوء، والمشهور عنه أنه قال: لا يصح في هذا الباب شيء.

ونوقش هذا بأننا لسنا بحاجة إلى هذا النقل عن أحمد فيكفينا ما تقدم.

ومن الطعون على هذه الرواية أن البخاري قد عدل عن رواية جابر هذه أصلاً، ولم يخرجها في الصحيح، وأجيب بأنه يكفي أن الإمام مسلم أخرجها، وكم من حديث أخرجه مسلم وعدل عنه البخاري، وهو صحيح لا مطعن في صحته عند الحفاظ.

وأما قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الصبغ وقال: «وخالفوهم»

وترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد صح عن جماعة من الصحابة الصبغ بالسواد؛ كالمغيرة بن شعبة، والحسن، والحسين، وجرير ابن عبد الله، وسعيد بن أبي وقاص، وعمر، وعثمان، وعقبة بن عامر، فأجيب

ص: 271

عنه بأن الإطلاق مقيد بحديث جابر رضي الله عنه والنقول عن الصحابة فيها كلام ولم يثبت؛ إلا عن عقبة بن عامر والحسن، ويبقى أن من صبغ من الصحابة لم يبلغه الخبر.

واستدل المانعون أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه قريباً: «يكون قوم يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة»

ومن الطعون في هذا الخبر: أن عبد الكريم الذي في هذا الإسناد هو عبد الكريم بن أبي المخارق، أبو أمية البصري الضعيف، وهذا الطعن سمْج فإن عبد الكريم الذي في الإسناد هو ابن مالك الجزري الثقة، المخرج له في الصحيح، والطعن الآخر أن هذا الخبر يُروى عن مجاهد من قوله، وأيضاً فهذا الطعن ليس بصحيح، فإن طريق مجاهد من قوله غير طريق عبد الكريم، فهذه الطريق محفوظة، وهناك طريقة أخرى وهي الطعن في متن هذا الحديث، فكيف يكون هذا الوعيد الشديد على الصبغ بالسواد؟ فالصبغ بالسواد شيء يسير، فكيف يستقيم أن يكون هذا الوعيد الشديد عليه؟ وهذا دلالة على نكارة الحديث، إذ كيف تكون المعصية يسيرة، والإثم عظيم؟ ومثله أن يكون العمل يسيراً والأجر عظيم جداً؟

ص: 272

وأجيب عنه بأن هذا له نظائر، فقد جاء في الإسبال ما جاء فيه بالتوعد عليه بالنار، وإذا كان خيلاء بعدم النظر إليه، وعدم الكلام من الله عز وجل، وعدم التزكية، وهو نظير مسألة الصبغ، بل هذا يكفي أنه مثله إن لم يكن أولى منه، وطعن في دلالة حديث ابن عباس أيضاً بأن الوعيد منصب على شيء آخر لقوم هذه صفتهم، وأن الوعيد منصب على أفعال لهؤلاء، إما لكفرهم وإما لفسقهم بكبائر، وصفتهم أنهم يصبغون بالسواد، فهذا الوعيد على شيء آخر، والصفة العارضة: كونهم يصبغون بالسواد كالتعريف والوصف لهم ، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«تقاتلون قوماً نعالهم الشعر» (1) فلا يدل على تحريم الانتعال بنعال الشعر.

وأجيب بأن ذكر الحكم بعد الوصف يدل على أنه علة له، فلم يكن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف؛ إلا لأنه هو المؤثر في الحكم، فيكون قوم يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة، أي: بسبب الصبغ بالسواد، وطُعن في هذا الحديث أيضاً بأن يقال: كيف يكون هذا الوعيد العظيم للصحابة رضي الله عنهم؟ وقد فعلوه وفعله جماعة من التابعين؟

والإجابة أن نقول: لعله لم يبلغهم الخبر، فإن بلغهم الخبر فقد يكونوا تأولوا، بخلاف من بعدهم الذين يكثر فيهم الفساد، فمن خالف متأولاً

(1) البخاري (رقم: 2770) ومسلم (رقم: 2912) وأبو داود (رقم: 4304) والترمذي (رقم: 2215) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (رقم: 4096).

ص: 273

غير من خالف راكباً للمعصية، فهذه خلاصة الكلام في مسألة الصبغ بالسواد وبعد هذه المناقشة.

أقول الذي يتحرر لي أن ما وقع في مسلم من لفظه «وجنبوه السواد» غير محفوظ وأن أبا الزبير اضطرب فيها وأحسن المذاهب عندي في هذه المسألة ما ذهب إليه الزهري، ولم اذكره ضمن الأقوال الماضية وهو إباحته للشباب ومن في وجوههم ماء الشباب وكراهته للشيوخ الذين ظهر عليهم الِكبرُ .. وهذا مذهبٌ لا يضيق به صدر من نظر في الأدلة أو تفقه على طريقة الراسخين فلا يسأل: كيف يكون مكروهاً وما الدليل؟!

وتأمل (على طريقة مسلم في تصحيحه) كيف جاء الخبر بالنهي عن الصبغ بالسواد لأبي قحافة وهو شيخ كبير جداً ففيها بيان أن مثل هذا لا يصلح له، فبقي من شاب وهو دون ذلك بكثير ولم ينقبض وجهه على الفسحة وهذه طريقة الزهري رحمه الله وما اخترنا والحمد لله رب العالمين.

فائدة:

خطر لي في تفسير حديث ابن عباس رضي الله عنه وماجاء فيه من الصبغ بالسواد. .كحواصل الحمام. . ما يفعله كثير من الناس الآن من حلق العارضين والإبقاء على الذقن مع تخفيفه وصبغه بالسواد الفاحم حتى إنك ترى عند سطوع الشمس عليه ألوانا عدة من الأحمر والأصفر

ص: 274

والأزرق والأخضر وغيرها، تماما كما تراه على حوصلة حمامة سوداء في ضوء الشمس، وإذا تأملت أصحاب هذه الهيئة حولك لاسيما أهل الترف والنفوذ، وتأملت أفعالهم وأحوالهم فستحمد الله كثيرا على نجاتك منهم ومن مجالسهم وبراءتك من أفعالهم فالحمد لله على ذلك.

قوله: (ولا يجوز أن يخلو الرجل بامرأة ليست له بمحرم)

لحديث ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» (1) والحديث متفق عليه، وفي حديث عمر في سنن الترمذي وغيره وقال عنه: حديث حسن صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» (2) وهذا من باب تحريم الوسائل؛ لأن الخلوة بالمرأة وسيلة إلى وقوع الفجور بها، وهذا أيضاً يكون من الذرائع.

فإن الذرائع أحياناً تكون وسائل إلى وسائل أخرى محرمة، فإن الخلوة بالأجنبية وسيلة إلى تقبيلها ومباشرتها، وتقبيلها ومباشرتها سبيل ووسيلة

(1) أخرجه البخاري (رقم: 4935) ومسلم (رقم: 1341).

(2)

أخرجه عبدالرزاق (رقم: 20710) وأبو داود الطيالسي (رقم: 31) والشافعي (رقم: 665) وأحمد (رقم: 177) وابن حبان (رقم: 5586) والنسائي (رقم: 9219) والترمذي (رقم: 2165) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والحاكم (رقم: 387) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

ص: 275

إلى وقوع الفاحشة بها، فقد تحرم الوسيلة ووسيلة الوسيلة، فتكون ذريعةً قريبةً، وذريعةً بعيدةً، وكلمات عظمت الحرم وغلطت جاء النهي عن انتهاكها من وسائل وذرائع كثيرة قريبة وبعيدة وقد ذكر هذا الفقهاء عند كلامهم على الضرورات الخمس: النفس، الدين، العقل، العرض، المال ومن تأمل ذلك علمه، وهذا كله من محاسن الشريعة؛ أنه حمى المرأة عن الرجل الأجنبي، والرجل عن المرأة التي هي أجنبية عنه، فنهى عن الخلوة بها، والنظر إليها، ونهيت أن تضرب برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها، ونهيت عن التطيب إذا خرجت، وغير ذلك، كله من أجل حمايتها، وأما دعاة الرذيلة والفساد، وهم منافقوا الوقت، فقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .. قاتلهم الله.

قوله: (ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان عريانين في فراش واحد، ولا إزار واحد. ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب، ولا شيء من الملاهي المطربة؛ كالطبل، والزمر، وخص بذلك الدف للنكاح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف» (1)

(1) أخرجه أحمد (رقم: 16175) قال الهيثمي (4/ 289): رجال أحمد ثقات. الترمذي (3/ 398، رقم 1089) وقال: غريب حسن. وابن ماجه (رقم: 1895) وابن حبان (رقم: 4066) والحاكم (رقم: 2748) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (رقم: 14463) والضياء (رقم: 263) والبزار (رقم: 2214).

ص: 276

لما نهى عن اجتماع الرجل بالمرأة الأجنبية أتى بما هو أخص من ذلك من اجتماع الرجلين في فراش واحد، ولا إزار بينهما، أو امرأتان في فراش واحد، أو امرأة ورجل، وهذا الأخير ينقسم إلى قسمين:

الأول: امرأة ورجل أجنبي وهذا أظهر من أن يُسأل عنه.

الثاني: رجل وامرأة من المحارم.

وقد أمر الشارع بالتفريق بين الصبية في المضاجع كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (1)

وهذا الأمر يتضمن النهي عن الاجتماع في المضجع، بل يكون الفراش مختلفاً، وظاهره ولو مع وجود الملابس من الطرفين، سواءً كانا صبيين أو بنتين أو صبي وصبية، والبالغين من باب أولى؛ لأن هذا من وسائل الشر والفجور.

(1) أخرجه أحمد (رقم: 6689 و 6756) وأبو داود (رقم: 495).

ص: 277

فلا يجتمع رجل ورجل في فراش واحد عريانين، ولا يلبسان إزاراً واحداً، فتلتقي بشرتهما، وكذلك لا يجتمع امرأتان عريانتان في فراش واحد، ولا تلبسا إزاراً واحداً فتلتقي بشرتهما، وأفحش منه التقاء رجل بامرأة، سواءً كانت هذه من المحارم، كأخته أو عمته، أو كانت أجنبية، وهذا الأمر فيه أشد؛ إلا أنه يستثنى من هذا صورة واحدة كما هو معلوم، وهي اجتماع الرجل وأهله في فراش واحد، أو في لحاف واحد، أو في إزار واحد،

وهذا كله من سد الوسائل المفضية إلى ما لا تحمد عقباه، وقد جاء في هذا الباب حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي من حديث أبي ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار» (1)

والمراد بالمكامعة: المضاجعة، يقال: لزوج المرأة كميعها، أي: ضجيعها، وقد جاء في النهاية: كمع فيه أنه نهى عن المكامعة، وهي أن

(1) أخرجه أحمد (رقم: 17248) أبو داود (رقم: 4051) والنسائي (رقم: 5091) وابن ماجه (رقم: 3655) والدارمي (رقم: 2648).

ص: 278

يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد لا حاجز بينهما، والكميع الضجيع وزوج المرأة كميعها. (1)

وحديث أبي ريحانة فيه اضطراب وفيه جهالة، فهو لا يثبت؛ لكن لاشك أنه يُنهى عنه لما تقدم.

ويعلم مما تقدم أنه يجوز اجتماع الرجل مع الرجل إذا كان ليسا عريانيين، لاسيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك، حتى لو كانا يلتصقان، وهذا عليه إزار أو قميص، وهذا عليه إزار أو قميص، وكذلك المرأتان تلتصقان للحاجة؛ كالزحام ونحوه وكذا الرجل مع بعض محارمه على وجه لا يكون فيه هتك حرمة أو وسيلة إليها، ولهذا يباح حمل الرجل لأخته مثلاً إذا أعيت ونحو ذلك من الحاجات وهذا ظاهر.

أما بالنسبة لاضطجاع الرجل مع محارمه في فراش واحد فلا يجوز، ولو كان عليهما لباس، وأيضاً فلا يجوز للرجل أن ينام بجانب الرجل، في فراش واحد، وفي لحاف واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصبية عن هذا فقال:«فرقوا بينهم في المضاجع» (2)

(1) النهاية في غريب الحديث والأثر للجزري (4/ 361).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 279

فإذاً، الصبي ابن عشر يعتبر مراهقاً، وقد يوجد منه إنزال، وقد يميل إلى صاحبه، وهذا بالنسبة للصبي والصبية، فكيف بالبالغين؟! فلا يجوز جمعهم في لحاف واحد، ولا في فراش واحد؛ إلا أن يقال أنه جائز للضرورة، فالضرورة تقدر بقدرها، لكن ينبغي أن ينفرد أحدهما عن الآخر ولا يكون التصاق.

وأكمل الصفات أن ينفصل هذا بفراش وهذا بفراش، وهذا بلحاف وهذا بلحاف، وأكمل منه أن يُجعل للنساء والبنات مكان مستقل، وللصبية غرفة مستقلة ينامون فيها، بل هذا متحتم سداً لباب الفساد.

قوله: (ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب).

اللهو واللعب جاءا في كتاب الله عز وجل، يُعطف هذا على هذا، وأحياناً يقدم اللعب، وأحياناً يقدم اللهو، ففي موضعين قد اللهو كما في الأعراف (51) والعنكبوت (64) وقدم اللعب في الباقي الأنعام (32) و (70) وفي محمد (36) والحديد (20)

والملاهي تنقسم إلى قسمين:

الأول: ملاهٍ جائزة.

والثاني: ملاهٍ ممنوعة.

ص: 280

كما في حديث عقبة بن عامر الذي يُروى من غير وجه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «..... ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها» أو قال: «كفرها» (1)

والمراد باللهو هنا: هو كل شيء باطل ذاهب، إلا هذه الثلاثة، ومما جاء فيه اللهو المباح، اللهو بالدف في النكاح، وفي الأعياد كذلك.

قوله رحمه الله: (ولاشيء من الملاهي المطربة؛ كالطبل، والزمر)

يعني هذا ممنوعٌ منه مطلقاً، وخص من ذلك الدف، فدل كلام المؤلف على أن الدف من الملاهي، فالأصل أنه من الملاهي، وهو كذلك،

(1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 21010) وابن أبي شيبة (رقم: 19779) وأحمد (رقم: 17375) وأبو داود (رقم: 2515) والترمذي (رقم: 1637) والنسائي (رقم: 3578) وابن ماجه (رقم: 2811) وسعيد بن منصور (رقم: 2450) والدارمي (رقم: 2460) والحاكم (رقم: 2467) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (رقم: 19515) وفي رواية: «كل شيء يلهو به الرجل باطل؛ إلا رمي الرجل بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق» وقال: «من ترك الرمي بعد ما علمه فقد كفر الذي علمه» .

ص: 281

فإن الدف آلة لهو لا شك، هو آلة لهو بالنصوص، لكن جاء استثناؤه في مواضع.

استدل المؤلف بهذا الحديث فقد جاء بلفظ: «أعلنوا النكاح» (1) فقد رواه أحمد، والبزار، والطبراني، من طريق عبد الله بن وهب، قال: حدثني عبد الله بن الأسود القرشي، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعبد الله بن الأسود، قال عنه أبو حاتم:(شيخ) ، وذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث فيه لين بهذا الإسناد، لكن له شاهد من حديث محمد بن حاطب الجمحي القرشي وهو صحابي صغير، وهو الذي وضع يده في القدر وهو صغير في المرق فاحترقت يده، وقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشفي، فحديثه هذا أخرجه، أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ولفظه:«فصلُ بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح» (2)

وجاء بلفظ (فُصل) بالضم. فهذا يدل على مشروعية الدف في النكاح، ومشروعية الإعلان، وكان هذا يُفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبحضرة

(1) سبق تخريجه.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 16663) أحمد (رقم: 15489) والترمذي (رقم: 1088) وقال: حسن. والنسائي (رقم: 3369) وابن ماجه (رقم: 1896) والطبراني (رقم: 542) والحاكم (رقم: 2750) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (رقم: 15090).

ص: 282

نسائه صلى الله عليه وسلم ، والدف له وجه واحد، ويسمونه:(الطار) ، وهذا يجوز عند جماهير أهل العلم، بخلاف الطبل؛ لأن الطبل له وجهان.

مسألة: متى يجوز الدف؟ وما حكم الطبل؟

ذكرنا أن الدف من الملاهي، والأصل في الملاهي المنع؛ إلا أنه جاء في غير موضع في العهد النبوي، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ضربه في غير مكان.

اختلف أهل العلم في ضرب الدف، على أقوال:

القول الأول: يستخدم في كل فرح حادث؛ كالعيد، والختان، والعرس، وقدوم الغائب، وانتهاء البناء، والولادة، إلى غير ذلك، فكل فرح يحدث للناس فإنه يستخدم فيه الدف، وهذا أوسع الأقوال.

القول الثاني: يستخدم في العيد والعرس والختان وقدوم الغائب.

القول الثالث: يستخدم في العرس والعيد وقدوم الغائب. وهو مشهور مذهب الحنابلة، واختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

القول الرابع: أنه يستخدم في العيد والعرس فحسب، وهو اختيار شيخنا ابن باز رحمه الله.

ص: 283

وأما استخدامه بإطلاق فالصحيح أنه من آلات اللهو التي لا يجوز استخدامها بإطلاق، وإنما تجوز في مواضع. واختلفوا في هذه المواضع، ومن المواضع التي ثبت في السنة استخدامه فيها:

الأول: العيد من ذلك حديث عائشة في الصحيحين، قالت: دخل علي أبو بكر، وعند النبي صلى الله عليه وسلم جاريتان تغنيان، أو تدففان في أيام العيد، فقال أبو بكر: رضي الله عنه أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم!

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهما فإن لكل قوم عيداً» (1) وجه المنع في هذا الحديث ما سيأتي من الفوائد:

الأولى: أن أبا بكر سمى الدف بمزمور الشيطان، فدل على أن الدف الأصل فيه المنع؛ لأنه سماه مزمور الشيطان وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية، ولم ينكر عليه.

الثانية: الدلالة على المنع من الدف أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الحِل وإجازة الضرب في قوله: «فإن لكل قوم عيداً» و «إن» هنا من الحروف التي تفيد التعليل، يعني علّة الإباحة وجود العيد، فلو كان ضرب الدف جائزاً في كل

(1) أخرجه البخاري (رقم: 909 و 3716) ومسلم (رقم: 892).

ص: 284

وقت، لما كان للتعليل به فائدة، وهذا الموضع شبه اتفاق بين أهل العلم في جواز ضرب الدف فيه.

الثالثة من الفوائد: استحباب ضرب الدف به في العيد لما فيه من تمام الفرح للنساء خاصته.

الثاني مما يباح فيه ضرب الدف: النكاح وقد جاء جواز الدف فيه وتقدم حديث محمد بن حاطب وما جاء له من شواهد ومن ذلك ما أخرجه البيهقي من طريق أبي عامر العقدي واسمه عبد الملك بن عمرو عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود وذكر ثالثا قال عبد الملك: ذهب عليٌ، وجواري يضربن بالدف ويغنين فقلت تقرون على هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا إنه قد رخص لنا في العرسات.

الثالث: الضرب في الختان وهذا لم أقف على خبر صحيح فيه، غاية ما في الأمر أنه روى البيهقي والطبراني وغيرهما من طريق ابن سيرين عن

ص: 285

عمر رضي الله عنه: كان إذا سمع صوتاً أو دفاً، قال: ما هذا فإن قالوا: عرس أو ختان صمت. (1)

ولكن هذا لا يصح فإنه منقطع فإن ابن سيرين لم يدرك عمر فالصحيح أنه لا يضرب في الختان؛ لأن الأصل المنع حتى يثبت سبب الحل، فافهم.

الرابع: في قدوم الغائب: فيه ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق: حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أنه حينما أتى النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتته امرأة، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف إن ردك الله سالماً، فقال:«إن كنت نذرت فاضربي؛ وإلا فلا تضربي»

(1) أخرجه البيهقي (رقم: 15093) وأخرجه معمر بن راشد في جامعه (رقم: 338) سعيد بن منصور (رقم: 632) وابن أبي شيبة (رقم: 16659) وعبد الرزاق (رقم: 19738)

وأورده البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (رقم: 3152) وابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (رقم: 1678) قالا: قَالَ مُسَدَّدٌ: حدَّثنا حماد، عن أيوب، عن ابن عمر، قال: إن عمر رضي الله عنه كان إذا سمع صوتًا فزع، فإذا قيل ختان أو عرس سكت. وأيوب السختياني لم يسمع من ابن عمر.

ص: 286

فأخذت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل عمر فوضعته، فرقا منه ووضعته تحت إستها (1)، وفي لفظ لأحمد، أن أمة سوداء .....»

وهذا فيه الفرح بقدوم الغائب، ومنهم من خصه بقدومه عليه الصلاة والسلام؛ لأن قدومه ليس كقدوم غيره، وسلامته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ليست كسلامة غيره، ومنهم من قال: أنه في قدوم الولاة خاصة، ومنهم من قال: في قدوم كل غائب وهو الصحيح، في قدوم كل غائب يفرح به؛ كالإمام والعالم والزوج والزوجة والولد ونحوهم.

(1) أخرجه أحمد (رقم: 23011،23989) والترمذي (رقم: 3690) وابن حبان (رقم: 4386) وأخرجه أبو داود (رقم: 3314) والبيهقي (رقم: 20596) قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. قال: «أوفى بنذرك» . قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية. قال: «لصنم» . قالت: لا. قال: «لوثن» . قالت: لا. قال: «أوفي بنذرك» . عبيد الله بن الأخنس وثقه أحمد وابن معين وروى له البخاري في كتاب الحج وكتاب الطب. والحارث بن عبيد أبو قدامة أخرج له مسلم وضعفه ابن معين مرة ووثقه (تاريخ أسماء الثقات لعمر الواعظ (رقم: 280) ووثقه عبد الرحمن بن مهدي بقوله: عندما سئل عنه، فقال: كان من شيوخنا وما رأيت إلا خيراً. وقال النسائي الحارث بن عبيد أبو قدامة ليس بذاك القوي، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ من الثامنة) والخلاصة: أنه يحتج به فيما يتابعه عليه الثقات. فهذا الحديث متابع من طريق حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. فهو إن شاء الله حديث حسن.

ص: 287