الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وَيَنْبَغِيْ لِلإِنْسَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيْ سِرِّ قَوْمٍ
، وَلَا حَدِيْثٍ لَمْ يُدْخِلُوْهُ فِيْهِ.
وَلَا يَجُوْزُ الاسْتِمَاعُ إِلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُوْنَ.
وَمَنْ تَلَفَّتَ فِيْ حَدِيثِهِ فَهُوَ كَالمُسْتَوْدِعِ لِحَدِيْثِهِ، يَجِبُ حِفْظُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَلَفُّتَهُ يُعْطِيْ التَّفَلُّتَ وَالتَّفَزُّعَ.
قوله: (فصل: وينبغي ..... ولا حديث لم يُدخلوه فيه).
السر إنما يعرف كونه سراً إما بالقول أو بالفعل أو بالقرينة.
فأما بالقول كأن يصرح ويقول لجلسائه: "سأستودعكم سراً" أو "أقول لكم قولاً لا تفشوه" ونحو ذلك، أو بالفعل كأن يجمع أناساً حوله ويغلق الباب، أو يتلفت في أثناء الكلام، أو بالقرينة كأن تدل القرينه على أن الإنسان إذا أخذ زيداً معه إلى غرفة خاصة أنه يريد أن يستودعه سراً، وما أشبه ذلك.
وفي هذا الباب مسائل:
أولاً: روى البخاري في صحيحه في باب حفظ السر في كتاب الأدب عن المعتمر بن سليمان بن طرخان عن أبيه عن أنس رضي الله عنه، قال: أَسَرَّ إلي النبي صلى الله عليه وسلم سراً فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به، وهذا كله من شدة حفظ أنس رضي الله عنه لسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية لثابت البناني وكان من تلاميذ أنس رضي الله عنه وكان أنس رضي الله عنه يحبه واسمه ثابت بن أسلم البناني، وكان رجلاً صالحاً، قال: لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت.
وقوله (ولا يجوز الاستماع إلى كلام قومٍ يتشاورون)
هذا كذلك من الآداب المتعلقة بحفظ السر، وإنما تشاوروا وانحازوا رغبةً في عدم اطلاع غيرهم على هذا الكلام، وحينئذٍ يكون الاستماع إلى هذا الحديث من المحرمات، والاستماع المراد به طلب السمع، فلا يجوز للإنسان أن يطلب سماع كلام قوم انحازوا عنه، وفي حديث أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم
القيامة» رواه البخاري (1) في كتاب التعبير، فهذه عقوبة من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، ويعرف كونهم كارهين بالقرائن أيضاً، أو بالقول، أو بالفعل، فإذا انحاز أناس يتشاورون وتركوا غيرهم، فإنه لا يجوز أن يستمع لهم الإنسان، وأن يطلب هذا السر الذي بينهم، وإذا فعل فإنه متوعد بهذه العقوبة التي تختص بهذه الآلة والجارحة، لأن هذه الآلة وهي الأذن هي التي عصت، والآنك هو الرصاص المذاب، ويختص الرصاص من بين المعادن بأنه ثقيل، ومؤذي، وهذا يدل على أن الاستماع إلى حديث الآخرين من الكبائر إذا كانوا يكرهون ذلك.
وحد الكبيرة: هي كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، أو كان فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة.
وتعريف آخر للكبيرة: وهي ما كان فيها عقوبة خاصة.
(1) أخرجه البخاري (رقم: 6635) وأخرجه أحمد (رقم: 1866 و 3383) وأبو داود (رقم: 5024) وابن ماجه: (رقم: 3916).
والعبد قد يعذب على المعصية، وقد يختص العضو الذي عصى بالعذاب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«ما جاوز الكعبين من الإزار ففي النار» (1) فهذه البقعة التي عصت تعذب يوم القيامة.
قال المؤلف: (ومن تلفت في حديثه فهو كالمستودع لحديثه)
يعني استودع غيره حديثه هذا بألا يفشيه، وقد انتزع المؤلف هذا من حديث رواه أبو داود والترمذي وغيره من حديث ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة عن عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة» (2)
وفي عبد الرحمن بن عطاء كلام يسير، والأقرب أنه حسن الحديث، وجاء له شاهد عند أبي يعلى الموصلي من حديث أنس (3) رضي الله عنه ، ولكن في
(1) أخرجه البخاري (رقم: 5450) والنسائي (رقم: 5330) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد (رقم: 20180) والطبراني (رقم: 6971) من حديث سمرة. وأخرجه الطبراني (رقم: 12064) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه أبو داود (رقم: 4870) والترمذي (رقم: 1959) وقال: حسن. وأخرجه الطيالسى (رقم: 1761) وابن أبي شيبة (رقم: 26111) وأحمد (رقم: 15104) وأبو يعلى (رقم: 2212) والبيهقي (رقم: 20950). والطبراني في الأوسط (رقم: 2458).
(3)
أخرجه أبو يعلى (رقم: 4158) وابن عساكر (56/ 394).
إسناده جبارة بن مغلس، وهو واهي الحديث، فالعمدة على اللفظ الأول مع المعنى، حتى لو لم يجيء في الباب حديث فيكفي أنه يريد استيداع هذا السر عند هذا الشخص، فإذا التفت يميناً وشمالاً كأنه يقول: أنا سأتكلم ولا أريد أحداً أن يسمع هذا الحديث، فحينئذٍ لا يجوز للسامع أن يفشيه، وهذا المتن مستقيم، وقد رواه عنه محمد بن عبد الرحمن المغيرة - وهو ابن أبي ذئب - وهو قرين مالك في العلم، وكان يفوق مالك في الإنكار، ووقف عليه بعض الخلفاء ومعه حرسي في مسجد في المدينة، فقال الحرسي لابن أبي ذئب: قم للخليفة، فالتفت إلى الحرسي والخليفة فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال الخليفة: دعه فو الله لقد وقفت كل شعرة في رأسي، وكان ولاتهم في ذلك الوقت فيهم بقية خير ، وأيضا عندهم شيء من صبابة علم وفهم.
وقوله (يجب حفظه عليه؛ لأن تلفته يعطي التلفت والتفزع)
ومن المسائل المهمة في السر:
أولاً: يجب حفظ السر ويحرم البوح به. واتفق أهل العلم على أنه إن كان في إفشائه مضرة على صاحب السر أنه لا يجوز إفشاؤه، واختلفوا متى ينقطع النهي عن البوح به:
فقال بعضهم: ينقطع بموت صاحب السر، والصحيح في هذا التفصيل:
فإذا كان السر متعلقاً بكرامة للميت، أو تزكية له، فالأشبه أنه يجوز إفشاؤه؛ لأنه لا مضرة فيه، وسواءً كره صاحب السر هذا الإفشاء أو لم يكره؛ لأنه كان يخشى أن يتحدث به في حياته فيفتتن به صاحب السر، فلما مات أمن هذا الشيء، ومن هذا عامة ما ينقل من الثناء على الصالحين من قصصهم وأخبارهم، فقد تحدث بها بعد موتهم، وكان أصحابها يكرهون نشرها في حياتهم.
وأما ما يكره مطلقاً وقد يحرم، وهو الذي عليه فيه ضرر أو غضاضة.
وهناك قسم ثالث من الأسرار: فهو الذي يجب إفشاؤه بعد الموت؛ كما لو أباح بحق عليه كان يعذر بترك القيام به في حياته، فزالت المفسدة بموته، حتى يقوم بهذا الحق غيره.
وقد تمسك بعضهم بالإخبار بالسر بعد الموت بأن عمر رضي الله عنه استفهم حذيفة عن أسماء المنافقين، ثم قال لحذيفة: أسألك بالله هل عدني النبي صلى الله عليه وسلم منهم؟ فلما ألح عمر على حذيفة، قال حذيفة رضي الله عنه: لا، ولا أزكي
أحداً بعدك. أخرجه وكيع في الزهد عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب عن حذيفة وهذا إسناد صحيح. (1)
وهذا ليس فيه إفشاء لسر النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يعدد المنافقين بأسمائهم، إنما قال: أنت لست منهم، فالسر لازال محفوظاً، وغاية ما فيه أنه أخبر أن عمر ليس منهم.
والسر عند كثير من الناس الآن لا قيمة له، لأنك قد تذكر هذا الكلام وتصرح به بأنه سر، ثم تفاجأ بالغد أن هذا على ألسنة الناس!!
ولهذا ينبغي أن ينظر الإنسان إذا أراد أن يستودع سراً أن يستودعه إلى شخص ذي دين ومروءة وعقل، والحاجة داعية إلى الاستسرار، وقد ذكروا في ضابط السُّكْر الذي يُحَدُّ صاحبه، كما قال الشافعي وغيره:(2) إذا أباح بسره المكتوم واختل كلامه المنظوم، فهذا يدل على أن إفشاء السر مما يذم عليه غاية الذم
…
حتى صار صفة للسكارى به يشنئون.
(1) وأخرجه الطبراني في الكبير (رقم: 719).
(2)
انظر: المجموع لمحي الدين النووي - (3/ 7) والتحبير شرح التحرير للمرداوي (3/ 1189) والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (1/ 62).
وقد يتحدث أحد الناس في مجلس، عن بعض المسائل المهمة، أو عن رأيه في مجلس خاص في بعض القضايا، ثم يقول:"اكتموا علينا" أو "المجالس بالأمانة"، ثم يفاجأ بعد ذلك أن هذا الحديث منتشر فاش وهذا كله من الخيانة.