المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلوالغيبة حرام في حق من لم ينكشف - اللباب «شرح فصول الآداب»

[عبد الله بن مانع الروقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فَصْلٌالسَّلَامُ المُبْتَدَأُ يَكُوْنُ مِنَ المَاشِي عَلَى القَاعِدِ

- ‌وهل بعد هذه الصورة الأخيرة رتبة فضل في رد السلام

- ‌فَصْلٌوَالمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ

- ‌مسألة: من أحكام المصافحة:

- ‌ومن المسائل الملحقة بهذا الفصل المهم:

- ‌فَصْلٌوَيَنْبَغِيْ لِلإِنْسَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيْ سِرِّ قَوْمٍ

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ الخُيَلَاءُ وَالزَّهْوُ فِيْ المَشْيِ

- ‌فَصْلٌوَمِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ

- ‌فَصْلٌوَعَشَرَةٌ مِنَ الفِطْرَةِ

- ‌والشعور في البدن تنقسم ثلاثة أقسام:

- ‌فصل في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الباب

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ

- ‌مسألة: أما الصبغ بغير السواد

- ‌فَصْلٌوَلَا يَنْبَغِيْ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى

- ‌فَصْلٌوَيَحْرُمُ أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُوْنَ ثَالِثٍ

- ‌فَصْلٌوَيُسْتَحَبُّ اِفْتِتَاحُ الأَكْلِ بِبِسْمِ اللهِ

- ‌فَصْلٌوَمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ يُغْلِقُ بَابَهُ

- ‌فَصْلٌويُسْتَحَبُّ تَحْوِيْلُ غَسْلِ اليَدِ مِنَ الزُّهَامِ

- ‌ مسقطات وجوب إجابة الدعوة:

- ‌مسألة ضرب الدف:

- ‌فَصْلٌوَالغِيْبَةُ حَرَامٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ

- ‌فَصْلٌفَصَارَتِ الغِيْبَةُ:

- ‌فَصْلٌوَلُبْسُ الحَرِيْرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ

- ‌مباحث في ضرب الدف

- ‌فَصْلٌوَالتَّدَاوِيْ بِالحِجَامَةِ وَالفَصْدِ وَالكَيِّ

- ‌فَصْلٌوَمَنْ رَأَى مِنَ الحَيَّاتِ شَيْئًا فِي مَنْزِلِهِ

- ‌فَصْلٌوَيَجُوْزُ قَتْلُ الأَوْزَاغِ

- ‌فَصْلٌوَلَا يَجُوْزُ إِخْصَاءُ البَهَائِمِ

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ إِزَالَةُ الأَوْسَاخِ فِي الْمَسَاجِدِ

- ‌فَصْلٌوَبِرُّ الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ

- ‌فَصْلٌوَيُكْرَهُ الاتِّكَاءُ عَلَى يُسْرَى يَدَيْهِ

- ‌قوله: (ويكره الجلوس بين الشمس والظل)

- ‌فَصْلٌوَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُوْلَ عِنْدَ النُّهُوْضِ مِنَ المَجْلِسِ:

الفصل: ‌فصلوالغيبة حرام في حق من لم ينكشف

‌فَصْلٌ

وَالغِيْبَةُ حَرَامٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ

بِالمَعَاصِي وَالقَبَائِحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (1)

وَمَنْ ذَكَرَ فِيْ فَاسِقٍ مَا فِيْهِ لِيُحْذَرَ مِنْهُ، أَوْ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ يُرِيْدُ تَزْوِيْجَهُ أَوْ شَرِكَتُهُ أَوْ مُعَامِلَتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُغْتَابًا لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ إِثْمُ الغِيْبَةِ، وَلَهُ ثَوَابُ النَّصِيْحَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((قُوْلُوْا فِيْ الفَاسِقِ مَا فِيْهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ)).

وَلَا يُظَنُّ بِعُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى مَا هُوَ غِيْبَةٌ؛ عِنْدَ نَصِّهِ عَلَى السِّتَّةِ، وَجَعْلِ الشُّوْرَى فِيْهِم، وَذِكْرِ عَيْبِ كُلِّ وَاحِدٍ، بَلْ قَصَدَ بِذَلَكَ النُّصْحَ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ وَلِأَهْلِ الإِسْلِامِ.

(1) الحجرات: 12.

ص: 199

قوله: (والغيبة حرام): أجمع العلماء على تحريم الغيبة، ودل على تحريمها النص والإجماع، فأما النص فما نقل المؤلف من آية الحجرات صدر الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}

ونقل بعض العلماء الإجماع على تحريمها، فقال بعضهم: إنها من الصغائر، ونقل القرطبي وغيره: أنها من الكبائر، والصحيح أنها من الكبائر. (1)

وأما حد الغيبة فأحسن من حدَّها هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وهو من مفاريده من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل:

(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 6157). والإحياء (4/ 42) والنووي في روضة الطالبين (11/ 224) وفتح الباري (10/ 470).

ص: 200

أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» (1)

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرك» يشمل الذكر القولي، والذكر الفعلي، ويشمل أقوال الإنسان، فلان كذا وكذا، ويشمل الإشارة أن يشير إشارة تفهم عنه فلان كذا وكذا؛ إما يعيبه في بدنه، أو فعله أو كلامه .. بإشارة مفهومة.

ولا غيبة لمجهول؛ لأن «ذكرك» تفيد التعيين.

اختلف أهل العلم في شمول هذا الذكر إذا تكلم الإنسان، أو قذف بغير حضرة أحد؛ كما لو كان وحده، فقال بعضهم: من خلا وحده خالياً، وقال: فلان زانٍ فإنه يكون قاذفاً له، وعليه ما يترتب على القذف، وقال بعضهم: بل ليس هذا من القذف؛ لأنه لم يحصل للمقذوف ما يشينه ويقبحه، فلم يك قذفاً ولا غيبة ولا شيء، وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يكون قذفاً كالقذف المعروف الذي يقام على صاحبه الحد، وليس عليه إثم القذف ولا يكون غيبةً وليس عليه إثم الغيبة.

(1) أخرجه مسلم (رقم: 2589) وأخرجه أحمد (رقم: 8973) وأبو داود (رقم: 4874) والترمذي (رقم: 1934) والنسائي (رقم: 11518) وابن حبان (رقم: 5759) وأبو يعلى (رقم: 6493).

ص: 201

وهل يكون وجوده كعدمه سواء، فالجواب: لا يصل إلى درجة القذف أو الغيبة المحرمة؛ لأنه لم يحصل، وفي نفس الوقت لا يكون كمن لم يقل شيئا بل يكون بينهما.

فمن قذف شخصاً خالياً لا يكون قاذفاً، ولا يكون عادماً، ولا مرتكباً لشيء يسير، بل يكون بينهما فهو إثم بين إثمين، وقد قرر هذا العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام.

قوله: «ذكرك» : يشمل القول والفعل وهذا الذكر يشمل إذا كان هذا في نفس المغتاب.

وهل المغتاب يطلق على الفاعل أو على المفعول؟

الجواب: يطلق على الاثنين والسياق هو الذي يحدد، فتقول فلان مغتاب للناس، كثير الشر، فهذا يراد به الفاعل، وفلان مغتاب عند الناس مسكين، يراد به المفعول، والسياق يحدد مثل مختار، ومن اغتاب أحداً؛ فإنه يشمل نفسه وأهله وولده وعلمه وماله ومشيته وأكلته، وكل شيء يشنؤه الجرح فيه، وهو عرضه، والعرض هو جانب الإنسان الذي يسعى لصيانته وحفظه.

ومن الدلالة على الغيبة القولية: ما أخرجه أبو داود بإسناد قوي عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا، قال غير

ص: 202

مسدد يعني قصيرة، فقال:«لقد قلتي كلمة لو مزجت بها البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنساناً، فقال:«ما أحب أني حكيت إنساناً، وأن لي كذا وكذا» (1)

يعني لو كان لهذه الكلمة لون ثم خلطت بالبحر لغيرت لون هذا البحر، مما يدل على عظم هذا الأمر.

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرك» هذا من باب الإضافة إلى المفعول، أي ذكرت أنت المغتاب.

وقوله: «أخاك» هذا قيد، والأصل أن الكافر لا غيبة له، بناء على هذا التعريف؛ لأن الكافر ليس أخا للمسلم، لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) ولقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (3)

والكافر ليس أخا للمسلم، غير أنه ليس معنى هذا أن الإنسان يغتاب ويتكلم فيه، فيقيد بالحاجة والمصلحة؛ وإلا هو غير داخل في تعريف الغيبة.

(1) أخرجه أبو داود (رقم: 4877) والترمذي (رقم: 2503) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

(2)

الحجرات: 10.

(3)

التوبة: 11.

ص: 203

«أخاك» يشمل الرجل والمرأة، والصغير والكبير، ولو في المهد؛ لأنه أخاً لنا، فمن اغتاب صبياً ولو في مهده، بقوله كثير الصياح مؤذي، وما أشبه ذلك، فالأصل أنه داخل في الغيبة، لكن قد يقال إن قوله صلى الله عليه وسلم:«بما يكره» والصغير لا تتأتى منه كراهية، وقد يقال ينزل منزلة العاقل لحرمته. وأيضاً الأصل أن الغيبة تشمل جميع أهل الإسلام صغاراً وكباراً، وتقبح حينما تكون في العلماء والولاة الصالحين.

ولا شك أن غيبة العالم الورع ليست مثل غيبة آحاد الناس.

وقوله: «بما يكره» ما هنا موصولة، أي: بالذي يكره وحذف المفعول ولم يقل بـ "الذي"، بل كل ما يكره في نفسه، أو في ماله، أو

في مشيته، فكل شيء يكرهه الآدمي لا يحل أن يتكلم فيه في حال غيبته.

ويظهر في هذا التعريف، أنه يشمل إذا كان يكره تزكيته؛ كما لو عُلم أنه إذا مُدح في وجهه، أو زكي يكره هذا، ويتألم غاية الألم، فهل إذا قيل هذا في غيبته يكون من الغيبة.

وعامة كلام العلماء أنه غير داخل في الغيبة، نظراً إلى المعنى المقصود؛ ولأنه قد لا يحتاج إلى إذن هذا الشخص في تزكيته، قد يتعلق هذا بمصلحة أخرى؛ لكن إن خشي عليه العجب، فلا يجوز؛ لأنه قد يبلغه هذا الكلام

ص: 204

فيفتتن، وقد يكون يتحدث عند أناس في مجلس فيسمع أنه مدح في مجلس فيه فلان وفلان، فيقع فيه العجب، فيهلك وقد بوب البخاري: باب في الغيبة (1)، وقال بعد باب ذكر الغيبة باب آخر باب قول النبي صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار (2) دار كذا وكذا وأدخله في الغيبة.

قال الحافظ: واستشكل إيراد البخاري لهذا الكتاب، ولعله أراد الرد على من قال: أن ذكر الإنسان بالخير إذا كان يكره غيبة، والصحيح أنه لا يشمل الغيبة؛ لكن ليس معناه أنه يتمادى فيه. (3)

وكما سبق البيان عنه، بأن الغيبة من الكبائر جاء في الغيبة ما ذكره الحافظ في الفتح، عدة أحاديث من أحسنها ما رواه أبو داود من طريق ابن المصفى، حدثنا بقية، وأبو المغيرة، قالا: حدثنا صفوان، قال: حدثني

(1) صحيح البخاري - (5/ 2249).

(2)

صحيح البخاري - (5/ 2249 (.

(3)

ونصه: قال الحافظ: وفي إيراد هذه الترجمة هنا إشكال لأن هذا ليس من الغيبة أصلاً إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك، فيستثني ذلك من عموم قوله:«ذكرك أخاك بما يكره» ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة، ولو كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى أن يقلد أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل «ذكره بما يكره» من ذلك في الغيبة المحرمة. فتح الباري - ابن حجر (10/ 471).

ص: 205

راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (1)

وهذا الإسناد لا بأس به وبقية صرح فيه بالتحديث، وأيضاً مقروناً بغيره، وذكر الحافظ (2) عدة أحاديث مجموعة، لا تقصر عن درجة الاحتجاج، فلا شك أن الغيبة من كبائر الذنوب.

قوله: (ومن ذكر في فاسق ما فيه ليحذر منه أوسأل عنه من يريد تزويجه أو شريكته أو معاملته لم يكن مغتاب له ولا عليه آثم الغيبة، وله ثواب النصيحة، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم:«قولوا في الفاسق ما فيه يحذره الناس»

والغيبة كبيرة، غير أنها قد تباح، ومن أهل العلم من حد هذه الأسباب، ومنهم من وضع قيداً لحِل الغيبة، فمن وضع قيداً لحِل الغيبة،

(1) أخرجه أبو داود (رقم: 4880).

(2)

فتح الباري لابن حجر - دار المعرفة - (10/ 470).

ص: 206

قال: تباح الغيبة لكل غرض صحيح شرعاً حيث يتعين طريقاً للوصول إليه بها. (1)

وما سيأتي من صور هي من أفراد هذه الإباحة المقيدة بالقيد العام، بل قال بعضهم: إن الغيبة تحِل ولها أربع مائة صورة؛ كما ذكر المناوي نقلاً عن بعضهم في فيض القدير.

ذكر المؤلف صوراً مما تحل فيه الغيبة وقد نظمها بعضهم وذكر فيها:

الذّمُّ ليس بغيبة في ستة

متظلم ومعرف ومحذر

ولمظهر فسقاً ومستفتٍ ومن

طلب الإعانة في إزالة منكر

وقوله: الذم يعني الغيبة.

قول الناظم: ليس بغيبة قد تكون الغيبة أحياناً واجبة، وقد كان شعبة يقول لبعض من عنده: تعالوا بنا نغتاب في الله يعني يتكلمون في الرواة. (2)

والأصل فيها التحريم؛ لكن قد تباح أحياناً بل قد تجب.

(1) فتح الباري لابن حجر (10/ 472).

(2)

الكامل لابن عدي (1/ 69 (والضعفاء الكبير للعقيلي (1/ 11).

ص: 207

ومما تباح فيه الغيبة، عند التظلم: كما قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (1) فكون الإنسان يتظلم عند من يرفع مظلمته عند حاكم أو أمير أو من يقدر على إزالة مظلمته فإنه جائز.

قوله: ومُعَرِّف كأن يُعرَّف الشخص بصفة فيه، للتعريف لا للعيب به؛ كقولهم، الأعمش، والأخفش، وفلان الأعور، وقد وجد رواة كثيرون لا يكاد يذكر اسمه في الإسناد بل يذكرون بنحو هذه الأوصاف للتعريف.

ومُحذِّر: كمن يُحذِّر الناس من مبتدع، ويدخل في ذلك من يجرح الشهود، ومن ذلك جرح رواة الحديث، فإن هذا ضرورة وتجب؛ لأنه صيانة للدين، وصيانة لكلام الله، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: ولِمُظْهِرٍ فسقاً، أي: المجاهر، وعُلم من هذا أن غير المجاهر لا تحل غيبته فيما لم يجاهر به، أو يكون فاسقاً غير معلن، فهذا لا يجوز بل ينكر عليه، ولكن لا يجوز أن يفشى سره؛ لأن هذا كما أنه يضره، يهون المعصية على الناس، ودليل هذا ما أخرجه صاحبا الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن له رجل، فقال: ائذنوا له بئس أخوُ العشيرة» يعني ذماً له لما بلغه عنه صلى الله عليه وسلم، قالت: عائشة فلما دخل ألان له القول - وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا

(1) النساء: 148.

ص: 208

يواجه أحدًا بما يكره - فلما خرج، قالت عائشة: يا رسول الله، قلت ما قلت فلما دخل ألنت له القول، فقال:«إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه» (1)

وينقل عن الحسن البصري، أنه قال: ليس لفاسق غيبة. (2) وهذا لا يصح مرفوعاً، وأيضا في ثبوته عن الحسن مقال، ولو صح لكان محمولاً على المجاهر.

فمثلاً قول فلان مغني فهذا ليس من الغيبة، وأما إذا كان يستتر في معصيته كمن يشرب الدخان ولا يظهره عند الملأ، بل يأنف من ذلك

(1) أخرجه أحمد (رقم: 24152) والبخاري (رقم: 5685) ومسلم (رقم: 2591) وأبو داود (رقم: 4795) والترمذي (رقم: 1996) وفي لفظ البخاري: عن عائشة: «أنَّ رجلا استأذنَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه، قال: «بئس أخو العشيرة- وبئس ابن العشيرة -» فلما جلس تَطَلَّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إِليه، فلما انطلق، قلت: يا رسول الله! حين رأيتَ الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلّقت في وجهه وانبسطتَ إِليه؟ فقال:«يا عائشة، متى عَهِدْتيني فَحَّاشا؟ إِنَّ مِنْ شَرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة: من تركه الناس اتِّقاء شره»

وعند أبي داود: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاس الذين يُكْرَمُونَ اتقاء ألسنتهم» .

(2)

أخرجه الطبراني (رقم: 1011) والبيهقي في الشعب (رقم: 9665) من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس للفاسق غيبة» قال الهيثمى (1/ 149): فيه العلاء بن بشر، ضعفه الأزدي، وأورده ابن حبان في الثقات (رقم: 14687) وقال: يروى عن ابن عيينة روى عنه جعدية بن يحيى المناكير. وقال الحافظ: والعلاء بن بشر هذا لا يعرف وله تمام خمسة أحاديث لا يتابع عليها. اللسان (رقم:480).

ص: 209

ويظهر كراهته، فلا يجوز لمن رآه وهو يشرب الدخان مختفياً، أن يقول فلان يشرب الدخان وهذا من الغيبة المحرمة، بل عليه النصيحة والستر.

قوله: (ومستفتٍ)

كذلك كون الإنسان يستفتي عند المفتي، ودليله ما ثبت في الصحيحين في قصة هند امرأة أبي سفيان رضي الله عنه: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا سفيان رجل مسيك لا يعطيني من ماله، فقال:«خذي ما يكفيك وما يكفي بنيك» (1)

وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهرها، فأقرها على قولها أنه مسيك أو بخيل وهذا يجوز عند الاستفتاء، ومثل المستفتي المستشير وسيأتي.

قوله: (ومن طلب الإعانة في إزالة منكر)

كذا من طلب الإعانة في إزالة منكر فدعا غيره لزوال منكر واستعان بهم ولا يستطيع إزالته بنفسه؛ كأن يكون الواقعون على المنكر جماعة فحينئذ لا بأس بذكر المنكر ومن يقوم به ولا غيبة لهم.

(1) أخرجه البخاري (رقم: 2328 و 3613) ومسلم (رقم: 1714).

ص: 210

ومن الصور التي لم يذكرها الناظم وقد تكون ضمن ما ذكر (المستشار)، كما جاء في سنن الترمذي: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن» (1) بإسناد لا بأس به.

وثبت في الصحيح: أن فاطمة بنت قيس القرشية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن معاوية وأبا جهل خطباني فكيف تقول، فقال:«أما معاوية فصعلوك - أي فقير معدم - وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» (2)

وجاءت في رواية أخرى عند مسلم أن أبا جهم ضَرَّاب للنساء «ولكن انكحي أسامة بن زيد» (3) وفي رواية عند مسلم، قالت: فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت. (4) فالشاهد جواز ذلك في الاستشارة.

وكذلك في الولاية لتولية أحد ولا يدرى هل يصلح لها أم لا، فيؤتى بشخص يعرف أحواله، وباطن أمره، حتى لا يولى على المسلمين من ليس

(1) أخرجه الترمذي (رقم: 2822 و 2823) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 256) والحاكم (رقم: 7178) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. والبيهقي (رقم: 20819) والحديث روي عن أبي هريرة وابن عباس وجابر بن سمرة وعمر وأم سلمة وسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه مالك (رقم: 1210) وأحمد (رقم: رقم 27368)) ومسلم (رقم: 1480) وأبو داود (رقم: 2284) والنسائي (رقم: 3245).

(3)

أخرجه مسلم (رقم: 1480).

(4)

من روايات الحديث السابق.

ص: 211

بكفء سواء كانت الولاية ولاية عامة، أو خاصة فيجب على من كان على علم بحاله أن يخبر به، حتى تتم النصيحة لأهل الإسلام في ذلك.

وفيما تقدم من صورة الاستشارة يجب عليه أن يخبر ويكون مأجوراً، وله ثواب النصيحة، فإن أراد التشفي فإنه يأثم من هذه الجهة، وأما من حيث الإشارة فهو مثاب.

قول المؤلف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا في الفاسق ما فيه ليحذره الناس» (1)

لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هو خبر باطل.

ولكن دلت الأحاديث على مقتضاه كما في صحيح مسلم (2) وذكره البخاري في ترجمة باب (3) حديث أبي رقية ولمسلم من حديث أبي رقية تميم

(1) ليس موجودا بهذا اللفظ، وجاء بلفظ مقارب له عند الطبراني (رقم: 1010) والبيهقي في السنن (رقم: 21442) وفي الشعب الإيمان (رقم: 9667) وغيرهم: عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يعرفه الناس» قال البيهقي: فهذا حديث يعرف بالجارود بن يزيد النيسابوري وأنكره عليه أهل العلم بالحديث سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ غير مرة يقول كان أبو بكر الجارودي إذا مر بقبر جده فى مقبرة الحسين بن معاذ يقول يا أبة لو لم تحدث بحديث بهز بن حكيم لزرتك. قال الشيخ وقد سرقه عنه جماعة من الضعفاء فرووه عن بهز بن حكيم ولم يصح فيه شيء.

(2)

وهو: باب بيان أن الدين النصيحة. صحيح مسلم (1/ 74).

(3)

وهو: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) صحيح البخاري (1/ 30).

ص: 212

بن أوس الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلن لمن يارسول الله .. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (1)

قوله: (ولا يظن بعمر رضي الله عنه أنه أقدم على ما هو غيبة عند نصه على الستة الشورى فيهم، من ذكر عيب كل واحد، بل قصد بذلك النصح لله ولرسوله ولأهل الإسلام)

لا أدري ما هو مراد المؤلف هل ذكر عمر كل واحد فيهم ولا اعلم أن عمر رضي الله عنه، نص على هؤلاء الستة وذكر عيب كل واحد منهم، وفي خبر الصحيح بل هو خير لهم، وتزكية لهم، حينما نص عليهم ولعله أراد هذا الخبر: أن ابن عباس قال: خدمت عمر خدمة لم يخدمها أحد من أهل بيته، ولطفت به لطفا لم يلطفه أحد من أهله، فخلوت به ذات يوم في بيته وكان يجلسني ويكرمني، فشهق شهقة ظننت أن نفسه سوف تخرج منها، فقلت: أمن جزع يا أمير المؤمنين، فقال: من جزع، قلت: وماذا،

(1) أخرجه مسلم (رقم: 55).

ص: 213

فقال: اقترب فاقتربت، فقال: لا أجد لهذا الأمر أحدا، فقلت: وأين أنت عن فلان وفلان وفلان وفلان وفلان وفلان، فسمى - ابن عباس - له الستة أهل الشورى، فأجابه في كل واحد منهم يقول، ثم قال: إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا قوي في غير عنف، لين في غير ضعف، جواد من غير سرف، ممسك في غير بخل. عزاه صاحب الكنز (رقم: 14255) إلى ابن سعد ، وفيه نظر من حيث الصحة أما من حيث المعنى فتقدم ما يدل على جواز مثل هذا، بل في هذا الحالة يجب نصحاً للمسلمين والله المستعان.

ص: 214