الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وَيُسْتَحَبُّ اِفْتِتَاحُ الأَكْلِ بِبِسْمِ اللهِ
، وَخَتْمُهُ بِالحَمْدُ للهِ.
وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِيْنِهِ مِمَّا يَلِيْهِ، إِذَا كَانَ الطَّعَامُ نَوْعًا وَاحِدًا.
وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الطَّعَامِ لَكِنْ مِنْ جَوَانِبِهِ.
وَكَذَلِكَ الكَيْلُ فَإِنَّهُ أَدْعَى لِلْبَرَكَةِ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِي السُّنَنِ.
وَلَا يَنْفَخُ الطَّعَامَ الحَارَّ وَلَا البَارِدَ.
وَلَا يُكْرَهُ الأَكْلُ والشُّرْبُ قَائِمًا، وَيُكْرَهُ مُتَّكِئًا.
وَإِذَا دَفَعَ إِنَاءَ الشَّارِبِ، أَوِ اللُّقْمَةَ، دَفَعَ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِيْنِهِ، كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ويستحب افتتاح
…
السنن)
يستحب افتتاح الأكل: "ببسم الله". وختمه: "بالحمد لله".
ثم ذكر آداب الطعام، وآداب الأكل كثيرة، والمؤلف ذكر طرفاً منها، فيفهم من كلام المؤلف هنا أنه يستحب افتتاح الأكل ببسم الله، ولو تركها لم يأثم، وهناك من قال: أن التسمية عند الأكل واجبة، وهذا هو الصحيح لأمور:
الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقال لعمر بن أبي سلمة:«يا غلام سم الله» (1) فأمره بالتسمية، والأصل في الأوامر الوجوب.
الأمر الثاني: أخبر أن الطعام إذا لم يسمَّ عليه يستحله الشيطان ويشاركه، ومشاركة الشيطان تدل على أن دفع مشاركته واجبة، ولا تدفع إلا بالتسمية.
الأمر الثالث: أن البركة تحل بالتسمية؛ كما في الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل مع أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما إنه لو سمّى لكفاكم ....» (2) الحديث، واحتُج به على أن من لم يسم يؤثر على من سمى، والحديث فيه اضطراب، وعلى كل حال فالصحيح في التسمية أنها واجبة عند الأكل وعند الشرب، قلّ أو كثُر.
وصفة التسمية عند الطعام- على الصحيح-أن يقول:"بسم الله"؛لأنه لم يجئ عن النبي عليه الصلاة والسلام ما يدل على التكميل، بخلاف البسملة عند القراءة، ومما يُطلق عنده التسمية ولا تُكمَّل أيضاً عند الذبح، فتقول:"بسم الله"، وتضيف:"والله أكبر". وأما الختم بـ "الحمد لله" فهو مستحب ومؤكد.
(1) أخرجه أحمد (رقم: 16375) والبخاري (رقم: 5061) ومسلم (رقم: 2022).
(2)
أخرجه الترمذي (عقب رقم:1858) وقال: حسن صحيح. والشمائل (رقم:192).
قال المؤلف: (وأن يأكل بيمينه مما يليه)
ذكر هنا أدبين:
الأول: أن يأكل بيمينه، وهو من الواجبات فقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن أبي سلمة وكان ربيبه، قال: وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«يا غلام سم الله وكل بيمينك» (1) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أكل بشماله يشابه الشيطان فقال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (2)
ومشابهة الشيطان محرمة، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل الصحابي كما ذكر الحافظ في الإصابة، واسمه بسر بن راعي العير الأشجعي، ولكنه تكبر فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشُلَّت يده، وهذا كله لا يناسب الاستحباب، بل يناسب الوجوب.
قال المؤلف: (مما يليه إذا كان الطعام نوعاً واحداً)
وهذا الأدب الثاني: وقد أدَبَّ به النبي صلى الله عليه وسلم ربيبه عمر، فقال:
(1) أخرجه أحمد (رقم: 16375) والبخاري (رقم: 5061) ومسلم (رقم: 2022) وابن ماجه (رقم: 3267) والنسائي (رقم: 6759).
(2)
حديث ابن عمر: أخرجه أحمد (رقم: 4537) ومسلم (رقم: 2020) وأبو داود (رقم: 3776) والنسائي (رقم: 6748) وابن حبان (رقم: 5226) وحديث أبى هريرة: أخرجه أحمد (رقم: 8289) والنسائي (رقم: 6745) وأبو يعلى (رقم: 5899).
«وكل مما يليك» قال عمر: فما زالت تلك طِعمتي بعد. أي: صفة طعامي، فعُلم من هذا أن الأكل مما يلي الإنسان، إذا كان الطعام واحداً واجب، ولأن الأكل مِمَّا يلي الآخرين فيه أذية وشره ونهم، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به، أما إذا كان الطعام متنوعاً، فلا بأس من تخطي الطعام الأول إلى الثاني، ونقول أيضاً: إن كان الطعام الثاني في صحن فكل مما يليك أيضاً، ولا تذهب إلى ما يلي الشخص الآخر، ونقول أيضاً: أنه إذا كان الإناء يسيراً فلا بأس أن تأكل من أي جهة إذا كان متنوعاً، والأواني في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت القصعة وهي تكفي لقليل من الناس وأكبر منها الصحفة وأكبر من ذلك الجفنة وهي عظيمة.
قال المؤلف: (ولا يأكل من ذروة الطعام ولكن من جوانبه)
وهذا أيضا من الآداب، والمعلوم عند أهل العلم أن هذا الأدب مستحب، وأصله ما رواه أهل السنن، وأصح إسنادٍ لهذا ما جاء عند أبي داود من حديث شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها» (1)
(1) أخرجه أبو داود (رقم: 3774).
وله لفظ آخر: «إذا وُضع الطعام فكلوا من حافته وذروا وسطه فإن البركة تنزل في وسطه» (1)
والله عز وجل حينما خلق هذه الأعيان علويها وسفليها جعل في بعضها البركة، ومن ذلك ما أخبرنا عن الحجر الأسود أن فيه بركة فمسحه يحط الخطايا وهو قربة فمسحه حسنات، والعسل فيه شفاء، وكذا الحبة السوداء، وأشياء كثيرة، ومن ذلك أن من رحمة الله عز وجل أن الناس إذا اجتمعوا على الطعام، فإن الله عز وجل يجعل البركة تنزل في الوسط ثم تنتشر، ولو كانت البركة لا تنتشر لكان النهي عن الأكل من الوسط فيه منع للبركة، لكنها تنزل في الوسط ثم تنتشر، فإذا أُكلت من الوسط ضاعت على الجميع، وقد تكون هذه البركة حسية، يمكن أن تكون معنوية، ويمكن حصولها جميعاً.
وقد وجدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حسية، فكان الطعام يؤكل منه وهو بحاله، كما في قصة جابر وغيره، وقصة الماء الذي يصب حينما أخذ من مزادة (2) المرأة المشركة ثم وزع على أهل العسكر ولم ينقص من الماء شيء.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 24947) وأحمد (رقم: 3438) والترمذي (رقم: 1805) والنسائي (رقم: 6729) وابن ماجه (رقم: 3277).
(2)
أخرجه البخاري (رقم: 337) ومسلم (رقم: 682).
وقصة الإناء اليسير الذي أخذه أبو هريرة رضي الله عنه ودار به على أهل الصفة، وأقل ما قيل أنهم سبعين رجلاً، فدار على هؤلاء كلهم ويبقى فضله، ويشربه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة رضي الله عنه. (1)
(1) أخرجه البخاري (رقم: 6087) ولفظه: عن مجاهد: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال:«يا أبا هر» . قلت لبيك يا رسول الله، قال:«الحق» . ومضى، فاتبعته، فدخل فأستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال:«من أين هذا اللبن» . قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال:«أبا هر» . قلت: لبيك يا رسول الله، قال:«الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي» . قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال:«يا أبا هر» . قلت: لبيك يا رسول الله، قال:«خذ فأعطهم» .. قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت =
= إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال:«أبا هر» . قلت: لبيك يا رسول الله، قال:«بقيت أنا وأنت» . قلت: صدقت يا رسول الله، قال:«اقعد فاشرب» . فقعدت فشربت، فقال:«اشرب» . فشربت، فما زال يقول:«اشرب» . حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال:«فأرني» . فأعطيته القدح فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة.
فمن السنة أن الإنسان ولو كان وحده فإنه يأكل مما يليه ويترك وسط الطعام، ويدع ذروته، حتى لو كان وحده وليس معه أحد؛ لأن هذا معنى لا يتعلق بالجماعة، بل يتعلق بالبركة.
وبعض أهل العلم أجاز تتبع الطعام ، والأخذ من جوانبه، إذا لم يشق هذا على الآخرين، أو أحبوا ذلك، واحتجوا بأن أنساً صلى الله عليه وسلم أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أنس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء. (1)
والدُّباء هو القرع، فكان يتتبعها ولو كانت عند شق أنس، قال أنس: فما زلت أحب الدباء بعد ذلك.
فهذا محمول على أن الصحابة كانوا يحبون هذا، ويؤثرون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
(1) أخرجه مالك في الموطأ (رقم: 1574) وأحمد (رقم: 12541) والبخاري (رقم: 2092 و 5437) ومسلم (رقم: 5375) وأبو داود (رقم: 3782) والترمذي (رقم: 1850) والنسائي (رقم: 6628).
ومن ذلك الأكل مع الزوجة مثلاً، أو مع المحبوب، فإن الإنسان يفرح أن يأكل من جهته أو ما أشبه ذلك، فحينئذٍ لا مشاحة، وعليه إذا حصل التسامح وأحب أن يؤخذ من جهته فلا بأس، بل قال صلى الله عليه وسلم:«وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك» (1)
وأمر بأن تُلعق اليد، (2) وقد قال أهل العلم: تلعقها الزوجة، أو الابن، أو حيوان طاهر، وما أشبه ذلك «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فاه على موضع في عائشة رضي الله عنه في تعرق العظم» .
مسألة: يكثر عندنا الآن مسألة دفع اللحم، أو دفع الطعام للغير، ويفعلها الناس ابتغاء الكرم، كأن يقطع بعض الناس اللحم ويناولها غيره.
(1) أخرجه مالك (رقم: 1456) وأحمد (رقم: 1524) والبخاري (رقم: 2593) ومسلم (رقم: 1628) وأبو داود (رقم: 2864) والترمذي (رقم: 2116) والنسائي (رقم: 3626) وابن ماجه (رقم: 2708).
(2)
أخرجه أحمد (رقم: 3234) والبخاري (رقم: 5140) ومسلم (رقم: 2031) وأبو داود (رقم: 3847) والنسائي (رقم 6776) وابن ماجه (رقم: 3269) ولفظه: عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها» .
فمن أهل العلم من كره هذا؛ لأن هذه اللقمة أو الطعام قد مس اليد التي مست فم الشخص وقد يُتقزز من هذا؛ لأنه قد يعلق فيها شيء من اللعاب، وهذه من إحدى الحكم التي فيها أن الإنسان يأكل من طعامه الذي يليه، ولا يأكل من أماكن الآخرين؛ لأنه قد يكره أن يمس يدك التي مست فاك، فهذا وجه كراهة هذا الشيء، بل ذهب الحنابلة إلى أنه يحرم إذا كان الإناء مختلفاً؛ لأنه لا يجوز أن تنقل الطعام إلا بإذن أهل الإناء، ولكن الصحيح جوازه.
وقد روى البخاري في كتاب الأطعمة: باب من ناول صاحبه القطع من الطعام إذا علم طيب نفوس أصحابه. (1)
فعلى كل حال يتنبه لمثل هذه الآداب؛ لأن بعض الناس يريد الخير لصاحبه، ولكن صاحبه لا يريد هذا الشيء، فنقول: رفقاً لأنه ليس كل أحد يحب هذا الشيء.
قوله: (ولا ينفخ الطعام الحار ولا البارد)
هذا أيضاً من آداب الأكل والشرب، أن الإنسان لا ينفخ في الطعام الحار لتبريده، والأصل في ذلك ما رواه الشيخان من حديث عبد الله
(1) صحيح البخاري (5/ 2072).
ابن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء» (1)
والمراد بالتنفس هنا، أي: داخل الإناء، فلا يشرب وهو مواصل النفس، وزاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن قتادة النهي عن النفخ في الإناء وأن يتنفس فيه. (2)
وله شاهد أيضاً أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن التنفس في الإناء وأن ينفخ فيه. (3)
فهذه الأحاديث تدل على أن الإنسان لا يخرج منه هواء لا من فمه ولا من أنفه، فالتنفس في الإناء يكون فيه الهواء من الأنف، والنفخ يكون فيه الهواء من الفم، وهذا غير الحديث الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثاً. (4)
(1) أخرجه أحمد (رقم: 19438) والبخاري (رقم: 152) ومسلم (رقم: 267) وأبو داود (رقم: 31) والنسائي (رقم: 48) والترمذي (رقم: 1889).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 24665).
(3)
أخرجه أبو داود (رقم: 3730) والترمذي (رقم: 1888) وأخرجه أحمد (رقم: 1907) وابن ماجه (رقم: 3428) والحاكم (رقم: 7206).
(4)
أخرجه أحمد (رقم: 12207) ومسلم (رقم: 2028) وأبو داود (رقم: 3727) والنسائي (رقم: 6860) والترمذي (رقم: 1884).
فإن المراد بالتنفس بالإناء عند الشرب يعني خارج الإناء.
فالأحاديث تنقسم إلى قسمين: قسم فيه النهي عن التنفس في الإناء، وقسم فيه التنفس خارج الإناء، بأن يشرب الإنسان مرتين أو ثلاثاً، وأن الإنسان إذا شرب فأحفزه النفس فلا يتنفس، بل يُبين القدح عن فيه، ثم يتنفس خارج الإناء، ثم يعود فيشرب، ثم إذا احتاج إلى النفس أبعد الإناء ثم تنفس في الخارج، ثم يشرب، ففرق بين التنفس في الإناء والتنفس خارج الإناء.
والحديث الذي جاء فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس إذا شرب ثلاثاً. أي خارج الإناء، حتى لا يحتاج الإنسان إلى أن يشرب ويتنفس في الإناء، وسواءً كان هذا المشروب حاراً أو بارداً، فالسنة أن الإنسان يتنفس ثلاثاً، هذا فيما إذا كان يشرب دفعة واحدة، وتحتمل حرارته أو برودته فالسنة أن يقطعه ثلاثاً.
أما الأشربة الساخنة، فقد جرت عادة الإنسان أنه لا يستطيع أنه يشربه دفعةً واحدةً، كالشاي مثلاً، فمنهيٌ عن تبريدها بالنفخ يها.
واختلف في علة النهي عن النفخ في الشراب فقيل: لأنه قد يقذِّر الطعام والشراب، فقد يخرج منه شيء فيقع على الطعام أو الشراب فيقذره.
وقد يقول قائل: هل تزول المفسدة ويتسامح فيه إذا كان الطعام للإنسان خاص به ككأس ماء؛ لأن العلة هي تقذيره لغيره، وهو لا يتقذر من نفخ نفسه؟
فنقول: الوقوف على ظاهر الخبر أحسن، فلعل العلة أوسع من ذلك، فقد قال بعضهم: أن هذا الهواء يخرج من الرئتين وفيه من الأشياء ما لا يراه الإنسان، فقد يدخل في الطعام وهو لا يراه، وعليه فلا يتنفس فيه لتبريده، ولا لغرض آخر.
مسألة: أكل الطعام الحار يُكره من حيث الصحة ، فشرب الشراب الساخن مضر لا يجوز، وأكل الطعام الحار الذي يؤذي لا يجوز أيضاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار، (1)
والضرر بلا قصد، والضرار بقصد،
(1) أخرجه أحمد (رقم: 2867) وابن ماجه (رقم: 2341) من حديث ابن عباس.
وأخرجه ابن ماجه (رقم: 2340) من حديث عبادة بن الصامت.
وأخرجه الطبراني (رقم: 1387) من حديث ثعلبة بن أبى مالك.
وأخرجه مالك (رقم 1429) والشافعي (رقم: 1114) من حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلاً.
وأخرجه الدارقطني (رقم: 288) والحاكم (رقم: 2345) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقى (رقم: 11166) من حديث أبي سعيد.
وأخرجه الدارقطني (رقم: 83) والطبراني في الكبير (رقم: 1037) وفي الأوسط (رقم: 1033) من حديث عائشة.
فلا يتسبب الإنسان في ضرر نفسه، فيدع الطعام حتى يبرد، أو يبرِّده بطريقة صحيحة ليس فيها ركوب للنهي. وجاءت أخبار في أكل الطعام الحار، منها:«اللهم لا تطعمنا ناراً» (1) ولكن لا يصح.
وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن أكل الطعام الحار، وقال:«اصبروا حتى يذهب فوره» وهذا أيضاً لا يصح، لكن على القاعدة أنه إذا كان يؤدي إلى ضرر فإنه لا يجوز، والغالب أن شرب الشراب الساخن أو أكل الطعام الحار يؤذي في الفم وما بعده.
قوله: (ولا يكره الأكل والشرب قائماً)
وهذا أيضاً من المسائل المهمة.
فقد ثبت في الصحيحين من طريق الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: شرب من ماء زمزم قائماً. (2)
وصح عن علي أيضاً في البخاري ومسلم وأحمد من غير وجه عنه: أنه أتي بماء فشربه قائماً، وقال: إن أناساً يكره أحدهم أن يشرب
(1) قال الهيثمي في المجمع (5/ 20): رواه الطبراني في الصغير (رقم: 934) و (الأوسط)، وفيه عبد الله بن يزيد البكري، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات.
(2)
أخرجه البخاري (رقم: 1556) ومسلم (رقم: 2027).
وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت. (1)
وأحاديث الفعل في الصحيحين، وأحاديث النهي عن الشرب قائماً أعرض عنها البخاري ومالك في الموطأ فلم يوردوها، وأخرج مسلم منها ما رواه من حديث أنس وأبي هريرة وأبي سعيد، وكل هذه الأحاديث الثلاثة قُد تكلم فيها.
أما حديث أنس فيروى من طريق قتادة عنه أن: النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً، قيل لأنس: فالأكل؟ قال: ذاك أشر وأخبث. (2)
وأما الحديث الآخر فهو ما رواه عمر بن حمزة عن أبي غطفان المرِّي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشربن أحد منكم قائماً فمن نسى فليستقيء» (3)
والحديث الثالث حديث أبي سعيد الذي رواه أيضاً مسلم من طريق أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد. (4)
(1) أخرجه أحمد (رقم: 583) والبخاري (رقم: 5292) وأبو داود (رقم: 3718) والنسائي (رقم: 132).
(2)
أخرجه أحمد (رقم: 13084 و 13643) مسلم (رقم: 2024) وأبو داود (رقم: 3717) وابن ماجه (رقم: 3424) والترمذي (رقم: 1879).
(3)
أخرجه مسلم (رقم: 2026) والبزار (رقم: 8812).
(4)
أخرجه مسلم (رقم: 2025) وابن أبي شيبة (رقم: 24121) والترمذي (رقم:1881).
أما حديث أنس فاختلف على قتادة فيه، فمنهم من طعن فيه، وقال: لا يصح، ومنهم من قال: لا بأس به، وأصح حديث في النهي هو حديث أنس، وانفرد بإخراجه مسلم.
وأما حديث: «لا يشربن أحدكم قائماً فمن نسى فليستقيء» ففي إسناده عمر بن حمزة، وهو حفيد عبد الله بن عمر، وعمر بن حمزة هذا له مناكير، وهو الذي روى عنه هذا الحديث: عن عمر بن حمزة عن عمه سالم، عن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» (1)
فعمر بن حمزة هو الذي انفرد بلفظة الشمال عند مسلم، وهذه اللفظة شاذة، ومن هنا اختلف أهل العلم هل تسمى اليد الأخرى لله عز وجل بالشمال؟ بعد اتفاقهم على تسمية إحداها باليمين، فقيل: هي يمين مباركة، كما في الحديث:«وكلتا يديه يمين» (2)
(1) أخرجه مسلم (رقم: 2788).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 4825).
وقيل: بل تسمى شمال، ولكن ليس فيها نقص كما هو المتبادر في النقص عند المخلوقين، والأقرب في هذا أنه لا يصح حديث في تسمية اليد الأخرى لله عز وجل بالشمال.
وأما حديث أبي سعيد ففيه أبو عيسى الأسواري، وهو غير مشهور. فعلى كل حال أحاديث النهي عن الشرب قائماً لا تقاوم أحاديث الإباحة، ومن أحاديث النهي أيضاً ما رواه الإمام أحمد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً، فقال له:«قه» قال: لمه، قال:«أيسرك أن يشرب معك الهر» قال: لا، قال:«فإنه قد شرب معك من هو شر منه الشيطان»
وهذا الحديث رواه شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن عن أبي هريرة، وأبو زياد هذا لا يعرف اسمه، وقد وثقه ابن معين، لكن قد أُعِل هذا الحديث بالوقف، ومن المنكرات في حديث عمر ابن حمزة، أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاستقاءة، والاستقاءة فيها ضرر، ومن هنا نأتي بفائدة أخرى، وهي أنه إذا شرب الإنسان طعاماً محرماً وعلم بعد شُربه بتحريمه - لاسيما إذا كان محرماً لكسبه لا لوصفه - كأن يكون من مال غصب أو ربا.
فقد روى البخاري قصة أبي بكر رضي الله عنه، أن أبا بكر كان له غلام، فأتاه يوماً بطعام فأكل منه أبو بكر رضي الله عنه ، وكان عادة أبي بكر رضي الله عنه أن يسأل: من أين هذا؟ فلم يسأله ذلك اليوم، فقال له الغلام: إنك لم
تسألني عن هذا الطعام! فسأله، فقال: إني كنت تكهنت في الجاهلية لأناس، ولا أحسن الكهانة، فأعطوني فاشتريت هذا الطعام، فلما علم أبو بكر رضي الله عنه وضع أصبعه في فمه فأخرج ما في جوفه. (1)
فسألت شيخنا ابن باز رحمه الله عن هذه الاستقاءة هل تجب؟ قال: لا تجب. ا. هـ.
قلت: لأن عين الطعام مباحة، لكن أبو بكر رضي الله عنه أخذ بشيء من الورع، وقد يكون فيه ضرر على المستقيء، وهذا يمكن أن يعل به حديث عمر بن حمزة عن أبي غطفان المري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يشربن أحدكم منكم قائماً فمن نسي فليستقيء» وقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً.
وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن من شرب قائماً لا يلزمه أن يستقيء.
(1) أخرجه البخاري (رقم: 3629) والبيهقي (رقم: 11307) ولفظه: عن عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدرى ما هذا، فقال أبو بكر: ما هو، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة؛ إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
واختلف أهل العلم في الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإباحة، فمن أهل العلم من غلّب أحاديث الجواز وطعن في أحاديث النهي كما تقدم، ومنهم من قال: إن النهي كان متقدماً والإباحة جاءت بعد فهي منسوخة.
والقول الثالث، وهو: أصحها طريقة الجمع.
ويقال: إن أحاديث النهي جاءت على خلاف الأولى، وليست الكراهة فقط، وأحاديث الإباحة دلت على الجواز، وهذا أصح ما جاء في المسألة.
أما قول أنس رضي الله عنه كما أخرجه مسلم، لما قيل له: فالأكل؟ فقال: أشر وأخبث، فلا أعلم أحداً وافق أنساً رضي الله عنه على هذا، ولا أعلم أحداً من أهل العلم كره الأكل قائماً، والخلاف المعروف في الشرب، وهذا مذهب لأنس، وإلا فالأكل ليس أشر وأخبث، فهو أخف من الشرب بكثير، وليست المفسدة في الشرب موجودة في الأكل، للفرق بينهما.
وقوله: أشر وأخبث. هذا سائغ في اللغة، بمعنى شر وخبيث، والأصل في شر أشر، وفي خير أخير، وهذه اللغة موجودة وقليلة في الأخبار، ولكن
الناس تساهلوا في الأشر، فقالوا: شر، فصارت مخففة، وجرى فيها لفظ الكتاب والسنة. والراجح ما ذكره المؤلف من عدم الكراهة.
قوله: (ويكره متكئاً)
الأصل في هذا ما رواه البخاري من حديث علي بن الأقمر عن أبي جحيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا آكل متكئاً» (1)
وهذا الحديث فيه إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يأكل متكئاً، وليس فيه صيغة نهي، وقد اختلف في معنى الإتكاء، فقال بعضهم: الاتكاء هو لكل متمكن من جلسة يريد التكثر من الأكل على أي صفة كانت، وهذا تفسير الخطابي، يقول: أي لا أقعد متكئاً على وطاء عند الأكل فعلَ من يستكثر من الطعام، وهذا أحد الأقوال، وعلى هذا لو تربع فهو متكئ على هذا التعريف، ولو جلس جلسة غير هذه وفيها التمكن والتكثر من الطعام فهو متكئ، فضلاً عن أنه يميل على أحد الشقين، فهذا اتكاء بلا إشكال.
وقيل: إن الاتكاء هو الميل على أحد الشقين؛ لأن هذا هو التعريف اللغوي، ويؤيده حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن أكبر
(1) أخرجه أحمد (رقم:18776) والبخاري (رقم:5084) أبو داود (رقم:3769) والترمذي (رقم: 1830) والنسائي (رقم: 6709) وابن ماجه (رقم: 3262).
الكبائر، فقال:«الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس ..» (1) الحديث، ففرق بين مطلق الجلوس والاتكاء، فعُلم بهذا أن الاتكاء ضرب من ضروب الجلوس، وفيه الميل، وهذا هو الصحيح وهو اختيار شيخنا ابن باز- رحمه الله.
ولكن لشخص أن يسأل: هل يدخل في هذا أنه إذا اتكأ على إحدى يديه بحيث لو أزال هذه اليد التي قد اتكأ عليها واستند عليها بعض الشيء لا يسقط؟ نقول: لا، الاتكاء هو الميل على أحد الشقين بحيث لو زال الوطاء الذي تحته -كالمركاة مثلاً- أو يده لسقط، هذا هو ضابط الاتكاء الذي جاء فيه الخبر، أما كون الإنسان الذي يستند بيده ويرتفق بها شيئاً يسيراً فهذا لا يخرج عن كونه جالسا غير متكئ كما هو معلوم.
وقد بوب البخاري رحمه الله بقوله: باب الأكل متكئاً، (2) فقال الحافظ ابن حجر: وإنما لم يجزم به لأنه لم يأت فيه نهي صريح. (3)
(1) أخرجه أحمد (رقم: 20401) والبخاري (رقم: 5631) ومسلم (رقم: 87).
(2)
صحيح البخاري - (5/ 2062).
(3)
فتح الباري - ابن حجر - (9/ 541).
وهذا ذهول من الحافظ رحمه الله فقد صحح الحافظ نفسه حديثاً رواه الطبراني في معجمه، وذكره الزمخشري في تفسيره وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقال عنه الحافظ:"وإسناده جيد"، وفيه التصريح بالنهي عن الأكل متكئاً، وقد كتبت فيه جزءاً وقرئ على شيخنا ابن باز رحمه الله ولكنه ليس بالمطبوع في نفح العبير، وسيكون بإذن الله من نصيب الجزء القادم، وتكلمت عن ألفاظه وطرقه، فهذا الحديث يرويه الطبراني من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صومين، وعن صلاتين، وعن لباسين، وعن مطعمين، وعن نكاحين، وعن بيعتين- ثم ذكر صوم اليومين والصلاتين واللبستين، ثم قال: - وأما المطعمان: فأن يأكل بشماله ويمينه صحيحة، ويأكل متكئاً. (1) وإسناده صحيح.
(1) أخرجه الطبراني (رقم: 10087) ولفظه: عن عبد الله رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومين، وعن صلاتين، وعن لباسين، وعن مطعمين، وعن نكاحين، وعن بيعتين، فأما اليومان: فيوم الفطر ويوم الأضحى، وأما الصلاتان: فصلاة بعد الغداة حتى تطلع الشمس، وصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وأما اللباسان: فأن يحتبي في ثوب واحد ولا يكون بين عورته وبين السماء شيء، فتدعى تلك الصماء، وأما المطعمان: فأن يأكل بشماله ويمينه صحيحة، ويأكل متكئا، وأما البيعتان: فيقول الرجل: تبيع لي، وأبيع لك، وأما النكاحان: فنكاح البغي، ونكاح على الخالة والعمة.
وهذا الحديث رواه النسائي من وجه آخر من طريق أبي إسحاق نفسه مختصراً، فنحا بعضهم أنه يعل سياق الطبراني بهذا، وهذا ليس بصحيح، فالذي عند النسائي إنما هو اختصار له، وإلا فالحديث محفوظ لا إشكال في إسناده، وقد أخرجه الطبراني في المعجم في الجزء العاشر، غير أن هذا النهي على القول الراجح للكراهة، كما قال شيخنا بعدما قرئ عليه البحث؛ لأن صيغة النهي إما على التحريم أو الكراهة ورجح جانب الكراهة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأكل متكئاً.
وقد اختُلف في علة النهي عن الاتكاء.
فقيل: أنه مخافة أن تعظم البطن؛ كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه، عن إبراهيم النخعي أنه، قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا تكاة، مخافة أن تعظم بطونهم. (1) وظاهر إسناده لا بأس به.
وهناك قول آخر: بأن الاتكاء خلاف الأولى، لأن الحديث الذي في صحيح البخاري هو أصح شيء في الباب، وانفراد الطبراني بهذا الخبر يشعر بشيء من الضعف، فنقول: لا، فقد انفرد الطبراني بأحاديث صحاح، ورواية أبي إسحاق عن أبي الأحوص من أصح ما يكون من أحاديث ابن مسعود، وقد قال أبو إسحاق، عن أبي الأحوص: كنا
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25007).
نجتمع معه في المسجد فيسكب علينا حديث ابن مسعود، وكان أبو الأحوص من أحفظ الناس لحديث ابن مسعود. فلا إشكال في إسناده إن شاء الله، لكنه لا يدل إلا على الكراهة.
قوله: (وإذا دفع إناء الشُّرب أو اللقمة دفع إلى من على يمنيه، كذلك كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم)
السنة إذا أتي بطعام يدور على مجموعة من الناس أنه يبدأ برئيس أو عالم أو والٍ أو أكبر من في المجلس أو صاحب الدار، ثم بعد ذلك من على يمين الشارب، ويستوي في هذا أن يكون هذا الإناء به الطعام كاملاً؛ كإناء الشرب، أو يكون يسقيهم شيئاً فشيئاً؛ كما هي حال القهوة والشاي الآن، ودل على هذا خبر أنس رضي الله عنه في الصحيحين، أنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلبن قدِ شيب بماء فشرب، وعن يمينه أعرابي، وعن شماله أبو بكر رضي الله عنه ، ثم أعطى الأعرابي وقال:«الأيمن فالأيمن» (1)
أي: أعطوا الأيمن فالأيمن، ونحوه أيضاً عند البخاري من حديث سهل بن سعد، وفيه: وعن يمينه غلام. (2)
(1) أخرجه البخاري (رقم: 5289) ومسلم (رقم: 2029).
(2)
أخرجه البخاري (رقم: 2319) ومسلم (رقم: 2030).
وفي بعض الأخبار أنه ابن عباس، فقال: أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟ وكانوا عن يساره فقال: لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فتلّه في يده.
وفي هذا الحديث من الفوائد كما ذكرنا أنه يعطى رئيس المجلس ثم من على رئيس المجلس والأفضل أن يُرَدّ الإناء للساقي، وأن يكون هناك من يطوف ويخدم، وقد دل على هذا حديث أبي هريرة في قصة سقاية أهل الصفة، قال: فكنت أسقي الواحد منهم، ثم آخذه ثم أعطيه الآخر. (1)
هذا هو الأفضل أن يلي خدمة القوم في الشرب من يفعل هكذا تأسياً في الصحابة في ذلك.
وفيه من الفوائد أن التفضيل هنا بالجهة لا بالأشخاص، فيفضل من على اليمين مطلقاً، ولو كان الذي على الشمال أفضل.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أتأذن لي أن أعطي الأشياخ» أنه لا بأس من استئذان صاحب الحق لإعطائه الجانب الآخر.
وفيه من الفوائد أن الاستئذان إنما يلزم الرجل الأول فقط لا جميع الرجال؛ لأنه صاحب الجهة وصاحب الاستحقاق الأول وإن تم الإذن فيعود للأول.
(1) أخرجه البخاري (رقم: 6087) وسبق الحديث بطوله.
وقد جاء حديث رواه أبو يعلى بإسناده من حديث ابن عباس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سقى، قال:«ابدؤوا بالكبير - أو قال -: بالأكابر» (1) وهذا يؤيد ما نحن فيه، والمراد بالأكابر هنا الجنس، لا سيما إذا ترتب القوم، أما إذا لم يترتبوا فنأخذ الحديث على ظاهره وهو: الأكبر فالأكبر، أما إذا ترتبوا فتعطي الأكبر ثم بعد ذلك تعطي من على يمين الأكبر، كما فصلت ذلك الأحاديث الأخرى، وهذا كله إن كان هذا الخبر محفوظاً فإنه يرويه أبو يعلى (2425) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن سهم الأنطاكي ثنا عبد الله بن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس هكذا، وخالفه عبدان (عبد الله بن عثمان المروزي) فرواه عن ابن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً (أخرجه البيهقي في الشعب (10495) .. وقال والصحيح رواية عبدان عن ابن المبارك يعني الإرسال
…
، قلت وهو المحفوظ
ومن أهل العلم من، قال: أنه إذا كان الساقي - في مثل عصرنا الآن- الشاي والقهوة (المشروب) - يسقي رئيس المجلس، فإنه يسقي
(1) أخرجه أبو يعلى (رقم: 2425) قال الحافظ في الفتح (10/ 87): سنده قوى. والطبراني في الأوسط (رقم: 3786) قال الهيثمي (5/ 81): رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجال أبى يعلى رجال الصحيح.
بعده على يمين الساقي، لا من على يمين المسقي، وقال: هذا هو الفهم الصحيح للحديث، وقال: لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: «الأيمن فالأيمن» (1) وفي قصة اللبن كان الساقي هو النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطي النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، بينما إذا كان الأمر شاي أو قهوة، وما أشبه ذلك، فإنك تعطي رئيس المجلس، ثم على يمينك أنت ليس على يمين المسقي، وهذا ما قال به شيخنا ابن عثيمين رحمه الله وفيه نظر؛ لأنه لا فرق، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: فإن جهة اليمين عادةً عند الناس أفضل من جهة الشمال، والذي يجلس على يمين الرئيس أفضل في الجملة، وهو في محل الإكرام وهم الأشرف.
والأمر الثاني: أن السنة -كما قررنا- أن الإنسان يدفع الإناء إلى الساقي، ثم بعد ذلك يدور، مع العلم أن الساقي حينئذٍ يمر على يساره، فتبين بهذا أن المراد عن اليمين يمين أول مسقي، وعلى هذا فلا فرق بين صب الشاي والقهوة وبين الإناء الذي يطوف، وهذا اختيار شيخنا ابن باز رحمه الله.
(1) سبق تخريجه.
ويقال ثالثاً: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الساقي لكان آخر الناس شرباً، بل كان هو المسقي صلى الله عليه وسلم لما زار من زار من أصحابه بينما لما جاءه أهل الصفة شرب آخرهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم لأنه هو الساقي وقد قال: ساقي القوم آخرهم شرباً فالساقي في الحقيقة المُضِيف وبهذا يحل الاشكال بالكلية.
ومن آداب الشرب التي لم يذكرها المؤلف رحمه الله: النهي عن الشرب من ثُلمة القدح، وقد جاء فيه الخبر من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من ثلمة القدح. (1)
وعامة أهل العلم على أن النهي للكراهة، ومنهم من قال: يحرم.
والثلمة: هي الكسر والخدش الذي يكون بيّناً، أما الصغير جداً الذي قد لا يكاد يرى، فهذا لا يتعلق به حكم.
واختُلف في علة النهي، فقال بعضهم: أن العلة في هذا أن الأوساخ عادةً تجتمع في هذه الثلمة، فنُهي عن مباشرتها بالشفة، وقال بعضهم: بل العلة خشية الأذى، لأن الثلمة عادةً تكون كسراً غير منضبط، فقد يشق شفة الشارب أو يجرحه.
(1) أخرجه أحمد (رقم:11777) وأبو داود (رقم:3724) وابن حبان (رقم:5315).
والصحيح أنه يجمع هذا وهذا وفيه علة ثالثة وهي أنه قد ينسكب الشراب على الشارب، فحينئذٍ لا ينبغي للإنسان أن يشرب من ثلمة القدح، وظاهر النهي التحريم.
ومن آداب الشرب أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اختناث الأسقية. (1)
وكانت أسقية القوم أُدُم تدبغ، ثم يوضع فيها الماء، ويستبردون الماء، لا سيما كل ما طال العهد بالقربة وكانت شنّاً بالية، كلما كان الماء أبرد؛ لأنه يكون جلدها رقيقاً، ويتبخر الماء بسرعة، فيسرع إليها الإبراد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى لرجل، فقال:«هل عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا» (2) والشن هي القربة البالية.
واختناث الاسقية أن يأتي الإنسان إلى هذه القربة، ويجمع فمها ويكسره ويثنيه ثم يشرب منه، مأخوذ من الخَنَث وهو التثنّي، وهو الميل والثني، ومنه سمى المُخنَّث وهو الذي يتشبه بالنساء، لتكسره وتخنثه ويقال:
(1) أخرجه البخاري (رقم: 5302) ومسلم (رقم: 2023).
(2)
أخرجه أحمد (رقم: 14741) والبخاري (رقم: 5290) وأبو داود (رقم: 3726) وابن ماجه (رقم: 3432).
اخنِث فم القربة، أي اثنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم شرب من فم قربة وهو قائم. (1)
واختلف أهل العلم في علة النهي.
فقيل: لعدم رؤية ما فيها، فإنه قد يختنث ويشرب، وقد يكون فيها قذىً أو قذراً، وروي أن رجلاً شرب من قربه فانساب جانٌّ في بطنه، والجان هي الحية الصغيرة.
وقيل: لانصباب الماء عليه بكثرة، لأن هذا الفم واسع، وإن ثناه وضغط عليه أصبح المخرج ضيقاً، فربما تدفق عليه الماء فشرق به وتأذى.
وقيل: العلة أنه ينتن فم القربة، وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه.
لكن هذه زيادة مدرجة من كلام عروة بن الزبير، فالصحيح أنها موقوفة، لكنها مستنبطة، وعليه فالنهي يتضمن الكراهة جمعاً بين فعله صلى الله عليه وسلم ونهيه.
(1) أخرجه ابن حبان (رقم: 5318).
وعلى هذا فهل يجوز للإنسان أن يشرب الآن من القوارير التي أفواهها ملساء، ويُرى ما فيها لشفافية الزجاج أو البلاستيك؟ نقول: لا بأس حينئذٍ من الشرب من فم هذه القوارير؛ لأنه:
أولاً: يرى ما فيها.
وثانياً: أنه يأمن من تناثر الماء عليه.
وثالثاً: أنه لا يحصل نتن في الغالب في أفواههم.
وقد يقال: التتابع على الشرب من فم هذه القارورة يحصل هناك إنتان، أو قد يكون هناك نقل للأمراض، على أن في هذا عندي نظر، لأن أهل الصفة شربوا من إناء واحد وهم أعدادٌ كثيرة، وسيقع فم الواحد منهم على فم الآخر، النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعرق العظم ويضع فمه على مكان ما تضع عائشة فمها، وكذلك يشرب من الإناء فيضع فمه أو فاه على موضع فيها.