الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ
، سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ، أَفَرْضٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا أَقُوْلٌ فَرْضٌ، وَلَكِنَّهُ وَاجِبٌ.
وَلَا يَجُوْزُ طَاعَتُهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوْقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى)).
قوله: (وبر الوالدين ...... «لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى»)
وبر الوالدين لا شك أنه فرض ، ولعل الإمام أحمد رحمه الله توقف لعارض، وإلا فقد قرن الله جل وعلا برهما بطاعته وعدم الإشراك به، حيث قال سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) وفي الآية الأخرى قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) وأما الأخبار في بر الوالدين في السنة النبوية فهي مستفيضة.
(1) الإسراء: 23.
(2)
النساء: 36.
ويمكن أن نقسم طاعة الوالدين إلى أقسام:
1 -
أن يأمره الوالدان بما يجب لله؛ كأن يأمره الوالدان بصلاة الفريضة فهذا واجب لا إشكال فيه.
2 -
طاعته في ترك ما حرم الله؛ كأن يأمره والداه بترك محرم، فلا إشكال في وجوب الطاعة هنا أيضاً.
3 -
طاعته في المستحب؛ كأن يأمره أبوه بفعل المستحب، كما لو أمره بفعل الصلاة النافلة فهذا الأصل فيها الوجوب.
4 -
إذا أمره بترك مكروه وعدم فعله فهذا الأصل فيها وجوب الامتثال.
5 -
إذا أمره بأمر مباح، فاختلف أهل العلم في ذلك هل يجب على الولد الطاعة أم لا؟ فقيل الوالد يطاع في كل شيء ليس معصية، وقال ابن مفلح:(1) ولا يجوز لوالد منع ولده من حج واجب، ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعته فيه، وله منعه من التطوع كالجهاد.
فدل على أنه لا يجوز له سفر مستحب بلا إذن وهو ظاهر ما ذكره الشيخ في بحث مسألة الجهاد، قال: ويتوجه، ويستحب استئذانه، فإن ظن أنه ينضرُّ به وجب، وأنه - أي الاستئذان - واجب للجهاد، لأنه يُراد
(1) الفروع في (5/ 228).
للشهادة بخلاف غيره، ففرق الأصحاب بين السفر له ولغيره في مسألة المدِين. قال: ولا يجوز تحليله منه لوجوبه بشروعه.
وقال أحمد في الفرض: إن لم تأذن لك أمك وكان عندك زاد وراحلة فحج ولا تلتفت إلى إذنها واخضع لها ودَارِها.
قال: ويلزمه طاعة والديه في غير معصية ويحرم فيها، ولو أمره بتأخير الصلاة ليصلي به أخّرها، نص على ذلك كله، قال في المستوعب وغيره: ولو كانا فاسقين. وهو إطلاق كلام أحمد، وقال شيخنا - يعني ابن تيمية-: هذا فيما فيه نفع لهما، ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب، وإلاّ فلا.
ثم قال: وإنما لم يقيده أبو عبد الله لسقوط فرائض الله بالضرر، وعلى هذا بنينا تملكّه من ماله، فنفعه كماله، فليس الولد بأكثر من العبد. إلى أن قال: ونقل أبو الحارث فيمن تسأله أمه شراء ملحفة للخروج، إن كان خروجها في بر وإلا فلا يعنيها على الخروج، ونقل جعفر: إن أمرني أبي بإتيان السلطان، له عليّ طاعة؟ قال: لا، فيحتمل في هذا، والذي قبله أنه وسيلة ومظنة في المحرم فلا مخالفة لما سبق وظاهرهما المخالفة وأنه لا طاعة إلاّ في البر.
إلى أن قال: ونقل المرُّوذي: ما أحب أن يقيم معهما على الشبهة لأنه صلى الله عليه وسلم، قال:«من ترك الشبهة فقد استبرأ لدينه وعرضه» (1) ولكن يداري، فظاهره لا طاعة في مكروه، ونقل غيره فيمن تعرِضُ عليه أمه شبهة يأكل؟ فقال: إن علم أنه حرام بعينه فلا يأكل، وقال أحمد: إن منعاه الصلاة نفلاً يداريهما ويصلي، فظاهره لا طاعة في ترك مستحب، وقال: إن نهاه أبوه عن الصوم لا يعجبني صومه، ولا أحب لأبيه أن ينهاه، فظاهره: لا تجب طاعته في تركه، وذكر صاحب المحرر وتبعه ابن تميم: لا يجوز منع ولده من سنة راتبة، وأن مثله المكتري والزوج والسيد. إلى أن قال: وقوله ندب إلى طاعة أبيه، وقال أحمد فيمن يتأخر عن الصف الأول لأجل أبيه: لا يعجبني هو يقدر أن يبر أباه بغير هذا. وقال في الغنية: يجوز ترك النوافل لطاعتهما بل الأفضل طاعتهما، والمسألة مذكورة في الآداب الشرعية نحو ثلث الكتاب. والله أعلم.
والذي يتحرر لي في هذه المسألة أن طاعة الوالد في المباح فيه تفصيل، أن الوالد يطاع فيما كان للوالد فيه نفع وغرض صحيح ولا ضرر على الولد.
(1) أخرجه البخاري (رقم: 52) ومسلم (رقم: 1599).
وعُلم من هذا أنه إذا كان الوالد ينهى عن شيء ليس له فيه نفع ولا غرض صحيح، وللولد فيه مصلحة أو نفع - دنيوي أو ديني-، كما لو نهاه عن السنن الرواتب، أو عن الصيام النافلة، وليس للوالد نفع في ترك الولد ذلك، وليس على الولد ضرر في فعل ذلك فحينئذٍ الأقرب هو الرواية الثانية عن أحمد أن له أن يصوم، ولكن يداري الوالد، ويقول لهما قولاً ميسوراً.
مثال: لو أمره أبوه بطلاق زوجته وليس للوالد غرض صحيح في ذلك، والغرض الصحيح كأن تكون المرأة سليطة اللسان، أو أنها متهمة في دينها، وما أشبه ذلك فحينئذٍ لا ينفذ أمر الوالد، ويحمل على الغرض الصحيح ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: كان تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن تحتي امرأة أحبها وإن أبي يأمرني بطلاقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أطع أباك» (1)
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 19397) وأحمد (رقم: 4711) وأبو داود (رقم: 5140) والترمذي (رقم: 1189) وابن ماجه (رقم: 2088) وابن حبان (رقم: 426) والحاكم (رقم: 2798) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وقد أتى الإمام أحمد رجل، فقال: إن تحتي امرأة وأبي يأمرني بطلاقها، فقال له الإمام أحمد: لا تطع أباك.
فقال الرجل: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يطيع عمر في تطليقه زوجته؟ قال الإمام أحمد: إن كان أبوك مثل عمر فطلقها. (1)
فعُلم أنه لا يطاع الأب ولا الأم في طلاق الزوجة متى كانت الحال مستقيمة، وليس للوالد في ذلك غرض صحيح، وللابن في زوجته نفع، وعلى هذا يتحقق ما ذكره شيخ الإسلام كما نقله عنه ابن مفلح، والله أعلم.
(1) طبقات الحنابلة للحنبلي (1/ 169) دار المعرفة.