الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
أثرها في منهجه النقدي خصوصًا
وفيه ما يلي:
تعديل الرجل والثناء عليه؛ لثباته في المحنة، وتمسكه بالسنة:
وقد كان هذا من الإمام رحمه الله في الثناء على من ثبتوا في المحنة وأعطوا الجهد من نفوسهم ولم يجيبوا، فقد اشتهر ثناؤه على محمد بن نوح وأحمد بن نصر الخزاعي، وسيأتي الكلام تفصيلاً عن ذلك في تراجمهم في المبحث الثالث.
كلامه فيمن أجاب متأولاً:
لا شك أن موقف الإمام رحمه الله تجاه هذه الطائفة كان صريحًا وواضحًا، وقد تجلى ذلك فيما يلي:
كلامه الصريح في بعض الرواة من أجل ذلك.
ترك الرواية عن بعضهم أثناء المحنة وبعدها.
الضرب على حديث رواةٍ آخرين مطلقًا، بما في ذلك ما سمع منهم قبل المحنة.
هجر من أجاب إلى ذلك، حتى ربما في ردَّ السلام وبدء الكلام، مع أن منهم من بينه وبينهم مودة تامة، وصحبة صادقة؛ كابن معين رحمه الله.
عدم شهوده لجنائز بعضهم.
نهيه لابنه عبد الله أن يحدث عن هؤلاء.
وهذا الأثر تجليته واضحًا وتحريره كشفًا وبيانه وصفًا هو لب المراد وخلاصة القصد، فقد تباينت الأفهام تفسيرًا واختلفت الأقلام تسطيرًا وازدوجت المقاصد تأويلاً في وصف موقف الإمام رحمه الله من هذه الطائفة من الأئمة في هذه المحنة المدلهمة، فطائفة حرَّفت، وأخرى انتقصت، وثالثة غلت وأسرفت.
وأستمد مولاي مدده وعونه في بيان ذلك وإيضاحه من خلال النقاط التالية:
1 -
أن المسألة جليلة، والقول بها خطير، والزلل فيها كبير، وليست مسألة هينة سهلة، من فضول العلم ومكملاته، وذلك بالنظر إلى مقاصدها، وما تفضي إليها من التعطيل، وجحد الشريعة، وتكذيب الربّ - عياذًا بالله تعالى -.
2 -
أن مَنِ امتحن في هذا الشأن كانوا أئمة كبارًا، مقتديً بهم، أسوةً لغيرهم، لهم تمام الأثر في عامة الناس، إيجابًا أو سلبًا، خيرًا أو شرًا، فبهم - بعد قدرة الله وإرادته وحكمته - نجاة الناس أو هلاكهم في هذا الأمر الكبار، وهذا مقصد الإلحاح في امتحانهم من أحمد البدعة والاعتزال ابن أبي دؤاد - عليه من الله ما يستحق.
3 -
أن عامة الناس قد اشرأبت أعناقهم، وشخصت أبصارهم، وأصغت أسماعهم ينتظرون جواب هؤلاء الأئمة وقولهم في ذلك.
4 -
أن الإمام رحمه الله كان قد أمل في بعضهم تمام الثبات، والتعاون على الحق، والتواصي بالصبر.
5 -
أن الإمام قارن موقف بعض كبار أهل العلم وأئمة الدين بموقف أفراد ليسوا بمنزلتهم؛ كموقف ابن المديني أو ابن معين بموقف محمد بن نوح - رحمهم الله تعالى - فأثر ذلك في نفسه.
6 -
أن موقفه رحمه الله من الابتداع وأهله عمومًا فيه حزم وعزيمة، لا رخصة عنده في هذا الأمر، وإذا كان قد أقل الرواية عن رواة عدلهم وأثنى عليهم بسبب شيء من التشيع أو القدر أو نحو ذلك ففي هذه النازلة أشد، بل قد ذهب الإمام إلى ما هو أبعد من ذلك في موقفه من رواةٍ تتلمذوا في مدرسة أهل الرأي وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله.
7 -
أن الأئمة الذين أجابوا إلى القول بذلك كانوا مكرهين بلا شك.
8 -
أن الإكراه لم يكن قد وصل - لا سيما مع بعضهم - إلى حدَّ الإلجاء الذي يحصل به تمام المعذرة، ورفع الحرج، وسرعة الإجابة.
9 -
أن بيان مدرك الإكراه وتحقيق حكم المعذرة فيه يختلف باختلاف الأمر الممتحن فيه، والشخص الممتحن، والعقوبة المتوعد عليها، وأثر الإجابة والموافقة حالاً ومآلاً.
10 -
أن منهم من ندم على ذلك وكره ما حصل من سرعة الإجابة.
11 -
أن منهم من عذره الإمام لما كان إكراهه ملجئًا، كما ذكر حنبل من عذره لعباس العنبري، وسجادة، والقواريري (1).
12 -
أن موقف الإمام رحمه الله كان لخاصة نفسه واجتهاده، فلم يلزم به أحدًا من الناس - سوى نهيه لابنه أن يحدث عمن أجاب - ولم يشع الكلام في هؤلاء الأئمة بين الناس والدهماء.
13 -
أنه لم يجرحهم جرحًا عامًا، أو يسقط الرواية عنهم جملةً وتفصيلاً، وإنما ترك حديث بعضهم، أو كلام فئة منهم، أو الانبساط إلى طائفة ثالثة، أو تشييع جنازة لآخرين.
14 -
أنه قد وجد من وقف مثل موقف الإمام أو أشد منه، وحزن لإجابة من أجاب حزنًا عظيمًا، فقد قال بشر بن الحارث الحافي:«وددت أن رؤوسهم خضبت بدمائهم وأنهم لم يجيبوا» ، وترك أبو زرعة الرواية عن بعض من أجاب، وترك
(1) ذكر المحنة لحنبل ص (36 - 37 - 68 - 69).
أبو حاتم الرواية عن قوم توقفوا، وهم بذلك عثمان بن سعيد الدارمي، ووجدت مواقف مماثلة لبعض علماء الأندلس (1).
15 -
أن إطلاق تفسير جرح الإمام لبعض الرواة بسبب المحنة جرى فيه شيء من التوسع؛ بدليل أنه وجد جملة ممن أجاب أو له أثر سلبي واضح في المحنة لم يوقف على كلام له فيه (كما سيأتي إيضاحه).
16 -
أنه لم يترتب على ذلك - فيما وقفت عليه - رد أحاديث الثقات أو قبول رواية غيرهم، فليست المسألة إسقاطًا للعدالة أو كلامًا في ضبط الراوي من حيث الصناعة الحديثية، وإنما هو موقف تدين واحتساب، وانتصار وغيرة على السنة (2).
17 -
أن معرفة بساط حال المحنة، وإدراك تأثيرها على نفس الإمام، وكشف أغوارها، وتصور أبعادها يتوقف على معايشتها وحضور مشاهدها، وهي تلك الفتنة العظيمة التي تجاوزت خمسة عشر عامًا، فليس من السهل أن يصادر موقف الإمام، أو يتعقبه، أو يهون منه، بله أن يصفه بالتشدد والغلو والإفراط من يعيش رغدًا ويأتي
(1) ينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (478)، وتهذيب الكمال (21/ 171)، وكتاب مسألة خلق القرآن، وموقف علماء القيروان منها للدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي.
(2)
ينظر: التنكيل للمعلمي (1/ 207).
خلفًا (1)، ولكن كما قالت العرب:«ويل للشجيَّ من الخليَّ» .
18 -
أن من عرف وتأمل مسألة اللفظ وأثرها على الأئمة وعلم الجرح والتعديل (كما في قصة الإمامين الذهلي والبخاري، أو الإمامين ابن منده وأبي نعيم رحمه الله الجميع رحمةً واسعة) تبين له شيء من التفسير والفهم لموقف الإمام أحمد في أصل المحنة وأساسها.
19 -
أن من أئمة الجرح والتعديل من توقف في بعض الرواة، أو جرحهم بأدنى مغمز وأهون سبب، بل ربما كان الحامل على ذلك مواقف شخصية، أو منافرة أقران؛ فكيف بمثل هذه الفتنة العمياء؟!
20 -
حَسْبُ الإمام أنه مجتهدٌ، وهو من أئمة الاجتهاد المطلق، فليس بخارج عن الأجرين والأجر، قدس الله روحه، وأعلى منزلته، وجزاه عنا خير الجزاء وأوفاه.
(1) ممن تكلم في هذا فما أنصف تصورًا وتصويرًا، وتفسيرًا وحكمًا، وزعم أن المسألة ليست من أصول الدين، وإنما هي من فضول العلم المقبلي في العلم الشامخ ص (370)، والشوكاني في الإرشاد (1/ 95 - 96)، وعبد الفتاح أبو غدة في رسالته «مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل» ، وقد ردَّ عليه وفنَّد ما في رسالته الشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري في رسالته «تنبيه الإخوان على الأخطاء في مسألة خلق القرآن» .
كلامه فيمن قال: القرآن مخلوق اعتقادًا:
كلامه رحمه الله في هذا الأمر كالشمس وضوحًا وكالقمر نورًا؛ سبيل غيره من الأئمة، نصحاء الملة، وأمناء الأمة في أن من اعتقد ذلك فهو كافر.
وقد نقل ذلك عنه ما يزيد على خمسة وعشرين من أصحابه.
بل إن الإمام رحمه الله في عدد من النصوص عنه رتَّب جملة من الأحكام على هذا الوصف.
فقال: «لا يصلي خلف من قال: القرآن مخلوق، فإن صلى رجلٌ أعاد» (1).
وقال: «إذا كان القاضي جهميًا فلا تشهد عنده» (2).
ونهى عن كلامهم، ومجالستهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم، وأمر بالتفرقة بينهم وبين زوجاتهم (3).
(1) سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص (67).
(2)
السنة لابنه عبد الله (1/ 103).
(3)
ينظر في ذلك: خلق أفعال العباد للبخاري (2/ 115 - 116)، وسيرة الإمام لابنه صالح ص (67)، وذكر المحنة لحنبل بن إسحاق ص (69 - 70)، والسنة لابنه عبد الله (1/ 102 - 105)، والسنة لأبي بكر الخلال (6/ 9 - 12، 29 - 36)(7/ 61 - 62)، والشريعة للآجري (! /505 - 506)، والإبانة لابن بطة (5/ 157)، وشرح السنة للالكائي (2/ 263)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (201 - 203)، وهداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن لابن عبد الهادي بن المبرد ص (77 - 86، 185، 229، 234 - 235)، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة (1/ 223 - 224).
كلامه في الواقفة (1):
المقصود بالواقفة الذين لم يفصحوا في المسألة نفيًا أو إثباتًا، فلم يقولوا: القرآن غير مخلوق، ولا: مخلوق، وهؤلاء منهم من وقف مطلقًا ولم يصرحوا بشيء مدعين أن الأمر لم يتبين لهم، وهذا الصنف يسمون عند السلف: الشاكة، وقد عدَّهم الإمام رحمه الله جهمية، وصرح بكفرهم في بعض الروايات عنه، ولم يعذرهم بهذه الحجة الواهية؛ لأن الأمر أوضح من أن يشك فيه، وبعضهم ربما اتخذ ذلك ذريعة إلى التستر بالقول بخلق القرآن.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: «سمعت أبي رحمه الله يقول: من كان من أصحاب الحديث أومن أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول: القرآن ليس بمخلوق فهو جهميٌّ» (2).
وقال مرةً عن الواقفة: «من كان يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي، ومن لم يعرف بالكلام يجانب حتى يرجع، ومن
(1) تركت الكلام في مسألة اللفظ، وبيان حكم اللفظية؛ لأن حكمها العام مدرك من أصل المسألة؛ ولأن فيها من الاشتباه والاحتمال لمن أطلقها ما جعلها من أشكل مسائل الباب، وفيها تفاصيل عقدية ليس هذا مقام تحريرها، ولكن ينظر تحرير رأي الإمام فيها في كتاب: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة (1/ 232 - 252).
(2)
السنة لابنة عبد الله (1/ 151)، وينظر: السنة للخلاف (5/ 131).
لم يكن له علم يسأل يتعلم» (1).
وفي رواية ثالثة قال: «من وقف فهو كافر» ، وقال:«من شك فهو كافر» (2).
وفي رابعة ذكر أنهم أشد من الجهمية مبينًا العلة في ذلك فقال: «هم أشد على الناس تزيينًا من الجهمية؛ هم يشككون الناس، وذلك أن الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا: إنا لا نتكلم، استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية» (3).
وقال في رواية الحسن بن ثواب: «هم شرٌّ من الجهمية، استتروا بالوقف» (4).
وطائفة أخرى من الواقفة وقفوا عند قول: القرآن كلام الله فقط، معتقدين أن هذا أسلم لهم، وأبعد عن الخوض في أصل المسألة، وقد سئل الإمام عنهم فقيل:«هل لهم رخصة أن يقول الرجل: كلام الله. ثم يسكت؟ فقال: ولم يسكت؟! لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا لأي شيء لا يتكلمون؟!» (5).
(1) السنة لابنه عبد الله (1/ 179)، وينظر: السنة للخلال (5/ 130).
(2)
السنة للخلال (5/ 132).
(3)
السنة للخلال (5/ 135).
(4)
السنة للخلال (5/ 129).
(5)
السنة للخلال (5/ 132 - 133).
وقال في رواية سلمة بن شبيب: «من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو كافر. ثم قال: لا تشكن في كفرهم، فإن لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، ومن قال: هو مخلوق، فهو كافر» (1).
وفي رواية أبي بكر المروذي قال: «لا نرضى أن يقول: كلام الله. ويسكت، حتى يقول: إنه غير مخلوق» (2).
وقد نهى الإمام أبو عبد الله رحمه الله عن كلامهم، وأمر بهجرهم والبعد عنهم، بل وأفتى بالتفريق بين الزوجين من أجل ذلك.
قال أبو بكر المروذي: «قدم رجل من ناحية الثغر فأدخلته عليه، فقال: ابن عم لي يقف، وقد زوجته ابنتي، وقد أخذتها وحولتها إلي، علي أن أفرق بينهما؟ فقال: لا ترضى منه حتى يقول: غير مخلوق، فإن أبى ففرق بينهما» (3).
وفي رواية الجُرْجَرائي قال: «سألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة، ولها زوج واقفي، قال: يلتقي بها ويسلم
(1) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (205 - 206).
(2)
هداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن لابن عبد الهادي ابن المبرد ص (95).
(3)
المصدر السابق ص (96 - 97).
عليها، قلت: فإن كانت الدار له؟ قال: يقف على الباب ولا يدخل» (1).
(1) السنة لأبي بكر الخلال (5/ 143)، وينظر للفائدة: الشريعة للآجري (1/ 209)، والإبانة لابن بطة (5/ 128 - 141، 160 - 176)، وشرح السنة للالكائي (2/ 323 - 329)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (205 - 208)، وهداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن لابن عبد الهادي بن المبرد ص (93 - 102)، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة (1/ 252 - 257).