الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِها
(باب صفة أهل الجنة)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4349 -
عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله تعالى: أَعْدَدتُ لِعباديَ الصَّالحينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، واقرأوا إِنْ شِئْتُم:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .
قوله: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ"، الحديث.
(أعددت له)؛ أي: هيَّأت له.
"من قُرَّة أعين": مما تَقَرُّ به أعينُهم.
قال في "شرح السُّنَّة": يقال: أقرَّ الله عينَيه، معناه: أبرد الله دمعتَه؛ لأن دمعةَ الفرحِ باردةٌ، حكاه الأصمعي.
وقال غيره: معناه: بلَّغَك الله أمنيتَك حتى ترضَى به نفسُك وتقرَّ عينُك، فلا تستشرف إلى غيره.
* * *
4350 -
وقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَوْضعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ منَ الدُّنْيَا وما فيها. ولو أَنَّ امرأةً منْ نِساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعتْ إلى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضاءَتْ ما بينهَمُا ولَملأَتْ ما بينَهما رِيحًا، ولَنَصِيْفُها على رأْسِها خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها".
4351 -
وقالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها. ولَقابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلعَتْ عليهِ الشَّمْسُ أو تَغْرُبُ".
قوله: "موضعُ سَوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها"؛ يعني: موضعُ سَوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها سوى كلام الله تعالى وصفاتِه وجميعِ أنبيائه، وإنما قال هذا؛ لأن الجنةَ مع نعيمها باقيةٌ، والدنيا فانيةٌ، وكلُّ ما هو باقٍ لا يوازيه ما هو في معرض الفناء.
قال الإمام التُّورِبشتي - رحمة الله عليه - في "شرحه": قلنا: إنما خَصَّ السَّوطَ بالذِّكر؛ لأن مِن شأنِ الراكبِ إذا أراد النزولَ في منزلٍ أن يُلقيَ سَوطَه قبل أن ينزلَ، معلِّمًا بذلك المكانَ الذي يريده؛ كيلا يَسبقَ إليه أحدٌ، وفي معناه: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يتلوه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
"وَلَقابُ قوسِ أحدكم"، و (القاب): ما بين المَقْبض والسِّيَةِ، ولكل قوسٍ قابانِ، والراجل يبادر إلى تعيين المكان بوضع قوسه، كما أن الراكبَ يبادر إليه برمي سَوطِه.
قوله: "ولَنَصيفُها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها"، قال في "الصحاح":(النَّصيف): الخِمَار، قال النابغة:
سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه
…
فَتَنَاوَلَتْه واتَّقتْنا باليدِ
أي: أمسكته بيدها.
قوله: "إن في الجنة شجرةً يسير الراكبُ في ظلِّها مئةَ عامٍ لا يقطعها": وهذه الشجرة هي شجرة الطُّوبى؛ يعني: هي شجرةٌ كبيرةٌ كثيرةُ الأغصانِ، بحيث لو كان يسير الراكبُ في ظلِّها بالليل والنهار مئةَ سنَةٍ لم يقطع مسافتَها.
قوله: "ولَقَابُ قوسِ أحدكم في الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمسُ أو
غربت": قال في "الصحاح": قَابُ قَوسٍ، وقَادُ قَوسٍ، وقِيدُ قَوسٍ؛ أي: قَدْرُ
قَوسٍ، والقاب: ما بين المَقْبض والسِّيَة، ولكل قوسٍ قابانِ، وقوله تعالى:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]، قال: أراد قابَي قوسٍ، فعليه يعني، قَدْرُ قَوسِ أحدِكم خيرٌ مما مضى عليه طلوع الشمس، أو مما تغرب عنه الشمس إلى يوم القيامة؛ يعني: خيرٌ من الدنيا وما فيها جميعًا، كما ذُكر قُبيلَ هذا.
وقيل: قَدْرُ ما بين السِّيَة والمَقْبض.
* * *
4352 -
وقال: "إنَّ للمُؤْمِنِ في الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤلُؤةٍ واحِدَة مُجَوَّفةٍ طُولُها سِتُّونَ مِيْلًا، في كُلِّ زاويَةٍ منها للمُؤْمِنِ أَهْلٌ لا يراهمُ الآخَرون، يَطُوفُ عَلَيهمُ المُؤْمِنونَ، وجَنَّتانِ من فِضَّةٍ آنيتُهما وما فيهما، وجنَّتانِ من ذهب آنيتُهما وما فيهما، وما بَيْنَ القَوْمِ وبينَ أنْ يَنظُروا إلى ربهمْ إلا رِداءَ الكبرياءِ على وَجْههِ في جَنَّةِ عَدْنٍ".
قوله: "ستون مِيلًا في كل زاوية منها للمؤمن"، أصل (الميِل): ثُلث فَرسخ، و (الزاوية): هي ناحية البيت، الضمير في (منها) يعود إلى (الخيمة).
قوله: "وما بين القوم وما بين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكِبرياء على وجهه في جنة عَدْن"، يريد صفة الكبرياء وعظمته، وقوله:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: العظمة والمُلك، وهو بكبريائه وعظمته لا يريد أن يراه
أحدٌ من خلقه حتى يأذنَ لهم في دخول جنَّة عَدن، فيرَونه فيها.
و (جنة عَدن)؛ أي: جنةُ إقامةٍ، يقال: عَدَنَ بالمكان يَعْدِن عُدونًا؛ أي: أقام، ذكره في "شرح السُّنَّة".
* * *
4353 -
وقالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلَّ دَرَجتَيْنِ كما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، والفِرْدَوْسُ أَعْلاها دَرَجَةً، منها تُفجَّرُ أَنْهارُ الجَنَّةِ الأَرْبعةُ، ومنْ فَوْقِها يكُونُ العَرْشُ، فإذا سَأَلتُمُ الله فاسأَلوهُ الفِردَوْسَ".
قوله: "في الجنة مئة درجةٍ، ما بين درجتَين كما بين السماء والأرض": العلم بتخصيص هذا العدد وغيره من المبهمات للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يمكن أن يقال: يريد بـ (المئة): الكثرة، ولا يريد به نفس المئة، بل إنما ذكر المئة؛ لتفهيمنا أن درجاتِ الجنة متناهيةٌ؛ لأنها مخلوقةٌ حادثةٌ، لكنها باقيةٌ لا تنقطع، وتفاوُتُ الدرجاتِ إن رجع إلى الصورة يريد أن أحدَها أرفعُ من الآخر كطبقات السماء، وإن رجع إلى المعنى فيكون التفاوُتُ في القربة إلى الله تعالى وإيراد الإنعام منه عليه ورودًا متفاوتًا؛ فالزائدُ هو الرفيعُ، وما دونَه هو المُنحطُّ عنه.
* * *
4355 -
وقالَ: "إنَّ أوَّلَ زُمرةٍ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ على صُورَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ إضاءَةً، قُلوبُهُمْ على قَلْبِ رَجُلٍ، لا اخْتِلافَ بينَهم ولا تَبَاغُضَ، لكُلِّ امرئٍ منهُمْ زَوْجَتانِ مِنَ الحُورِ العِيْنِ يُرَى مُخُّ سُوقِهنَّ مِنْ وَراءَ العَظْم واللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، يُسبحُونَ الله بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ، ولا يَبُولُونَ، ولا يتغوَّطُونَ، ولا يَتْفِلُونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ، آنيتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشاطُهُمُ الذَّهبُ ووَقُودُ مجامِرِهِمْ الألُوَّةُ ورَشْحُهُمُ المِسْكُ،
على خُلُقِ رَجُلٍ واحِدٍ، على صُورةِ أبيهم آدَمَ سِتُّونَ ذِراعًا في السَّماءِ".
قوله: "إن أولَ زُمرةٍ يدخلون الجنةَ على صورة القمر ليلةَ البدر"، الحديث.
(الزُّمرة): الجماعة؛ يعني: أولُ زمرةٍ يدخلون الجنةَ يكونون حِسَانَ الوجوه، بحيث تكون وجوههم كالبدر التام، فنورُ وجوههِم أتمُّ وأكملُ من نور وجوه الذين يدخلون بعدهم، لكونهم أنبياء وأولياء، فهم غيرُ محتاجين إلى شفاعة شافع، بل الناسُ يحتاجون إلى شفاعتهم؛ لأنهم هم الكاملون في أنفسهم المكمِّلون لغيرهم، فلهذا كان نورُ وجوههم نورَ البدر التام في نفسه، ثم الزمرة الثانية يدخلون الجنةَ ووجوههم مثل كواكبَ دُرِّيَّةٍ شديدةِ الإضاءةِ، هذا معنى قوله:"ثم الذين يلونهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً".
قال في "شرح السُّنَّة": الكوكب الدُّرِّيُّ: الشديد الإنارة، نسبة إلى الدُرِّ، ويُشبَّه صفاؤُه بصفائِه.
هذا ما قاله الشيخ إذا كان مضمومَ الدال غيرَ مهموز؛ وهو مراد الحديث، فإن هُمِزَ أو كُسِرَ أولُه كان مأخوذًا من الدَّرْء، وهو الدفع، وإنما سمي دريًّا؛ لكونها دافعةً للشياطين عن استراق السمع.
قوله: "ووَقود مَجَامرهم الأُلُوَّة، ورَشْحُهم المِسْكُ"، (الوَقود) بفتح الواو: ما تُوقَد به النار، و (المَجَامر) جمع: مجْمَرة، وهي ما يُوضَع فيه الجمر، ويُحرَق فيه العود للتبخير، هذا إذا كان مفتوحَ الميم، وأما إذا كان مكسورَ الميم فهو الآلة.
و (الأُلُوَّة) قال الأصمعي: هي العود الذي يُتبخَّر به، وأراها كلمةً فارسيةً معرَّبةً.
قال أبو عبيد: فيها لغتان: الألُوَّة - بفتح الألف وضمِّها -.
و (الرَّشْح): العَرَق؛ يعني: مرشوحُهم فيه رائحةٌ كرائحة المِسْك.
قوله: "ستون ذراعًا في السماء"؛ يعني: طولُهم ستون ذراعًا.
* * *
4356 -
وقالَ: "إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يأكُلونَ فيها ويَشْربونَ، ولا يَتْفِلُونَ ولا يَبُولونَ، ولا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ". قالوا: فما بَالُ الطَّعامِ؟ قال: "جُشَاءٌ ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسْكِ، يُلْهَمونَ التَّسْبيحَ والتَّحْميدَ كما تُلهَمُونَ النَّفَسَ".
قوله: "يُلهَمُون التسبيح والتهليلَ كما تُلهَمُون النفَس"؛ يعني: تسبيحُهم لله سبحانه وتهليلُهم إياه كتنفُّسهم في الدنيا؛ يعني: كما أنهم لا يتعبون في تنفُّسهم، ولا يشغلهم شيءٌ عن التنفس، فلهذا لا يتعبون في التسبيح والتهليل وجميع الأذكار، ولا يشغلهم شيءٌ عن ذلك كالملائكة، ويجوز أن يريد أنه يصير صفةً لازمة لا ينفكُّون عنها، كالتنفُّس اللازم للحيوان.
* * *
4357 -
وقال: "مَنْ يَدْخُل الجَنَّةَ يَنْعَمُ ولا يَبْأَسُ، ولا تَبْلَى ثِيابُهُ، ولا يَفْنَى شَبابُهُ".
قوله: "مَن يدخل الجنةَ يَنْعَم لا يَبْأَس": قال في "الصحاح": بَئِسَ الرجلُ يَبْأَسُ بُؤسًا وبَأسًا: اشتدت حاجتهُ، فهو بائس؛ يعني: طِيبُ الجنةِ ونعيمُها هنئٌ بحيث لا تعبَ فيه ولا انقطاعَ.
* * *
4359 -
وقالَ: "إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَراءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ منْ فَوْقِهم كما تتَراءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ
ما بَيْنَهمْ". قالوا: يا رسُولَ الله! تِلْكَ منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرُهُمْ، قال: "بَلَى والذي نَفْسي بيدِه، رجالٌ آمَنُوا بالله وصَدَّقُوا المُرْسَلِين".
قوله: "إن أهلَ الجنة يَتَرَاءَون أهل الغُرَف من فوقهم"، الحديث.
قال في "شرح السُّنَّة"(يتراءَون)؛ أي: ينظرون، يقال: تراءَيتَ الهلالَ: إذا نظرتُه، و (الغُرَف) جمع: غرفة، وهي البيت الذي يُبنى فوق الدار، والمراد بـ (الغُرَف) ها هنا: القصور العالية في الجنة.
قوله: "الغابر في الأفق من المغرب والمشرق"، (الغابر): بالباء هو الرواية الصحيحة، معناه: الباقي في الأفق بعدما انتشر ضوءُ الصبح، وإنما قال الغابر؛ لأن الكوكبَ المضيءَ إذا كان باقيًا في الأفق يكون نورُه أكثرَ.
ورواية: "الغائر" - بالهمز - من: الغَور، قيل: تصحيف الغابر؛ لأن معناه غيرُ مستقيمٍ من جانب المشرق.
* * *
4360 -
وقالَ: "يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَقْوامٌ أَفئِدَتُهُمْ مِثْلُ أفئِدَةِ الطَّيْرِ".
قوله: "أقوامٌ أفئدتُهم مثلُ أفئدة الطير"، قيل: هم أقوامٌ قلوبُهم لينةٌ ذاتُ رقةٍ وصفاءٍ، وإنما شبَّهها بقلوب الطير؛ لأنها خاليةٌ عن الغِل والحسد، كقلوب الطير.
* * *
4361 -
وقالَ: "إنَّ الله تعالى يقولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ، فيقولونَ: لبَّيْكَ ربنا وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ في يَدَيْكَ، فيقولُ: هلْ رَضيتُمْ؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضَى يا رَبِّ وقد أُعْطَيْتَنا ما لمْ تُعطِ أَحَدًا منْ خَلقِكَ،
فيقولُ: ألا أُعطِيكُمْ أَفْضَلَ منْ ذلكَ؟ فيقولونَ: يا رَبِّ وأيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ منْ ذلكَ؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكُمْ رِضْواني، فلا أَسْخَطُ عليكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
قوله: "لبَّيك وسَعْدَيك والخيرُ في يديك"، وحكى أبو عبيد أن أصل التلبية: الإقامة بالمكان، يقال: أَلْبَبْتُ بالمكان ولَبَّبْتُ بالمكان، لغتان: إذا أقمتُ به، قال: ثم قلبوا الباءَ الثانيةَ إلى الياء استثقالًا، كما قالوا: تظَّنيت، وإنما أصلها: تظنَّنت، ذكره في "الصحاح".
فعلى هذا معناه: دُمتُ على طاعتك دوامًا بعد دوامٍ من غير غايةٍ ولا نهايةٍ، فيكون معنى التلبية التكريرَ والمبالغةَ، ويكون منصوبًا على مصدرٍ حُذف فعلُه وجوبًا، ويجعل نفس التلبية نائبةً عن الفعل، وكذلك كل ما جاء مثنًّى من المصادر.
و (سَعْدَيك) أصله: سَعْدَين، فحذفت النون بالإضافة، والسَّعد بمعنى: السعادة؛ أي: نطلب منك سعاداتٍ كثيرةً.
وقال في "شرح السُّنَّة"؛ أي: ساعدت بطاعتك يا ربِ مساعدةً بعدَ مساعدةٍ، وإنما قال:(والخيرُ في يديك)، ولم يقل: الخيرُ والشرُّ، مع أن كلاهما جارٍ بإرادته القديمة تعالى؛ لأنه لا يُنسَب إليه الشرُّ أدبًا.
* * *
4363 -
عن أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ وجَيْحانُ والفُرَاتُ والنَّيلُ، كُلٌّ مِنْ أَنْهارِ الجَنَّةِ".
قوله: "سَيْحَان وجَيْحَان والفراتُ والنيلُ كلٌّ من أنهار الجنة"، قال في "الصحاح": سيحان: نهرٌ بالشام، وجيحان: كذلك نهرٌ بالشام، والفرات: نهرُ الكوفة، والنيل: نهرُ مصر، وإنما قال: كلُّ واحدٍ من الأنهار الأربعة من الجنة؛ نظرًا إلى عذوبته وسوغه في الحلق، وهضمه للطعام، وكثرة منافعه الأُخَر من
غير تعب ومُؤْنة، فإذا كان كذلك فكأنها منها، لكن الأَولى أن يُجرَى هذا وأمثالُه على ظاهره؛ لأنه لا ضرورةَ في صرف الكلام عن الظاهر.
* * *
4364 -
عن عُتْبةَ بن غَزْوانَ قال: ذُكِرَ لنا أنَّ الحَجَرَ يُلقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فيَهْوِي فيها سَبْعينَ خَرِيفًا لا يُدرِكُ لها قَعْرًا، والله لَتُمْلأَنَّ. ولقدْ ذكرَ لنا أنَّ ما بينَ مِصْراعَيْنِ منْ مَصارِيعِ الجنَّةِ مَسيرةُ أربعينَ سنةً، ولَيأْتيَنَّ عليها يَوْمٌ وهو كَظيظٌ مِنَ الزِّحامِ.
قوله: "يُلقَى من شفة جهنم، فيهوي فيها"، الحديث.
(الإلقاء): الإسقاط، الشفة والشفا والشفير: ثلاثتها واحدة.
(يهوي)؛ أي: يسقط، و (الخريف): السَّنة، (كظيظ): فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مملوء مُفيضٌ ضيقٌ من الزحام.
قال في "الغريبين": كظيظ؛ أي: ممتلئ، يقال: كظَّ الغيطُ: إذا ملأ صدرَه، فهو كظيظ، والكظيظ: الزحام، يقال: رأيت على بابه كظيظًا.
* * *
من الحِسانِ:
4365 -
عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: "قُلتُ: يا رسُولَ الله! مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قال: مِنَ الماءِ، قُلنا: الجَنَّةُ ما بناؤُها؟ قالَ: لَبنةٌ مِنْ فِضَّةٍ ولَبنةٌ مِنْ ذَهَبٍ، ومِلاطُها المِسْكُ الأَذْفَرُ، وحَصْباؤُها اللُّؤْلؤُ والياقُوتُ، وتُرْبتُها الزَّعْفَرانُ، مَنْ يَدْخُلْها يَنْعُمُ ولا يَبْأَسْ، ويَخْلُدُ ولا يَمُوتُ، ولا تَبْلَى ثيابُهُمْ ولا يَفْنَى شَبابُهُمْ".
قوله: "مِمَّ خُلِقَ الخلقُ؟ قال: من الماء"، يريد بـ (الماء): النُّطفة.
قوله: "ومِلاطُها المِسْك الأذْفَر"، (المِلاط): الطين الذي يُجعَل بين مسافتي البناء، يُملَط به الحائط، (الذَّفَر) بالتحريك: كلُّ رِيحٍ ذَكيةٍ من طِيب، يقال: مِسْك أذفَر بينُ الذَّفَر، والضمير في (ملاطها) يعود إلى الجنة.
قوله: "لا تَبْلَى ثيابُهم، ولا يَفْنَى شبابُهم"، بَلِيَ الثوبُ يَبْلَى بلاء: إذا خَلُقَ واندرس؛ يعني: أهل الجنة لا تصير ثيابُهم مندرسةً باليةً، ولا يزول شبابُهم في الجنة، بل يدوم شبابُهم بحيث لا يتطرق عليه الشيبُ أصلًا.
وتبقى ثيابُهم الجُدُدُ التي كانت عليهم بحيث لا تندرس أبدًا، وإنما كان كذلك؛ لأن الآخرةَ دارُ البقاء، فلا انقطاعَ ولا تغيُّرَ فيهما البتةَ، بخلاف الدنيا وما فيها؛ فإنها للفناء.
* * *
4369 -
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: اِرتفاعُها لكَما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ مَسيرَةَ خَمْسِ مِئَةِ سَنةٍ"، غريب.
قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} : قال في "شرح السُّنَّة": قيل: أراد بـ (الفُرُش) نساء أهل الجنة ذوات الفُرش، يقال لامرأة الرجل: هي فِراشُه وإزارُه ولِحافُه.
قوله: {مَرْفُوعَةٍ} ؛ أي رُفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا، وكلُّ فاضلٍ رفيعٌ.
وقيل: ليس المرادُ من ارتفاع الفُرش: النساء، بل ارتفاعُ الدرجات.
يعني: ما بين كل درجتين قَدْرُ ما بين السماء والأرض.
* * *
4370 -
وقالَ: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرةٍ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ يَوْمَ القِيامَةِ ضَوْءُ وُجُوهِهِمْ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، والزُّمْرةُ الثَّانيةُ عَلَى مِثْلِ أَحْسنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ، لكُلِّ رَجُلٍ منهُمْ زَوْجَتانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجةٍ سبعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ ساقِها منْ ورائِها".
قوله: "يُرَى مخُّ ساقها من ورائها"، (المخ): ما هو في جوف العظم من الدسومة.
(وراء)؛ أي: خلف، وقد يكون بمعنى: قُدَّام، وهو من الأضداد، يعني: يُرَى ما في عظم ساقيها من المخ من غاية اللطافة والنعومة تحت حُلَلها السبعين وعظم ساقها ولحومها، وإنما كان كذلك؛ لأنها روحانيةٌ قدسيةٌ في غاية اللطف والصفاء.
* * *
4371 -
عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُعْطَى المُؤْمِنُ في الجَنَّةِ قُوَّةَ كذا وكذا مِنَ الجماعِ"، قِيلَ: يا رسُولَ الله! أوَ يُطيقُ ذلك؟ قال: "يُعْطَى قُوَّةَ مِئَةٍ".
قوله: "أَوَ يطيق ذلك؟ "، الهمزة: للاستفهام، والواو: للعطف، وذلك إشارة إلى مضمون "كذا وكذا من الجماع"؛ يعني: وهل يطيق رجلٌ من أهل الجنة ذلك المقدارَ من الجماع؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يُعطَى قوةَ مئةٍ" أي: مئةِ رجلٍ.
* * *
4372 -
وعن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"لوْ أنَّ ما يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدا لتَزَخْرَفَتْ لهُ ما بينَ خَوافِقِ السَّماواتِ والأَرْضِ، ولوْ أنَّ رَجُلًا مِنْ أهلِ الجَنَّةِ اطَّلعَ فبَدا أَساوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ كما تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجومِ"، غريب.
قوله: "لو أن ما يُقِلُّ ظفرٌ مما في الجنة"، قال في "شرح السُّنَّة": يُقِلُّ؛ أي: يحمل، قال الله تعالى:{إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ} [الأعراف: 57] أي: حملت الرياحُ سحابًا ثقالًا.
قوله: "لَتزخرفت"؛ أي: لَتزيَّنت، والتزخرُف: كمالُ حُسن الشيء، قال الله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24] أي: تزيَّنت بألوان النبات.
قوله: "ما بين خوافق السماوات والأرض"؛ أي: أطرافها، وقيل: منتهاها، وقيل: المشرق والمغرب؛ لأن المغربَ خافقٌ؛ أي: غائبٌ، من (خَفَقتِ النجومُ): إذا غابت، فذكر المحل وأراد به الحال، فغلَّبوه على المشرق.
و (خوافق السماء): التي يخرج منها الرياح الأربع؛ أي: الشمال والجنوب والدَّبور والقَبول.
و (ما) في (ما بين): موصول، معناه: التي، و (بين): صلته، والموصول مع صلته فاعل لـ (تزخرفت)، يعني: لو أن ما يحمله ظفرٌ من نعيم الجنة لو ظهر في الدنيا لأَنارَ ما بين المشرق والمغرب، وزيَّنه بحيث لا يبقى نور الشمس عند كمال نوره؛ لأنه خُلق للبقاء.
قوله: "فبدا أساورُه لَطمَسَ نورُه"، (بدا يبدو): إذا ظهر، (الأساور) جمع: أسورة، وهي ما تلبَسه المرأة من الحليِّ، و (الطَّمْس): المَحْو.
* * *
4373 -
عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْلُ الجَنُّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ لا يفنَى شبابُهُمْ ولا تبلَى ثيابُهُمْ".
قوله: "جُرْد مُرْد كَحْلَى"، (الجُرْد) جمع: أجرد، يقال: رجلٌ أجردُ بينُ الجَرَدِ: لا شَعرَ عليه، و (المُرْد): جمع أمرد، وهو غلام لا شَعرَ على ذقنه، وقيل: إنْ حُمل (جُرْد) على ما سوى الذقن، وجاء (مُرْد) مبينًا الذقن كان تغيير الوضع الجرد، وإن حُمل على العموم كان (مُرْد) صفةً لـ (جُرْد)؛ لأن الجُرْدَ قد تناوله بعمومه، فلا حاجةَ إليه.
قيل: فالوجه أن ينوي به التقديم؛ أي: مُرْد جُرْد، فيحمل (المُرْد) على المعهود، و (الجُرْد) على سائر الأعضاء سوى الرأس.
(كَحْلَى) جمع: كحيل، وهو بمعنى مكحول، وهو الذي عينه في أصل الخلقة مكحلة.
* * *
4375 -
عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وذُكِرَ لَهُ سِدْرَةُ المُنْتهَى قالَ: "يسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّ الفَنَنِ منها مِائةَ سَنَةٍ، أو يَسْتظِلُّ بظلِّها مِئَةُ راكبٍ - شَكَّ الرَّاوي - فيها فَراشُ الذَّهبِ كأنَّ ثِمارَها القِلالُ"، غَريب.
قوله: "في ظل الفَنَن"، (الفَنَن) واحد: الأفنان، وهي الأغصان.
قوله: "فَراش الذهب، كأن ثمرَها القِلالُ"، (الفَراش) واحدها: فراشة، وهي التي تطير وتتهافت في السِّراج، وفي المثل: فلانٌ أطيشُ من فراشة، ذكره في "الصحاح".
قال الإمام أبو الفتوح في "تفسيره": ولعل أراد: الملائكة تتلألأ أجنحتُها تلألُؤَ أجنحة الفراش، كأنها مذهَّبة، أراد بـ (القِلال): قِلال هَجَر، وهي جمع: قُلَّة، وهي الجَرَّة الكبيرة تأخذ قربتين وشيئًا. هكذا مَحكيٌّ عن ابن جُريج، سُميت القُلَّةُ قُلَّةً؛ لأنها تُقَلُّ؛ أي: تُرفَع.
"وسِدْرة المُنْتَهى"، (السِّدرة): شجرة معروفة ثمرها، والمراد بها ها هنا: ما قاله في "معالم التنزيل": وهي شجرةٌ تَحمل الحليَّ والحُلَلَ والثمارَ من جميع الألوان، لو أن ورقةً وُضعت منها في الأرض لأَضاءت لأهل الأرض، وهي شجرة طُوبى.
و (المنتهى): موضع الانتهاء، وإنما سُميت سِدْرَةُ المنتهى؛ لأنها في أصل العَرش، وإليها ينتهي علمُ الخلائق، وما خلفَها غيبٌ لا يعلمه إلا الله تعالى.
* * *
4379 -
عن سالمٍ، عن أبيه رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بابُ أُمّتي الذي يَدْخُلونَ مِنْهُ الجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسيرَةُ الرَّاكِبِ المُجَوَّدِ ثلاثًا، ثُمَّ إنَّهمْ ليُضْغَطونَ عليهِ حتَّى تكادُ مناكبُهُمْ تَزُولُ"، ضعيفٌ مُنْكرٌ.
قوله: "عَرضُه مسيرةُ الراكب المُجوِّد": اسم فاعل من (جوَّد): إذا أجاد شيئًا؛ أي: جعله جيدًا، يعني: عَرضُ ذلك الباب مسيرةُ الراكب الذي يُجوَّد ركضَ الفَرَسِ ثلاثَ ليالٍ.
قوله: "ثم إنهم ليُضغَطون عليه حتى تكاد مناكبُهم تزول"، ضغطه يضغطه ضغطًا: زحمَه إلى حائطٍ ونحوه، ومنه: ضَغْطَةُ القبر، (الضُّغطة) بالضم: الشِّدة والمشقة، ذكره في "الصحاح".
يعني: أن الداخلين لَيزدحمون على ذلك الباب في حال دخولهم، بحيث يَقرُب أن تزولَ مناكبُهم من شدة الازدحام.
* * *
4380 -
عن عليٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا
ما فيها شِراءٌ ولا بَيعٌ إلَّا الصُّوَرَ منَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فإذا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورَةً دَخَلَ فيها"، غريب.
قوله: "إن في الجنة لسوقًا ما فيها شراءٌ ولا بيعٌ إلا الصُّوَرَ من الرجال والنساء"، الحديث.
الضمير في (فيها) الأول يعود إلى (السوق)؛ لأنه مؤنث سماعي، والضمير في (فيها) الثاني يعود إلى (الصُّوَرَ).
يحتمل أن يريد بـ (الصُّوَر): الجمال للشكل بالصُّوَر الحسنة، لو كان من الأعراض، كوزن الأعمال في الميزان، وكلاهما ليس بمُستبعَدٍ من قدرته تعالى.
فالحاصل: أن ما هو من أمور الآخرة العقلُ قد لا يهتدي إليه، والنقلُ مُتَّبعٌ، فإذا ثبت هذا فقد عُرض على المؤمن في تلك السوق الصورُ المستحسنة، فإذا اشتهى أن تكون صورتُه مثل صورةٍ من تلكَ الصُّوَر، صيَّره الله تعالى على تلك الصورة المشتهاة بقدرته القديمة تعالى.
وقيل: يريد بـ (الصور): الزينة التي تعطي الجمالَ مَن يتزيَّن بها، وتلك عبارة عن الثياب النفيسة والتيجان المكلَّلة، وغير ذلك مما يتزيَّن الشخص به، وعلى هذا المراد بـ (الدخول): التزيُّن بها.
* * *
4381 -
عن سعيدِ بن المُسَيبِ رضي الله عنهما: أنَّهُ لَقِيَ أبا هُريرَةَ رضي الله عنه، فقالَ أبو هُريرة: أَسْألُ الله أنْ يَجْمَعَ بينِي وبينَكَ في سُوقِ الجَنَّةِ، فقالَ سعيدٌ: أَفِيْها سُوْقٌ؟ قالَ: نَعَم، أَخْبَرَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إذا دَخَلُوها نزلُوا فيها بفَضْلِ أَعْمالِهِمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ في مِقْدارِ يَوْمِ الجُمُعةِ منْ أيَّامِ الدُّنيا فيَزورُونَ رَبَّهم، وُيبْرِزُ لهُمْ عَرْشَهُ، ويَتَبَدَّى لهُمْ في رَوْضَةٍ منْ رِياضِ الجَنَّةِ، فيُوضَعُ لهُمْ منابرُ
من نورٍ ومنابرُ من لؤلؤٍ ومنابرُ من ياقوتٍ ومنابرُ من زبرجدٍ ومنابرُ منْ ذهَبٍ ومَنابرُ منْ فِضّةٍ، ويَجْلِسُ أَدْناهُمْ، وما فيهم دَنيءٌ، على كُثبانِ المِسْكِ والكافورِ، وما يُرَوْنَ أَنَّ أَصْحابَ الكَراسِيِّ بأَفْضَلَ منهمْ مَجْلِسًا. قالَ أبو هُريرةَ رضي الله عنه: قلتُ: يا رسولَ الله! وهل نرَى رَبنا؟ قال: "نعم، هلْ تَتَمارَوْنَ في رُؤيةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ ليلةَ البَدْرِ؟ " قلنا: لا. قال: "كذلكَ لا تَتَمارَوْنَ في رُؤيةِ ربكُمْ، ولا يَبقى في ذلكَ المَجْلسِ رَجُلٌ إلّا حاضَرَهُ الله مُحاضَرَةً، حتَّى يقولَ للرَّجُلِ منهُمْ: يا فلانُ بن فُلانٍ أَتَذْكُرَ يومَ قُلْتَ كذا وكذا؟ فَيُذَكِّرُهُ ببَعْضِ غَدراتِهِ في الدُّنيا، فيقولُ: أَفَلَمْ تغفِرْ لي؟ فيقولُ: بلَى، فبسَعَةِ مَغْفِرتي بَلَغْتَ منزلتَكَ هذِهِ. فَبَينَما همْ علَى ذلكَ غَشِيَتُهُمْ سَحابَةٌ منْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرتْ عليهمْ طِيبًا لمْ يَجدوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قطُّ، ويقولُ ربنا: قُومُوا إلى ما أَعْدَدْتُ لكُمْ منَ الكرامَةِ فخُذوا ما اشْتَهَيْتُمْ. فنأتي سُوْقًا قدْ حَفَّتْ بهِ الملائكةُ ما لَمْ تَنْظُرِ العُيونُ إلى مثلِهِ، ولم تسمع الآذانُ ولم يَخْطُرْ على القُلوبِ، فيُحْمَلُ لنا ما اشتهَيْنا، ليسَ يُباعُ فيها ولا يُشْترَى، وفي ذلكَ السُّوقِ يَلقَى أهلُ الجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قال: فيُقبلُ الرَّجُلُ ذُو المَنزِلةِ المُرْتَفِعَةِ فيَلْقَى مَنْ هو دُونَهُ، وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ فَيَرُوعُهُ ما يَرى عليهِ منَ اللِّباسِ، فما ينقضي آخِرُ حدَيثِهِ حتَّى يتخيَّلَ عليهِ ما هو أَحْسَنُ منهُ، وذلكَ أنَّهُ لا يَنبَغي لأَحدٍ أنْ يَحْزَنَ فيها، ثُمَّ نَنْصَرِفُ إلى منازِلِنا فيتلقَّانا أَزْواجُنا فيقُلْنَ: مرحبًا وأهلًا لقدْ جِئْتَ وإنَّ بكَ منَ الجَمالِ أَفْضَلَ مِمَّا فارقْتَنا عليهِ، فيقولُ: إنَّا جَالَسْنا اليَوْمَ ربنا الجَبَّارَ ويَحِقُّنا أنْ نَنْقَلِبَ بمِثْلِ ما انقلَبنا"، غريب.
قوله: "يُبرز لهم عَرْشَه"، (يُبرز)؛ أي: يُظهر.
قوله: "ويتبدَّى لهم في روضة"، تبدّى الرجل: أقام بالبادية، وتبدَّى الشيء؛ أي: ظهر؛ أي: يظهر لهم ربُّهم؛ أي: لطفُ ربهم ورحمتُه.
"المنابر" جمع: مِنْبَر، وهو مِفْعَل من: نبَرتُ الشيءَ أَنْبره نبَرًا: رفعتُه.
"الزبرجد": جوهر معروف.
قوله: "ويجلس أدناهم - وما فيهم دنيءٍ - على كثبان المِسك"، (الأدنى): ضد الأعلى، والمراد به ها هنا: مَن هو أقلُّ منزلةً من أهل الجنة؛ لأنه ليس في أهل الجنة دنيءٌ؛ أي: دونٌ وخسيسٌ.
(الكثبان): تلال الرمل، واحدها: كثيب، من (كَثبتُ الشيءَ)، جمعتُه، وانكثب الرملُ؛ أي: اجتمع، ذكره في "الصحاح".
التماري في الشيء: الشك فيه.
قوله: "ولا يبقى في ذلك المجلس رجلٌ إلا حاضَرَه الله محاضرةً"، (المحاضرة) بالحاء المهملة وبالضاد المعجمة: عبارة عن جريان الحضور والمكالمة بين اثنين، يعني: كلَّمه الله سبحانه من غير حجابٍ ولا ترجمان بكلامٍ لا يسمعُه غيرُه.
قال الشيخ الإمام شهاب الدين التُّورِبشتي في "شرحه": مَن روى هذَين اللفظَين بالخاء المعجمة وبالصاد المهملة فقد صحَّفه فيهما.
قوله: "ما أعددت لكم من الكرامة"؛ أي: ما هيَّأت لكم.
قوله: "قد حفَّت به الملائكة"، يقال: حفَّ الشيءُ به؛ أي: أَحْدَقَ وأَطافَ به.
الضمير في (به) يعود إلى (السوق)، و (السوق) يُذكر ويُؤنث، يعني: الملائكة أطافوا وأحدقوا بجوانب ذلك السوق.
قوله: "ما لم تنظر العيون إلى مثله"، (ما): موصولة، و (لم تنظر): صلته، والموصول وصلته يحتمل أن يكون منصوبًا بدلًا من الضمير المنصوب في قوله:(ما أعددت لكم ما لم تنظر العيون).
ويحتمل أن يكون مرفوعًا؛ لكونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: المُعَدُّ لكم ما لم تنظر العيون
…
، إلى آخر المعطوف.
قوله: "فَيرُوعُه"؛ أي: يُعجبه.
قوله: "فما ينقضي آخرُ حديثه حتى يتخيَّل عليه ما هو أحسنُ منه"، انقضى الشيء؛ أي: انقطع؛ يعني: لا ينقطع آخرُ الحديث حتى يظهرَ على بدنه لباسٌ آخرُ أحسنُ من لباس صاحبه.
يقال: تخيَّلَتِ الأرضُ كذا: أَخرجَتْ زهراتِ نباتها.
قوله: "فيتلقَّانا أزواجنا"، (التلقِّي): الاستقبال، (الأزواج) جمع: زوج وهو المرأة هنا؛ أي: استقبلتْنا زوجاتُنا.
قوله: "مرحبًا وأهلًا، لقد جئتَ وإن بك من الجمال أفضلَ مما فارَقْتَنا عليه"، (مرحبًا وأهلًا): نصب على المصدر، تقديره: رَحبتَ مرحبًا وتأهَّلت أهلًا، واللام في (لقد): جواب قَسَم مقدَّر، تقديره: والله لقد جئتَ، والواو في (وإن) للحال من الضمير في (جئت)، يعني: والله لقد جئتَنا في حالِ كونِك أحسنَ وجهًا وأتمَّ حالًا مما كنتَ عليه حين فارقتَنا.
قوله: "فيقول: إنَّا جالَسْنَا اليومَ ربنا الجبَّارَ، ويَحِقُّنا أن ننقلبَ بمثل ما انقلبنا"، حقَّ الشيءُ يحِقُّ - بالكسر -؛ أي: وَجَبَ؛ يعني: وجبَ لنا أن نرجعَ إلى مِثْلِ ما رجعنا من الجمال التام، فإنَّا قد جالَسْنَا لطفَ ربنا تعالى في هذا اليوم، فأعطانا خِلْعَة الجمال وحُلَّةَ الكمال.
* * *
4382 -
عن أبي سعيدٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أدنَى أَهْلِ الجَنَّةِ الذي لهُ ثمانونَ ألفَ خادِمٍ، واثنتانِ وسَبْعونَ زوجةً، ويُنْصَبُ لهُ قُبَّةٌ منْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدٍ وياقوتٍ كما بينَ الجابيَةِ إلى صَنْعاءَ".
وبه قالَ: "مَنْ ماتَ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ منْ صَغيرٍ أو كبيرٍ يُرَدُّونَ بني ثلاثينَ في الجَنَّةِ، لا يزيدونَ علَيها أَبَدًا، وكذلكَ أَهْلُ النَّارِ".
وبه قالَ: "إِنَّ عليهمُ التِّيْجَانَ، أَدْنىَ لُؤْلُؤةٍ مِنْها لَتُضيءُ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ"، غريب.
قوله: "بين الجابية إلى صنعاء"، (الجابية): مدينة بالشام، و (صنعاء) ممدود: قصبة اليمن، ذكره في "الصحاح".
وقيل: أولُ بلدٍ بنيت بعد طوفان نوح عليه السلام، ذكره في "شرح المقامات".
قوله: "وبه قال: إن عليهم التيجانَ""وبه قال"، الضمير في (به) الأول والثاني يعود إلى الإسناد؛ يعني: وبالإسناد، ولو لم يوجد لفظة الإسناد في "المصابيح"؛ لأنه صّرح في "شرح السُّنَّة" وقال في كلا الموضعين: وبالإسناد.
* * *
4384 -
عن عليٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجَنَّة لمُجْتَمَعًا للحُورِ العِينِ، يَرْفَعْنَ بأَصْواتٍ لمْ يَسمَع الخَلائِقُ مِثْلَها، يقُلْنَ: نَحْنُ الخالِداتُ فلا نبَيدُ، ونحنُ النَّاعِمَاتُ فلا نَبْأَسُ، ونحنُ الرَّاضياتُ فلا نسخَطُ، طُوْبىَ لِمَنْ كانَ لنا وكُنَّا لهُ".
قوله: "فلا نَبيدُ"؛ أي: فلا نهَلكُ، بادَ: إذا هلكَ.
"نحن الناعمات"؛ أي: المتنعِّمات.
"فلا نبأس"؛ أي: فلا نَصير فقراء محتاجين.
"طُوبى": فُعْلى من: الطِّيب.
* * *