الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ
(باب المبعث وبدء الوحي)
(المبعث)؛ يعني: البعث، وهو مصدرٌ ميمي من (بعث): إذا أرسل، (البدء): الابتداء، (الوحي): الرسالة والإلهام.
مِنَ الصِّحَاحِ:
4551 -
عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعِينَ سَنةً، فمَكثَ بمكَّةَ ثَلاثَ عشْرةَ سَنةً يُوحَى إِليهِ، ثُمَّ أُمِرَ بالهِجرةِ فهَاجَرَ عشْرَ سِنينَ، ومَاتَ وهُوَ ابن ثَلاثٍ وستَّينَ سَنةً.
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة" الحديث.
اللام في (لأربعين): للتاريخ؛ أي: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق بعد أربعين سنة.
قال في "الصحاح": لام التاريخ، كقولك: كتبتُ لثلاثٍ خَلَوْنَ؛ أي: بعد ثلاث.
* * *
4552 -
وعَنْ عمَّارِ بن أبي عمَّارٍ، عَنْ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: أقامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكّةَ خَمْسَ عشْرَة سَنةً، يَسمَعُ الصَّوْتَ ويَرَى الضَّوْءَ سَبعَ سنينَ ولا يَرَى شَيْئًا، وثَمَانِي سِنينَ يُوحى إلَيهِ، وأقامَ بالمدِينةِ عَشْرًا.
قوله: "ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئًا" الحديث.
"الضوء": الضياء؛ أي: كان في الليالي المظلمة يرى ضياء عظيمًا.
قوله: "ولا يرى شيئًا" يجوز أن يريد به: ولا يرى شيئًا آخر سواه، أو: لا يرى شيئًا يعتدُّ به (1)، إذ في النظر إلى الضوء فقط لا فائدة للنبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وحاصل الحديث: أن الملك إذا نزل على نبي كان معه ضوء الملائكة، فينفر الطبع البشري منه، حتى يكاد يغشى عليه.
ولهذا كان يصيبه عند بُرَحاء الوحي أشباه ذلك، فيصير كأنه مغشيٌّ عليه، فاستؤنس أولًا بالضوء المجرد، ثم بعد ذلك غشيه الملك، هذا سر الحديث.
ويجوز أن يريد بالضوء: انشراح صدره قبل نزول الوحي، فسمَّى الانشراح في الصدر ضوءًا؛ ولمَّا تكمَّل انشراح صدره، ووصل العمر إلى الأربعين، وانتهى سن الشباب، وتكمَّل الحِلْم، استعد أن يكون واسطةً بين الله سبحانه وبين خلقه.
* * *
4555 -
وعَنِ الزُّبَيْرِ بن عَدِيًّ رضي الله عنه، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قُبضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ ابن ثلاثٍ وسِتَّينَ، وأبو بَكْرٍ وهوَ ابن ثلاثٍ وسِتَّينَ، وعُمَرُ وهوَ ابن ثلاثٍ وسِتِّين وقَالَ مُحَمَّدُ بن إِسْمَاعيل: ثَلاثٍ وسِتَّينَ أكثرُ.
قوله: "قال محمد بن إسماعيل: ثلاث وستين أكثر" المراد به: البخاري صاحب "الصحيح".
* * *
4556 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوَّلُ ما بُدِئَ بهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم منَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّادِقةُ في النَّومِ، فكَانَ لا يَرَى رُؤْيا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثمَّ حُببَ إليهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلو بِغَارِ حِراءٍ فيَتحَنَّثُ فيهِ - وهو التَّعبُّدُ -
(1) في "ق": "بعيدًا" مكان: "يعتد به".
اللَّياليَ ذَواتِ العَددِ قبلَ أنْ يَنزِعَ إلى أَهْلِهِ ويتزوَّدَ لذلكَ، ثُمَّ يَرجِعُ إلى خَديجةَ فيتَزوِّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وهوَ في غَارِ حِراءٍ، فجَاءَهُ المَلَكُ فَقَال:"اقْرَأْ"، قَالَ:"ما أَنَا بقارِئٍ"، قَالَ:"فأخذَنِي فغَطَّنِي حتَّى بَلغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَني، فَقَال: اقْرَأْ، فَقُلتُ: مَا أَنَا بِقارِئٍ، فأخذَنِي فغَطَّني الثانيةَ حتَّى بلغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَال: اقْرَأْ، قُلْتُ: ما أَنَا بِقارِئٍ، فأخذَنِي فغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "، فرجَعَ بها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدخَلَ على خَديْجَةَ فَقَال:"زَمِّلونِي، زَمِّلوني"، فزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لخَديجةَ رضي الله عنها وأخْبَرَها الخبَرَ:"لقدْ خَشيتُ على نَفْسِي"، فقالتْ خَديجةُ: كلَاّ والله لا يُخْزِيكَ الله أبدًا، إنّكَ لَتَصِلُ الرَّحمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوائبِ الحَقِّ، ثُمَّ انطلقَتْ بهِ خَديجةُ إلى وَرَقَةَ بن نَوْفَلِ، ابن عمِّ خَديجَةَ، فقالتْ لهُ: يا ابن عمِّ! اسمَعْ مِن ابن أخِيْكَ، فقالَ لهُ وَرَقَةُ: يا ابن أخي! ماذا تَرَى؟ فأخبَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الَّذي أَنْزلَ الله علَى مُوسَى، يا لَيْتَني فيها جَذَعًا، لَيْتَني أكونُ حيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ "، قَالَ: نعمْ، لمْ يأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ مَا جِئْتَ بهِ إلَّا عُودِي، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوفِّيَ، وفترَ الوَحْيُ حتَّى حَزِنَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنَا - حُزنًا غَدَا مِنْهُ مِرارًا كيْ يَترَدَّى منْ رُؤُوْسِ شَواهِقِ الجِبالِ، فكلَّما أَوْفَى بذِروَةِ جَبَلٍ لِكيْ يُلقِي نفسَهُ منهُ تبَدَّى لهُ جِبريلُ فَقَال:"يَا مُحَمَّدُ! إنَّكَ رَسُولُ الله حَقًا". فيَسكُنُ لذلكَ جأْشُهُ وتقِرُّ نفسُهُ.
قولها: "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَقَ الصبح، ثم حبب إليه
الخلاء، وكان يخلو بغار حراء" إلى قوله:"وأخبرها الخبر".
قال في "شرح السنة": فَلَقُ الصبح، وفَرَقُ الصبح: ضوؤه إذا انفلق، ومنه قوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1].
قال الإمام التُّورِبشْتي في "شرحه": (الفَلَق) بالتحريك: هو الصبح بعينه، قال ذو الرُّمَّة:
حتى إذا [ما] انجلى عن وجهه فلق
وإنما أضافه إلى الصبح لاختلاف اللفظين، وحسُنت هذه الإضافة لكون الفلق من الألفاظ المشتركة، يقال للخلق: الفلق، وللمطمئنِّ من الأرض: الفلق، كأنما شبهها بالفلق لإنارتها وإضاءتها وصحتها، هذا كله لفظ الإمام.
"ثم حبب إليه الخلاء"، (ثم): للتعقيب مع التراخي؛ يعني: بعدما رأى صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا حبب إليه الخلوةُ والعزلة عن الناس، وكان يخلو بغار حراء.
الغار والغارة والمغارة: الكهف في الجبل.
قال في "شرح السنة": و (حراء): جبل بمكة، وهي مكسورة الحاء مفتوحة الراء ممدودة.
قال الخطابي: وأصحاب الحديث يَقْصُرونه، وأكثرهم يفتحون الحاء، ويكسرون الراء، سمعت أبا عمر [الزاهد] يقول: حراء: اسم على ثلاثة أحرف، وأصحاب الحديث يغلطون فيه في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة، وأنشد:
وراق ليَرْقَى في حراء ونازل
هذا كله لفظ الخطابي.
ويجوز منع الصرف في (حراء) نظرًا إلى التأنيث، ويجوز صرفه نظرًا إلى التذكير.
قال في "شرح السنة": (يتحنَّث فيه)؛ أي: يتعبد، والتحنُّث: التعبُّد، سمي به لأنه يُلقي به الحنثَ والذنبَ عن نفسه، ومثله: التحوُّب والتحرج والتأثم؛ لإلقاء الحَوْب والحَرَج والإثم عن نفسه.
قال في "الصحاح": (الليالي): جمع ليل، وأصلها: ليالٍ، كأهلٍ وأهالٍ، فزادوا فيها الياء على غير قياس، وهي نصبٌ على الظرف.
(الذوات): جمع ذات. (نزع) إلى الشيء الفلاني (ينزع نزعًا): إذا اشتاق. (تزود يتزود): إذا أخذ الزاد؛ يعني: كان يتعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء أيامًا قلائل قبل أن يشتد الشوق إلى أهله؛ يعني: كان لا يتبتل عن أهله بالكلية إلى خلوته، وكان معه في الخلوة زاد تلك الأيام، فإذا نفد زادُه كان يرجع إلى خديجة أم فاطمة رضي الله عنهما فيأخذ الزاد قَدْرَ ما يكفيه تلك الأيام.
"حتى جاءه الحق وهو في غار حراء"؛ أي: جاءه الوحي، هذا مستند أرباب السلوك في الخلوة والعزلة عن الناس.
قيل: الخلوة: أن يخلو الرجل عن غيره وعن نفسه بربه سبحانه، إذ شَغْلُ نفسك إياك أعظم جنايةً وأشدُّ نكايةً من شَغْلِ غيرك، إذ شغلُ العين قد ينقطع أحيانًا، والرجل لا ينفك من أن يسمع من نفسه حديثها، أو يُسمعها حديثه، إلا أن يشغله عن ذلك استماع كلام الله تعالى، أو مناجاته ربه.
ثم الخلوة نعمت الذريعةُ عن رضاع الطبيعة، إذ فيها تتبرأ ساحته عن طوارق الفضول وعوائق الذهول، وتنقاد له نفسه في العبادات، فمن كانت هذه صفته، فقلبه مَقَرٌّ لواردات علوم الغيب، ومَظْهَرٌ لتجليات الرب سبحانه وتعالى.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العزلة والخلوة؛ لأنه كان يجمع أشتات الفكر بهما، ويقطع نفسه القدسية عن مخالطة البشر.
قال في "شرح السنة": (الغط): الضغط الشديد، ومنه: الغط في الماء،
ويروى: (فغتَّني)، ومعناه الغط أيضًا.
قال الإمام التوربشتي: وفي بعض الروايات: (فخنقني)، وفي بعضها:(فسأبني).
قال في "الصحاح": سأبت الرجلَ سأبًا: إذا خنقته حتى يموت، وغطَّه في الماء يغطُّه غطًا: مَقَله وغوَّصه فيه.
قال الحافظ أبو موسى: إنما قال: (غطه)؛ ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئًا إذا اضطر؟.
وقال الإمام التوربشتي في "شرحه": (الجَهدُ) بفتح الجيم وضمها، وبرفع الدال ونصبها، مروي، والأحسن: ضم الجيم ورفع الدال، معناه: بلغ مني الطاقة.
وقال: نصب الدال وَهْمٌ من الراوي، أو تجويزٌ من طريق الاحتمال؛ لأنه إذا نُصب معناه: غطه حتى بلغ الطاقة في ضغطه بحيث لم يبق فيه مزيد.
تقدير الكلام: بلغت المنتهى في الجهد، يقال: بلغت الجهدَ، وبلغني الجهدُ، قال تعالى:{بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40]، وقال:{بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8].
و (الجُهد) بضم الجيم: الطاقة، وبفتحها: النَّصَب والشدة؛ أي: بلغ الجهد مني أقصى المنتهى.
وهذا القول غير مستقيم؛ لأن البشر لا يقاوم الملك في القوة، لا سيما في أول الأمر؛ لأن النفس نفور عما لم تره، ومنذعرة منه؛ أي: خائفة.
قال في "شرح السنة": "يرجف فؤاده"؛ أي: يخفق، والرجفة: شدة الحركة.
"زملوني" معناه: دثَّروني، وتزمَّل الرجل بالثوب؛ اشتمل به، وجه طلبه
التزميل: أنه أصابه رعدة من رؤية الملك وهيبته وعظمة القرآن، والمرتعد إذا زمِّل سكن به، فعبر عن هذا بالروع مجازًا، إذ الروع سبب الرعدة، فوضع السبب موضع المسبَّب.
قوله: "لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله" إلى قوله: "على نوائب الحق"، (كلا) هنا للردع، معناه: أمنع (1) من هذا الكلام.
(النوائب): جمع نائبة، وهي الحادثة؛ يعني: إذ رأى جبريلَ صلى الله عليه وسلم أول ما رأى خشي على نفسه من أن يكون ذلك نوعَ تخبُّطٍ من الشيطان، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أظن أنه عرض في شبه جنون" فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا. أي: ليس الأمر كما تظن، والله إنَّ مَن اتصف بهذه الصفات الشريفة، وتعوَّد بهذه الخصال الحميدة، حفظه الله سبحانه عما يكرهه، وجعله مصونًا في كنف لطفه وعنايته، وقولها كان مناسبًا لما قيل: إن مكارم الأخلاق تقي مصارع السوء.
قال في "شرح السنة": و"تحمل الكَلَّ"؛ أي: المنقطع، تريد: إنك تعين الضعيف، وأصل (الكَلِّ): الذي لا يُعِين نفسَه لضعفه، ومنه قيل: العيال كَلٌّ، قال الله تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76]؛ أي: ثقلٌ على وليه.
قال: ["وتكسب المعدوم"] وفي بعض الروايات: (وتَكْسِبُ المُعْدَم) وهو الأصوب؛ لأن (المعدوم) لا يدخل تحت الأفعال؛ أي (2): تعطي العائل، يقال: كَسَبْتُ الرجلَ مالًا وأكسبته؛ أي: أعطيته، وبحذف الألف أفصح، هذا كله منقول من "شرح السنة".
قال الإمام التوربشتي: قلت: و (المعدوم) هي اللفظة الصحيحة بين أهل
(1) في "ق": "امتنع".
(2)
في جميع النسخ: "التي"، والمثبت من "شرح السنة"(13/ 319).
الرواية، وأجراها بعضهم على الاتساع، فرأى أنه أنزل العائل منزلة المعدوم مبالغة في العجز، كقولك للبخيل، والجبان: ليس بشيء.
وعليه قول المتنبي:
إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا
وعلى مثل هذا يُحمل قول ابن أبي أوفى رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقلل اللغو. أي: لا يلغو رأسًا، قال الله تعالى:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]؛ أي: لا يؤمنون لا قليلًا ولا كثيرًا، وإنما ذكرت لفظ (الكسب) أرادت: إنك لا تزال تسعى في طلب عاجز تنعشه، كما يسعى غيرك في طلب مال يُعينه، هذا كله لفظ الإمام.
يعني: الكسب هو الاستفادة، فكما أن غيرك يرغب أن يستفيد مالًا، فأنت ترغب أن تستفيد عاجزًا تعينه، وتجبر حاله.
فإن قيل: الإنسان يكسب مالًا لنفسه، والشخص لا يُكسب، بل المكسوب الذي هو المال.
قيل: فيه وجهان: أحدهما: أنك تبذل المال وتأخذ الثواب، فيكون على حذف المضاف، أو المعدوم إذا أعطيته شيئًا انقاد لك وتبعك، فكأنه صار مكسوبًا لك كالعبد المكسوب.
قيل: معنى قولها: "وتعين على نوائب الحق": تُعين مَن يصيبه الله تعالى بنوائبه من الفقر والقحط والخوف العظيم وغير ذلك، فأنت تدفعها عنهم، وتعينهم على دفع ذلك.
قول ورقة: "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى" الحديث.
قيل: أهل الكتاب يسمُّون جبريل: الناموس، وهو المراد في الحديث.
قال في "شرح السنة": (الناموس): صاحب سر الرجل، الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصُّه بما يستره عن غيره، يقال: نَمَس الرجل يَنْمِسُ نَمْسًا، وقد نامستُه مُنامسةً: إذا ساررته، فالناموس: صاحب سرِّ الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر.
وقوله: "يا ليتني فيها جَذَعًا"؛ أي: شابًا، والأصل في الجَذَع: سنُّ الدواب، وفي حديث علي رضي الله عنه:"ثم أسلمت وأنا جَذَعةٌ" أراد: وأنا جَذَعٌ؛ أي: حَدَثٌ في السن، فزاد في آخره هاءً توكيدًا.
ونُصب (جذعًا) لأن معناه: يا ليتني كثت جَذَعًا، والتأنيث في قوله:(فيها) لإضمار النبوة والدعوة أو الدولة، يقول: يا ليتني كنت شابًا وقت دعوتك ونبوتك.
"أنصرْكَ نصرًا مؤزرًا"؛ أي: بالغًا، وآزَر فلانٌ فلانًا: إذا عاونه على أمره، قوله تعالى:{فَآزَرَهُ} [الفتح: 29]؛ أي: قوَّاه، والأَزْر: القوة، قوله تعالى:{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]؛ أي: قوِّ به ظهري، هذا كله منقول من "شرح السنة".
النحو يقتضي أن يكون نصب (جذعًا) على الحال؛ لأن حذف (كان) وإبقاءَ خبره لا يجوز إلا عند القرينة، كما ورد: إنْ خيرًا فخير؛ لأن (إنْ) حرفُ شرطٍ، وهو من قرائن الفعل، فجاز معه دون غيره، فما قرِّر قد فُهم من نصين مختلفين لسيبويه.
قال في موضع: لا يجوز حذف (كان) وإبقاء خبره، قال: لو قلت: عبدَ الله المقتولَ، على تقدير: كن؛ لم يجز؛ لضعف (كان).
وقال في موضع: يجوز حذفه.
ففُهم من اختلاف نصيه: أنه لا يجوز إلا مع القرينة، فتقدير الكلام:
يا محمد ليتني أعيش في أيام نبوتك جذعًا؛ أي: قويًا شابًا بقوة الجذع من الخيل.
أما نظر الشيخ - رحمة الله عليه - فإلى المعنى؛ لأنه تمنى البقاء، فدلالة الحال تجوِّز إضمارَ (كان)، الهمزة في "أومخرجيَّ" للاستفهام، والواو للعطف، فأصله: مُخْرِجوني، فحذفت النون للإضافة، فصار: مُخْرِجوي، فقلبت الواو ياء لأن الواو والياء إذا اجتمعتا والأولى منهما ساكنة، قُلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، ثم أبدلت ضمةُ الجيم كسرةً لتصح الياء، فصار: مُخْرِجيَّ، ورفعُه تقديري.
و"عُودِيَ": ماضٍ مجهولٌ من المعاداة.
ونَشِبَ يَنْشَبُ نَشَبًا: إذا تعلَّق، ومعناه ها هنا: لبث، فمعنى قوله:"ثم لم ينشَبْ ورقة أن توفي": لم يمكث ورقة بعدما تكلم بهذا إلا أيامًا يسيرة، ثم قبض روحه.
إن قيل: بماذا يحكم لورقة بعد موته، أبالسعادة أم الشقاوة؟.
قيل: بالسعادة ودخول الجنة، للنقل والعقل:
أما النقل: فما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت قسًا في الجنة" إذ كان من علماء النصارى، ولأنه رآه في نومه قد لبس ثيابًا بيضاء، والثياب البيض تدل على حسن حاله.
وأما العقل: فلأنه كان على دين حق، ولم ينسخ بعد؛ لأنه - صلوات الله عليه - كان أولَ زمان إرساله، ولم يدَّع نسخ الأديان، فحكمُه حكمُ غيره من النصارى قبل نسخ دينهم، أو أنه اعترف بالنبوتين العيسوية والمحمدية، وتمنى البقاء في نصرة الدين، فكأنه قد آمن به ونصره.
فمعنى قوله: "وفتر الوحي": انقطع الوحي أيامًا. "وعدا"؛ أي: جاوز.
"مرارًا": جمع مرة. "تردَّى": إذا سقط في بئر، أو تهوَّر من جبل، والتهوُّر: الوقوع في الشيء بقلَّةِ مبالاة، والمعنى الثاني هو المراد في الحديث.
"الشواهق": جمع الشاهق، وهو الجبل المرتفع. "أوفى": إذا وصل ذروته، وذروة كلِّ شيء: أعلاه.
"تبدَّى": إذا ظهر.
قوله: "حقًا": مصدر مؤكِّد للجملة السابقة، وهي قوله:"إنك رسول الله" وهو نصبٌ بفعل مضمر؛ أي: أحقَّ هذا الكلام حقًا.
و"الجأش": القلب. و"تقر"؛ أي: تستقر.
* * *
4557 -
عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّثُ عَنْ فَترةِ الوَحْي قَالَ: "فبَيْنا أَنا أمشِي إذْ سَمِعْتُ صوتًا مِنَ السَّماءِ، فرفعتُ بَصَري، فإِذَا المَلَكُ الَّذي جَاءَنِي بحِراءٍ قاعِدٌ على كُرسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَجُئِثْتُ منهُ رُعْبًا، حتَّى هَويْتُ إلى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فقُلتُ: زمِّلوني، زمِّلوني، فزمَّلُوني، فأنزَلَ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قوله -: {فَاهْجُرْ}، ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ".
قوله: "فجُئثت منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض" الحديث.
"جُئِثَ" الرجل؛ أي: فزع، فهو مجؤوث؛ أي: مذعور، قال في "شرح السنة": ويروى: (جُئِثْتُ)، يقال: جُئِثَ الرجل، وجُثَّ وجوثَ؛ أي: فزع.
"رعبًا": نصبٌ على الحال أو المفعول المطلق؛ أي: ممتلئًا رعبًا؛ يعني: خوِّفت من ذلك الملك الذي جاءني مرعوبًا كل الرعب.
"حتى هويت إلى الأرض"؛ أي: سقطت.
"زمَّله" في ثوبه؛ أي: لفَّه، وتزمَّل بثيابه؛ أي: تدثَّر، وأصل المدَّثر: المتدثر، فقلبت التاء دالاً، وأدغمت الدال في الدال.
"حمِي" بالكسر: إذا اشتد حرُّه، "تتابع" وتوالى: إذا جاء مرة بعد أخرى، ومعنى قوله:(ثم حمي الوحي وتتابع)؛ أي: بعد ذلك اشتد نزول الوحي من عند الله سبحانه متتابعًا، بحيث ما انقطع إلى أن قبض روحي.
* * *
4558 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ الحَارِثَ بن هِشامٍ رضي الله عنه سَألَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال: يا رَسُوْلَ الله! كيفَ يأتِيكَ الوَحْيُ؟ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أحْيانًا يأْتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهوَ أَشَدُّهُ عَليَّ، فَيُفْصِمُ عنِّي وقدْ وَعَيْتُ عنهُ ما قَالَ، وأحْيانًا يَتمثَّلُ لي المَلَكُ رجُلاً فيُكلِّمُني فأعِي ما يقولُ"، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: ولقدْ رأيتُهُ يَنزِلُ عليهِ الوَحْيُ في اليومِ الشَّديدِ البرْدِ، فيَفْصِمُ عَنهُ وإنَّ جَبينَهُ ليَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
قوله: "كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس" الحديث.
"كيف": سؤال عن الحال.
"الأحيان": جمع حين، وهو الزمان، وهي نصب على الظرف.
قال في "شرح السنة": "الصلصلة": صوت الحديد إذا حرك.
قال أبو سليمان الخطابي: يريد - والله أعلم - أنه صوت متدارك، يسمعه ولا يتثبَّته عند أول ما يَقْرع سَمْعَه حتى يتفهَّم ويستثبت، فيتلقفه حينئذ ويعيه، ولذلك قال:"وهو أشده علي".
"فينفصم عني" معناه: فينقطع، ومنه قوله تعالى:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:
256]، ومن روى:(فيُفصم عني) - وهو الأصح - فمعناه: يقطع عني.
"وقد وعيت"؛ أي: حفظت.
قولها: "ليتفصد عرقًا" قال الزمخشري: (تفصَّد)؛ أي: تصبَّب، يقال: تفصد وانفصد، ومنه (الفاصدان): مجريا الدموع. وانتصاب (عرقًا) على التمييز.
"الجرَس" بفتح الراء: الذي يعلَّق في عنق البعير.
قيل: وأصل (الوحي): الإشارة السريعة، ولتضمُّن السرعة يقال عند العجلة: الوحا الوحا. ويقال: توحَّ يا هذا؛ أي: أسرِعْ، ومنه يقال: أمرٌ وَحِيٌّ؛ أي: سريع.
قيل: الوحي أقسام:
قد يكون بالكلام، ولا يأتي ذلك إلا بواسطة ملك يمثَّل له في صورة بشرية، كجبريل تمثَّل له في صورة دِحْيَة الكلبي.
وقد يكون بالرمز والإشارة والكتابة، كما قال:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] قيل: معناه: أشار، وقيل: كتب.
وقد يكون بإلهام، كما قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7].
وقد يكون بتسخير، كما قال سبحانه:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68].
وقد يكون بالرؤيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"انقطع الوحي وبقيت المبشرات" قيل: وما المبشِّرات؟ قال: "رؤيا المؤمن".
فالإلهام والتسخير والرؤيا ثلاثتها غير مختصةِ بالأنبياء، بل ربما تكون للأولياء، والتسخير قد يكون للجماد، قال الله تعالى:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5].
فجميع الأقسام شهد به التنزيل، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، فالإلهام والتسخير والرؤيا دل عليها قوله تعالى:{إِلَّا وَحْيًا} ، وسماع الكلام من غير واسطةِ ملكٍ دل عليه قوله سبحانه:{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، وما هو بواسطة جبريل عليه السلام، أو ملكٍ آخر دل عليه قوله تعالى:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51].
فقوله: (أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس) إشارة إلى السماع الحاصل من وراء الحجاب، ولذلك قال:(هو أشد علي)؛ فإنه لا يحصل ذلك إلا لمن انسدت له مواد الوساوس، وركدت له أسباب الحواس، وحصل له الإقبال بالكلية على الله سبحانه وتعالى، وإنما كان كذلك لأن الحواس معزولةٌ عن مطالعة الملكوت.
ولا يستدعي إدراكُ الصور الفعلية والقولية إذا كانت من عوالم المعاني بواسطة ملكٍ النومَ لا زمانًا ولا ترتيبًا كما تستدعيها حالة اليقظة، بل وقعت وقعةً واحدة في نفس النائم، وانتقشت به، ولهذا صارت الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة، فإذا ثبت له هذا المقام، فحينئذ تنتقش الصور في قلبه الملكوتي الكامل، من الأنوار الملكوتية، وأسرار العلوم الغيبية، كما تنتقش الصور المحاذية للمرآة، بل يطالع (1) الجبروت وهو عبارة عن العندية والقرب.
فقلبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متصفًا بذلك، ومتهيئًا لقبول الأنوار الملكوتية، وكان مطالعًا للجبروت، فصار مظهرًا للوحي القديم، قال صلى الله عليه وسلم:"تنام عيناي ولا ينام قلبي".
فإذا عرفت ذلك: فاعرف أن الجبروت مرآة للملكوت، والملكوتُ مرآة للمَلَك، فالمَلَكي إذا انفتح له عين القلب، وحصل له كمال الاستعداد، يفوز
(1) في "م": "مطالع".
بحظٍّ وافرٍ من الكشف والمشاهدة في مرآته التي هي الملكوت، فيطالع الأنوار الملكوتية ويشاهدها، وكذا الملكوتي إذا ظفر بمقام أتم (1)، يحصل له في مرآته التي هي الجبروت أسرار التدلَّيات والعندية.
وما المراد بقوله: (مثل صلصلة الجرس) إلا أن الوحي يأتيه بصوتٍ كصلصلة الجرس، فإنه قد ذُكر قبلُ أن هذا الإدراك لا يستدعي زمانًا ولا ترتيبًا، كما لا يستدعي الإدراك في المنام، لكن هذا الصوت الذي يسمعه هو صوت أجنحة الملائكة، كما روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان"، (الأجنحة): جمع جناح الطائر، وهو يده، (الخضعان والخضوع): التواضع، و (الصفوان): الحجر الأملس؛ يعني: صوت أجنحة الملائكة حالةَ ما قضى الله سبحانه أمرًا تواضعًا لأمره تعالى كصوت سلسلةٍ وقعت على الحجر الأملس.
* * *
4559 -
عَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنزِلَ عَلَيهِ الوَحْيُ كُرِبَ لِذلِكَ وَتَرَبَّدَ وجْهُهُ.
وفي رِوَايةٍ: نكًسَ رأسَهُ، ونَكَسَ أَصْحَابُهُ رؤسَهُمْ، فلمَّا سُرِّيَ عنهُ رَفَعَ رأسَهُ.
قوله: "إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك، وتربد وجهه"، (الكرب): الغم الذي يأخذ بالنفس، تقول: كربه الغم: إذا اشتد عليه، (تربَّد وجهه واربَّد)؛ أي: تلوَّن، فصار كلون الرماد.
(1) في "ق": "ثم".
قيل: يحتمل أنه كان يهتم بأمر الوحي اهتمامًا شديدًا، مما يطالَب به من حقوق العبودية والقيامِ بشكره تعالى، ويخاف على العصاة من أمته أن ينالهم غضب من الله سبحانه، فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس، حتى يَعرفَ ذلك الوحيَ المأمورَ به فيستريح.
ويحتمل أنه كان تغيُّر وجهه وشدةُ غمه القاطعةُ للنَفس عند نزول الوحي من عظمة الله سبحانه، وعظمةِ وحيه القديم ولو كان في كسوة الحروف، فإنه لو لم يكن في كسوة الحروف لَذاب جبريل عليه السلام عند تجلَّيه سبحانه له بأمرٍ من أوامره إلى أنبيائه المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، فإذا تقرَّر هذا؛ فكونُه في كسوة الحروف رحمةٌ من عنده تعالى لجميع عباده.
قوله: "نكس رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما أثلي عنه رفع رأسه"(نكس رأسه): وطأطأ وأطرق؛ يعني: نظر إلى الأرض كالمتفكر. (أثلي عنه)؛ أي: قُطع عنه الوحي، قيل:(أثلي عنه)؛ أي: أُسري عنه، وقيل: صُرف عنه، وقيل:(أتلي) بالتاء؛ أي: قرئ عليه، وعلى هذا: تلي عليه، بغير الألف.
وقيل: أتلي عليه؛ أي: كُشف عليه، فالتاء بدل من الثاء؛ أي: أثلي عليه؛ يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُطْرِقُ رأسه عند نزول الوحي تعظيمًا وإجلالاً للوحي القديم، والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يطرقون رؤوسهم موافقةً له، فإذا كشف عنه رفعوا رؤوسهم.
قال الإمام التوربشتي: أرى صوابه: (فلما تلي عليه) من التلاوة.
* * *
4560 -
عَنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لمَّا نَزلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى صَعِدَ الصَّفا، فَجَعَلَ يُنادِي:"يا بني فِهْرٍ! يا بني عَدِيّ! "،
لبُطونِ قُريشٍ، حتَّى اجتمعُوا، فجَعَلَ الرَّجُلُ إذا لمْ يستطِعْ أنْ يَخرجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِينظُرَ ما هوَ، فجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُريشٌ، فقال:"أرأيتُمْ إنْ أخبرتُكُمْ أنَّ خَيْلاً تخرُجُ منْ سَفْحِ هذا الجَبلِ - وفي رِوَايةٍ: أنَّ خَيْلاً تخرجُ بالوادِي تُريدُ أنْ تُغيرَ عليكُم - أكُنتُمْ مُصَدِّقيَّ؟ "، قالوا: نَعَمْ، مَا جرَّبنا عليكَ إلَّا صِدقًا، قَالَ:"فإنَّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عذابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لكَ، ألِهذا جَمعْتَنا؟ فنزلَتْ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
قوله: "فجعل ينادي يا بني فهر" الحديث.
"جعل" ها هنا بمعنى: طفق.
قال في "الصحاح": و (فِهْر) أبو قبيلة من قريش، وهو فهر بن مالك بن النَّضْر بن كنانة. و (عدي) من قريشٍ رهطُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
و"البطون": جمع بطن، وهو دون القبيلة.
"أرأيتم" معناه: أخبروني. و"الخيل" ها هنا بمعنى: الفرسان، قال الله تعالى:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} [الإسراء: 64]؛ أي: بفرسانك، و"الصفح": ناحية الشيء؛ يعني: أعلموني أني إن أخبرتكم بخروج الأعداء من ناحية هذا الجبل فهل أنتم تصدقوني فيه أم لا؟، قالوا: نعم، فإنا جربناك في الأمور، ووجدناك صادقًا.
"قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، (النذير): المنذر، (بين يدي عذاب شديد)؛ أي: قدَّام عذاب شديد إما في الدنيا أو في الآخرة.
"قال أبو لهب: تبًا لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} "، (تبًا له)؛ أي: خسرانًا وهلاكًا له، وهذا من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها كسقيًا ورعيًا؛ يعني: قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: تبًا لك ألأجل هذا دعوتنا
أجمعين؟ فأنزل الله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ؛ أي: خابتا وخَسِرتا، فعبَّر باليد عن نفسه، وهذا مجازٌ شائع، وهو إطلاق الجزء على الكل، وقيل: اليد زائدة، كما قيل: يد الرزايا، ويد الدهر، فعلى هذا المعنى يكون جاريًا مجرى الدعاء، وقوله:{وَتَبَّ} إخبار؛ أي: وقد تبَّ، ويجوز أن يكون توكيدًا للأول؛ أي: تبت يدا أبي لهب، وتب أبو لهب.
* * *
4561 -
عَنْ عبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنما رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي عِندَ الكَعبةِ، وجَمْعُ قُريشٍ في مَجالِسِهِمْ، إذْ قالَ قائِلٌ: أيُّكُمْ يقومُ إلى جَزورِ آلِ فُلانٍ فيَعْمِدُ إلى فَرْثِها ودَمِها وسَلاها، ثُمَّ يُمْهلُهُ حتَّى إذا سجدَ وضعَهُ بينَ كتِفَيْهِ؟ فانبعَثَ أَشْقَاهُمْ، فلمَّا سَجدَ وَضَعَهُ بينَ كتِفَيْهِ، وثَبَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، فضَحِكوا حتَّى مَالَ بعضُهم على بَعضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فانطلقَ مُنطلِقٌ إلى فَاطِمةَ رضي الله عنها فأخبَرَهَا، فأقبلَتْ تسعَى، وثَبَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حتَّى ألقَتْهُ عنهُ، وأقبَلَتْ عَليهِمْ تسُبُّهُمْ، فلمَّا قضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ قَالَ:"اللهمَّ! عليكَ بقريشٍ"، ثلاثًا - وكانَ إذا دَعا دَعا ثلاثًا، وإذا سألَ سألَ ثلاثًا - اللهمَّ! عليكَ بعَمرِو بن هِشامٍ، وعُتبةَ بن رَبيعةَ، وشَيْبَةَ بن رَبيعةَ، والوليدِ بن عُتْبةَ، وأُميَّةَ بن خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ، وعُمَارةَ بن الوَليدِ"، قَالَ عبدُ الله: فوَالله لَقَدْ رَأيتُهُمْ صَرْعَى يومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبوا إلى القَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وأُتبعَ أَصْحابُ القَلِيبِ لَعنةً".
قوله: "أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها" الحديث.
"أيُّ": اسمٌ مُعْرَبٌ يُستفهم به، و"الجزور" من الإبل: يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنث في اللفظ.
"عمد يعمد": إذا قصد.
"الفرث": السِّرْجين ما دام في الكرش.
قال في "الصحاح": و (السَّلَى) مقصور: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، إذا نزعت عن وجه الفصيل ساعة يولد، وإلا قتلته، وكذلك إذا انقطع السَّلَى في البطن، فإذا خرج السَّلَى سلمت الناقة وسلم الولد، فإذا انقطع في بطنها هلكت، وهلك الولد.
(إلى) في قوله: "إلى جزور" نصب على الحال؛ أي: أيُّ واحدٍ منكم يقوم قاصدًا إلى جزور آل فلان. وكذا (تسعى)، في قوله:"وأقبلت تسعى" نصب على الحال، و (تسبهم)، في قوله:"وأقبلت عليهم تسبهم".
"فانبعث أشقاهم"؛ أي: فذهب أشقى كفار قريش - وهو أبو جهل - إلى ما أمر به.
قال في "شرح السنة": وقال شعبة عن أبي إسحاق: إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفت على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا فيه: قيل: كان هذا الصنيع منهم قبل تحريم هذه الأشياء من الفرث والدم وذبيحة أهل الشرك، ولم تكن تبطل الصلاة بها، كالخمر كان يصيب ثيابهم قبل تحريمها.
وقال أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": وفي قوله: "ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ألقت فاطمة عنه" دليل على أن مَن كان في ركن من الصلاة إذا طرأ ناقض للصلاة، فينبغي أن يثبت في ذلك الركن حتى يندفع الناقض، فلو انتقل من ذلك الركن إلى ركن آخر قبل زوال الناقض بطلت صلاته.
و (عليك) في قوله صلى الله عليه وسلم: "عليك بقريش، وعليك بعمرو بن هشام" اسم فعل معناه: خذ؛ يعني: خذهم مقهورين.
و"صرعى": جمع صريع، وهي نصب على الحال من الضمير المنصوب في "رأيتهم"، و"بدر": موضع، وقيل: هو بئر كانت لرجل يقال له: بدرًا. و"القليب": البئر قبل أن يُطوى، يذكَّر ويؤنث.
و"أتبع أصحاب القليب لعنة" قيل؛ أي: لحقتهم اللعنة.
* * *
4562 -
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّها قَالَتْ: يا رَسُولَ الله! هل أتَى عَلَيكَ يَومٌ كانَ أَشَدَّ مِن يومِ أُحُدٍ؟ قَال: "لقدْ لَقيتُ منْ قومِكِ، وكانَ أشدَّ ما لَقيتُ منهُمْ يومَ العَقَبةِ، إِذْ عَرَضْتُ نفسِي على ابن عبدِ يالِيلَ بن عبدِ كُلالٍ فلمْ يُجِبني إلى مَا أردْتُ، فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وجْهِي، فلمْ أستَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فرفعتُ رأسِي فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظلَّتْنِي، فنظَرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فنادَانِي فَقَال: إنَّ الله سَمِعَ قولَ قومِكَ وما ردُّوا عليكَ، وقدْ بعثَ إليكَ مَلَكَ الجبالِ لِتأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهِمْ"، قَالَ:"فَنَادانِي مَلَكُ الجبالِ وسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُا إنَّ الله قدْ سَمِعَ قولَ قومِكَ، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقدْ بَعَثنِي ربُّكَ إليكَ لِتأْمُرَني بأمْرِكَ، إنْ شِئتَ أنْ أُطْبقَ عليهِمُ الأخشَبَيْنِ"، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بل أرجُو أنْ يُخرِجَ الله منْ أصْلابهِمْ مَن يعبُدُ الله وحْدَهُ لا يُشرِكُ بهِ شَيئًا".
قوله: "وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة" الحديث.
قيل: أراد بـ (العقبة): جمرة العقبة التي هي بمنى، وهو موضعٌ بمكة، وأراد بيوم العقبة وشدَّته: اليوم الذي وقف عند العقبة في الموسم، فكان يدعو القبائل من العرب إلى الله سبحانه، فما أجابوا ذلك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليه، وكان يفعل ذلك بعد وفاة عمه أبي طالب.
وكان أبو طالب ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، فلما مات كان الكفار تؤذيه صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الطائف يدعو ثقيفًا إلى الله، فأبوا ذلك، فلما يئس
منهم قدم مكة، فوجد الكفار أشد مما كانوا عليه من إيذائه ومخالفته، إلا شرذمة قليلين آمنوا به وصدقوه.
فلما أراد الله سبحانه إظهار دينه ونصرة نبيه وإنجاز وعده ذهب إلى الموسم يدعو قبائل العرب إلى الإسلام كما كان يفعل في كل موسم، فأجاب رهطٌ من الخزرج أراد الله بهم الخير بما دعاهم إليه، وقبلوا منه الإسلام، ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا أقوامهم إلى الإسلام، فأجابوهم إليه، حتى فشا فيهم الإسلام، حتى إذا كان العام المقبل، وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلًا منهم بالعقبة، فبايعوه على بيعة النساء، وهو أن لا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا
…
إلى آخره.
قوله: "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي"؛ أي: كأني مغشيٌّ عليه، "فلم أستفق إلا بقرن الثعالب"؛ أي: فلم يَزُلْ عني ذلك الغَشْيُ والغمُّ العظيم إلا بقَرْنِ الثعالب، وهو جبلٌ بين مكة والطائف، و (استفاق وأفاق) بمعنًى واحد.
و (إذا) في قوله: "فإذا أنا بسحابة"، و (إذا) فيها للمفاجأة.
(طبَّق)؛ أي: جعل الشيء فوق الشيء، محيطًا بجميع جوانبه، كما ينطبق الطبق على الأرض، فمعنى قوله:"أن أطبق عليهم الأخشبين"؛ يعني: ألقي عليهم جبلي مكة ليهلكوا.
قال في "شرح السنة": سميت (أخشبين): لصلابتهما وغلظ حجارتهما.
* * *
4563 -
عن أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ يومَ أَحُدٍ وشُجَّ في رأسِهِ، فجَعلَ يَسْلُتُ الدمَ عنهُ ويقولُ:"كيفَ يُفلِحُ قومٌ شَجُّوا نبيَّهُمْ وكَسَروا رَباعِيَتَهُ؟! ".