المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌12 - باب جامع المناقب - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ٦

[مظهر الدين الزيداني]

فهرس الكتاب

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِها

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سَيدِ المُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌1 - باب في مَنَاقِبِ قُرَيْشِ وَذِكْرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ الصَّديق رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَنَاقِبِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْر وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ بن عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثةِ رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ بن أَبي طَالِبِ رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسٍ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثَوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌12 - باب جامع المناقب

وفي رواية أخرى في (باب مناقب أهل البيت): "ألا ترضينَ أن تكوني سيدةَ نساءِ أهل الجنة، أو نساء المؤمنين"، فالشكُّ من الراوي، وما استُثْنيت في تلك الرواية أم عيسى، فالرواية التي هي المطلقة - يعني: لا استثناء فيها -، في (الصحاح)، وهذه الرواية - يعني: التي فيها استثناء - في (الحسان)، وأحاديث (الصحاح) أعلى درجة من أحاديث (الحسان)، كما ذكره المصنف في دِيباجة الكتاب، فإذا كان كذلك فلا أقل من الترجيح.

أو: الاستثناءُ منقطع، كأنه قال: أنتِ سيدةُ النساء في زماني، لكن مريم رضي الله عنها كانت أيضًا سيدةً في زمانها.

أو أراد: أنها في زمانها لم تكن معها سيدةٌ أخرى، فإنَّ آسية تقدمت بمُدة، وأما أنت فتشاركك في هذه السيادةِ والدتُك، وهي خديجة رضي الله عنها.

* * *

‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

(بَابُ جَامعِ المَنَاقِبِ)

مِنَ الصِّحَاحِ:

4854 -

عن عبدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: رَأَيْتُ في المَنامِ كأَنَّ في يَدي سَرَقَةً مِن حريرٍ، لا أَهْوِي إلى مَكانٍ في الجَنَّةِ إلا طارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُها على حَفْصَةَ فَقَصَّتْها حَفْصَةُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَخاكِ رَجُلٌ صالِحٌ، أو إنَّ عَبْدَ الله رَجُلٌ صالحٌ".

قوله: "رأيت في المنام كأنَّ في يدي سَرَقة من حرير"، قيل:(السرقة): عبارة عن ذات يده من العمل الصالح، وبياض السَّرَقة عبارة عن صَفائه عن

ص: 336

الكُدُورات النفسانية.

قوله: "لا أَهْوِي بها إلى مكان في الجنة إلا طارتْ بي إليه"؛ يعني: لا أقصد بتلك السَّرَقة إلى مكان في الجنة لأنزلَ فيها إلا كانت تلك السرقةُ مُطيرة بي، ومُبْلِغة إلى تلك المنزلة، فكأنها مثلُ جناحِ الطير (1).

* * *

4855 -

عن حُذَيفَةَ رضي الله عنه قال: إنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وسَمْتًا وهَدْيًا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم لابن أمِّ عَبْدٍ، من حينِ يَخْرُجُ مِن بيتِه إلى أنْ يرجِعَ إليه، لا نَدْري ما يَصْنَعُ في أَهْلِه إذا خَلَا.

قوله: "إنَّ أشبهَ الناس دَلًا وسَمْتًا وهَدْيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم لابن أمِّ عَبْد"، قال في "شرح السنة": الدَّلُّ والسَّمْت والهَدْي قريبٌ بعضُها من بعض، وهو السكينة والوَقار وحُسن الهيئة والمَنظر، يريد: شمائله في الحركة والمشي والتصرف، لا في الزينة والجمال، وأصل السَّمت: هو القَصْد.

حاصل ما يقول الشيخ: أن سيرته مَرْضيَّة، وهي الهَدي، وسَمْتُه: قصده وطريقته أيضًا حَسَنٌ، ودَلُّه الذي هو عبارة عن التذلُّل حَسَنٌ مع عياله ليس فيه خشونة ولا صَخَب ولا تجاوزُ حَدٍّ، فالمجموع وإن اختلفت معانيهنَّ لغةً اجتمعنَ معنًى فيما هو المحمود في كلِّ صنف منه.

أراد بقوله: "لابن أمِّ عبد": عبدَ الله بن مسعود.

قوله: "لا ندري ما يصنَعُ في أهله إذا خلا"؛ يعني: نشهد له بظاهر حاله، ولا نعرف ما خَفِيَ عنَّا، فلا نشهد بذلك.

* * *

(1) في "ش": "الطائر".

ص: 337

4857 -

عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "استَقْرِؤُوا القُرْآنَ مِن أربَعةٍ: من عبدِ الله بن مَسْعودٍ، وسالمٍ مَوْلَى أبي حُذَيفَةَ، وأُبَيِّ بن كعْبٍ، ومُعاذِ بن جَبَلٍ" رضي الله عنهم.

قوله: "استقْرِئوا القرآنَ من أربعة؛ من عبد الله بن مسعود

" الحديث.

يعني: اطلُبوا قراءةَ القرآن من هؤلاء الأربعة، فإنَّهم حَفَظةُ الصحابة - رضوان الله عليهم -.

* * *

4858 -

عن عَلْقَمَةَ قال: قَدِمْتُ الشَّامَ فصَلَّيتُ رَكْعَتَينِ ثُمَّ قُلْتُ: اللهمَّ! يَسِّرْ لي جَليسًا صالِحًا، فأتيتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إليهم، فإذا شَيْخٌ قد جاءَ حتى جَلَسَ إلى جَنْبي، قُلْتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدَّرْداءِ، قلتُ: إنِّي دَعَوْتُ الله أنْ يُيَسِّرَ لي جَليسًا صالِحًا فيسَّرَكَ لي، فقال: مَن أنتَ؟ قُلْتُ: مِن أَهْلِ الكوفةِ قال: أَوَلَيْسَ عِنْدَكم ابن أُمِّ عَبْدٍ صاحِبُ النَّعلَيْنِ والوسادَةِ والمِطْهَرَةِ، وفيكم الذي أَجارَهُ الله من الشَّيطانِ على لسانِ نبيهِ؟ - يعني: عَمَّارًا -، أَوَلَيْسَ فيكم صاحِبُ السِّرِّ الذي لا يَعْلَمُه غيرُه؟ - يعني: حُذَيفَةَ -.

قوله: "أوليسَ عِندَكم ابن أمِّ عبدٍ صاحبُ النَّعلين والوِسادة والمِطْهرة": خصَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأشياء الثلاثة، أخذِ النعلين إذا جلس مجلسًا ووضعِهما إذا قام من ذلك المجلس، ووضعِ الوسادة إذا أراد أن ينام، وحَمْلِ المِطْهرة إذا أراد أن يتوضأ، وفيه دليل على جواز الرجل أن يستخدم أحدًا في هذه الثلاثة، وغيرها قياسًا عليها.

وسرُّ هذا الاستخدام أنه رضي الله عنه استفاد من كلِّ خدمة نوعًا من العلوم من آداب تلك الخدمة فرضها وسنَّتِها وغيرِ ذلك، وكان في ذلك إشارة إلى آداب

ص: 338

التصوف، التي هي آداب مَرْضيَّة لهذه الطائفة.

قوله: "أوليس فيكم صاحبُ السِّرِّ الذي لا يعلمُه غيرُه": إنَّما سُمِّي حذيفة صاحبَ السرِّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عَرَّفه المنافقين في السِّرِّ، وكان يعرف أسماءَهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، وقد خصَّه بهذا السر، فلهذا سمي صاحبَ السِّر.

* * *

4859 -

وعن جابرٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُريتُ الجَنَّةَ، فرَأَيْتُ امرَأَةَ أبي طَلْحَةَ، وسَمِعْتُ خَشْخَشةً أمامي فإذا بلالٌ".

قوله: "فرأيتُ امرأةَ أبي طَلْحة"، وهي أمُّ سليم، ولُقِّبت بالرُّمَيصاء.

* * *

4861 -

عن أبي مُوْسى رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "يا أبا موسى! لقد أُعطِيتَ مِزْمارًا مِن مَزَامِير آلِ داودَ".

قوله: "لقد أُعْطِيت مِزْمارًا مِنْ مزامير آل داود"، (المزمار) ها هنا: النغمة.

و (آل داود): نفسه، عليه السلام، والمراد به: أن له حُسْنَ صوتٍ في قراءة القرآن.

* * *

4862 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأُبيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَني أنْ أَقْرأَ عليكَ القرآن"، قال: الله سَمَّاني؟! قال: "نعم"، فَبكَى.

ويُرْوَى: أنه قَرَأَ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]} [البينة: 1].

ص: 339

قوله: "إنَّ الله أمرني أَنْ أقرأَ عليكَ"، قال في "شرح السنة": قيل: أراد أن يحفَظه أُبيٌّ مِنْ فيه، وكان أبيٌّ مقدَّمًا على قُرَّاء الصحابة، قال صلى الله عليه وسلم:"أقرَأُكم أُبيٌّ".

* * *

4863 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: جَمَعَ القرآنَ على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعةٌ: أُبَيُّ بن كَعْبٍ، ومُعاذُ بن جَبَلٍ، وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو زَيدٍ، قيلَ لأَنَسٍ: مَن أبو زَيدٍ؟ قال: أَحَدُ عُمُومتي.

قوله: "جمعَ القرآنَ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أربعةٌ؛ أبيُّ بن كعب، ومعاذُ ابن جبل، وزيدُ بن ثابت، وأبو زيد"، قيل: قد جمع القرآنَ جماعةٌ من المهاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد من الأربعة: أربعة من قوم أنس، وهم الخَزْرجيون.

وقيل: أراد بالأربعة: أربعة من الأنصار أوسِهم وخزرَجِهم، وهذا أقرب؛ لأن بين الحَيَّين كان خصومةً قبلَ الإسلام، وقد بقي بينهما شيءٌ بعد الإسلام، وذلك الشيء يُهَيج فيهما التفاخر.

قال أنس: فقال الأوس: منَّا غسيلُ الملائكة حَنْظلةُ بن الراهب، ومنَّا من حَمَتْه الدَّبَر عاصمُ بن ثابت بن الأفلح، ومنَّا من أُجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمةُ بن ثابت، ومنا منِ اهتزَّ العرش بموته سعدُ بن معاذ.

وقالت الخَزْرجُ: منَّا أربعةُ قراء القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقرأه غيرُهم: زيدُ بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذُ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب.

والمراد بقوله: لم يقرأه غيرهم يعني: لم يقرأه كله أحد منكم يا معشر الأوس.

* * *

ص: 340

4864 -

عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ قال: هاجرْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نَبْتَغي وَجْهَ الله فَوَقعَ أَجْرُنا على الله، فمِنَّا مَن مَضَى لم يَأْكُلْ مِن أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهم مُصْعَبُ بن عُمَيرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فلَمْ يُوْجَدْ له ما يُكفَّنُ فيهِ إلا نَمِرَةً، فكُنَّا إذا غَطَّينا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وإذا غَطَّينا رِجْلَيهِ خَرَجَ رَأْسُه، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"غَطُّوا بها رَأْسَه، واجْعَلُوا على رِجْلَيْهِ مِن الإِذْخِرِ"، ومِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لهُ ثَمَرتَهُ فهوَ يَهْدِبُها.

قوله: "ومنَّا مَنْ أينعت ثمرتُه فهو يَهْدِبُها"؛ أينعَتْ؛ أي: نَضَجَتْ له ثمرتُه.

قال في "الغريبين": يهدِبها؛ أي: يجتنيها، يقال: هدَبَت الثمرةُ يهدِبها هَدْبًا: إذا اجتناها وقَطَعها.

* * *

4865 -

عن جابرٍ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اِهْتَزَّ العَرْشُ لمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ".

وفي رِوايةٍ: "اِهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ".

قوله: "اهتزَّ العرشُ لموت سعدِ بن مُعاذ"، قال في "شرح السنة": اهتزَّ؛ أي: ارتاح بروحه حين صَعِدَ به، قيل: أراد بالاهتزاز السُّرور والاستبشار، ومعناه: أن حملةَ العرش فرحوا بقُدوم روحه، فأقام العرشَ مقامَ مَنْ حَمَلَهُ؛ كقوله:"أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبُّه" أي: أهلُه.

قال الشيخ الإمام: والأولى إجراؤه على ظاهره، وكذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:"أُحدٌ يحبنا ونحبُّه"، ولا يُنكر اهتزازُ ما لا روحَ فيه بالأنبياء والأولياء، كما اهتزَّ أُحد وعليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمرُ وعثمان، وكما اضطربت الأُسْطُوانة على مُفَارقته.

ص: 341

وقيل: أراد بالعرش: السرير الذي حُمِلَ عليه، وليس بشيء؛ لأنه قد روي:"عرش الرحمن".

* * *

4866 -

وعن البَرَاءِ رضي الله عنه قال: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ حَريرٍ، فَجَعَلَ أَصْحابُه يَمَسُّونَها ويَعْجَبُون مِن لِيْنِها، فقال:"أَتَعجبُونَ مِن لِيْنِ هذهِ؟ لمَنَادِيلُ سَعْدِ بن معاذٍ في الجنَّةِ خَيْرٌ مِنْها وأَلْيَنُ".

قوله: "لمناديلُ سعدِ بن مُعاذ في الجنة خيرٌ منها وأَلْين"، قال في "شرح السنة": قال الخطَّابي: إنما ضَرَبَ المَثَلَ بالمناديل؛ لأنها ليست من عِلْيَة اللِّباس، بل هي تُبْتَذَل في أنواعٍ من المَرافق، ويُمسح بها الأيدي، ويُنْفَضُ بها الغُبار عن البدن، ويعطى بها ما يُهْدى في الأطباق، وتُتَّخذ لُفَافًا للثياب، فصار سبيلُها سبيلَ الخادم، وسبيلُ سائر الثياب سبيل المَخْدوم؛ أي: فإذا كانت مناديلُه - وليست هي من عِلْية الثياب - هكذا، فما ظنُّك بِعِلْيتها؟! هذا كله لفظ "شرح السنة".

واعلم أن خصوصَ منديل سعدٍ دون بقية الصحابة تفضيلٌ يختصُّ به، كما اختص غيرُه بمزايا.

* * *

4867 -

وعن أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّها قالت: يا رسولَ الله! أَنَسٌ خادِمُك، ادْعُ الله لهُ، قال:"اللهمَّ أَكْثِرْ مالَهُ ووَلَدَهُ وباركْ لهُ فيما أعطيْتَه"، قال أَنَسٌ: فوالله إنَّ مالي لكثيرٌ، وإنَّ ولدِي ووَلَدَ ولدِي ليتَعَادُّونَ على نحوِ المِئَةِ اليومَ.

قوله: "وإنَّ ولدي وولدَ ولدي ليتعادُّون نحو المئة"؛ أي: يزيدون على المئة في العدد.

ص: 342

قال في "الصحاح": وإنهم ليتعادُّون ويتعدَّدون على عشرة آلاف؛ أي: يزيدون على ذلك في العدد.

* * *

4869 -

وقال عبدُ الله بن سلامٍ: رأَيتُ كأَنِّي في رَوْضَةٍ، وذَكرَ مِن سَعَتِها وخُضْرتِها، وَسْطَها عَمُودٌ مِن حديدٍ، أَسْفَلُهُ في الأَرْضِ وأَعْلاهُ في السَّماءِ، في أعلاهُ عُروةٌ، فقيلَ لي: ارْقَهُ، فقُلْتُ: لا أستَطِيعُ، فأتاني مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيابي مِنْ خَلْفي، فَرَقَيْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعْلاهَا فأخذتُ بالعُرْوَةِ، فاسْتَيْقَظْتُ وإنها لفي يَدي، فقصَصْتُها على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ:"تلكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلَامُ، وذلكَ العَمُودُ عَمُودُ الإسْلامِ، وتلْكَ العُرْوَةُ الوُثْقَى، فأنتَ على الإِسْلَامِ حَتّى تَمُوتَ".

قوله: "فقيل لي: اِرْقَه"، (ارْقَ): أمرٌ مِنْ رَقَى يَرْقَى رُقَيًّا: إذا صَعِد.

قوله: "فأتاني مِنْصَف"، (المنصف) - بكسر الميم -: الخادم، والجمع المَنَاصف.

* * *

4871 -

وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلوسًا عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نزلَتْ سُوْرَةُ الجُمُعةِ، فَلَمَّا نزلَتْ هذهِ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قالوا: مَن هؤلاءِ يارسولَ الله؟ قالَ: وفينَا سَلْمَانُ الفارسيُّ، قالَ: فَوَضَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدَهُ على سَلْمانَ ثُمَّ قال: "لو كانَ الإيمانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِن هؤلاءِ".

قوله: "لو كانَ الإيمانُ عند الثُّريَّا لنالَهُ رجلٌ مِنْ هؤلاء"، نال يَنال على وزن عَلِمَ يَعْلَم، ومعناه: صادف ووصَل، قال الحسن: يريد بـ (هؤلاء): العجم.

ص: 343

وقال عكرمة: يريد بهم فارسَ والروم؛ يعني: بالغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في انقياد فارسٍ للإسلام والإيمان، وقال:"لو كانَ الإيمانُ معلَّقًا بالثُّريا"؛ يعني: بعيدًا في غاية البُعد. ضَرَبَ المَثَلَ ليتناوله ويصل إليه رجلٌ من فارس.

* * *

4874 -

عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأَنْصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأَنْصارِ".

قوله: "آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأنصار"، قيل: وإنما كان كذلك لأنهم {تَبَوَّءُوا الدَّارَ} ؛ أي: توطَّنُوا الدار؛ أي: المدينة، اتخذوها دار الهجرة، {وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]؛ أي: أسلموا في ديارهم، وآثَرُوا الإيمان، وتبوؤوا المساجد قبل قُدوم النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمن أحبَّهم فذلك من كمال إيمانهم، ومَنْ أبغضهم فذلك من علامة نفاقهم.

* * *

4876 -

عن أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ ناسًا مِن الأَنْصارِ قالوا حينَ أفاءَ الله على رسولِهِ مِن أموالِ هَوَازِن ما أفاءَ، فطَفِقَ يُعْطِي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئَةَ مِن الإِبلِ، فقالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، يُعطِي قُرَيشًا ويَدَعُنا وسُيُوفُنا تَقْطرُ مِن دِمائِهم؟ فحُدِّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمَقَالَتِهم، فأَرْسَلَ إلى الأَنْصارِ فَجَمَعَهم في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ ولَمْ يَدْعُ معَهم أَحَدًا غيرَهم، فلمَّا اجتَمَعُوا جاءَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ:"ما حَديثٌ بلغَني عَنْكم؟ "، فقالَ له فُقَهاؤُهم: أمَّا ذَوُو رَأْينَا يا رسولَ الله! فلَمْ يقولوا شيئًا، وأمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَديثةٌ أَسْنانُهم قالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله، يُعطي قُرَيشًا ويَدَعُ الأَنْصارَ وسُيُوفُنا تَقْطُرُ مِن دِمائِهم؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أُعْطِي رِجالًا حديثي عهدٍ بكُفْرٍ أتأَلَّفُهم، أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأَمْوالِ

ص: 344

وتَرْجِعونَ إلى رحالِكم برسولِ الله؟ "، قالوا: بلى يا رسولَ الله! قد رَضينَا.

قوله: "وأمَّا أناسٌ مِنَّا حديثةٌ أسنانُهم

" الحديث.

(الأسنان) جمع سن؛ يعني: شبابنا.

قوله: "ويَدَعُ الأنصارَ"؛ أي: يتركهم.

قوله: "إنِّي أُعطي رجالًا حَدِيثي عهدٍ بكفرٍ أتألَّفُهم"؛ يعني: أُعطي رجالًا قريبي العهدِ إلى الإسلام، ليكون ذلك مُوجبًا لإلْفَتهم على الإسلام، يقال: فلان تألَّفته على الإسلام بإعطائه المال، ومنه: المؤلَّفة قلوبُهم.

* * *

4877 -

وقالَ: "لولا الهِجْرَةُ لكُنْتُ امْرَأً مِن الأَنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا أو شِعْبًا وسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا أو شِعْبًا لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وشِعْبَها، الأَنْصارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكم سَتَرَوْنَ بعدي أَثَرَةً فاصبرُوا حتَّى تَلْقَوْني على الحَوْضِ".

قوله: "لولا الهِجْرةُ لكنتُ امرأً مِنَ الأنصار"، المراد منه: إكرام الأنصار؛ يعني: لا رُتبةَ بعد الهجرة أعلى مَنْصِبًا من النصرة.

قال في "شرح السنة": ليس المراد منه الانتقال عن النَّسب الوِلادي؛ لأنه حرام، مع أن نسَبه صلى الله عليه وسلم أفضلُ الأنساب وأكرمُها، بل المراد منه النسب البلادي، معناه: ولولا أنَّ الهجرة أمرٌ كانت بسبب الدين، ونسبتها دينية، لا يسَعُني تركُها؛ لأنها عبادةٌ كنت مأمورًا بها؛ لانتسبت إلى داركم ولانقلبت عن هذا الاسم إليكم.

قيل: إن الأنصار وإن شُرِّفوا بالنُّصرة والإِيواء لكن لا يبلغون درجةَ المهاجرين السابقين، كيف والأنصار يُقيمون في مواطنهم، وهم قد أُخرجوا من

ص: 345

ديارهم، وتلك الفضيلة أفضل، أشار إلى جَلالة تلك الرتبة، فلا يتركها، فهو نبيٌّ مُهَاجر لا أنصاري.

قوله: "ولو سَلكَ الناسُ واديًا، وسلكتِ الأنصارُ واديًا أو شِعْبًا، لسلكتُ واديَ الأنصارِ وشعبَها"، قال في "شرح السنة": أراد أن أرض الحجاز كثيرة الأودية والشِّعاب، فإذا ضاق الطريق عن الجميع فسلك رئيسٌ شِعْبًا اتَّبعه قومُه، حتى يُفْضوا إلى الجَادة.

وفيه وجه آخر: أراد بالوادي الرأي والمَذْهب، كما يقال: فلان في وادي، وأنا في وادي، هذا معنى كلام الخطابي.

وقال غيره: إنما يريد به الموافقة؛ أي: كنت أختارُ موافقتَهم لا موافقةَ غيرهم؛ لأن لهم حقوقًا من الجِوار ووفاء العهد والنُّصرة.

قوله: "الأنصار شِعار، والناس دِثَار"، (الشعار): ما ولي الجسدَ من الثياب.

و (الدِّثار): كل ما كان من الثياب فوقَ الشِّعار، ذكره في "الصحاح".

قيل: يريد أنهم أصدقائي وبطانتي وذوو الخُلُوص في المودَّة، وإنما قال هذا؛ لأنهم كانوا ذوي الأسرار، كخَفَاء الشِّعار عن الدِّثار، وقيل: يريد قُربهم منه صلى الله عليه وسلم كقرب الشعار من البدن.

قوله: "إنكم ستلْقَون بعدي أثرةً، فاصْبروا"، قيل:(الأثرة) اسم من الاستئثار.

قال في "شرح السنة": يريد يستأثر عليهم، فيفضل غيرُكم نفسَه عليكم، ويجوز أن يريد: توليةَ غيرِهم الخلافة، وما جرى عليهم من الجفاء المنقول.

* * *

ص: 346

4878 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الفَتْحِ فقالَ: "مَن دَخَلَ دارَ أبي سُفْيانَ فهوَ آمِنٌ، ومَن أَلقَى السِّلاحَ فهوَ آمِنٌ"، فقالَتِ الأَنْصارُ: أمَّا الرَّجُلُ فقد أَخَذَتْهُ رَأْفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، ونزلَ الوحيُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ:"قلتُم: أَمَّا الرَّجلُ أخذَتْهُ رأفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، قال: كلا! إنِّي عَبْدُ الله ورسولُه هاجَرْتُ إلى الله وإليكم، المَحْيَا مَحْيَاكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم"، قالوا: والله ما قُلْنَا إلا ضنًّا بالله ورسولِهِ، قال:"فإنَّ الله ورسولَه يُصَدِّقانِكم ويَعْذِرَانِكم".

قول الأنصار: "أما الرجلُ فقد أخذتْهُ رأفةٌ بعشيرته، ورغبةٌ في قريته"، المراد بـ (الرجل): النبيُّ صلى الله عليه وسلم، و (الرأفة): الرحمة، (العشيرة): القبيلة، (القرية) ها هنا: مكة شرَّفها الله سبحانه.

قوله: "كلا، إنِّي عبدُ الله ورسولُه، هاجرْتُ إلى الله وإليكم، المَحْيا مَحْياكم، والمَمَات مَمَاتكم"، (كلا) ها هنا حرف رَدْع؛ أي: ليس الأمر كما تظنُّون، بل هجرتي كانت إلى الله، وإنَّ الهجرةَ من دار قومي كانت إلى داركم، وإنِّي في حياتي ومَمَاتي لا أفارِقُكم.

ثم قالوا: "والله! ما قُلنا إلا ضَنًّا بالله ورسوله"، (الضَنَّ): البخل، يقال: ضَنَنْتُ بالشيء: أَضنُّ به ضنًّا وضَنَانة: إذا بخلت به، وهو ضَنينٌ به؛ يعني: ما قلنا ذلك إلا ضَنًّا وبخلًا بما شرفنا الله سبحانه بوجودك، وخوفًا على فوات ذلك الشرف والكرامة، وهو انتقالك إلى مكة، وإقامتك بها.

* * *

4880 -

عن أنسٍ قال: مَرَّ أبو بَكْرٍ والعَبَّاسُ رضي الله عنهما بمَجْلِسٍ مِن مجالسِ الأَنْصارِ وهم يَبْكُونَ فقال: ما يُبْكِيكُم؟ قالوا: ذكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَّا،

ص: 347

فَدَخلَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرَهُ بذلكَ، فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد عَصَّبَ على رأسِه حاشِيةَ بُرْدٍ، فَصَعَدَ المِنْبرَ ولم يَصْعَدْ بعدَ ذلكَ اليَوْمِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثم قال:"أوصِيْكُم بالأَنْصارِ، فإنَّهم كَرِشي وعَيْبَتي، وقد قَضَوْا الذي عليهم وبقيَ الذي لهم، فاقبلُوا مِن مُحْسنِهم، وتجاوَزُوا عن مُسِيئِهم".

قوله: "أُوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرْشِي وعَيْبتي"، قال في "شرح السنة": كَرْشي؛ أي: جماعتي وأصحابي الذين أَثِقُ بهم، وأعتمدهم في أموري، والكَرْش: الجماعة، وقد يكون الكَرْش عِيالُ الرجل وأهلُه.

وقيل: كَرْشي؛ أي: بِطانتي، وضَرَبَ المَثَلَ بالكَرْش؛ لأنه مستَقَرُّ غِذاء الحيوان الذي يكون فيه بقاؤه.

قوله: (عيبتي)؛ أي: خاصَّتي وموضعُ سِرِّي، كما أن عَيبة الرجل موضعٌ لحِرْز مَتاعه وثيابه، وفي الحديث:"بيننا عَيبة مَكْفوفة"؛ أي: صدر نقيٌّ من الغِلِّ، والعرب تَكْني عن القَلْب والصَّدْر بالعَيبة، وهذا كما روي في الحديث:"الأنصار شِعار، والناس دِثار"؛ يعني بهم: البطانة والخاصة، فإن الشِّعار: اسم للثوب الذي يَلِي الجسدَ، هذا كلُّه منقول من "شرح السنة".

* * *

4881 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: خَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مَرَضه الذي ماتَ فيهِ حتَّى جَلَسَ على المِنْبَرِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمَّ قال:"أمَّا بَعْدُ، فإِنَّ النَّاسَ يَكثُرون، ويَقِلُّ الأَنْصارُ حتَّى يكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلةِ المِلْحِ في الطَّعامِ، فمَن وَلِيَ منكم شيئًا يَضُرُّ فيهِ قَوْمًا ويَنْفَعُ فيهِ آخرينَ فليَقبلْ مِن مُحْسِنِهم ويتجاوزْ عن مُسيئهم".

قوله: "إنَّ الناس يَكْثُرون، ويَقِلُّ الأنصار"، وإنما قال ذلك؛ لأنهم بَذَلوا

ص: 348

أنفسَهم وأموالَهم في محبَّته وولائه، فصاروا بِطانةً له صلى الله عليه وسلم وخاصَّته، فإذا كان كذلك فمن يُدرك تلك المنزلةَ العظيمة التي كانت لهم؟ فإذا مات واحد منهم مات بلا بَدَل، وَيكْثُر غيرُهم، ويَقِلُّون لذلك.

قيل: معنى قلَّة الأنصار كل يوم: انقراض من يَنْقَرِض منهم؛ أي: من الأنصار الذين كانوا في زمانه، وغيرُهم يَكْثُر، يريد: مَنْ يدخل في الدين فوجًا بعد فوج، فقد علم أن رُقْعة الإسلام سوف تتَّسع فيكْثُرون، والأنصار يقلُّون، فلا بدلَ لهم للأنصار أيضًا، بل أولادهم كغيرهم في دخول الإسلام، فتعيَّن التقليل جدًا.

* * *

4483 -

عن أَبي أُسَيْدٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ دُورِ الأَنْصارِ بنو النَّجَّارِ، ثُمَّ بنو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بنو الحارثِ بن الخَزْرجِ، ثُمَّ بنو ساعِدَةَ، وفي كلِّ دُورِ الأَنْصارِ خيرٌ".

قوله: "خيرُ دُور الأنصار بنو النَّجَّار

" الحديث.

وإنما أراد بالدُّور: البُطون، ولكلِّ بطن محلَّة يسكنُها الناس، فتلك المحلة تسمَّى دارًا.

* * *

4884 -

وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعُمَرَ في حاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ: "إنَّه شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريكَ؟ لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقالَ: اعمَلُوا ما شِئْتُم فقد وَجَبَتْ لكم الجَنَّةُ".

وفي روايةٍ: "قد غَفرْتُ لكم".

ص: 349

قوله لعمرَ في حاطبِ بن أبي بَلْتعة: "إنه شهد بدرًا، وما يُدريك لعلَّ الله قد اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجَبَتْ لكم الجنة".

قوله: "اعملوا ما شئتم" لم يكن ذلك رخصة في ارتكاب المعاصي، بل يكون تنبيهًا على أنهم مغفورون، وقصَّة حاطب مشهورة، وهي: أنَّ عليًا رضي الله عنه قال: بعثني رسولُ الله أنا والزبيرُ والمِقْداد، فقال:"انطلِقوا حتَّى تأتوا رَوضةَ خَاخٍ، فإنَّ بها امرأة معها كتاب، فخذوا منها"، قال: فانطلقنا، حتى أتينا تلك الرَّوضة، فأدركناها، فقلنا لها: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، وحَلَفَت، فلما رأت مِنَّا الجِدَّ البليغَ في طلبه أخرجته من ذُؤَابتها.

فأتينا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: مِنْ حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكةَ، إنَّ رسول الله يَقْصِدُكم، فخذوا حِذْرَكم؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاطب:"ما حَمَلَك على هذا؟ ".

قال: يا رسول الله! ما نافقْتُ منذ أسلمتُ، ولا خُنْتُكَ منذ آمنت، ولكني حَمَلَني على ذلك أنِّي كنت مُلْصَقًا بقريق، وليس بيني وبينهم قرابة، فأردتُ أن أتَّخِذ عندهم يدًا، يحفَظُون قرابتي، وعلمتُ أن الله تعالى يُطْلِعك عليه.

فصدَّقه رسولُ الله؛ لأن الله تعالى خاطبه بالإيمان، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، فقام عمرُ بن الخطاب، فقال: دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شَهِدَ بدرًا

" إلى آخر الحديث.

قوله: "لعلَّ الله قد اطَّلع على أهل بدر"، قال الحافظ أبو موسى: ظنَّ بعضُ الجهال أن قوله: "لعل" من جهة الظن والحُسْبان، وليس كذلك، لِمَا روى أبو هريرة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اطَّلع الله على أهل بدر

" إلى آخره،

ص: 350

وليست في روايته لفظة: "لعلَّ".

* * *

4886 -

عن حَفْصَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَرْجو أنْ لا يَدْخُلَ النَّارَ إنْ شاءَ الله أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبيةَ"، قلتُ: يا رسولَ الله! أليسَ قد قالَ الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]؟ قال: "أَفلم تَسْمعِيهِ يقولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ".

وفي روايةٍ: "لا يَدْخُلُ النَّارَ إنْ شاءَ الله مِن أَصْحابِ الشَّجرةِ أَحَدٌ، الذينَ بايعُوا تحتَها".

قوله: "إنِّي لأرجو أن لا يدخلَ النارَ - إن شاء الله - أحدٌ شَهِدَ بدرًا أو الحديبية"، قالت حفصة:"قلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قال: أفلم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ".

عند أهل السنة الورودُ بمعنى الدخول؛ لأن النجاةَ التي بعده تدُلُّ على أنه بمعنى الدخول؛ يعني: الكلُّ يدخلونها، فينجِّي الله تعالى المتَّقين بفضله، ويتركُ الكافرين فيها بِعَدْله.

* * *

مِنَ الحِسَان:

4889 -

عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، عن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال:"اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِن أصحابي: أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، واهتَدُوا بهَدْيِ عمَّارٍ، وتَمَسَّكُوا بعَهْدِ ابن أمِّ عبدٍ".

وفي روايةٍ: "ما حَدَّثكم ابن مَسْعودٍ فَصَدِّقُوه".

ص: 351

قوله: "تمسَّكُوا بعهدِ ابن أمِّ عبد"، قيل: يريد عَهْدَ عبدِ الله بن مسعود، وهو ما يَعْهَد إليهم ويُوصيهم به، ومِنْ جُملته أمرُ الخلافة، فإنه أولُ من شَهِدَ بصحتها من أَجِلَّة الصحابة، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم قدَّم الصديق في صلاتنا، فكيف لا نرضى لدنيانا مَنِ ارتضاه صلى الله عليه وسلم لديننا.

* * *

4890 -

عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لو كُنْتُ مُؤَمِّرًا عن غَيْرِ مَشورَةٍ لأَمَّرتُ عليهم ابن أمِّ عَبْدٍ".

قوله: "لو كنتُ مؤمِّرًا عن غير مَشُورة لأمَّرت عليهم ابن أمِّ عبد"، (التأمير): جعل الرجل أميرًا على قوم.

اعلم أن هذا الحديث مؤوَّل، وتأويله: أنه أراد صلى الله عليه وسلم به تأميرَه على جيش مُعيَّن، أو استخلافه حالَ حياته في أمرٍ خاص، فلا يجوز أن يُحمل على غير ما ذُكر؛ لأنه ليس من قريش، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الأئمةُ مِنْ قُريش".

* * *

4893 -

عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الجَنَّةَ تَشْتَاقُ إلى ثلاثَةٍ: عَلِيٍّ، وعَمَّارٍ، وسَلْمانَ".

قوله: "إن الجنَّةَ لتشتاقُ إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان"، وإنما تشتاق لهؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قد شَغَلَهم عنها قربُ الحقِّ سبحانه والمشاهدةُ والكشفُ والمراقبةُ والتجلِّياتُ الإلهية، فلذلك تشتاق إلى دخولهم إيَّاها.

* * *

4897 -

عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:

ص: 352

"ما أَظَلَّتْ الخَضْراءُ ولا أَقَلَّتْ الغَبْراءُ أَصْدَقَ مِن أبي ذَرٍّ".

قوله: "ما أظلَّت الخَضْراء ولا أَقَلَّتِ الغَبْراء أصدقَ مِنْ أبي ذر"، يريد بـ (الخضراء): السماء، وبـ (الغبراء): الأرض.

قيل: ما ذَكَر هذا صلى الله عليه وسلم إلا على سبيل المبالغة والتأكيد، لا على أنه أصدقُ على الإطلاق؛ لأنه لا يجوز أن يقال: أبو ذر أصدقُ من أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه صدِّيق الأمة وخيرُهم، وهو ممَّن أظلَّته الخضراءُ وأقلَّتْه الغَبْراء، فإذا ثبت هذا فقد عرفتَ أن الحديثَ عامٌّ يريد به الخاصَّ.

* * *

4902 -

وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأَى في بَيْتِ الزُّبَيْرِ مِصْباحًا، فقال:"يا عائِشَةُ! ما أُرَى أَسْماءَ إلا قد نُفِسَت، فلا تُسَمُّوه حتى أُسمِّيَهُ"، فسمَّاهُ: عبدَ الله، وحَنَّكَهُ بتَمْرَةٍ بيدِهِ.

قوله: "ما أَرى أسماءَ إلا قد نُفِسَت، فلا تُسَمُّوه حتى أسمِّيَه، وحنكه بتمرة بيده"، أسماء كانت أخت عائشة رضي الله عنها، يقال: نُفست المرأة - على صيغة المجهول - أي: ولدت.

وفيه دليل على أنَّ شريفَ قومٍ إذا وُلد لواحد من القوم وَلدٌ يَطْلُبُ منه أن يسمِّيَ ذلك الولد، ويحنِّكه بتمر أو غيره من الأشياء الحُلْوة تبرُّكًا وتيمُّنًا، كما سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولدَ أسماء: عبدَ الله، وحَنَّكه.

* * *

4904 -

وعن عُقْبَةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وآمَنَ عَمْرُو بن العاصِ"، غريب.

ص: 353

قوله: "أسلمَ الناسُ وآمنَ عمرو بن العاص"، وإنما خصَّصه بالإيمان؛ لأنه وقع إسلامُه في قلبه في الحَبَشة، حين اعترف النجاشيُّ بنبوته والأساقفةُ معه، فعَلِمَ صدقَ نبوَّته، فأقبلَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤمنًا مِنْ غير أن يدعوَه أحدٌ إليه، فجاء من الحبشة إلى المدينة ساعيًا، فدخل وآمن، وأمَّره في الحال على جماعةٍ فيهم الصِّدِّيق والفاروق رضي الله عنهما.

قيل: لأنه كان مُبالغًا قبل إسلامه في عَدَاوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقصد إهلاك أصحابه (1)، فلما آمن أراد أن يُزيل عن قلبه تلك الوحشةَ المتقدمة، حتى يَأْمَنَ من جهته، ولا ييأس من رحمةِ الله سبحانه.

* * *

4905 -

قالَ جابرٌ رضي الله عنه: لقِيَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "يا جابرُ! مالي أَراكَ مُنْكَسِرًا؟ " قلتُ: استُشْهِدَ أبي وتركَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قال:"أَفَلَا أُبشِّرُكَ بما لقيَ الله بهِ أباكَ؟ " قال: قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "ما كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلا مِن وَراءِ حِجَابٍ، وأَحْيَا أباكَ فكلَّمَه كِفَاحًا، فقالَ: يا عبدي! تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قالَ: يا رَبِّ! تُحْييني، فأُقتَلَ فيكَ ثانيةً، قالَ الرَّبُّ تعالى: إِنَّه قد سَبَقَ منِّي: أَنَّهم لا يُرْجَعونَ"، فنزلَتْ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية.

قوله: "ما كلَّمَ الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وأَحْيا أباك، فكلَّمه كِفاحًا".

قال في "الصحاح": كَفَحْته كَفْحًا: إذا استقبلته كَفَّة كَفَّة، وفي الحديث

(1) في "ق": "وقصد إهلاكه".

ص: 354

"إني كَفَحْتُها (1) وأنا صائم"؛ أي: واجهها بالقبلة، وكافَحُوهم: إذا استقبلوهم بوجوههم ليس دونها تُرْس، ومنه المُكافحة والكِفاح، يقال: لقيتُه كِفاحًا.

يعني: كلَّم الله سبحانه أباك من غير حجاب دونَه؛ أي: بلا واسطة.

إن قيل: قد بيَّن الله سبحانه أنَّ الشهداء أحياء، قال الله تعالى:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]، وإحياء الحي كيف يكون؟

قيل: جعل الله سبحانه تلك الروحَ في جوف طَيرٍ خُضرٍ، فأحيا ذلك الطيرَ بتلك الروح الشَّهيدية، فصحَّ الإحياء حينئذ، أو: أراد أنَّ روحه كان حيًا، لكن لم يكن لتلك الروح من الرتبة ما يشاهد الحق كِفاحًا، فكساها قوةً أعطتها زيادةَ حياة، حتى صَحَّت المكافحة، أو أراد بالإحياء: إبقاء ذِكْرِه في الدنيا، كما هو حيٌّ في الآخرة.

* * *

4907 -

عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لا يُؤْبَهُ لهُ، لو أَقْسَمَ عَلى الله لأَبَرَّه، مِنْهم البَرَاءُ بن مالكٍ" رضي الله عنه.

قوله: "كم مِن أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرين، لا يُؤْبَه له، لو أقسمَ على الله لأبره"، و (كم): خبرية مبتدأ. و (مِنْ) في (مِنْ أشعث) مبين لها، و (لا يؤبه) فعل له مفعول أقيم مقام الفاعل، يعود إلى (أشعث)، خبره.

و (الأشعث): الذي تغيَّر شعرُ رأسه واغبرَّ، (الطمر) الثوب الخَلَق، (لا يؤبه)؛ أي: لا يلتفت إليه، ولا يُبالى به، يقال: فلان بَرٌّ في يمينه؛ أي: صِدْق فيها، وأبَرَّه: إذا صدَّقه.

* * *

(1) في "الصحاح": "لأكفحها".

ص: 355