المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - باب علامات النبوة - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ٦

[مظهر الدين الزيداني]

فهرس الكتاب

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِها

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سَيدِ المُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌1 - باب في مَنَاقِبِ قُرَيْشِ وَذِكْرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ الصَّديق رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَنَاقِبِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْر وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ بن عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثةِ رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ بن أَبي طَالِبِ رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسٍ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثَوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌5 - باب علامات النبوة

قوله: "كسرت رباعيته يوم أحد" الحديث.

قال في "الصحاح": (الرَّباعية) مثل الثمانية: السنُّ التي بين الثَّنية والناب، والجمع: رَبَاعِيَات.

"أحد": جبلٌ بالمدينة. "والشج": كسر الرأس. و"جعل": معناه: طفق.

"سلت الدم": إذا مسحه، وأزاله عنه. "أفلح": إذا ظفر وفاز به.

* * *

‌5 - باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ

(باب علامات النبوة)

مِنَ الصِّحَاحِ:

4566 -

قَالَ أَنَسٍ رضي الله عنه: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَتاهُ جِبريلُ وهوَ يَلعبُ معَ الغِلْمانِ، فأخذَهُ فصَرَعَهُ، فشَقَّ عنْ قلبهِ، فاستخْرَجَ منهُ عَلَقةً فقال:"هَذَا حَظُّ الشَّيطانِ مِنْكَ"، ثُمَّ غَسَلهُ في طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأَمَهُ وأَعادَهُ في مَكانِهِ، وجَاءَ الغِلْمانُ يَسْعَوْنَ إلى أُمِّهِ - يعني: ظِئْرَهُ - فقالوا: إنَّ مُحَمَّدًا قد قُتِلَ، فاستقبَلُوه وهوَ مُنْتَقِعُ اللَّونِ، قالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فكنْتُ أرَى أثرَ ذلك المِخْيَطِ في صَدرِه.

"فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة" الحديث.

"صرع": إذا ألقى. و"استخرج"؛ أي: أخرج. و"العلقة": واحدة العلق، وهي دم غليظ.

يقال: (لأَمْتُ) الجرحَ والصَّدْع: إذا شددته فالتأم، فقوله:(لأمه) معناه: أصلحه.

ص: 172

و"انتقع اللون وامتقع": إذا تغير من حزن أو فزع.

و"المِخْيَط والخِيَاط": الإبرة.

واعلم أن شقَّ صدره صلى الله عليه وسلم صُوري، وسببه: أنه أراد الله سبحانه وتعالى أن يقدس قلبه وينوِّره بأنوار ألطاف جلاله، تحصيلًا لكمال الاستعداد حال الطفولة، وتهييئًا لقبول الوحي القديم السماوي، فتصير نفسه قدسية ملكوتية؛ لكونها منقادة للقلب، فكانت قابلة للأنوار الإلهية التي جعلت في القلب، فأرسل إليه جبريل صلوات الله عليهما، حتى شق صدره، فأخرج منه علقة، وهي التي تكون أمَّ المفاسد والمعاصي في الإنسان.

فلهذا قال بعدما أخرجه: "هذا حظ الشيطان"، ثم غسل قلبه بماء زمزم، فينبغي أن لا يستبعد عن الشق الصوري، فإن شأنه أعلى وأجلُّ أن تقيس نفسَه صلى الله عليه وسلم على نفسك، فإنه لا غير ذلك في حقه، كما قال في صفة نفسه:"إلا أن الله أعانني عليه فأسلم"، مع أن النفس مجبولة على الكفر والضلال، وكذلك معراجه الذي هو جسماني خارجٌ عن قياسك وعقلك.

فإذا عرفت هذا؛ فاعرف أن هذا الحديث وأمثاله ينبغي أن تؤمن بظاهرها، ولا تتعرض لها بتأويل متكلف، بل تُحيل إلى قدرة الله القادر الحكيم، فإنه تعالى على كل شيء قدير.

* * *

4567 -

وعن جَابرِ بن سَمُرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأَعرِفُ حَجَرًا بمكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عليَّ قبلَ أنْ أُبعَثَ، إنَّي لأَعرِفُهُ الآن".

قوله: "إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني

ص: 173

لأعرفه الآن" قيل: سلام الحجر على الرسول يفسَّر على وجهين:

أحدهما: أن الله تعالى يخلق فيه نطقًا معجزةً للرسول، فيكون كلام الجماد من جملة معجزاته، كما أن إحياء الميت من جملة معجزات عيسى عليه السلام، وهذا أقوى من إحياء الميت؛ لأن الله تعالى جعل جمادًا ناطقًا لم يكن له النطق أصلًا، بخلاف الميت، فإن له الحياة من قبل.

الثاني: أنه يشاهد من الحجر أنه لو كان ناطقًا لشهد بنبوته، وفيه تحريض على أن شهادة الإنسان أولى.

ووجه السلام عليه: أن يجعله مستأنسًا بنزول الوحي، فإذا نزل لا ينفر منه.

وعند علماء التصوف: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحرف (1) له عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فكان يسمع صوت الحجر حينما يسلم عليه بسمعه الظاهرة؛ لأنها صارت قدسية ملكوتية لذلك الانحراف (2)، بل جميع جوارحه الشريفة كانت بهذه المثابة؛ لأنه كان يرى الآثار العلوية بعينه الظاهرة، كالمعراج وغير ذلك.

* * *

4568 -

وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: إنَّ أهْلَ مكَّةَ سَألُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُريَهُمْ آيةً، فأرَاهُمْ القَمرَ شِقَّتَيْنِ، حتَّى رأَوْا حِراءَ بينهُما.

قوله: "فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما"، (الشق): الجانب؛ يعني: أَرَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش حين سألوه أن يريهم ما يدل على نبوته من

(1) في "ق": "ينخرق".

(2)

في "ق": "الانخراق".

ص: 174

خرق العادة انشقاقَ القمر شقين بإشارته إليه، بحيث أنه كان جبل حراء مرئيًا بين الشقين.

قال تاج القراء في "تفسير اللباب": سأل أهلُ مكة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين، وعلى هذا جلُّ المفسرين، ورواه مسلم والبخاري في "صحيحيهما".

قال في "شرح السنة": قال جماعة من المنكرين على هذا الحديث: هذا أمر عجيب، ولو كان له حقيقةٌ لم يَخْفَ ذلك على العوام، ولتناقلته القرون، ولخلِّد ذكره في الكتب، وذكره أهل العناية بالسير والتواريخ.

قيل لهم: هذا شيءٌ طلبه قومٌ خاضٌّ على ما حكاه أنس، فأراهم ذلك ليلًا وأكثر الناس نيام ومستكنُّون بالأبنية، والأيقاظ في الصحارى والبوادي قد يتفق أن يكونوا مشاغيل في ذلك الوقت، وقد يكسف القمر فلا يشعر به كثير من الناس.

وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، ولو دامت هذه الآية حتى يشترك فيها العامة والخاصة ثم لم يؤمنوا لاستؤصلوا بالهلاك، فإنَّ من سننه عز وجل في الأمم قبلنا: أن نبيهم كان إذا أتى بآية عامة يدركها الحس، فلم يؤمنوا، أهلكوا، كما قال تعالى في المائدة:{إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] نزل في هذا المعنى، فلم يظهر الله تعالى هذه الآية للعامة لهذه الحكمة، والله أعلم.

هذا كله منقولٌ من "شرح السنة".

والعجب من المنكر أن يخالف النص الصريح، وهو قوله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2]، قال

ص: 175

في "تفسير اللباب" في سبب النزول: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.

* * *

4569 -

وقَالَ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: انشقَّ القَمرُ على عهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِرقتَيْنِ: فِرْقَةً فوقَ الجبَلِ، وفِرْقَةً دُونَهُ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "اشْهَدُوا".

قوله: "فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه" قيل: الفرق والفرقة: الفلق من الشيء إذا انفلق، والفلق؛ أي: القطعة والشق.

ووجه علوِّ فرقة وتسفُّل أخرى: التنبيه الشديد على حصول الانشقاق، إذ لو تساوتا لتُوهِّم أن شعاع القمر اتسع كما يتسع في ليلة البدر، فلما تباينتا علوًا وسفلًا ظهر الانشقاق الصريح.

* * *

4570 -

عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ أبو جَهْلٍ: هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وجْهَهُ بَيْنَ أظهُرِكُمْ؟ فقيلَ: نعمْ، فقالَ: واللَاّتِ والعُزَّى، لَئِنْ رأيتُهُ يفعلُ ذلكَ لأَطأنَّ على رَقَبَتِهِ، فأتَى رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ يُصلِّي، زَعَمَ لِيَطأَ على رَقبَتهِ، فما فَجِئَهُم منهُ إلَّا وهوَ يَنْكِصُ على عَقِبَيْهِ ويَتَّقي بيدَيْهِ، فقيلَ لهُ: مالكَ؟ فقَالَ: إنَّ بينِي وبينَهُ لخَندقًا منْ نارٍ وهَوْلاً وأجنِحةً، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا".

قوله: "هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم" الحديث.

"التعفير": التمريغ، و (يعفِّر): معناه ها هنا: يسجد. "بين أظهركم"؛ أي: بينكم.

ص: 176

قيل: "اللات": اسم صنم بالطائف، وقيل: كان رجلًا يلتُّ السَّوِيق للحاج، فلما مات عبدوه.

قال في "الصحاح": ويقال: "العزى": سَمُرةٌ كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتًا وأقاموا لها سَدَنةً، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة، وهو يقول:

يا عُزَّ كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

السَّمُرة: شجرٌ في البادية، السَّدَنة: جمع سادن، وهو الخادم لبيت الأصنام.

"لأطأن على رقبته"؛ أي: لأضعن رجلي على رقبته.

"فجأ الأمرُ وفاجأ": إذا أتى بغتةً.

"نكص على عقبيه": إذا رجع، (العقِب) بكسر القاف: مؤخَّر القدم، وهي مؤنثة.

"أتَّقي" أصله: أَوْتقي، قلبت الواو تاء، وأُدغمت التاء في التاء، معناه: أحذر وأحترز.

"ما لك"؛ أي: أيُّ شيء لك؟.

"الخندق": الشق حول البلد.

"الهول": الخوف.

"الأجنحة": جمع جناح، وهو يد الطائر، والمراد بالأجنحة ها هنا: الملائكة الذين يحفظونه صلى الله عليه وسلم.

"اختطف وخطف": إذا استلب وأخذ.

يعني: سأل أبو جهل أصحابه عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يضع جبهته للسجود؟

ص: 177

فقيل: نعم، فأقسم بالأصنام على أنه لو أبصره يسجد لوضع رجله على رقبته، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وقصد أن يفعل ذلك، فلما قرب منه رأى النار العظيمة حوله والأهوال كما ذكر في الحديث الصريح، رجع إلى قومه خائفًا مضطربًا على عقبيه.

* * *

4571 -

وقَالَ عَدِيُّ بن حَاتِمٍ رضي الله عنه: بَيْنا أنا عندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ أتاهُ رَجُلٌ فشَكا إليهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أتاهُ آخرُ فشَكا إليهِ قَطْعَ السَّبيلِ، فَقَالَ:"يا عَدِيُّ! هلْ رأيتَ الحِيرَةَ؟ "، قَالَ: نَعَم، قَالَ:"فإنْ طَالَتْ بِكَ حَياةٌ فلَتَرَيَنَّ الظَّعينَةَ تَرْتحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوفَ بالكَعْبةِ لا تَخَافُ أَحَدًا إلَّا الله، ولَئنْ طَالَتْ بكَ حَياةٌ لتُفْتَحنَّ كُنوزُ كِسْرَى، ولَئنْ طَالَتْ بِكَ حياةٌ لتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ منْ ذهَبٍ أو فِضّةٍ، يَطلُبُ مَنْ يَقبَلُهُ منهُ فلا يَجِدُ أحدًا يَقبَلُهُ منهُ، ولَيلقَيَنَّ الله أحدُكُمْ يومَ يَلقاهْ وليسَ بينَهُ وبينَهُ تَرْجُمانٌ يُترجِمُ لهُ، فلَيقولَنَّ: أَلَمْ أبعَثْ إِليْكَ رَسُولًا فيُبلِّغَكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيقولُ: ألَمْ أُعطِكَ مالًا وأُفْضلْ عليكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيَنظُرُ عنْ يَمينِهِ فلا يرَى إلَّا جهنَّمَ، وينظُرُ عنْ يَسارِهِ فلا يرَى إلَّا جهنَّمَ، فاتَّقُوا النَّارَ ولوْ بشِقِّ تَمْرةٍ، فمَنْ لمْ يَجدْ فبكلمةٍ طيبةٍ". قالَ عَدِيٌّ: فرأيتُ الظَّعينَة تَرْتحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوف بالكعبةِ لا تخافُ إلَّا الله، وكنتُ فيمَنْ افتتحَ كُنوزَ كِسْرَى بن هُرْمُزَ، ولَئنْ طالَتْ بكُم حَياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قالَ النَّبيُّ أبو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ.

قوله: "فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة" الحديث.

"الظعينة": المرأة ما دامت في الهودج، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة، والمراد ها هنا: المرأة، سواءٌ كانت في الهودج أم لا.

ص: 178

"ترتحل"؛ أي: تذهب وتمشي. "الحِيرة" بكسر الحاء: مدينة بقرب الكوفة.

"الكنوز": جمع، وهو جمع كنز، وهو المال المدفون، وقد كنَزْتُه أَكْنِزُه.

و"كسرى": لقب ملوك الفرس - بفتح الكاف وكسرها -، وهو معرَّبُ خسرو. "ترجم" كلامه: إذا فسره بلسان آخر، ومنه: التَّرْجُمان، على وزن الزَّعْفَران، ويجوز بضم التاء وفتح الجيم (1) وبضَمهما.

قال عدي: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل شاكيًا الفقر، وآخر شاكيًا قطع الطريق، فقال لي: يا عدي! إن طال عمرك ترى أمن الطريق، بحيث تذهب المرأة من الحيرة إلى مكة قاصدةً إلى البيت، آمنةً غير خائفة سوى الله تعالى، وترى الغنى والسعة بين الناس، بحيث لا يوجد فقير يقبل شيئًا من الأغنياء، ولتفتحن كنوز كسرى.

ثم قال عدي: ظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت المرأة من الحيرة إلى مكة، كما ذكر صلى الله عليه وسلم، وكنت مع من فتح كنوز كسرى بن هرمز، وقال: وقد بقي الثالث وهو السعة والغنى بين الناس، فمن طال به العمر منكم وجد ذلك.

قوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" تحريض على التصدُّق بالأموال على المساكين، والاجتناب عما لا يحل له أخذه.

* * *

4572 -

وقَالَ أبو هُريْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَهلِكُ كِسْرَى ثُمَّ لا كسْرَى بَعْدَهُ، وقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ ثمَّ لا يكونُ قَيْصَرُ بعدَهُ، ولَتُنْفِقُنَّ كُنوزَهُما في سَبيلِ الله".

(1) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بفتح التاء وضم الجيم.

ص: 179

قوله: "يهلك كسرى، ثم لا كسرى بعده وقيصر" الحديث.

"قيصر": لقب ملوك الروم؛ يعني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يهلك كسرى هذا، ثم لا كسرى بعده إلى يوم القيامة؛ يعني: ينقطع ملكه ونسله، وقيصر: ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده، ولتنفقن كنوزهم في سبيل الله.

قال في "شرح السنة": روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، فمزق كتابه، فقال صلى الله عليه وسلم:"تمزق ملكه". وكتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، فأكرم كتابه، ووضعه في مسك، فقال صلى الله عليه وسلم:"ثبت ملكه".

والجمع بين الحديثين: أن كسرى: تمزَّق ملكه، فلم يبق له، وأُنفقت كنوزه في سبيل الله، وأَورث الله المسلمين أرضه، وقيصر: ثبت ملكه بالروم، وانقطع عن الشام، واستفتحت خزائنه التي كانت بها، وأنفقت في سبيل الله، فمعنى قوله:"لا قيصر بعده"؛ يعني: بالشام.

* * *

4573 -

وقَالَ: "ليَفتَتِحَنَّ عِصَابةٌ مِنَ المُسلِميْنَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى الذِي في الأَبْيَضِ".

قوله "ليفتتحن عصابة من المسلمين كنز آل كسرى الذي في الأبيض"، (افتتح وفتح) بمعنى، (العصابة): الجماعة.

قيل: (الأبيض): عبارةٌ عن القصر الذي بالمدائن، ويقال له بالفارسي: سفيدكوشك.

قال الإمام التوربشتي: سمعت بعض أصحاب الحديث بهمدان يقول: القصر الأبيض الذي في الحديث هو حصن دارا، الذي هو ابن بهمن، أو دارا بن داراء، ويقال له: شهرستان.

ص: 180

ولم أجد لقوله سندًا من الرواية المعتد بها.

واللام في "ليفتتحن": جواب قسم مقدر.

* * *

4574 -

وعَنْ خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الكَعْبةِ، وقدْ لَقِينا مِنَ المُشرِكِينَ شِدَّةً، فقُلنا: ألا تَدعو الله؟ فقعَدَ وهوَ مُحْمَرٌّ وجهُهُ، قَالَ:"كانَ الرَّجُلُ فيمَنْ كانَ قبلَكُمْ يُحفَرُ لهُ في الأرضِ فيُجعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ فَوْقَ رَأسهِ فيُشَقُّ باثنَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دينِهِ، ويُمشَطُ بأمشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمهِ مِنْ عَظْمٍ وعَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينِهِ، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأَمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ منْ صَنعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يخافُ إلَّا الله أو الذِّئبَ على غَنَمِهِ، ولكنَّكُمْ تَسْتَعجِلُونَ".

قوله: "فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه" الحديث.

"المنشار والمئشار" بالهمز: كلاهما الذي يشق بها الخشبة.

"الصد": جَعْلُ أحدٍ معرضًا عن شيء؛ يعني: ما كان العذاب الشديد يصرفه عن دينه.

"الأمشاط": جمع مشط، وهو ما يمتشط به.

"الأمر" ها هنا: بمعنى الدين.

"صنعاء": بلد باليمن. "حضرموت": بلدة، وقيل: اسم قبيلة، وقيل: حضرموت موضع حضرة صالح عليه السلام، فمات فيه، فسمي بهذا الاسم.

يعني: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهور الدين على الأديان الباطلة، وظهوره عن فتن الكفرة المتمردين، بحيث لو سار راكب من المسلمين من صنعاء إلى حضرموت لكان آمنًا غيرُ خائفٍ سوى الله تعالى، أو الذئبِ على غنمه، ولو كان بينهما

ص: 181

مسافة بعيدة؛ يعني: سيزول أذى المشركين عن المسلمين؛ لنكبتهم وقوة المسلمين، وفيه تحريضٌ على الصبر على الأذى، والتحمُّل على المشاق، وعدم الاستعجال في الأمور.

أشار بقوله: "أو الذئب على غنمه" إلى خلوِّ الطريق والأماكن عن الأعداء، فإن الصحارى إذا خلت ربما يظهر فيها الذئب.

* * *

4575 -

وقَالَ أَنسٌ رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدخُلُ على أُمَ حَرامٍ بنتِ مِلْحانَ، وكَانتْ تحتَ عُبادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه، فدَخَلَ عليها يَومًا فأطعَمَتْهُ، ثُمَّ جلسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ استيقَظَ وهُوَ يَضحَكُ، قالتْ: فقلتُ: وما يُضحِكُكَ يا رَسُولَ الله؟ قال: "نَاسٌ منْ أُمَّتِي عُرِضوا عَليَّ غُزاةً في سَبيلِ الله، يَركَبونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ، مُلوكًا على الأسِرَّةِ" - أوْ: "مِثْلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ" -، فقلتُ: يا رَسُولَ الله! ادع الله أنْ يَجعَلَنِي منهُمْ، فدَعا لَهَا، ثُمَّ وضَعَ رأسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهوَ يَضحكُ، فقُلتُ: يا رَسُولَ الله! ما يُضحِكُكَ؟ قال: "نَاسٌ منْ أُمّتي عُرِضُوا عَليَّ غُزاةً في سَبيلِ الله" - كمَا قَالَ في الأُولى -، فقُلتُ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَجعَلَنِي منهُمْ، قَالَ:"أنتِ مِنَ الأوَّلينَ"، فركِبَتْ أُمِّ حَرامٍ البَحرَ في زَمَنِ مُعَاويَةَ، فصُرِعتْ عَنْ دابَّتِها حِيْنَ خَرجَتْ مِنَ البَحرِ فهَلَكَتْ.

قوله: "يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرة" الحديث.

قال في "الصحاح": ثَبَجُ كلِّ شيء: وسطه، وثَبَجُ الرمل: معظمه.

"الأسرة": جمع سرير، وهو ها هنا بمعنى: سفينة.

و"ملوكًا": نصب على الحال من الضمير في "يركبون"، والعامل فيه (يركب)،

ص: 182

و"مثل" صفةُ مصدرٍ محذوف، تقديره: يركبون ركوبًا مثلَ ركوب الملوك.

ووجه دخوله صلى الله عليه وسلم عليها وهي من الأجانب: أنه كان جميع نساء أمته صلى الله عليه وسلم كالمحارم له، من حيث إنه طينةُ وجوده طاهرةٌ مقدَّسةٌ عن الخيانة في النظر وغيرِ ذلك مما يصدر عن بني آدم، فإن مثل هذا يتولد من النفس، ونفسُ غيره صلى الله عليه وسلم ولو كانت منقادة لصاحبها - غير مأمونة فطرةً؛ لأن الشهوة مركَّبة مجبولة فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة"؛ يعني: ركَّب فيه الشهوة، فنفسُه صلى الله عليه وسلم مأمونةٌ لا يصدر منها إلا الطيب؛ لكونها قدسية ملكوتية، فكانت على طبيعة قلوب الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" فلكمال (1) ذاته وطهارة نفسه أن يصح منه صلى الله عليه وسلم ما لا يصح من غيره، كما لو ادعى ولا بينةَ له؛ لكان القول قوله بلا يمينٍ، ولو ادعى على أحد وحكم لنفسه، ثبت له ذلك المدَّعى، ولو تَزوَّجَ لصح نكاحه من غير ولي وشهود، وكيف لا وهو أزكى وأفضلُ مَن في السماء والأرض؟.

* * *

4576 -

وقَالَ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّ ضمادًا قَدِمَ مَكَّةَ، وكَانَ منْ أَزْدِ شَنُوْءَةَ، وكَانَ يَرْقي مِنْ هذِه الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهاءَ أهْلِ مَكَّةَ يقُولُونَ: إنَّ مُحمَّدًا مَجنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أنَّي رَأَيْتُ هَذا الرَّجُلَ لَعَلَّ الله يَشْفِيهِ على يَدَيَّ، قالَ: فلِقَيَهُ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّي أَرْقِي منْ هذا الرِّيحِ، فهلْ لكَ؟ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ونَستَعينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ الله فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا الله، وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ ورَسُولُهُ،

(1) في "ق": "فكمال".

ص: 183

أمَّا بَعْدُ"، فَقَالَ: أعِدْ عليَّ كَلِماتِكَ هؤلاءِ، فأعَادَهُنَّ عليهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ مرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ وقَوْلَ السَّحَرَةِ وقَوْلَ الشُّعَراءِ، فما سَمِعتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، ولَقدْ بَلَغْنَ ناَعُوْسَ البَحرِ، هَاتِ يَدَكَ أُبايعْكَ عَلَى الإِسلامِ، قَالَ: فبايَعَهُ.

قوله: "إن ضمادًا قدم مكة وكان من أزد شنوءة" الحديث.

قيل: كان ضماد صديقًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، قال الإمام التوربشتي: ومن أصحاب الحديث مَن يقول: (صماد) أو (صمام بن ثعلبة)؛ أي: بالصاد المهملة، وليس بشيء، فإن الذي اختلف اسمه، فقيل: صمادًا، وصمام بن ثعلبة، هو السعدي الوافد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الأزدي؛ فإنه ضماد بالضاد المعجمة لا محالة.

"قدم" فلان من سفره قدومًا: إذا رجع.

و"أزد شنوءة": قبيلة من اليمن.

"رَقَى يَرْقِي": إذا عالج الداء بشيء، يقرأ ثم ينفث فيه.

قال الحافظ أبو موسى: "الريح" كناية عن الجن ها هنا، سمَّوها أرواحًا لأنهم لا يرون، كما أن الأرواح لا ترى.

قيل: أشار بقوله: "هذه" إلى جنس العلة التي كانوا يعتقدون أنها تتولد من مسِّ الجن الذي هو نفخةٌ من نفخاتهم، فيسمونها الريح.

فلما أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضمادٌ قال له: هل لك رغبة أن أرقيك من الداء الذي بك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه

" إلى آخره، فأعجبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعِدْ مرة أخرى، فأعادها ثلاث مرات، فقال: ما أحسن وأفصح هؤلاء الكلمات، لقد سمعتُ مقالة الكهنة والسحرة والشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات قط، ولو كنتَ منهم لكان

ص: 184

كلامك مشابهًا لكلامهم.

ثم قال: "لقد بلغنا ناعوس البحر

" إلى آخره، قيل:(الناعوس) في البحر: ما سكن فيه الأمواج، وهو الوسط، والقاموس: قعره.

قيل: معناه: انتهى إلى سويداء قلبي معنى كلماتك هذه، قيل: معناه: بلغْنا في سماع كلامك هذا لجةَ بحرٍ لا يتناهى قعرُه في الفصاحة وكثرة المعاني.

قال الحافظ أبو موسى: وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم": "ناعوس البحر"، وفي سائر الروايات:"قاموس البحر"، وهو: وسطه ولجته، ولعله لم يجوِّد كِتْبتَه فصحَّفه بعضهم، وليست هذه اللفظة أصلًا في "مسند إسحاق" الذي روى عنه مسلم هذا الحديث، غير أنه قرنه بأبي موسى وروايته، فلعلها في روايته زيادة.

قال الإمام التوربشتي في "شرحه": (ناعوس البحر) خطأ لا سبيل إلى تقويمه من طريق المعنى والرواية، وقد أخطأ فيه الراوي، وروي ملحونًا؛ لأن هذه اللفظة مما لم يسمع في كلام العرب، والصواب فيه:(قاموس البحر).

قوله: "هات يدك أبايعك" قال في "الصحاح": هاتِ يا رجل - بكسر التاء - أي: أعطني، والاثنين: هاتِيَا، مثل: آتِيَا، والجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي، وللنساء: هاتين، بمثل عاطِينَ، قال الخليل: أصل هات: من آتى يؤتي، فقلبت الألف هاء.

و (أبايعك) مجزوم؛ لأنه جوابُ لـ (هات)، وفي (هات) معنى الشرط، تقديره: إن تعطني يدك أبايعْك.

قيل: (هات) الصحيح أنه اسم فعل، فالقياس فيه إفرادُه على كلِّ حال، ولهذا ما جاء: هاتيا، ولا هاتي للمرأة، بل جاء: هاتوا، تنبيهًا على أن اسم الفعل يتحمل الضمير.

* * *

ص: 185