الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا مُحَمَّدُ! هذا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فسَلِّمْ عليهِ، فالتَفَتُّ إليهِ، فبَدَأَنِي بالسَّلامِ".
قوله: "لقد رأيتني في الحِجْرِ، وقريشٌ تسألني عن مَسْرَاي"، اللام في (لقد) جواب قسم مقدر؛ أي: والله لقد.
و (الحِجْرُ): عبارةٌ عما أحاطَ به الحَطيم، وهو واقع من الشمال، والمِيْزَاب إليه.
و (المَسْرَى): مصدر ميمي من سَرَى يَسْرِي: إذا ذهبَ في الليل.
* * *
فصل في المُعْجِزَاتِ
(فصل في المُعْجِزَاتِ)
(المُعْجِزَات): جمع مُعْجِزَة، وهي اسم فاعلة من (أَعْجَزَ): إذا فَاتَ عنه الطَّلب، وجعلَهُ عاجزًا عن الإتيان به.
مِنَ الصِّحَاحِ:
4582 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ: نَظرتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ على رُؤوسِنَا ونَحْنُ في الغَارِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله! لوْ أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى قَدمِهِ أبْصَرَنا، فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ! ما ظنُّكَ باثْنَينِ الله ثالِثُهُمَا؟ ".
قوله: "ونحنُ في الغار"، (الغارُ والمَغَار): الكهفُ في الجبل.
قوله: "ما ظَنُّكَ باثنين الله ثالثُهُما"؛ يعني بـ (الاثنين): نفسه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه.
واتحاد الضمير في (الاثنين)، وفي (هما) في (ثالثهما): دليل على كرامة أبي بكر رضي الله عنه وفضيلته.
* * *
4583 -
وقَالَ البَراءُ بن عَازِبٍ لأِبي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُما حِينَ سَرَيْتَ معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: أسْرَيْنا لَيْلَتَنا ومِنْ الغَدِ حتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهيرَةِ وخَلا الطَّريقُ لا يَمُرُّ فيهِ أَحَدٌ، فرُفِعَتْ لنا صَخْرةٌ طَويْلةٌ لَهَا ظِلٌّ لمْ تأتِ عليهِ الشَّمسُ، فنزَلْنا عِندَهُ، وسَوَّيتُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بيدِي يَنَامُ عليهِ، وبَسَطْتُ عليهِ فَرْوَةً، وقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وأَنَا أنفُضُ ما حَوْلَكَ، فنامَ، وخَرَجْتُ أنفُضُ ما حَوْلَهُ، فإِذَا أَنَا براعٍ مُقبلٍ، قُلْتُ: أفي غَنَمِكَ لَبن؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أفتحلِبُ لي؟ قَالَ: نَعَمْ، فأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ في قَعْبٍ كُثْبةً مِنْ لَبن، ومَعِي إِدَاوةٌ، حَمَلتُها للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْتَوِي فِيْهَا، يَشْرَبُ ويَتَوضَّأُ، فأتيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فوافَقْتُهُ حتَّى اسْتَيْقَظَ، فصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ على اللَّبن حتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فقُلْتُ: اشرَبْ يَا رَسُولَ الله! فشَرِبَ حتَّى رَضيْتُ، ثُمَّ قَالَ:"ألَمْ يَأْنِ للرَّحِيلِ؟ "، قُلتُ: بَلَى، قال: فارْتحَلْنا بَعْدَ مَا مالَتِ الشَّمْسُ، واتَّبَعَنا سُراقَةُ بن مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينا يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: "لا تَحزَنْ، إنَّ الله مَعنا"، فدَعَا عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فارتَطَمَتْ بهِ فرَسُهُ إلى بَطنِها في جَلَدٍ مِنَ الأرْضِ، فَقَال: إِنِّي أَرَاكُمَا دَعُوتُما عَلَيَّ فادعُوَا لي، فالله لكُمَا أنْ أرُدَّ عنكُما الطَلَبَ، فدَعا لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا، فجَعَلَ لا يَلقَى أَحَدًا إلَاّ قَالَ: كُفيتُمْ مَا هُنَا، فلا يَلقَى أحدًا، إلَاّ ردَّهُ.
قوله: "حين سريتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (سَرَى وأسرى): إذا ذهب بالليل.
قوله: "قام قائم الظهيرة"، (الظَهيرة والهَاجِرة): نصفُ النهار عند اشتدادِ الحَرِّ، يقال: أتيتُهُ حَرَّ الظَهيرَة: حين قامَ قائِمُ الظَّهيرة.
قوله: "فَرُفِعَتْ لنا صخرةٌ طويلةٌ"، قيل: وجدنا تلك الصخرةَ مرفوعة طويلة.
قوله: "وبَسَطْتُ عليه فَرْوَةً"، (الفروُ والفَرْوَةُ): ما يُلبس من جِلْدَ الضَّأن
وغير ذلك، الضَّمير في (عليه) يعود إلى قوله:(مكانًا).
قوله: "وأنا أنفُضُ ما حَوْلَكَ"؛ أي: أَحفَظُ ما حَوْلَكَ، وأحرسُكَ من الأعداء؛ يعني: أكونُ طليعة، أرقبُ العدو والخوف، وأتحسسُ الأخبار من كل وجه.
قال في "الصحاح": نَفَضْتُ المكانَ واسْتَنْفَضْتُهُ وتَنَفَّضْتُهُ؛ أي: أبصرتُ جميعَ ما فيه، و (النَّفَضَةُ) بالتحريك: الجماعةُ يُبعثون في الأرض؛ لينظروا هل فيها عدوٌّ أو خوفٌ.
قوله: "فحلبَ في قَعْبٍ كُثْبَةً": (القَعْبُ) بفتح القاف: قَدَحٌ من خَشَبٍ مُقَعَّرٌ، و (الكُثْبَةُ) من اللبن: قَدْرُ حَلبة، وقال أبو زيد: مِلءُ القَدَحُ من اللبن، والجمع: كُثُب، ذكره في "الصحاح".
(الإِدَاوَة): المِطْهَرَة.
قوله: "يرتوي فيها"، (ارتوَى ورَوِي) بالكسر: إذا انكسرَ عطشُهُ بشرْبِ الماء، والضمير في (فيها) يعود إلى (الإِدَاوة).
قوله: "فوافَقْتُهُ حتى اسْتَيقظَ": قال الإمام التوربشتي في "شرحه": اختلف رواة (كتاب البخاري) في هذين اللفظين؛ أعني: (فوافقته حتى استيقظ، فمنهم مَن يرويه: "فوافقتُهُ حين" - بتقديم الفاء على القاف -، و (حين) التي هي للظرف، والمعنى: وافقَ إتياني إياه حين استيقظ، وكذلك وجدناه فيما يُعتد به من نُسَخِ البخاري.
ومما يشهدُ لهذه الرواية بالصِّحة ما رُوي في بعضِ طُرق هذا الحديث من "كتاب مسلم": "فوافقتُهُ وقد استيقظ".
ومنهم مَنْ يرويه على ما ذكرنا، في تقديم الفاء مع حرف (حتى)؛ أي: وافقته فيما هو اختاره من النوم.
ومنهم مَنْ يرويه: - بتقديم القاف على الفاء - من الوُقوف، والمعنى: صبرتُ عليه، وتوقَفْتُ في المَجيءِ إليه، حتى استيقظَ.
وأَرى الداخل إنما دَخَلَ على مَنْ يَرويه بـ (حتى) التي هي الغاية مِن قوله: "فكرهت أن أُوقظَهُ" فرأى أنه كان نائمًا، فوافقه على النوم، أو تأنى به حتى استيقظ.
والوجه فيه: أنه فارقَهُ وهو نائمٌ، فَقَدَّرَ الأمرَ في ذلك على ما فَارقَهُ عليه، فكَرِهَ إيقاظَهُ قبلَ المجيءِ إليه، فلمَّا أتاهُ كان الأمرُ على خِلاف ما تَوَهَّمَهُ، ووجدَهُ قد استيقظَ، هذا كله لفظ الإمام.
قوله: "فشربَ حتى رضيتُ"؛ أي: فشربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن قَدْرَ ما رضيْتُ به، وهو الاكتفاء دون التمذق.
قوله: "أَلَمْ يَأَنِ الرَّحيل؟ ": آنَ يَأنُ: إذا دخل وقت الشيء، (الرَّحيل، والرِّحْلَة والارْتِحَال): الذهاب؛ يعني: أَمَا دَخَلَ وقتُ الذهاب؟
قوله: "فارتطَمَتْ به فرسُهُ إلى بَطنِها في جَلَدٍ": يقول: (ارْتَطَمَ في الوَحْلِ): إذا وقع فيه ونَشَبَ، بحيث لا يقدِرُ أن يخرجَ منه، و (الجَلَدُ): الأرضُ الصلبة.
قوله: "فالله لَكُما"؛ أي: فالله كفيل عليَّ لكما أني لا أهمُّ بعد ذلك بغدر لكما، وأنتما تذهبان بسلامة؛ لانقطاع الطلب لكما، ويجوز أن يريد: أنه تعالى ردني عنكما، وأعلمُ أن كل مَنْ قصدَكُما يَرُدُهُ الحقُّ تعالى، فاذهبا بأمنٍ لا خوفَ عليكما.
قوله: "فجعَلَ لا يَلقَى أحدًا
…
" الحديث، (جَعَلَ)؛ أي: طَفِقَ، (يلقى)؛ أي: يبصر. (كُفِيْتُم)؛ أي: استغنيتم؛ يعني: وقفَ سراقةُ في ذلك المكان، وما وَصلَ إليه أحدٌ من المشركين للطلب إلا رَدَّهُ؛ وفاءً بما عَهَدَ،
ومراعاةً لما وَعَدَ.
* * *
4584 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: سَمِعَ عبدُ الله بن سَلامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ في أَرْضٍ يَخْترِفُ، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكَ عنْ ثلاثٍ لا يعلَمُهُنَّ إلَاّ نبيٌّ: فما أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ؟ وما أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ وما يَنْزِعُ الوَلدَ إلى أبيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أخبَرنِي بهِنَّ جِبريلُ آنِفًا، أمَّا أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ فنارٌ تحشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فزِيَادَةُ كَبدِ حُوتٍ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأةِ نَزَعَ الولدَ، وإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرأةِ نَزَعَتْ"، قَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إِلَهَ إلَاّ الله وأنَّكَ رَسُولُ الله، ثُمَّ قَالَ: يا رَسُولَ الله! إنَّ اليَهُودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنَّهُمْ إِنْ يَعلَمُوا بإسْلامِي قبلَ أَنْ تَسْألَهُمْ يَبْهتوني، فجَاءَت اليَهُودُ، فقال:"أيُّ رَجُلٍ عبدُ الله فيكُمْ؟ "، قالوا: خَيْرُنا، وابن خَيْرِنا، وسَيدُنا وابن سَيدِنا، قال:"أرأَيْتُمْ إنْ أسلَمَ عبدُ الله بن سَلامٍ؟ "، قالوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذلكَ، فخرجَ عبدُ الله فَقَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إلهَ إلَاّ الله وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَقَالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، فانتقَصُوهُ، قال: هَذَا الَّذي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ الله!.
قوله: "سمعَ عبدُ الله بن سَلام بمَقدَمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرضٍ يَخْتَرِفُ"، (المَقْدَم) بفتح الميم والدال، معناه: القدوم، (يَخْتَرِفُ)؛ أي: يجتني الثمار.
قوله: "فزيادَةُ كَبدِ حُوت"، قال أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": هي طرفُهُ، وكذلك الزيادة، وهي أطيبُ ما يكون من الكبد، وتخصيصُ الكبد؛ لتنزهها من العظام.
وقد يقال: إنه الحوتُ الذي على ظَهره الأرض، وإذا جعلَ الأرضَ خبزًا
طعمة لأهل الجنة، فالحوتُ كالإِدام لهم، ولعل ذلك إشارة إلى إعدامِ ما يَقبل التغيير والتأثر، كما روينا من ذبح الموت، الذي يُؤتى على صورة كَبشٍ أَملَحَ.
قوله: "وإذا سَبَقَ ماءُ الرجلِ مَاءَ المرأة نَزَعَ الولدُ، واذا سَبَقَ ماءُ المرأة نَزَعَتْ": (سَبَقَ): إذا عَلَا وغَلَبَ، يُقال:(نَزَعَ إليه في الشَّبه): إذا أشبهه، ذكره في "الغريبين".
يعني: إذا غلبَ ماءُ الرجل أشبهه الولد، وإذا غلبَ ماءُ المرأة أشبهها الولد.
قوله: "إنَّ اليهودَ قومٌ بُهْتٌ": قال في "الصحاح": يقول: (بَهَتَهُ بَهْتًا وبَهَتًا وبُهْتَانًا، فهو بَهَّاتٌ)؛ أي: قال عليه ما لم يفعله، فهو مَبْهُوتٌ، فـ (بُهْتٌ): جمعُ بَهُوْتٍ، على بناء المبالغة؛ يعني: اليهودُ لا يُبالون في الكَذبِ والافتراءِ على الناس.
قوله: "فانتَقَصُوه"، (انتَقَصَ): افتعل من النَّقْصِ، وهو العيبُ، يعني: بعدما أسلَمَ عبد الله بن سلام عَابَهُ اليهود، وحَقَّرُوه.
* * *
4585 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم شَاوَرَنا حِيْنَ بلَغَنا إِقْبالُ أبي سُفْيانَ، فَقَامَ سَعدُ بن عُبادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! والّذِي نَفْسِي بيدِهِ، لوْ أمَرْتَنَا أنْ نُخِيضَها البحرَ لأخَضْنَاها، ولوْ أمَرْتَنا أنْ نضرِبَ أكبَادَها إلى بَرْكِ الغِمادِ لفعَلْنا، قال: فندَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فانطَلَقُوا حتَّى نزَلُوا بَدْرًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هذا مَصْرَعُ فُلانٍ"، ويَضعُ يَدهُ على الأَرْضِ هَا هُنَا وهَا هُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أحدُهُمْ عن مَوْضعِ يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لو أَمَرْتَنَا أن نُخِيضَها البحرَ لأخَضْناها"، (الخَوضُ): الشُّروع في
الماء، تقول:(خُضْتُ في الماء، وأَخَضْتُ غيري فيه)، والضميرُ في (أن نُخِيْضَها) و (لأَخَضْنَاها) و (أكبَادها): للخيلِ أو الإبل، والقرينةُ تدل عليه.
و (الأكبادُ): جمع كبد، و (ضَرْبُ الأكبَاد): عبارةٌ عن تكليفِ الخيلِ والإبلِ السيرَ الكثير، بحيث يَصِرْنَ ظَمْأَى من شدةِ مَسيرِها.
(نَدَبَ): إذا دعا، و (انطلق): إذا ذهب.
قال في "الصحاح": (بِرْك): على مثال قرد، اسم موضع بناحية اليمن.
قال الإمام التوربشتي: (بِرك الغِماد): بكسر الباء وبفتحها، وبضم الغين وبكسرها، إلا أن أصحَ الروايتين في (بِرك) كسر الباء.
(مَاطَ)؛ أي: بَعُدَ؛ أي: ما بَعُدَ مصرعُ من عَيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريشٍ عن موضعِ يده في بَدر.
* * *
4586 -
وعَنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وهوَ في قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللهمَّ! أَنشُدُكَ عَهْدَكَ ووعْدَكَ، اللهمَّ! إنْ تَشَأْ لا تُعبَدُ بعدَ اليومِ"، فأَخَذَ أبو بَكْرٍ بيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله! ألْحَحْتَ على ربك، فخَرجَ وهوَ يَثِبُ في الدِّرْعِ وهوَ يقول:" {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ".
قوله: "اللهم أنشُدُكَ عهدَكَ ووعدَكَ"، قال في "الصحاح":(نَشَدْتُ فلانًا أنشُدُهُ نَشْدًا): إذا قلتَ له: (نشدْتُكَ الله)؛ أي: سألتُكَ بالله؛ كأنكَ ذكَّرتَهُ إياه، فَنَشَدَ؛ أي: تذكَّر، والمفهوم: أن هذا اللفظ يستعمل في السؤال عن الشيء.
و (العهد) ها هنا: بمعنى الأمان؛ يعني: أسألُكَ أمانَكَ من تنفيذ وَعدْكَ الذي وعدْتَني بالنصرة، و (الوعد) المذكور في الحديث: عبارةٌ عن قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9]، وعما ذكر في السورتين:{إِنَّا فَتَحْنَا لَك} [الفتح: 1]
و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] وغيرهما.
قيل: إنما بالغَ في الدعاء مع أنه كانَ موعودًا بالنصرة من عنده سبحانه؛ لأنه وُعِدَ بالنَّصر، ولم يعينْ له زمانَ إنجازه، فخافَ مِنْ تأخرِ إنجازه، فبالغَ في الدعاء؛ لينجزَ له الوعدَ في ذلك الوقت.
قيل: قول أبي بكر: (حسبك يا رسول الله! ألحَحْتَ) إنما كان لأنه رأى منه صلى الله عليه وسلم مبالغةً في الدعاء، وقد استعاذ منه صلى الله عليه وسلم، من الكلام القديم:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، وقد فُسِّرَ هذا بالمبالغة في الدُّعاء، فخاف أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا من هذا الحال، فذَكَر مضمونَ الآية.
والأحسن أن يُقال: إنَّ مبالغةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في السؤالِ مع عِظَمِ ثقتِهِ بربه، وكمالِ علمِهِ به، تشجيعٌ للصحابة وتقويةٌ لقلوبهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن دعاءَه لا محالَةُ مستجابٌ، لا سيما إذا بالغَ فيه.
وقول أبي بكر رضي الله عنه: (حسبُكَ يا رسول الله! فقد ألححت) دليلٌ على أنه أقوى قلبًا من الصَّحابة، وأعلمُهم بالله منهم، وأعرَفُهم بإنجاِز وعدِه تعالى، لكنه ضعيفٌ بالإضافةِ إلى ما أتَىَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المُبَالَغَةِ في الدعاء تحقيقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظرُ إلى توحيدِهِ، واستغنائِهِ عن الخلق، متفكرًا في مضمُون قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]، فخافَ عن الإبطاء في إنجازِ وعدِه سبحانه.
والصِّدِّيقُ كان ينظرُ إلى صورةِ الوَعْدِ، فتقوَّى بإنجازه، من حيث أنه لا خُلْفَ في وعده، فبينهما بَونٌ بعيدٌ وفَرقٌ كبيرٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظرُ في المبالغةِ في الدعاء إلى ذاته فحسب، وهو عبارةٌ عن (الجَمْع) بلسان الصوفية، والصِّديق كان ينظر في القول المذكور إلى إنجاِز وعده، وهو من الصِّفات، وهو عبارة عن (التفرقة) بلسانهم.
* * *
4587 -
وعنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ يومَ بَدْرٍ: "هذا جِبريلُ آخِذٌ بِرَأسِ فرَسهِ، عَليهِ أداةُ الحَرْبِ".
قوله: "عليه أداةُ الحرب": الضمير في (عليه) يعود إلى جبريل عليه السلام.
(الأَدَاة): الآلة.
* * *
4588 -
وقَالَ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: بَيْنَما رَجُلٌ مِنَ المُسْلِميْنَ يومئذٍ يَشتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بالسَّوْطِ فَوقَهُ، وصَوْتَ الفَارِسِ يَقُولُ: أقْدِمْ حَيْزومُ! إذْ نظرَ إلى المُشركِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فنظرَ إليهِ، فإذا هوَ قدْ خُطِمَ أنفُهُ وشُقَّ وجهُهُ كضَرْبةِ السَّوْطِ، فاخْضَرَّ ذلكَ أجْمَعُ، فجاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"صَدَقْتَ، ذلكَ منْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثالِثةِ".
قوله: "بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يَشْتَدُّ"، أصل (بينَمَا) بينَ، فزيدت عليه (ما)، و (ما) عِوَضٌ عن المضاف إليه، وتقديره: بينَ أوقاتِ محاربتنا.
و (رجلُ): مبتدأ، و (من المسلمين): صفته، و (يشتدُّ): خبره، ومعناه: يعدو، والتنوين في (يومئذ) تنوين عوض؛ أي: يومَ إذ قامَتْ الحربُ.
قوله: "إذ سَمِعَ ضربةً بالسَّوط"، (إذ) ها هنا: للمفاجأة.
قوله: "أَقْدِمْ حَيْزوم! "، (الإقْدَام): الشجاعة، ويقال:(أقدم): زجرًا للفرس.
و (الحَيْزُوم): وَسَطُ الصَّدر وما ينضم عليه الحِزَام، و (الحزيم) مثله، و (حَيْزُوم): اسم فرسٍ من خيل الملائكة، ذكره في "الصحاح".
قوله: "قد خُطِمَ أنفُهُ": قال في "الغريبين": قال شِمَر: (الخَطْم): الأَثَرُ
على الأَنف، كما يُخْطَمُ البعير بالكَيِّ، يُقال:(خَطَمْتُ البعير): إذا وَسَمْتَهُ بالكَيِّ بخطٍ من الأَنف إلى أَحد خَديه؛ يعني: ظَهَرَ على أنفه أثرُ ضَربة بالسَّوط.
قوله: "فاخضَرَّ ذلكَ أَجْمَعُ"؛ أي: اسودَّ أثرُ تلك الضَّربة كلِّهِ.
قوله: "ذلك من مَدَدِ السَّماء الثالثة": ذلك: إشارة إلى المَلَكِ المُقَاتل؛ يعني: ذلك القِتال من مَدَدِ أهل السماء الثالثة، يعني: الملائكة عليهم السلام.
وإنما خَصَّصَ المدد بأهل السماء الثالثة؛ لأنه أرادَ أنه قد مدَّ مِنْ أكثرِ السماوات، فنبه بالتثليث على ذلك، أو لعلَّ أهلَ السماء الثالثة لهم هذا التأثيرُ المخصوص.
* * *
4590 -
وعَنِ البَراءِ رضي الله عنه قال: بَعثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا إِلى أَبي رافِعٍ، فدَخَلَ عليهِ عبدُ الله بن عَتِيكٍ بيتَهُ لَيْلاً وهوَ نائِمٌ فقتَلَهُ، فَقَالَ عَبدُ الله بن عَتِيكٍ: فوضَعْتُ السَّيفَ في بطنِهِ حتَّى أَخَذَ في ظهرِهِ فعرَفْتُ أنِّي قَتَلتُهُ، فَجَعَلْتُ أفتحُ الأبوابَ حتَّى انتهَيْتُ إلى دَرَجةٍ، فوضَعْتُ رِجْلِي، فوقعْتُ في لَيلةٍ مُقْمِرَةٍ، فانكسَرَتْ سَاقِي، فعصَبْتُها بِعِمَامةٍ، فانطلَقْتُ إلى أَصْحَابي فانتَهَيْتُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فحَدَّثتُهُ فَقَال:"ابْسُطْ رِجْلَكَ"، فبسَطْتُ رِجْلِي فمسَحَها، فكَأنَّها لمْ أشتَكِها قطُّ.
قوله: "بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رهطًا إلى أبي رافع
…
" الحديث.
(الرَّهط): ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، ذكره في "الصحاح".
يريد بـ (أبي رافع): ابن أبي الحقيق اليهودي، وكان من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما نقضَ عهده، وكان يسعى في أذيته، ويهجوه، وكان له قَلعةٌ يتحصن بها، فبعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه رهطًا من الخزرج، وقد أمَّرَ عليهم عبد الله بن عَتيك، وكان
رجلًا محتالًا، فدخل عليه بالحِيلة، فقتلَهُ نائمًا في ليلة.
قوله: "فجعلتُ أفتحُ الأبواب"، (جعلْتُ)؛ أي: طَفِقْتُ.
قوله: "في ليلة مُقمرة"، (المُقْمِرة): اسم فاعلة من (أقمرَت الليلة): إذا أضاءت.
قوله: "فعصبتُها بعِمامة"، (العَصْبَ): الشَدُّ؛ أي: شددْتُ رِجلي بخرقةٍ.
قوله: "فمَسَحَها، فكأنها لم أَشْتَكِهَا قط"؛ يعني: فإذا وصلتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح رجلي بيده، فصارَتْ صحيحةً كما كانت قبلَ الكسر.
وفيه دليلٌ على أنَّ الذمي إذا نقضَ عهدَهُ يُقتل.
إن قيل: ما الجمعُ بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ"؟
قيل: تخصيصُ العام كثيرٌ في القرآن والحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ" مخصوصٌ بكافرٍ يتولدُ منه شرٌ كثير، وأبو رافع كان يؤذي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وسائرَ الصحابة، وكان يهجُوهم، فجازَ قتلُهُ.
* * *
4591 -
وقَالَ جَابرٌ: إنَّا يومَ الخَنْدَقِ نَحفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيْدَةٌ، فجَاءُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: هَذِه كُدْيَةٌ عَرضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ:"أَنَا نازِلٌ"، ثُمَّ قَامَ وبطنُهُ مَعصُوبٌ بحَجَرٍ، ولَبثْنا ثَلاثَةَ أيَّامٍ لا نَذوقُ ذَواقًا، فأخَذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المِعْوَلَ فضَربَ فعَادَ كَثِيْبًا أهْيَلَ، فانْكَفأْتُ إلى امرأَتِي فَقُلتُ: هَلْ عِندَكِ شَيءٌ؟ فإنِّي رَأيتُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيْدًا، فأخْرجَتْ جِرابًا فيهِ صاعٌ مِنْ شَعيرٍ، ولَنَا بُهَيْمةٌ داجِنٌ فذبَحْتُها، وطَحنْتُ الشَّعيرَ، حتَّى جَعَلْنا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فسَارَرْتُهُ فقلْتُ: يا رَسُولَ الله! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعيرٍ، فتَعَالَ أَنْتَ ونَفَرٌ معَكَ، فَصَاحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ! إنَّ جَابرًا صَنعَ سُوْرًا، فَحَيَّ
هَلا بكُمْ"، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبزُنَّ عَجينَكُمْ حتَّى أَجِيءَ"، وجاءَ فأخرَجَتْ لهُ عَجيْنًا فبَصَقَ فيهِ وبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنا فبَصَقَ وباركَ، ثُمَّ قالَ: "ادْعِي خابزةً فلتَخْبزْ معَكِ، واقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ ولا تُنزِلُوها"، وهُمْ ألفٌ، فأُقسِمُ بالله لأَكَلوا حتَّى تَركُوه وانحَرَفوا، وإنَّ بُرْمَتَنا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وإنَّ عَجيننَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
قوله: "فعرَضَتْ كُدْيَةٌ شديدة"، (عَرَضَتْ): إذا ظَهرت.
(الكُدْيَة): الأرضُ الصُّلبة، وجمعها: كُدًى، و (أكْدَى الحافرُ): إذا بَلَغَ الكُدْيَة، فلا يمكنه أن يحفر، ذكره في "الصحاح".
قوله: "فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعْوَل، فضربَ، فعاد كثيبًا أَهْيَلَ": (المِعْوَل): الفأسُ العظيمة التي يُنْقَرُ بها الصخر، والجمع:(المَعَاوِل)، قاله في "الصحاح".
(الكَثِيبُ): التَّل من الرَّمل.
و (الأَهْيَلُ والهَيَال): السَّيَال، من (هَال): إذا انْصبَّ وسَالَ؛ يعني: فضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تلكَ الكُدية، فصارتْ كثيبًا من الرمل ينصبُّ ويسيلُ.
قوله: "فانكفأْتُ إلى امرأتي": أي: فانصرفْتُ إليها.
قوله: "رأيتُ بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمصًا شديدًا"، (الخَمْص - بفتح الخاء وسكون الميم - والمَخْمَصَةُ والمَجَاعَة) ثلاثتها بمعنى الجوع.
قوله: "ولنا بُهَيْمةٌ داجِنٌ"، (البُهَيْمة): تصغير البَهْمَة، وهي ولَدُ الضَّأْنِ الذكر والأنثى، و (شاةٌ داجِنٌ): إذا أَلِفَتِ البيوت، واستأنَسَتْ، ومن العرب من يقولها بالهاء، وكذلك غير الشاة، ذكره في "الصحاح".
(البُرْمَة): القِدْرُ، وجمعها:(البرام) بالكسر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن جابرًا صَنَعَ سُورًا"، (سُورًا)؛ أي: طَعامًا، وهو فارسي معرب.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فحيَّ هلا بكُم"؛ أي: يا رجالُ! هَلُمُّوا إلى الطَّعام الذي صَنَعَ لكم جابر، يقال:(حَيَّهَلَ الثَّريد)، معناه: هَلُمَّ إلى الثريد، فتحت ياؤه لالتقاء الساكنين، وبنيت (حيَّ) مع (هل) اسمًا واحدًا، مثل:(خمسة عشر)، وسُمِّي به الفعل، ويستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، فإذا وقفت عليه قلت:(حيِّ هَلا)، والألف لبَيَانِ الحَركة، كالهاء في {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ} ؛ لأن الألف من مخرج الهاء، قاله في "الصحاح".
قيل: إذا وصلْتَ قلت: (حَيَّ هَلَ بكذا)، ويجوز:(حيَّ هلاً) بالتنوين.
قوله: "فبسقَ فيه وباركَ": (بَسَقَ وبَصَقَ وبَزَقَ): إذا رمى بالبزاق في الشيء.
و (بَارك) هنا بمعنى: برَّك؛ أي: دَعا له بالبَرَكَةِ.
(عَمَدَ): إذا قَصَدَ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "واقدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُم"، يقال:(قَدَحْتُ المَرَق): إذا غرفْتُهُ، و (القُدحة) بالضم: الغُرْفَة، يقال:(أعطني قُدْحَةً من مَرَقَتِكَ)؛ يعني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر: "اغرفي"؛ يعني: من البُرمَة، ولا تنزليها، والصَّحابة كانوا ألفًا، ففعلَتْ ذلك، فأقسمَ جابرٌ بالله أنهم لأكلوا حتى تركُوهُ وانحرَفوا؛ أي: مالوا إلى أماكنهم.
"وإن بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كما هِيَ، وإن عَجيننا لَيُخْبَزُ كما هو"؛ أي: أن البُرمة مغليةٌ تفورُ، فيُسمع لها غَطيط، و (الغَطْغَطَة): شِدَّةُ غَليان القدر، وأن العجينَ كان باقيًا كما هو.
* * *
4592 -
وقَالَ أَبو قتَادَةَ: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لِعمَّارٍ حِينَ يَحفِرُ
الخَنْدَقَ، فجَعلَ يَمسحُ رأسَهُ ويقول:"بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ، تَقتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ".
قوله: "فجعلَ يمسحُ رأسَه"؛ أي: فطفق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يمسحُ رأسَ عمارَ ابن ياسر.
قوله: "بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ، تقتُلُكَ الفئةُ الباغيةُ"، (البُؤسُ): الشِّدة والمشقة.
ويريد بـ (ابن سُمَيَّة): عمار بن ياسر، و (سميَّة): اسمُ أمه؛ يعني: يا شِدَّةَ ابن سميَّة التي تصلُ إليه في حالِ أن تقتلك الفئةُ الباغيةُ، قاله صلى الله عليه وسلم تَرَحُّمًا له وشفقةً عليه.
فعلى هذا (بُؤس) منادى مضاف، وإن رُوي بالرفع: فـ (بؤس) خبرُ مبتدأ محذوف، و (ابن سميَّة): منادى مضاف، تقديره: يصيبك بؤسٌ وشدة يا بن سمية أو (بؤس) فاعل فعل محذوف؛ أي: يصيبُكَ بؤسٌ يا ابن سُمية.
و (أهل البغي) يعني بهم: معاوية رضي الله عنه وقومه، ثم ظهر صِدق قوله صلى الله عليه وسلم، فقتَلَهُ أهلُ البغي، وكان مع علي رضي الله عنه.
* * *
4593 -
وقَالَ سُلَيمانُ بن صُرَدٍ: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ أُجْلِيَ الأحزابُ عنهُ: "الآنَ نَغزوهُم ولا يَغزونَنا، نحنُ نسَيرُ إليهِمْ".
قوله: "حين أُجْلِيَ الأحزابُ عنه"، (الأحزابُ): الطوائفُ التي تجتمع على محاربة الأنبياء، ذكره في "الصحاح".
يعني: حين انهزمَ الأحزاب عنه صلى الله عليه وسلم قال: "الآن نغزُوهم"؛ يعني: قد أُخبرَ بأن الظَّفر قد جاءَ عليهم في هذه الساعة.
* * *
4594 -
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلاحَ واغْتَسلَ، أَتاهُ جِبريلُ وهو يَنْفُضُ رَأسَهُ مِن الغُبارِ، فقالَ:"لَقَدْ وضَعْتَ السِّلاحَ، والله ما وَضَعتُهُ، اخرُجْ إِليهِمْ"، قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فأَيْنَ؟ فأشارَ إلى بني قُرَيْظَةَ".
قوله "وهو يَنْفُضُ رأسَهُ من الغُبار"، (النَّفْضُ): تحريكُ الشيء ليزولَ ما عليه من الغُبار وغيره؛ يعني: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمسحُ الغبارَ عن رأس جبريل ووجهه - صلوات الله عليهما -.
قوله: "اخرُجْ إليهم"، (إلى) نصب على الحال؛ يعني: يا محمد! اخرجْ قاصدًا إلى بني قريظة، وهم اليهود.
قوله: "فأين"؛ أي: فأين أقصد؟
* * *
4595 -
قَالَ أَنَسٌ: كَأنِّي أنظُرُ إلى الغُبارِ سَاطِعًا في زُقاقِ بني غَنْمٍ مِنْ مَوْكِبِ جِبريلَ عليه السلام حِينَ سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَةَ".
قوله: "في زُقاقِ بني غَنْم": (الزُّقاق) بضم الزاي: السَّكَّةُ، وهو عند أهل الحجاز مؤنث، وعند بني تميم مذكر.
و (بنو غَنْم): قبيلة من الأنصار.
"مَوْكِبِ جِبريل": جيشه، يقال لجَماعة الفرسان: موكب، وكذا الجماعة: الرُّكبان أيضًا، و (الرُّكبان): هم الذين رَكبوا الإبل.
* * *
4596 -
وقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: عَطِشَ النَّاسُ يومَ الحُدَيْبيَةِ ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بيْنَ
يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فتَوضَّأَ مِنها، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نحوَهُ، قَالُوا: لَيسَ عِنْدَنا مَاءٌ نَتَوضَّأُ بهِ ونَشْربُ إِلَاّ ما في رَكْوَتِكَ، فوَضَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ في الرَّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابعِهِ كَأَمْثَالِ العُيونِ، قَالَ: فشَرِبنا وتَوضَّأْنا، قيلَ لِجَابرٍ: كَمْ كُنْتُم؟ قَالَ: لوْ كُنَّا مِائةَ ألْفٍ لَكَفانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرةَ مِئَةً.
قوله: "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الرَّكْوَة، فجعل الماء يفورُ من بين أصابعه كأمثال العُيون"، (الرَّكْوَة): ظَرفٌ يُتوضأ منه ويُشرب فيه.
(جعل)؛ أي: طفق.
قال الحافظ أبو موسى: كلُّ شيءٍ جاشَ وغَلى فقد فَارَ، وفَارَ الماءُ من العَين.
قال الله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] يقال: فَارَتِ القِدْر تَفُورُ فَورًا وفَوَرَانًا: إذا جَاشَتْ.
قوله: "كَمْ كُنتم؟ "، (كم): خبر مقدم؛ يعني: كَمْ رجلاً كنتم؟
* * *
4597 -
وقَالَ البَراء بن عازِبٍ رضي الله عنه: كُنَّا معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَع عَشْرةَ مِئَةً يومَ الحُدَيْبيَةِ، والحُدَيْبيَةُ بِئرٌ، فنَزَحْنَاها، فلَمْ نترُكْ فيها قَطْرةً، فبلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأَتَاها فجَلَسَ على شَفِيرِها، ثُمَّ دَعَا بإناءٍ مِنْ مَاءٍ فتوضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ ودَعا، ثُمَّ صَبَّهُ فيها، ثُمَّ قَالَ:"دَعُوها سَاعةً"، فأَرْوَوا أنفُسَهُمْ ورِكابَهُمْ حتَّى ارتَحَلوا.
قوله: "فَنَزَحْنَاها"، (النَّزْحُ): الاستقاء؛ أي: استقينا ما في الحديبية.
قوله: "على شَفِيرها"، (الشَّفِير): الطَّرف، الضمير في (شفيرها) يعود إلى الحديبية.
قوله: "ثم صَبهُ فيها"؛ يعني: ثم صَبَّ الماء الذي مضمض به رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فيها)؛ أي: في الحديبية.
قوله: "فأَرْوَوا أنفسَهم ورِكَابهم حتى ارتَحلوا"، (الرِّكاب): الإبل التي يسار عليها، الواحدة: راحِلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع: الرَّكب.
و (الارتحال): الذَّهاب؛ يعني: كانوا هم وركابهم يرتَوُون منها مُدَّةَ إقامتهم هنالك.
* * *
4598 -
وقَالَ عِمْرانُ بن حُصَيْنٍ رضي الله عنه: كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فاشتَكَى إليهِ النَّاسُ مِنَ العَطشِ، فنزَلَ، فدَعا فُلانًا ودَعا عَليًّا فقال:"اذْهَبا فابتَغِيا المَاءَ"، فانطلَقا فلَقِيا امرأةً بينَ مَزادَتَيْنِ - أو سَطيحَتَيْنِ - مِنْ مَاءٍ، فجَاءَا بها إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستَنْزَلوها عَنْ بَعيرِها، ودَعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم -بإناءٍ ففرَّغَ فيهِ منْ أفواهِ المَزادَتَيْنِ، ونُودِيَ في النَّاسِ: اسْقُوا واسْتَقوا، قال: فشَرِبنا عِطَاشًا أَرْبعينَ رَجُلاً حتَّى رَوِينا، فمَلأْنا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنا وإِداوَةٍ، وايمُ الله لَقْدْ أُقلِعَ عنها وإنَّهُ لَيُخيَّلُ إلَيْنا أنَّها أَشَدُّ مِلأَةً منها حِينَ ابتَدأَ.
قوله: "فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين - من ماء، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، (التلقي): الاستقبال.
قيل: المزادة كالمزود، وهو وعاء يُوضَعُ فيه طعامُ السفر، فالعربُ جعلوا المزادة للماء تفريقًا بين الوِعاءين في الاسم.
قال في "الغريبين": قال ابن الأعرابي: السَّطِيحةُ من المزاد: إذا كانت من جلدين قوبل أحدهما بالآخر، فسُطِحَ عليه.
قوله: "فاستنزلوها عن بعيرها": الهاء تعود إلى (المرأة)؛ يعني: أنزلوها
عن بعيرها، استنزل وأنزل بمعنى.
قوله: "فشربنا عطاشًا أربعين رجلاً": (عطاشًا) نصب على الحال من الضمير في (شربنا)، و (أربعين) حال من الضمير في (عطاشًا)، ويجوز أن يكون حالًا بعد حال.
"الإداوة" بكسر الهمزة: المطهرة.
قوله: "وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليُخيَّلُ إلينا أنها أشدُّ مِلأة منها حين ابتدأ"، (وايم الله)؛ أي: والله، (الإقلاع عن الأمر الفلاني)؛ أي: الكف عنه.
(التخيُّل): التشبيهُ على غَرَرٍ من غير يقين.
و (المَلأَة) بفتح الميم: فَعْلَة من الملْء.
يعني: حلف الراوي وقال: والله لقد انفكت الجماعة عن تلك المزادة والماء، ورجعوا عنها، "وإنه ليخيل إلينا": وإن الشأن والحديث ليُشبه إلينا أن تلك المزادةَ كانت أكثرَ ماءً من تلك الساعة التي كان الناسُ يبتدئون بالشرب فيها والاستقاء منها.
* * *
4599 -
وقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: سِرْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى نَزَلنا وادِيًا أفْيَحَ، فذهَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْضي حَاجتَهُ فَلَمْ يرَ شَيئًا يَسْتتِرُ بهِ، وإذا شَجَرتانِ بِشَاطِيءِ الوادِي، فانطلَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلىَ إِحْداهُما فأخَذَ بغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِها فَقَال:"انْقادِي عَليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ مَعَهُ كالبَعيرِ المَخْشوشِ الذي يُصانِعُ قائِدَهُ حتَّى أتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى، فأخذَ بغُصْنٍ منْ أغصَانِها فقال:"انقادِي عليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ معهُ كذلك، حتَّى إذا كانَ بالمَنْصَفِ ممَّا بينهُما قال:"التَئِما عليَّ بإذنِ الله"، فالتَأَمَتا، فجلسْتُ أُحدِّثُ نفسِي، فحانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فإِذَا أَنَا
برسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُقبلاً، وإذا الشَّجَرتانِ قدْ افْتَرَقَتَا، فقامَتْ كُلُّ واحِدةٍ منهُما على ساقٍ.
قوله: "حتى نزلنا واديًا أفيحَ"؛ أي: أوسع، يقال: بحر أفيحُ بينُ الفيح؛ أي: واسع.
قوله: "فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته"، (ذهب)؛ أي: طفق.
قوله: "وإذا شجرتين بشاطيء الوادي": (إذا) ها هنا: للمفاجأة.
و (شجرتين): نصب بفعل مضمر، تقديره: فإذا رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شجرتين بشاطيء.
و (شاطيء الوادي): طرفه.
قوله: "انقادي عليَّ بإذن الله": (انقادي): أمر مؤنث من (انقاد): إذا أطاع؛ يعني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] لواحدةٍ من تينك الشجرتين: انقادي عليَّ، فانقادت له؛ معجزة له صلى الله عليه وسلم.
قوله: "كالبعير المخشوش": (المخشوش): الذي جعل في أنفه الخِشاش - بكسر الخاء - ليُقادَ به، و (الخِشاش): ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب وغير ذلك لينقادَ.
قوله: "يصانعُ قائده"؛ أي: يوافقه، وينقاد له.
قال في "الصحاح": المُصانعة: الرشوة، وفي المثل:(من صانعَ بالمال لم يَحْتشمْ من طلب الحاجة)؛ أي: لم يستحِ
وقيل: المصانعة: أن تصنعَ لصاحبك شيئًا؛ ليصنعَ لك شيئًا.
قوله: "حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما"، (المَنصَف) بفتح الميم والصاد: نصف الطريق.
الضمير في (بينهما) عائد إلى الشجرتين.
يعني: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الطريق من موضع تينك الشجرتين قال لهما: "التئما عليَّ بإذن الله"؛ أي: اجتمعا.
قوله: "فحانت مني لفتةٌ"، (حان): إذا أتى وقت الشيء.
(لَفْتة): فَعْلة من (الالتفات).
يعني: كنت مُشتغلاً بنفسي، مطرقَ النظر، لا ألتفت إلى شيء، فالتفتُّ بغتة، فرأيت تلك المعجزة؛ افتراقَ الشجرتين بعد اجتماعهما.
* * *
4600 -
عَنْ يَزيْدَ بن أبي عُبَيْدٍ رضي الله عنهما قال: رأيتُ أثَرَ ضَرْبةٍ في سَاقِ سَلَمةَ ابن الأكْوَعِ رضي الله عنه فقلتُ: يا أبا مُسْلمٍ! ما هذِه الضَّرْبةُ؟ قال: ضَرْبةٌ أصَابَتْنِي يومَ خَيْبَرَ، فقالَ النَّاسُ: أُصيْبَ سَلَمَةُ، فأتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فنَفثَ فيهِ ثَلاثَ نَفَثَاتٍ، فمَا اشْتَكَيْتُها حتَّى السَّاعةِ.
قوله: "أُصيبَ سلمةُ"؛ أي: أصابته جراحةٌ.
* * *
4601 -
وقَالَ سهْلُ بن سَعْدٍ رضي الله عنه: قالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايةَ غَدًا رَجُلاً يَفتحُ الله على يَديهِ يُحبُّ الله ورسولَهُ ويُحبُّهُ الله ورسولُهُ"، فلمَّا أصْبحَ النَّاسُ غَدَوْا على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَال:"أَيْنَ عليُّ بن أبي طالِبٍ؟ "، فقالوا: هوَ يا رَسُولَ الله! يَشْتَكِي عيْنَيْهِ، فأُتِيَ بهِ، فبَصقَ في عَيْنَيْهِ ودَعا لهُ فَبَرَأَ حتَّى كأنْ لَمْ يَكُنْ بهِ وجَعٌ، فأعطاهُ الرايةَ.
قوله: "فلمَّا أصبح الناس غدَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، يقال:(غدا عليه)
إذا أتاه وقتَ الغداة.
قوله: "فبرَأ"؛ أي: فشُفِي.
هذا الحديث دليلٌ على فضيلة عليٍّ رضي الله عنه.
* * *
4602 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: نَعَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا وجَعْفَرًا وابن رَواحةَ لِلنَّاسِ قبلَ أنْ يأتيَهُمْ خبرُهُمْ فَقَالَ: "أخذَ الرَّايةَ زَيْدٌ فأُصيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرُ فأُصيبَ، ثُمَّ أخذَ ابن رَواحَةَ فأُصيبَ - وعَيْناهُ تَذرِفان - حتَّى أخذَ الرَّايةَ سَيْفٌ منْ سُيوفِ الله - يَعني: خَالدَ بن الوليدِ رضي الله عنه حتَّى فتحَ الله عليهِم".
قوله: "نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناسِ قبل أن يأتيهم خبرُهم"، يقال: نعاه له نَعيًا ونُعيانًا بالضم: إذا أتاه بخبرِ موتِهِ؛ يعني: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم بموتهم.
وفيه دليلٌ على جواز النعي.
قوله: "وعيناه تذرفان"؛ أي: عينا رسول الله تسكبان العبراتِ لهؤلاء الثلاثة.
وفيه دليلٌ على جواز البكاء للميت.
* * *
4603 -
وقَالَ عَبَّاسٌ رضي الله عنه: شَهِدتُ معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ، فلمَّا الْتَقَى المُسْلِمُونَ والكُفّارُ وَلَّى المُسْلِمُونَ مُدبرينَ، فطفِقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغلتَهُ قِبَلَ الكُفَّارِ وأَنَا آخِذٌ بلِجامِ بَغلةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها إرَادَةَ أنْ لا تُسرِعَ، وأَبُو سُفيانَ بن الحَارِثِ رضي الله عنه آَخِذٌ برِكابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنَظَر رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم -
وهوَ على بَغلتِهِ كالمُتطاوِلِ عليْها إلى قِتالهِمْ فقال: "هذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ! "، ثُمَّ أَخَذَ حَصَياتٍ فرَمَى بهِنَّ وجُوهَ الكُفَّارِ ثُمَّ قال:"انهَزَموا ورَبِّ مُحَمَّدٍ"، فوالله ما هُوَ إلَاّ أنْ رَماهُمْ بحَصَياتِهِ، فما زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً وأمْرَهُمْ مُدبرًا.
قوله: "شهدت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنين"، (شهدت): حضرت، و (حُنين): موضعٌ، يذكَّر ويؤنَّث، فإن قصدتَ به البلدَ والموضع ذكَّرته وصرفته، كقوله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ} [التوبة: 25]، وإن قصدت به البلدة والبقعة أنَّثته ولم تصرفه، كما قال الشاعر:
نَصَرُوا نبيَّهمُ وشدُّوا أزرَهُ
…
بحُنينَ يومَ تواكَلَ الأبطالُ
قوله: "ولى المسلمون مدبرين"، (ولَّى): إذا أدبر.
قوله: "يركض بغلته قِبَل الكفار"، (يركض)؛ أي: يعدو.
(قبل الكفار)؛ أي: نحوهم.
قوله: "أكفُّها إرادةَ أن لا تسرعَ"، (أكفها)؛ أي: أمنعُ البغلة؛ لكي لا تسرع في العَدْوِ نحو الكفار.
قوله: "فنظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم"، الواو في (وهو) للحال، و (هو) مبتدأ، و (على بغلته) خبره، والكافُ في (كالمتطاول) حالٌ من الضمير المرفوع في (على بغلته).
يعني: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم، في حال كونه راكبًا على بغلته، كائنًا كالمتطاول عليها؛ أي: الغالب القادر على سوقها.
قوله: "هذا حين حَمِيَ الوطيسُ" يقال: (حمي الوطيس): إذا اشتد [ت] الحرب، و (الوطيس) أيضًا: التنور، ذكره في "الصحاح".
(هذا) إشارةٌ إلى القتال؛ يعني: القتال حين قامت الحرب على ساقها واشتدت.
قوله: "ثم أخذ حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار":
(الحَصَيات): جمع حَصَاة، وهي حجر صغيرة.
الرميُ إنما صدرَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث الظاهر، لكنه تعالى نفاه عنه حقيقةً؛ دفعًا للسبب، وأضافَ إلى نفسه تعالى من حيث الحقيقة؛ إثباتًا للمسبب؛ لأنه لا فاعلَ في عالم الوجود إلا الله سبحانه في الحقيقة، فقال تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وفيه وفي الذي بعده دليلٌ على أن ركوب البغلة سنةٌ.
* * *
4604 -
وقِيْلَ للبَراءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه: أفَرَرْتُمْ يومَ حُنَيْنٍ؟ قال: لا والله ما ولَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحابهِ لَيسَ عليهِم كثيرُ سِلاحٍ، فلَقُوا قَومًا رُماةً لا يَكادُ يَسقُطُ لهُمْ سَهْمٌ، فرَشَقُوهُمْ رَشْقًا ما يَكادونَ يُخطِئونَ، فأقبَلُوا هُناكَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على بَغلتِهِ البَيْضَاءِ، وأبو سُفيانَ ابن الحَارِثِ رضي الله عنه يَقُودُهُ، فنزلَ واستنصَرَ وقال:
"أَنَا النَّبيُّ لا كَذِبْ
…
أَنَا ابن عبدِ المُطَّلِبْ"
ثُمَّ صَفَّهُمْ.
قوله: "فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقطُ لهم سهمٌ"، (لقي): إذا أبصر، (الرماة): جمع رامي، الضمير في (لقوا) عائد إلى الشبان؛ يعني: الشبان - وهو جمع الشاب - رأوا قومًا رامين من الأعداءِ شديدي الرمي.
"فرشقوهم رَشْقًا"، الضمير المرفوع في (رشقوا) يعود إلى الرماة،
والمنصوب إلى الشبان؛ أي: فرموا بأجمعهم رميًا شديدًا، بحيث لا يكادون يخطئون في الرمي.
قوله: "فنزل واستنصر"؛ أي: فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته.
و (استنصر)؛ أي: طلب النصر من الله سبحانه.
قوله:
"أنا النبيُّ لا كذبْ
…
أنا ابن عبدِ المطلبْ"
قيل: هذا رجزٌ، والرجز خارجٌ مما أجمعَ عليه الشعراء من القوانين الموضوعة في العروض.
قيل: ربما صدرَ عن شخص كلامٌ موزون لا على قصدِ الشعر، فلا يُعدُّ ذلك الكلام عليه شعرًا.
وإنما قال: "أنا ابن عبد المطلب" تعريفًا لنفسه؛ لأنه كان مشهورًا عند العرب أن لابن عبد المطلب نبأً عظيمًا ونبوة، وقد كان أصحابُ الأخبار والكهانُ يتحدثون بأن النبي صلى الله عليه وسلم الموعود في آخر الزمان من بني عبد المطلب، فذهبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرهم بما اشتهرَ فيهم؛ ليرجعوا عن قتالهم.
* * *
4605 -
قَالَ البَرَاءُ: كُنَّا والله إِذَا احْمَرَّ البَأْسُ نتَّقِي بِهِ، وإنَّ الشُّجاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحاذِي بهِ، يَعني: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "كنا والله إذا احمرَّ البأسُ نتَّقي به"، يريد باحمرار البأس: اشتدادَ الحرب، قال في "شرح السنة": يقال: موت أحمر؛ أي: شديد، وحمر القيظ: شدة حرها، وسَنَةُ حمراء: شديدة، والعرب تصف عام الجدب بالحُمرةِ.
ويقال: إن آفاق السماء تحمرُّ أعوامَ القحط.
يعني: كنا نجعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واقية لنا من الأعداء عند اشتداد الحرب، قال الله تعالى:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} [المزمل: 17] أي: كيف يكون بينكم وبين العذاب واقية إن جحدتم يوم القيامة؟ ذكره في "شرح السنة".
* * *
4606 -
وقَالَ سَلَمَةُ بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه: "غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم -حُنَيْنًا، فوَلَّى صَحابةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا غَشُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ البَغْلةِ، ثُمَّ قَبضَ قَبْضةً مِنْ تُرابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ اسَتَقْبَلَ بها وُجُوهَهُمْ، فَقَال: "شَاهَتِ الوُجوهُ"، فَمَا خَلَقَ الله منهُمْ إنْسَانًا إِلَاّ مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرابًا بِتِلْكَ القَبْضةِ، فوَلَّوْا مُدبرينَ.
قوله: "فلما غشُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلةِ"، (غشي غشيانًا): إذا جاءه؛ يعني: فلما جاء الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، فقبض قبضة من التراب، فرمى وجوههم، فملأ الله تعالى عيونهم من ترابِ تلك القبضةِ بقدرته القديمة، قال الله سبحانه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
قوله: "شاهت الوجوهُ"؛ أي: قَبُحَت، يقال:(شاه يشوه شوهًا): إذا قبح.
قيل في الحديث: "رأيت في الجنة امرأة شَوْهاءَ إلى جنب قصر، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: لعمرَ" رضي الله عنه، قال القتيبي: الشوهاءُ الحسنة.
فعلى هذا يكون (الشَّوْه) من الأضداد، كـ (الجَوْن) للبياض والسواد.
* * *
4607 -
عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم -حُنَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإِسلامَ:"هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فلمَّا حَضَرَ
القِتَالُ قاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ القِتالِ وكثُرَتْ بهِ الجِراحُ، فجَاءَ رَجُلٌ فقال: يَا رَسُولَ الله! أَرَأَيْتَ الذِي تَحدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ قاتَلَ في سَبيلِ الله مِنْ أَشَدِّ القِتالِ فكثُرَتْ بهِ الجِرَاحُ، فَقَال:"أَمَا إِنَّهُ منْ أَهلِ النَّارِ"، فكادَ بعضُ المُسْلِمِينَ يَرتابُ، فبَيْنَما هُمْ عَلَىَ ذَلِكَ إذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الجِراحِ فَأَهْوَى بيَدِه إلى كِنانتِهِ فانتزَعَ سَهْمًا فانتحَرَ بهِ، فاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمينَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالوا: يا رسولَ الله! صَدَّقَ الله حَديثَكَ، قَدْ انتحَرَ فُلانٌ وقتلَ نفسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"الله أَكْبرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبدُ الله ورَسُولُهُ، يَا بِلالُ! قُمْ فأذِّنْ: لا يَدخلُ الجَنَّةَ إِلَاّ مُؤْمِنٌ، وإنَّ الله لَيُؤيدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ".
قوله: "فكثرت به الجراح": (الجراحُ): جمع جِراحة، بالكسر.
قوله: "فكاد بعض المسلمين يرتاب"، (ارتاب): إذا شكَّ؛ أي: فقَرُبَ بعضُ المسلمين أن يرتابوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ذلك المجروحِ المُجِدِّ في القتال أنه من أهل النار، فتضَحَ حاله أنه من أهل النار، وما ارتابوا، ويأتي شرح حاله في باقي الحديث.
قوله: "فأهوى بيده إلى كنانتِهِ، فانتزع سهمًا، فانتحرَ بها"، (أهوى بيده): إذا ألقاها، والمراد به ها هنا: مال إلى الكِنانةِ، [وهي] الجَعْبة.
(فانتزع سهمًا)؛ أي: سلَّه.
قال في "الصحاح": يقال: انتحرَ الرجلُ؛ أي: نحر نفسه، وفي المثل: سُرِق السارقُ فانتحرَ.
يعني: مال إلى كنانته، فسلَّ سهمًا، فقتل نفسه بذلك.
قوله: "فاشتدَّ رجالٌ من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (اشتد إليه)؛ أي: عدا قاصدًا إليه.
قوله: "الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله"، (الله أكبر): كلامٌ يقال عند الفرح؛ يعني: فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ظهرَ صدقُهُ، فقال: (الله أكبر
…
) إلى آخره.
قوله: "إن الله ليؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر"، أيَّد يؤيد تأييدًا: إذا قوَّى؛ يعني: أن الله سبحانه ليقوي هذا الدين - يعني: الدين المحمدي - وينصره بالرجل الفاسق والكافر، كما هو في زماننا.
حاصله: ينصره بكلِّ أحدٍ؛ ليقوي إظهاره، ولئلا ينقطعَ إلى ارتفاع التكليف.
* * *
4608 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إليهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيءَ وما فَعَلَهُ، حتَّى كَانَ ذَاتَ يَومٍ عندِي، دَعا الله ودَعاهُ، ثُمَّ قال:"أشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ! أنَّ الله قَدْ أَفتانِي فِيْمَا استفتَيْتُهُ، جَاءَنِي رَجُلانِ، جَلَسَ أحدُهُما عندَ رأْسِي والآخرُ عِندَ رِجْلِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُما لِصَاحبهِ: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ: مَطْبوبٌ، قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبيدُ بن الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ، قَالَ: فِيْ ماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قال: فَأَينَ هوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذَرْوانَ"، فَذَهَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أُناسٍ مِنْ أَصْحَابه إلى البئْرِ فَقَال:"هذِهِ البئْرُ الَّتي أُريتُها، وكأَنَّ مَاءَها نقُاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ"، فاستخرجَهُ.
قوله: "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليخيَّلُ إليه أنه فعلَ الشيءَ وما فعله"؛ يعني: سحرَهُ لبيدُ الأعصم اليهودي، فغلب عليه النسيانُ، بحيث إنه اشتبهَ عليه من حيث النسيان: أنه فعل الشيء الفلاني وما فعله، أو ما فعل الشيء الفلاني وقد فعله.
قوله: "أشعرتِ يا عائشة! أن الله قد أفتاني مما استفتيته"، (أشعرت)؛ أي: علمت.
(أفتاني)؛ أي: بيَّن لي فيما طلبت منه سبحانه من البيان الواضح في شرح كيفية ذلك السحر، وفي من سحره، ويأتي البيان في باقي الحديث.
قوله: "مطبوب"؛ أي: مسحور، وقيل:(الطبُّ): السحرُ، وقيل: كُنَّي عن السحر بالطبِّ الذي هو علاجه، كما كُنَّي عن اللديغ بالسليم؛ تفاؤلاً من اللدغ إلى السلامة، وكما كُنَّي عن البيداء المهلكة بالمفازة؛ تفاؤلاً من الهلاك إلى النجاة والفوز.
وقيل: هو من الأضداد؛ لأنه يقال لعلاج الأدواء: طب، ولعلاج السحر أيضًا: طب، بل هو من أشدِّ الأدواء وأعظمها.
وقيل: يحتمل أن العربَ استعاروا في السحر الطبَّ لدقته وخفاء أمره، والطبيب: عبارةٌ عمَّا هو الفطن بالشيء والحاذق له.
قوله: "في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر"، (المُشاطة): الشعرُ الذي يسقط من الرأس واللحية عند الامتشاطِ بالمشط.
(الجُفُّ): وعاء الطلع، وهو قِشْرُهُ، ويروى:"في جُبِّ طلعةِ ذكرٍ"، قال أبو عمرو: يقال لوعاء الطلع: جُفٌّ وجُبٌّ، ويريد بالجبِّ: داخل الطلع، كما يقال لداخل الركيَّة من أولها إلى أسفلها: جب، وقيل:(طلعة ذكر) على الإضافة، وأراد بالذكر: فحل النخل.
قوله: "في بئرِ ذَرْوان" موضعٌ، قال الإمام شهاب الدين التُّورِبشتي: في "كتاب مسلم": "في بئر ذِي أَرْوان".
قال الإمام: وأراها أصوبَ الروايتين؛ لأن (أروان) بالمدينة أشهر من (ذروان)، وذو أروان على مسيرة ساعة من المدينة، وفيه بني مسجدُ الضرار،
هذا كله لفظُ الإمام.
قوله: "هذه البئر التي أريتها"؛ أي: هذه البئر هي التي أراني جبريلُ إياها.
قوله: "وكأن ماءها نقاعة الحناء"؛ أي: كأنَّ ماءَ تلك البئر متغيرٌ لونه، كمثل ماء نُقِعَ فيه الحناء.
قوله: "وكأنَّ نخلها رؤوسُ الشياطين، فاستخرجه": أراد بالنخل طلع النخل، وقيل: إنما أضاف النخل إلى البئر؛ لأنه كان مدفونًا فيها، وإنما شبهه برؤوس الشياطين؛ لقبح صورته وكراهة منظره؛ لأن العربَ إذا استقبحوا شيئًا شبَّهوه بوجه الشيطان ورأسه لقبحه، وإن لم يكونوا رأوه، والكلامُ القديمُ منزَّلٌ على سنن كلامهم؛ قال الله عز وجل:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65].
وقيل: إنها رقيقة كرؤوس الحيات، والحية لخبثها يقال لها: شيطان.
قال الشيخ في "شرح السنة": قال الخطابي: قد أنكر قومٌ من أصحاب الطبائع السحرَ، وأبطلوا حقيقتَهُ، ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أن يكون له تأثيرٌ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُؤمَنْ أن يُؤثِّرَ ذلك فيما يُوحَى إليه من أمر الشرع، فيكون فيه ضلالُ الأمة.
الجواب: أن السحر ثابت، وحقيقته موجودةٌ، اتفق أكثر الأمم من العرب والفرس والهند وبعض الروم على إثباته، وهؤلاء أفضلُ سكان الأرض، وأكثرهم علمًا وحكمة، وقد قال الله:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} [البقرة: 102] ، وأمرَ بالاستعاذة منه، فقال:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، ووردَ في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارٌ لا ينكرها إلا من أنكر العِيانَ والضرورةَ، وفرَّع الفقهاءُ فيما يلزم الساحرَ من العقوبة، وما لا أصلَ له لا يبلغُ هذا المبلغَ في الشهرة والاستفاضة، فنفي السحر جهلٌ، والردُّ على من نفاه لغوٌ.
فأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بإثباته، فليس كذلك؛ لأنَّ
السحرَ إنما يعمل في أبدانهم (1)، وهم بشر، يجوزُ عليهم من العلل والأمراض ما يجوزُ على غيرهم، وليس تأثير السحر بأبدانهم بأكثر من القتل وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم، وقد قُتِلَ زكريا وابنه، وسُمَّ نبينا - صلوات الله عليه - بخيبرَ.
فأما أمرُ الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله تعالى وأرصدهم له، وهو جلَّ ذكرُهُ حافظٌ لدينه، وحارسٌ لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل.
وإنما كان خُيلَ إليه أنه يفعلُ الشيء في أمر النساء خصوصًا، وهذا من جملة ما تضمَّنه قولُهُ تعالى:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].
فلا ضررَ إذًا فيما لحقه من السحر على نبوته وشريعته، والحمدُ لله على ذلك، والسحرُ من عمل الشيطان، يفعلُهُ في الإنسان بنفثه ونفخه وهمزه ووسوسته، ويتولاه الساحرُ بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فاذا تلقَّاه عنه، استعملَهُ في غيره بالقول والنفث في العقد، وللكلام تأثيرٌ في الطباع والنفوس، ولذلك صار الإنسان إذا سمع ما كره يحمى ويغضب، وربما حُمَّ منه، وقد مات قوم بكلامٍ سمعوه، وقولٍ امتعضوا منه، ولولا طولُ الكلام لذكرناهم، هذا كلامُ الخطابيِّ في كتابه، هذا كله لفظ الشيخ، قدس الله روحه.
فإن قيل: كمال النبوةِ يمنعُ من حلول اختلال السحر بجسمِ النبي؟
قيل: لا يطول ذلك، بل يزول سريعًا، فكأنه ما حلَّ.
وفائدةُ الحلول تنبيهٌ على أن هذا بشرٌ مثلكم، وعلى أن هذا السحرَ تأثيرُهُ حقٌّ؛ إذ أثَّر في أكمل إنسان، فكيف غيره؟ وصار ذلك كصدورِ ذنبٍ صغيرٍ يُنبَّهُ عليه في الحال.
(1) أي: الأنبياء عليهم السلام، ولم يتقدم لهم ذكرٌ، لكن فهم ذكرهم من السياق.
فإن قيل: فلمَ جاءه في بيان السحر ملكان آخران غير جبريل عليه السلام؟
قيل: لأنه صاحبُ الوحي فقط، فهو أرفعُ درجة من هذا.
* * *
4609 -
عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنما نَحْنُ عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم -وهوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الخُويْصِرَةِ، وهوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَميمٍ، فَقَال: يا رَسُولَ الله! اعدِلْ، فَقَال:"ويلَكَ! فمَنْ يَعدِلُ إذا لمْ أعدِلْ؟ قدْ خَبْتُ وخَسِرْتُ إِذَا لمْ أكُنْ أعدِلُ"، فَقَال عُمرُ: ائْذَنْ لي أَنْ أَضْرِب عُنُقَهُ، فَقَالَ:"دَعْهُ، فَإِنَّ لهُ أَصْحَابًا يَحقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ معَ صَلاتِهِمْ، وصِيامَهُ معَ صِيامِهِمْ، يَقْرَؤُوْنَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ، إلى رِصَافِهِ، إلى نَضيهِ - وهو: قِدْحُهُ - إلى قُذَذِهِ، فلا يُوجدُ فيهِ شيءٌ، قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهُمْ رَجُلٌ أَسْودُ إِحْدَى عضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأَةِ، أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويَخرُجونَ على حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ".
قالَ أبو سَعِيْدٍ: أَشْهَدُ أنَّي سَمِعْتُ هذا الحَديْثَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأَشْهَدُ أنَّ عليَّ بن أبي طالِبٍ رضي الله عنه قاتَلَهُمْ وأَنَا معَهُ، فأمرَ بذلكَ الرَّجُلِ فالتُمِسَ، فأُتِيَ بهِ حتَّى نظَرتُ إليهِ على نَعْتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي نَعَتَهُ.
وفي رِوَايَةٍ: أقبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ! اتَّقِ الله، قَالَ:"فمَنْ يُطيعُ الله إذا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُني الله على أهلِ الأرضِ فلا تَأْمَنُوني؟ "، فَسَألَ رَجُلٌ قَتْلَهُ فمنعَهُ، فلَمَّا ولَّى قال:"إنَّ مِنْ ضئْضئِ هذا قَوْمًا يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهْم مِنَ الرَّمِيَّةِ، فيَقتُلُونَ أهلَ الإِسلامِ، ويَدَعُونَ أهلَ الأوْثَانِ، لَئِنْ أدْرَكتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".
قوله: "وهو يقسمُ قَسمًا"، (القسم) بفتح القاف: مصدر، وبكسرها معناه: الحظُّ والنصيب، قيل: لا وجهَ لكسر القاف في هذا الحديث؛ لأنه يختصُّ إذا انفرد نصيب.
وقيل: هذا القسمُ كان في غنائم حُنين، قسمها بالجِعرانةِ.
قوله: "أتاه ذو الخُوَيصرة، وهو رجلٌ من بني تميمٍ"، قال في "تفسير الوسيط": اسمه: حرقوص بن زهير، وهو أصلُ الخوارج، ونزلت فيه:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] الآية.
قوله: "قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" قيل: (خبتَ وخسرتَ) على ضمير المخاطب، لا على ضمير المتكلم، وإنما أضافَ الخيبةَ والخسرانَ إلى المخاطب؛ لأنه إذا اعتقد أنه لا يعدلُ مع أنه مبعوثٌ؛ ليكون رحمة للعالمين، قال الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فقد خابَ وخسر.
ووجهُ ضمير المتكلم كان أظهر.
وإنما لم يأذنْ لعمر رضي الله عنه أن يقتله؛ لأنه كان يتلفظُ بكلمة الإسلام، وكان يُصلي، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل المصلين.
قوله: "فقال: دعه؛ فإن له أصحابًا" الحديث.
قال في "شرح السنة": فإن قيل: كيف منعَ عمرَ عن قتله مع قوله: "لئن أدركتهم لأقتلنهم"؟
قيل: إنما أباحَ قتلهم إذا كثروا، وامتنعوا بالسلاح، واستعرضوا الناس، ولم تكنْ هذه المعاني موجودةً حين منعَ من قتلهم، وأولُ ما ظهر ذلك في زمان علي رضي الله عنه، وقاتلهم، حتى قتل كثيرًا منهم.
وقيل: إنما وُجِدَ ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسبع وعشرين سنة.
قوله: "يقرؤون القرآن لا يجاوزُ تراقيَهم"، (التراقي): جمع ترقوة، وهي العظام بين نقرة النحر والعاتق؛ أي: لا يجاوزُ ما يقرؤون من القرآن عن ظاهرهم إلى باطنهم، ولا عن قالبهم إلى قلبهم.
يعني: لا تقبل طاعاتهم، ولا ترفعُ إلى الله سبحانه، فقلبُ المؤمن يقرأُ القرآن، ولسانُهُ ممرُّه، وقلبُ المجرم ممرُّ القرآن، ولسانه مقرُّه، قال الله تعالى:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 12 - 13].
قوله: "يمرُقون من الدين كما يَمرُق السهمُ من الرمية"، (مرق): إذا خرج؛ يعني: يخرجون من الدين؛ أي: من طاعة الله وطاعة الأئمة.
(كما يمرق)؛ أي: يخرج "السهم من الرِّمِية"، (الرَّميةُ): الصيدُ الذي تقصده فترميه، ومروق السهم من الرمية: عبارةٌ عن خروجه إلى الجانب الآخر، وعدم قرارِهِ فيها.
قوله: "ينظر إلى نَصلِهِ، إلى رِصافِهِ، إلى نضَيهِ - وهو قِدحه - إلى قُذَذِهِ".
قال في "الصحاح": (الرِّصاف): وهي العَقَبُ الذي يُلوَى فوق الرُّعْظِ، (يلوى)؛ أي: يشد، و (الرُّعْظ): مدخل النصل.
و (نَضيُّ السهم): ما بين الريش والنصل.
و (القِدح) بالكسر: السهمُ قبل أن يُراشَ، ويركب نصله.
و (القُذَذ): ريش السهم، الواحدة: قُذَّة.
قال بعض الشارحين: المراد بالنصل: القلبُ الذي هو المؤثر المتأثر، فإذا نظرت إلى قلبه، فلا تجدُ فيه أثرًا ممَّا شَرَعَ فيه من العبادات.
والمراد بالرِّصاف: الصدرُ الذي هو محلُّ الانشراح، وانفساحِ مجاري الأوامر، وتحملِ مشاقِّ التكليف، فلم ينشرحْ لذلك، ولم يظهرْ فيه أثرُ السعادة.
والمراد بالنضي: البدن، وإن تحمَّلَ تكاليفَ الشرع من الصوم والصلاة وغير ذلك، لكنه لم يحصل له من ذلك فائدة.
والمراد بالقُذَذ: أطرافه التي هي بمثابة الآلاتِ لأهلِ الصناعات والحرف، فلم يحصل له منها فائدة ما يُحصلُ لأهل السعادة.
قوله: "فلا يوجد فيه شيءٌ قد سبق الفَرْث والدم"؛ يعني: نفذَ في الدين نفوذًا سريعًا، بحيث لم يتأثَّرْ به، ولم ينتفعْ منه، كما نفذَ السهم في الرمية، بحيث لم يتعلَّق به شيءٌ من الفرث والدم.
و (الفَرْث): الروث.
يعني: هؤلاء ليس لهم في الإسلام نصيبٌ، ولا لهم بذلك تعلقٌ، كما أن السهمَ المذكور لم يتعلَّقْ بالفرث والدم من تلك الرمية.
قوله: "أو مثل البَضعةِ تَدَرْدَرُ"، (البَضعة) بفتح الباء: قطعة لحم.
(تدردر)؛ أي: تحرَّكُ، فتجيء وتذهب.
قوله: "يخرجون على خيرِ فرقة"، يريد بخير فرقة: عليًا وأصحابه، رضوان الله عليهم.
"نعت ينعت": إذا وصف.
قوله: "غائِرُ العينين، ناتِئُ الجبهة، كثُّ اللحية، مشرفُ الوجنتين"، (غائر): اسم فاعل من (غارت عينه تغور غورًا وغؤورًا): إذا دخلت في الرأس.
(ناتئ الجبهة): مرتفع الجبهة.
(كثَّ الشيءُ كثاثة)؛ أي: كَثُفَ، والنعت منه: كَثٌّ.
(المشرِفُ)؛ أي: العالي، (الوَجْنة): الخد.
قوله: "إن من ضئْضئِ هذا"؛ أي: من أصله، و (هذا) إشارةٌ إلى ذي
الخُوَيصرةِ التميمي، والخوارجُ من نسله.
قوله: "لأقتلنهم قتلَ عاد"، قيل: يريد بـ (قتل عاد) استئصالَهم بالإهلاك؛ لأن عادًا هلكت بالصيحة مُستأصَلين بالإهلاك، ولم يُقتَلوا.
* * *
4610 -
وقَالَ أَبُو هُريرَةَ رضي الله عنه: كُنْتُ أدعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلَامِ وهيَ مُشرِكَةٌ، فدَعَوْتُها يَومًا، فأسمعَتْنِي في رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ما أكْرَهُ، فأَتيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَهدِيَ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ، فَقَال:"اللهمَّ! اهْدِ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ"، فخرجتُ مُستبْشِرًا بدَعْوةِ نَبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا صِرْتُ إلى البَابِ، فإذا هوَ مُجَافٌ، فسمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فقالتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! وسَمِعتُ خَضْخَضَةَ المَاءِ، فاغتَسَلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَتْ عنْ خِمارِها، ففَتحَتِ البَابَ، ثُمَّ قَالَت: يا أبا هُرَيْرةَ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَاّ الله وأشهدُ أنِّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ ورسُوْلُهُ، فرجَعْتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكِي مِنَ الفَرح، فحمِدَ الله وقالَ خَيْرًا.
قوله: "فإذا هو مُجافٌ"، (المجاف): اسم مفعول من (أجفتُ الباب): إذا رددته.
قوله: "خَشْفَ قدميَّ"؛ أي: صوتهما، و (الخشفة): الحركة.
قولها: "مكانَكَ"، و (مكانك) اسم فعل معناه: الزمْ.
قوله: "خضخضَةَ الماءِ"؛ أي: تحريكه.
و"درع المرأة": قميصها، وهو ذكر.
* * *
4611 -
وقَالَ أَبُو هُريْرَةَ رضي الله عنه: إنَّكُمْ تَقُولُون: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرةَ عَنِ
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والله المَوعِدُ، وإنَّ إخْوَتِي مِنَ المُهاجِرينَ كانَ يَشغَلُهُم الصَّفْقُ بالأسْواقِ، وإنَّ إخْوَتِي مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يشغَلُهُمْ عَمَلُ أموالِهِمْ، وكنْتُ امْرَءًا مِسْكينًا، ألزَمُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على مِلْءَ بَطنِي، وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم -يَومًا:"لَنْ يَبسُطَ أَحَدٌ منكُمْ ثَوْبهُ حتَّى أقضيَ مَقالتِي هذهِ ثُمَّ يَجمعُهُ إلى صَدرِهِ فيَنسَى منْ مَقالتِي شيئًا أبدًا"، فبسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غيرُهَا، حتَّى قضَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَقالَتَهُ ثُمَّ جَمَعْتُها إلى صَدرِي، فَوالذِي بَعثَهُ بالحَقِّ ما نَسيتُ مِنْ مَقالتِهِ تِلْكَ إلى يَومِي هذا.
قوله: "والله الموعدُ"؛ أي: لقاء الله سبحانه يوم القيامة موعدنا؛ يعني: مرجعُنا إليه تعالى، فيظهرُ عنده صدقُ الصادق وكذبُ الكاذب لا محالةَ.
قوله: "يشغلهم الصفقُ با لأسواق"؛ أي: البيع والشِّراء، قال في "الغريبين": قيل للبيعة: صفقة؛ لضرب اليد على اليد عند عقدِ البيع، يقال:(صَفَقَ بيده) و (صَفَحَ) سواء.
يريد بـ "المهاجرين": أهل مكة، وبـ "الأنصار": أهل المدينة؛ يعني: أهلُ مكة كان تشغلهم التجارات عن ملازمتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأهلُ المدينة كان يشغلهم عملهم في نخيلهم - التي هي أموالهم - عن ملازمتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أيضًا، وكنت مُلازمًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وما كان لي شيءٌ يشغلني، فلهذا كثرت روايتي عنه صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لن يبسُطَ أحدٌ منكم ثوبَهُ حتى أقضيَ مقالتي هذه"، قيل: كانت مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاءَ للصحابة بالحفظ والفهم.
* * *
4612 -
وقَالَ جَرِيْرُ بن عبدِ الله: قالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تُريحُني منْ ذِي الخَلَصَة؟ "، فقلتُ: بلى يا رَسُولَ الله! وكُنْتُ لا أثبُتُ على الخَيْلِ، فَذَكَرتُ
ذلِكَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فضربَ بِيَدِهِ على صَدرِي حتَّى رَأَيتُ أثرَ يَدِهِ في صَدرِي، وقَالَ:"اللهمَّ! ثَبتْهُ، واجعلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"، قَالَ: فَمَا وقَعْتُ عنْ فرَسِي بَعْدُ، فانْطَلقَ في مِئَةٍ وخَمسينَ فارِسًا منْ أحْمَسَ، فحرَّقَها بالنَّارِ وكَسرَها.
قوله: "ألا تُريحُني من ذي الخَلَصة؟ "؛ أي: ألا تُخلِّصني منه؟ و (ذو الخَلَصة): بيت لِخَثْعَمْ، وكان يسمَّى: كعبة اليمامة، وكان فيه صنم يقال له: الخلصة.
قوله: "خمسين فارسًا من أحمَسَ"؛ أي: من قريش، وإنما لُقِّبَ قريشٌ حُمْسًا؛ لتشددهم في دينهم؛ لأنهم كانوا لا يستظلون أيام منى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، وغير ذلك من تشدداتهم.
و (الأحمس): الشجاع، و (عامٌ أحمسُ)؛ أي: شديد.
وقيل: الحُمْسُ سبع قبائل؛ قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نضر بن معاوية.
* * *
4613 -
وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: إنَّ رَجُلاً كانَ يكتُبُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فارتدَّ عن الإِسلامِ، ولحِقَ بالمُشركينَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الأرضَ لا تَقبَلُهُ"، فأخبرَنيِ أبو طَلْحةَ أنَّهُ أتَى الأرضَ التي ماتَ فيها، فوجدَهُ مَنْبُوذًا، فَقَالَ: مَا شَأنُ هذا؟ فَقَالُوا: دَفنَّاهُ مِرارًا فلمْ تَقبَلْهُ الأرضُ.
قوله: "إنَّ رجلاً كان يكتبُ للنبي صلى الله عليه وسلم فارتدَّ عن الإسلام، ولحق بالمشركين" الحديث.
أراد بالرجل: عبد الله بن أبي السرح؛ يعني: كان يكتب الوحي، فلمَّا أملى النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَهُ سبحانه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى
آخرها، فلمَّا وصل إلى قوله:{خَلْقًا آخَرَ} خطَر ببالِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، تعجَّبَ من تفصيل خلق الإنسان طورًا بعد طور، فأملاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذلك؛ يعني: ما جرى في خاطرِهِ، فقال عبد الله: إنْ كانَ قوله وحيًا، فأنا نبيٌّ ويُوحَى إلي. فسبقه الحكمُ الأزليُّ بكفره فارتد، ولحق بالمشركين، نعوذ بالله من ذلك.
* * *
4614 -
وقَالَ أَبُو أيُّوب: خرجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد وَجَبَت الشَّمْسُ، فَسمِعَ صَوْتًا فَقَال:"يَهودُ تُعذَّبُ في قبُورِها".
قوله: "وقد وَجَبت الشمسُ"، (وجبت): إذا غربت، (الجِبَةُ): الغروب.
قوله: "فسمع صوتًا، فقال: يهودُ تعذَّبُ في قبورها"، فسماعُ هذا الصوت له صلى الله عليه وسلم؛ إما قد كُشِفَ له من عالم الغيب، كما كُشِفَ له أشياءُ كثيرة من الغيب، ومثلُ هذا لا ينكشف إلا لنبي أو ولي، قال الله عز وجل:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، أو سمع بسمعه الملكوتي القدسي صلى الله عليه وسلم.
وفيه دليلٌ على أن عذابَ القبر حقٌّ.
* * *
4615 -
وَقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم منْ سَفَرٍ، فلَمَّا كَانَ قُرْبَ المَدينةِ هَاجَتْ رِيحٌ تكادُ أنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بُعِثَتْ هذِه الرِّيحُ لمَوْتِ مُنافِقٍ"، فقَدِمَ المَدِينَةَ، فإذا عَظيمٌ مِنَ المُنافِقينَ قدْ ماتَ.
قوله: "هاجت ريحٌ تكادُ أن تدفن الراكب"؛ أي: ممَّا ثار من الغبار والتراب
والرمل؛ يعني: كان يقرب أن يتوارى الراكبُ من شدة ثورانِ هذه الريح.
وفيه دليلٌ على صدق نبوته وصحتها، أنه ظهر في مستقبل الزمان ما أخبر عنه في الماضي تحقيقًا وتصديقًا لما أخبر عنه.
* * *
4616 -
عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: خرَجْنا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى قَدِمْنَا عُسْفانَ، فأَقَامَ بِهَا لَيالِيَ، فقالَ النَّاسُ: ما نَحْنُ هَا هُنا في شَيءٍ، وإنَّ عِيالَنا لَخُلوفٌ مَا نَأْمَنُ عليهِمْ، فبَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال:"والَّذِي نَفْسي بيدِه، ما مِنَ المَدينةِ شِعْبٌ ولا نَقْبٌ إلَاّ عليهِ مَلَكانِ يَحْرُسَانِها حتَّى تَقْدَموا إليها"، ثُمّ قال:"ارتَحِلُوا"، فارتَحَلْنا، وأقبَلْنا إلى المَدِينةِ، فوَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ، ما وَضَعْنا رِحَالَنا حِينَ دَخَلنا المَدِينَةَ حتَّى أَغَارَ عَلَيْنا بنو عَبدِ الله بن غَطَفانَ، ومَا يَهْيجُهُمْ قبلَ ذلكَ شيءٌ.
قوله: "حتى قدمنا عُسْفان"، (القدوم): الرجوع عن السفر، و (عُسْفان): موضع قريبٌ من المدينة.
قوله: "وإن عِيالنا لخُلوفٌ ما نأمنُ عليهم" يقال: الحيُّ حيٌّ خلوفُ؛ أي: لم يبقَ منهم أحد، قيل: معناه: ليس فيها إلا النساء من غير الرجال، فلهذا ما نأمنْ عليهم.
قوله: "ما من المدينة شِعبٌ ولا نقبٌ إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها"(الشِّعب) بكسر الشين: الطريق في الجبل، وكذلك (النقب) و (المنقب).
(الحِراسة): الحفظ.
* * *
4617 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبَيْنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ في يومِ جُمُعَةٍ فَقَامِ أعْرَابيٌّ فَقَالَ: يا رَسُولَ الله! هَلَكَ المَالُ، وجَاعَ العِيالُ، فادْعُ الله لَنَا، فَرَفعَ يدَيْهِ ومَا نرَى في السَّماءِ قَزَعَةً، فوَالَّذِي نفسِي بيَدِهِ، ما وضَعَهُما حتَّى ثارَ السَّحابُ أمثالَ الجِبالِ، ثُمَّ لمْ يَنْزِلْ عنْ مِنبَرِهِ حتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ على لِحيَتهِ، فمُطِرْنا يومَنا ذلكَ، ومِنَ الغَدِ، ومِنْ بعدِ الغَدِ، حتَّى الجُمْعَةِ الأَخرَى، فقامَ ذلكَ الأعرابيُّ، أو غيرُهُ، فَقَال: يا رسولَ الله! تَهدَّمَ البناءُ، وغَرِقَ المَالُ، فادْع الله لَنَا، فرفَعَ يدَيْهِ وقال:"اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا علَيْنا"، فَمَا يُشيرُ إلى ناحيَةٍ مِنَ السَّحابِ إِلَاّ انفرَجَتْ، وصَارَتِ المَدِينةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وسَالَ الوادِي قَناةُ شَهَرًا، ولم يَجِئْ أَحَدٌ منْ ناحِيَةٍ إلَاّ حَدَّثَ بالجَوْدِ.
وفي رِواية: قال: "اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا عَلَيْنَا، اللهمَّ! على الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطونِ الأوْدِيةِ ومَنابتِ الشَّجرِ"، قال: فأَقلَعَتْ، وخَرَجْنا نمشِي في الشَّمسِ.
قوله: "أصابت الناس سنةٌ"؛ أي: قَحْطٌ وجَدْب.
قوله: "وما نرى في السماء قَزَعة"، (القزعة): القطعة من السحاب، والجمع: القزع.
قوله: "رأيت المطر يتحادَرُ على لحيته"، (يتحادر)؛ أي: يتساقط، قيل: يريد أن السقف قد وَكَفَتْ حتى نزل الماءُ عليه.
قوله: "صارت المدينة مثل الجَوْبة"، (الجوبة) بفتح الجيم: الفرجة في السحاب، وقيل: الجوبة: الترس؛ لاستدارتها، وقيل: فيه إضمار تقديره: صار حوالي المدينة مثل الجوبة، قيل: معناه: انفرجت السحابة عن سمتها.
قوله: "وسال الوادي قناة شهرًا": سالَ الوادي مثل القناةِ شهرًا، ويروى:
"سال وادي قناةُ شهرًا"، فـ (قناة) اسم الوادي، فلهذا غير مصروف.
قوله: "ولم يجئ أحدٌ من ناحية إلا حدَّث بالجودِ"؛ يعني: ما جاءنا أحدٌ من جانب من جوانب المدينة إلا أخبرنا بالمطر الكثير، يقال: جِيْدَت الأرض، فهي مجيدة.
قوله: "اللهم على الآكامِ والظِّراب"، (الآكَام): جمع أَكَمة، وهي ما ارتفع من الأرض.
و (الظِّراب): جمع ظِرْب؛ بكسر الراء، وهو أيضًا ما ارتفع من الأرض كالرَّبوة، وقيل: الظراب ما دون الآكام، وقيل: الآكام والتلال واحد، إلا أن الآكام ما كان أعلاه منبسطًا، والتلال ما كان أعلاه حادًا.
قوله: "فأقلعت"؛ أي: أقلعت السحاب؛ أي: انكشفت، و (السحاب): جمع سحابة.
* * *
4618 -
وقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ اسْتَنَد إِلى جِذْع نَخلةٍ منْ سَوارِي المَسْجدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لهُ المِنبر فاستَوَى عليهِ، صَاحَت النَّخلةُ الَّتي كَانَ يَخطُبُ عِندَها حتَّى كَادَتْ أَنْ تَنشَقَّ، فنزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى أخذَهَا فضَمَّها إليهِ، فجَعَلَتْ تَئِنُّ كَمَا يَئِنُّ الصَّبيُّ الذي يُسَكَّتُ حتَّى استقرَّتْ، قَالَ:"بَكَتْ على مَا كانتْ تَسمَعُ مِنَ الذِّكْرِ".
قوله: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خطبَ استندَ إلى جذعِ نخلةٍ من سواري المسجدِ"، قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": وفي بعض نسخ "المصابيح": (استسند)، وليس بشيء، وإنما هو (استند).
و (السواري): جمع سارية، وهي الأُسطُوانة.
قوله: "حتى أخذها فضمَّها إليه"؛ يعني: حتى أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تلك النخلةَ، فعانقها.
قوله: "فجعلت تئنُّ أنينَ الصبيِّ الذي يُسكَّتُ، حتى استقرتْ"، (جعلت)؛ أي: طفقت.
(تئن)؛ أي: تصيحُ.
(التسكيتُ): جعلُ الشخص ساكتًا.
اعلم أن أنين النخلة وبكاءها لمفارقة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان مسموعًا له صلى الله عليه وسلم وللصحابة رضي الله عنهم أجمعين بأسماعهم الباطنة القدسية الملكوتية، لا بأسماعهم الظاهرة الملكية، أو كان معجزةً رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبًا للكفرة والمنافقين في إسلامهم، وتحريضًا عليهم بذلك، فإذا كان كذلك، كان مسموعًا لهم بأسماعهم الظاهرة.
* * *
4619 -
عَنْ سَلَمَة بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بشمالِهِ، فقال:"كُلْ بيَميِنِكَ"، فَقَال: لا أستطيعُ، قال:"لا استَطَعْتَ"، مَا منعَهُ إلا الكِبْرُ، قَالَ: فما رفعَها إلى فيهِ.
قوله: "أنَّ رجلاً أكلَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشمالِهِ فقال: كُلْ بيمينك"، اسم هذا الرجل: بشر بن راعي العير، وقيل: بُسْر بالسين المهملة. وكان رجلاً شجاعًا (1).
وفيه دليلٌ على أن الأكلَ باليمين من السنن.
* * *
(1) كذا في جميع النسخ، وهو تصحيف، وإنما هو من قبيلة أشجع، وانظر "مرقاة المفاتيح"(11/ 45)، و"أسد الغابة"(1/ 271).
4620 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنَّ أَهْلَ المَدينةِ فَزِعُوا مَرّةً، فركِبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم -فرسًا لأبي طَلحَةً بَطيئًا فكَانَ يَقْطِفُ، فَلمَّا رَجَعَ قَالَ:"وَجَدْنا فرسَكُمْ هذا بَحْرًا"، فكانَ بعدَ ذلكَ لا يُجارَى.
وفي رِوَايَةٍ: فَمَا سُبقَ بعدَ ذلكَ اليَومِ.
قوله: "فركبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، وكان يَقْطِفُ"، (قطفت الدابة): إذا مشت مشيًا ضيقًا، وتُسمَّى هذه الدابة قَطُوفًا، وقيل: بطيئًا؛ أي: لم يكن سريع السير.
قوله: "وجدنا فرسكم هذا بَحْرًا"؛ أي: واسع الجري، فصارت هذه الصفة له ببركِة رُكوبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان بطيء السير.
قوله: "فكان بعدَ ذلك لا يُجارَى"؛ أي: لا يُقاوَم في الجري، وفي رواية:(لا يُحاذَى)؛ يعني: كان لا يحاذيه فرسٌ يجري معه.
* * *
4621 -
وَقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: تُوفِّي أَبي وعَليهِ دَيْنٌ، فعَرَضْتُ على غُرَمائِهِ أنْ يَأْخُذُوا التَّمرَ بما عليهِ فأبَوْا، فأتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدي استُشْهِدَ يومَ أُحُدٍ وتَرَكَ دَيْنا كَثِيرًا، وإنَّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فقالَ لي:"اذهَبْ فبَيْدِرْ كُلَّ تمرٍ على ناحِيةٍ"، ففعلتُ، ثمَّ دعَوْتُهُ، فلمَّا نَظَروا إليهِ كأنّهُمْ أُغْروا بي تلكَ السَّاعةَ، فلمَّا رأَى ما يَصنعونَ طَافَ حولَ أعظَمِها بَيْدَرًا ثلاثَ مرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَس عليهِ، ثمَّ قال:"اُدْعُ لي أصحابَكَ"، فَمَا زالَ يَكِيلُ لهُمْ حتَّى أَدَّى الله عنْ والِدي أَمَانَتَهُ، وأَنَا أَرْضى أنْ يُؤَدِّيَ الله أمانَةَ والِدي ولا أَرْجِعَ إلى أَخَواتِي بتمرةٍ، فسَلَّمَ الله البَيادِرَ كُلَّها وحتَّى إنِّي أنظُرُ إلى البَيْدَرِ الَّذي كانَ عليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كأنَّها لمْ تَنْقُصْ تَمرةً واحِدةً.
قوله: "توفِّي أبي وعليه دينٌ"، (توفي أبي)؛ أي: مات.
قوله: "فبيدِرْ كلَّ تمرٍ على ناحية"، (بيدِرْ) أمرٌ من (بيدَر): إذا دِيسَ الطعامُ في البيدر، وهو موضعٌ يُداسُ فيه الطعام، ويجمع فيه التمر والزبيب.
يعني: اجعلْ أنواعَ تمرِكَ ببيدرٍ؛ أي: صبرة واحدة.
قوله: "فلما نظروا إليه كأنهم أُغْروا بي تلك الساعةَ"، الضمير في (إليه) يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقال:(أغرى به)؛ أي: أولع به، والاسم:(الغَراء) بالفتح ممدودًا؛ يعني: فلما نظر الغرماءُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنهم هُيجُوا وحُرِّضوا علَّي في التشديد، واعتاضوا (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنهم أرادوا أن يأخذوا الأصلَ والتمرَ؛ لأنه كان في أعينهم قليلاً، وكانوا يهود.
قوله: "حتى أدَّى الله عن والدي أمانته"؛ أي: دينه؛ لأنه كان مُؤتمنًا على أدائه، قال الله تعالى:{وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]؛ أي: ما ائتمنتم عليه، وقال أيضًا:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، قيل: وإنما سَمَّى الدين أمانة مع أنه مضمون؛ لائتمان مَنْ له الدينُ على مَنْ عليه الدين.
قوله: "فسلَّمَ الله البيادرَ كلَّها" الحديث.
التسليمُ ها هنا: جعلُ أحدٍ سالمًا؛ يعني حفظ الله بلطفه جميع البيادر، وجعلها سالمةً عن النقصان، سيما ذلك البيدر الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه ما نقصَ منه تمرةٌ واحدة ببركةِ جلوسِهِ صلى الله عليه وسلم.
* * *
4622 -
وقَالَ جَابرٌ: إنَّ أُمَّ مالِكٍ كَانتْ تُهْدي للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا،
(1) أي: طلبوا العوض من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيأتِيها بنوهَا فيَسألونَ الأُدْمَ وليسَ عِندَهُمْ شَيءٌ، فتعمِدُ إلى الذِي كانتْ تُهْدي فيه للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَجِدُ فيهِ سَمْنًا، فما زالَ يُقيمُ لَهَا أُدْمَ بيتِها حتَّى عَصَرَتها، فأتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"عصرتيها؟ "، قالتْ: نعمْ، قَالَ:"لوْ تَركتِيها ما زالَ قائِمًا".
قوله: "إن أمَّ مالكٍ كانت تُهدي للنبيِّ في عُكَّةٍ لها سمنًا"، قال الإمام التُّورِيشتي في "شرحه": إن أمَّ مالك في الصحابيات اثنتان؛ أم مالك البَهْزِيَّة، وهي التي تروي حديث الفتنة، وأم مالك الأنصارية، وهي التي علَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تقول في دُبُرِ كل صلاة: "سبحان الله عشرًا، والحمد لله عشرًا، والله أكبر عشرًا".
وصاحبة العكة هي البَهْزِية، وقد رُوي مثلُ ذلك في أمِّ أوسٍ البَهْزِيَّة، ذكرتُ كلَّ واحدة منهما في بابها من الكنى، فلا أدري أهي واحدةٌ اختلف فيها؛ لاختلاف الكنيتين، أم هما اثنتان، هذا كله منقولٌ من "شرحه".
قال في "الصحاح": يقال لمثل الشَّكوة ممَّا يكون فيه السَّمنُ: عُكَّة؛ بالضم، والجمعُ: العُكَك، والعِكاك، و (الشكوة): قربة صغيرة.
يقال: أهديت له وإليه: أرسلت إليه الهدية، تقدير الكلام: كانت تُهدي سمنًا للنبي صلى الله عليه وسلم في عُكَّة لها.
قوله: "فما زالَ يُقيمُ لها أُدْمَ بيتِها حتَّى عَصرتها"؛ أي: فما زال ذلك السمن في العُكَّة أدم بيتها لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نقَّتها من السمن.
قوله: "لو تركتِيها ما زالَ قائمًا"؛ أي: ما زال أدمُ بيتِك قائمًا لو تركت ما فيها من السمن وما عصرتيها، فإن البركة تنزل في شيء ولو كان قليلاً، فإذا نزلت البركة في شيء قليلٍ كَثُر ذلك القليل، فالياء في (تركتيها) و (عصرتيها) للإشباع.
* * *
4623 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: قَالَ أبو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَد سَمِعتُ صَوْتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ضَعيفًا أعرِفُ فيهِ الجُوعَ، فهلْ عِندَكِ منْ شيءٍ؟ قَالَتْ: نعمْ، فأخرجَتْ أَقْرَاصًا منْ شَعِيْرٍ، ثُمَّ أخرجَتْ خِمارًا لَها فلَفَّتِ الخُبزَ ببعضهِ، ثمَّ دَسَّتْهُ تحْتَ يَدِي، ولَاثَتْنِي ببعضهِ، ثمَّ أرسَلَتْنِي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فذهبتُ بهِ، فوجَدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في المَسجِدِ ومعهُ نَاسٌ، فقُمتُ فسلَّمتُ عليهِمْ، فقالَ في رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أرسلكَ أبو طَلْحَةَ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"بطعامٍ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ:"قُوموا"، فانطلَقَ، وانطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فأخبَرْتُهُ، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ! قد جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاسِ وليسَ عِندَنا ما نُطْعِمْهُم، فقَالَتْ: الله ورسُولُهُ أَعْلَمُ، فانطلقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو طَلْحَةَ معهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هَلُمَّي يا أُمَّ سُلَيْم! ما عِنْدَك"، فأتَتْ بذلك الخبزِ، فأَمَر به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً، فأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فيهِ مَا شَاءَ الله أنْ يقولَ، ثُمَّ قال:"ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فأذِنَ لهُمْ، فأكَلوا حتَّى شَبعوا ثُمَ خرَجوا، ثُمَّ قال:"ائْذَنْ لِعَشَرةٍ، ثُمَّ لِعَشَرةٍ"، فأكَلَ القَومُ كُلُّهم وشَبعُوا، والقومُ سَبعونَ أو ثَمانونَ رَجُلاً.
ويُروى أَنَّه قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فدَخَلوا فَقَالَ:"كُلوا، وسَمُّوا الله"، فأَكَلوا حتَّى فَعَلَ ذلك بِثَمانينَ رَجُلاً، ثمَّ أَكَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأهلُ البيتِ وتَرَكَ سُؤْرًا.
ويُروى: فجَعَلْتُ أنظُرُ: هلْ نَقَصَ منها شَيءٌ؟!.
ويُروَى: ثُمَّ أَخَذَ ما بَقِيَ فجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعا فيهِ بالبَرَكَةِ، فَعَادَ كمَا كانَ، فقال:"دُونَكُمْ هذا".
قوله: "ثم أخرجَتْ خِمارًا لها، فلفَّت الخبزَ ببعضه"، (الخمار): ما يستر رأس المرأة، وهو المَقْنَعة، (لفَّ): إذا جَمَع.
قوله: "ثم دسَّتْهُ تحت يدي ولاثَتْني ببعضه"، (الدسُّ): الإخفاء، يقال: لاثَ العمامةَ على رأسه؛ أي: عَصَبها على رأسه؛ يعني: لفَّتِ الخبزَ بعضَه على بعض، ثم أخفته تحت يدي، وعَصَبت على رأسي الطرفَ الآخر.
قوله: "هلُمِّي يا أمَّ سُلَيم ما عندكِ"؛ يعني: أحضري ما عندك.
قوله: "فأتتْ بذلك الخبزِ، فأمرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ"؛ أي: جُعل فَتِيتًا.
قوله: "فأدمته"، يقال: أَدم يَأدِم أَدْمًا وإدامًا؛ أي: جعلت أمُّ سُليم السمنَ الذي في العُكَّة إدامًا لذلك الفَتِيت.
قوله: "ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا
…
" الحديث.
قيل: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "ائذن لعشرة عشرة"، ولم يقل: ائذن للكلِّ بمرة واحدة،؛ لأن الجمع الكثير إذا نظروا إلى طعامٍ قليل يزداد حرصُهم على الأكل، ويظنون أن ذلك الطعام لا يُشْبعهم، ولا يكفيهم.
فإذا كان كذلك، فالحرص على الأكل مَمْحَقَة للبركة، وإذا كان الأمر بالعكس كما أن الطعام يزيد على قدر ما يكفي الآكلين، فلا يهيج حرصُهم على الأكل، وتطمئنُّ نفوسُهم، فعند ذلك نزولُ البركة متوقَّع من عند الله سبحانه، فلهذه الحكمة قال صلى الله عليه وسلم:"ائذن لعشرة عشرة".
قوله: "وتركَ سؤرًا" - السُّؤر بالضم والهمز -: البقيَّة.
قوله: "دونَكم هذا"؛ أي: خذوه، (هذا) اسمٌ للأمر كـ (صَهٍ ومَهٍ).
قيل: تقال هذه الكلمة عند الإغراء بالشيء والتحريض عليه؛ يعني: إذا شبع القوم قال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "دونكم هذا"؛ أي: عليكم بهذا وكُلُوه.
* * *
4624 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أُتِيَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإناءٍ وهوَ بالزَّوْراءِ، فوَضَعَ يَدهُ في الإِناءِ فجعَلَ الماءُ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِهِ، فتوضَّأَ القَوْمُ، قال قَتادةُ رضي الله عنه: قُلتُ لِأَنَسٍ: كمْ كنتُمْ؟ قالَ: ثَلاثَ مَئِةٍ، أوْ زُهَاءَ ثَلاثَ مِئَةٍ.
قوله: "وهو بالزَّوراء"، (الزوراء): هو اسم موضع بالمدينة، قيل: سميت بذلك لبعدها من المدينة، أو لازْوِرَارِها عن المسجد، و (الزوراء): البئر البعيدة القَعْر.
قوله: "أو زُهاء ثلاث مئة"، (الزهاء) - بضم الزاي - معناه: المِقْدار.
* * *
4625 -
عَنْ عبدِ الله بن مَسْعودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نعُدُّ الآياتِ برَكَةً، وأنتُمْ تَعُدُّونَها تَخْوْيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَقَلَّ المَاءُ، فَقَالَ: اطلُبوا فَضْلةً من مَاءٍ، فَجَاءُوا بإناءٍ فيهِ مَاءٌ قليلٌ، فأدْخَلَ يَدَهُ في الإِناءِ، ثمَّ قَالَ:"حَيَّ على الطَّهورِ المُبارَكِ، والبَرَكَةُ مِنَ الله"، فلقن رأيتُ الماءَ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولَقدْ كُنَّا نَسْمعُ تسبيح الطَّعامِ وهوَ يُؤْكَلُ.
قوله: "كنَّا نعُدُّ الآياتِ بركةً، وأنتم تعدُّونها تخويفًا"، قيل:(الآيات) ها هنا بمعنى المعجزات، سميت المعجزات آية؛ لأنها علامةٌ على نبوَّته صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أراد ابن مسعود رضي الله عنه بذلك: أن عامة الناس لا ينفع فيهم إلا آيات نزلت بالعذاب والتخويف، وخاصَّتهم - يعني بهم: الصحابة رضوان الله عليهم - كان ينفع فيهم الآياتُ المُقْتَضية للبركة.
أصل (البركة): الثبات والدوام، ومنه: البركة والبُروك والبَرْك الذي هو الصدر، فـ (تبارك الله) معناه: دام عظمته وجلاله دوامًا وثباتًا لا إبطال له، ولهذا لا يقال: يتبارك الله، مضارعًا؛ لأن انتقال الأزمنة على القديم محال.
ومعنى البركة في الشرع: داوم الإيمان، وامتثال الأمر، ودوام الوعد بحُسْن العاقبة، كما فعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم بجماعةٍ وعدَهم وعدًا دائمًا لا ينقطع بأنهم من سُكَّان الجنة، سعادتُهم أبديَّة لا انقطاعَ لها.
قوله: "حيَّ على الطَّهور المُبارك"، (حيَّ) - مفتوح الياء - اسمٌ لفعل الأمر، ومعناه: أسرِعْ، كما تقول العرب: حيَّ على الثَّريد؛ أي: أسرع إليه.
قوله: "كنَّا نَسْمعُ تسبيحَ الطَّعامِ وهو يُؤكل"، تسبيح الطعام إن كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يأكله فبركةُ يدِه وصَلَتْ إلى الطعام، فصار الطعام يسبح الله تعالى على أنْ جعلَه مأكولَ خيرِ الأنبياء، فإن خير الطعام ما يأكله الخَير، وسماع تسبيح الطعام كان معجزةً ظاهرة له صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن بين يديه فيكون تسبيحه أيضًا معجزة له، إذ الطعامُ جماد، وتسبيح الجماد خَرْقُ العادات.
واعلم أن تسبيحَ الطعامِ والحَصَى وغيرَ ذلك من معجزاته: إنما كان مُسْتَغْربًا بالنسبة إلى عالَم الحِكْمة؛ لأن ما وُجد في عالم الحكمة لا يحصُل إلا بالأسباب؛ لأنه مركَّب من العناصر الأربعة، وأما عالَم القُدرة فهو غير مركَّب.
فحينئذ لا يحتاج إلى الأسباب والمواد، فعند إرادته القديمة تعالى بإظهار معجزة على يد نبي من الأنبياء صلوات الله عليهم يظهرُ ما هو من عالَم القدرة الذي لا تركيب فيه على يده؛ كتسليم حجر، أو تسبيح طعام، وغير ذلك مما يعجَزُ الخلْقُ عن إتيان مثله، فيلزمهم تصديقُه في دعوى النبوة؛ لأنه بشرٌ مثلُهم، فلو لم يكن مؤيَّدًا من عنده تعالى لَمَا قَدَرَ عليه، كما لا يَقْدِرون عليه.
* * *
4626 -
قَالَ أَبُو قَتادَة رضي الله عنه: خَطَبنا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إنَّكُمْ تَسيرُونَ عَشيَّتَكُمْ ولَيْلَتَكُمْ، وتأْتونَ المَاءَ إِنْ شَاءَ الله غَدًا"، فانطلقَ الناسُ لا يَلْوِي أَحدٌ على أَحدٍ، قال أبو قَتادَةَ رضي الله عنه: فبَيْنَما رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسيرُ حتَّى ابْهارَّ اللَّيلُ، فمَالَ
عنْ الطَّريقِ، فوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ:"احْفَظُوا علَيْنا صَلاتَنا"، وَكَانَ أوَّلَ مَنْ استَيْقَظَ رَسَولُ الله صلى الله عليه وسلم والشَّمْسُ في ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"ارْكَبُوا"، فركِبنا، فسِرْنا، حتَّى إذا ارتفَعَتِ الشَّمسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعا بمِيضأَةٍ كانتْ معِي فيها شَيءٌ منْ ماءٍ، فتوضَّأَ مِنْها وُضُوءًا دُونَ وُضوءٍ، قال: وبقيَ فيها شَيءٌ منْ مَاءٍ، ثُمَّ قال:"احْفَظْ علَيْنا مِيضَأَتَكَ فسيَكونُ لَها نَبأٌ"، ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ بالصَّلاةِ، فصَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ركعتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الغَداةَ، ورَكِبَ ورَكِبنا مَعَهُ، فانتَهينا إلى النَّاسِ حِينَ امتدَّ النَّهارُ وحَمِيَ كُلُّ شيءٍ وهُم يقولون: يا رَسُولَ الله! هلَكْنا عَطَشًا، فقال:"لا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ودَعا بالمِيضأَةِ، فَجَعلَ يَصُبُّ وأبو قَتادَةَ يَسقيهِمْ، فلمْ يَعْدُ أنْ رَأَى النَّاسُ ماءً في المِيضأَةِ فتَكَابُّوا عليها، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أحْسِنوا المَلأَ، كُلُّكُم سَيَرْوَى"، قال: ففعلَوا، فجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ ويَسقِيهِمْ، حتَّى ما بَقِيَ غَيْرِي وغَيْرُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ فقالَ لي:"اشرَبْ"، فقلتُ: لا أشرَبُ حتَّى تَشْرَبَ يا رَسُولَ الله! قَالَ: "إنَّ سَاقِيَ القَومِ آخِرُهُم شُرْبًا"، قال: فشرِبْتُ وشَرِبَ، قال: فأتَى النَّاسُ المَاءَ جامِّينَ رِواءً.
قوله: "لا يلوي أحد على أحد"؛ أي: لا يميل أحدٌ إلى أحد، ولا يلتفت إليه، بل يمشي وحدَه قاصدًا إلى الماء.
قوله: "يسير حتى ابهارَّ اللَّيلُ"؛ أي: انتصف، وبُهْرة الشيء: وسطه.
قوله: "اركَبُوا، فَرَكِبنا، فَسِرْنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نَزَل" وإنما أخَّر القضاء ليكون دليلاً على أن قضاء صلاة نام عنها أو نسِيَها لا يجب على الفور، بل على التراخي مدةَ عمره، ولا يأثم، وإنما لم يقض في ذلك الموضع الذي فاتت الصلاة عنه، بل انتقل إلى موضع آخر، ليعلِّم أن الموضعَ الذي ارتكب الشخصُ فيه مَنْهيًّا أو تَرَكَ مأمورًا يُستحبُّ له أن يفارِق ذلك الموضع، ثم يأتي بما تَرَكَه في موضعٍ آخرَ ترغيمًا للشيطان.
قوله: "ثم دعا بمِيْضَأة كانت معي"، (الميضأة): مطهرة يتوضأ بها، مفعلة من الوضوء.
قوله: "فتوضَّأ وضوءً دون وضوء"؛ أي: توضأ وضوءً وَسَطًا بين ما هو على الكمال وبين ضده، وإنَّما رَضيَ بما هو أدنى لقلة الماء.
قوله: "حتَّى امتدَّ النهارُ، وحَمِيَ كلُّ شيء"؛ أي: حتى ارتفع النهار، واشتد حرارةُ كلَّ شيء.
قوله: "تكابوا عليها"؛ أي: ازْدَحموا على المِيْضَأة.
قوله: "أحسِنُوا المَلأَ كلكم"، قال في "الصحاح": المَلأَ: الخُلُق، فيقال: ما أحسنَ مَلأَ بني فلان؛ أي: عشرتهم وأخلاقهم، والجمع أَمْلاء.
وفي الحديث: أنه قال لأصحابه حين ضربوا الأعرابي: "أحسنوا أملاءكم كلكم"، الضمير في (أحسنوا كلكم) تأكيد؛ أي: أحسِنوا كلُّكم الأخلاقَ.
قوله: "فأتى الناسُ الماءَ جامِّينَ رِواءً"، (الرِّواء) جمع رَيَّان، كعِطاش جمع عَطْشان، قيل: معناه: أتى الناس ممتلئين من الماء، من قولهم عندي جُمَام القفيز دقيقًا - بالضم لا غير -، وبالفتح: يُستعمل في الفرس، وبالكسر: يستعمل في القَدَح ملآن من الماء، هذا قول الفَرَّاء.
قال غيره: يجوز أن يقال جَمام المَكُوك وجُمامه وجِمامه - بالفتح والضم والكسر -، هذا معنى كلام صاحب "الصحاح".
وقيل: معناه: أتى الناس مُسْتريحين بحيث زال تعبُهم وعَناؤهم، مِنَ الجَمام - بالفتح - وهو الراحة.
* * *
4627 -
عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لمَّا كَانَ يَومُ غَزوةِ تَبوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالَ عُمرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ الله! ادْعُهُمْ بفَضْلِ أزْوادِهمْ، ثمَّ ادْعُ الله لهُمْ عليها بالبَرَكةِ، فقال:"نَعَمْ" فدَعا بنطَعٍ فبُسِطَ، ثُمَّ دَعا بفَضْلِ أزْوادِهمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بكَفِّ ذُرَةٍ، ويَجيءُ الآخرُ بكَفِّ تَمرٍ، ويَجيءُ الآخَرُ بكِسْرةٍ، حتَّى اجتمَعَ على النَّطَعِ شَيءٌ يَسيرٌ، فدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبَرَكَةِ، ثُمَ قَالَ:"خُذوا في أَوْعيَتِكُمْ"، فأخَذوا في أوْعِيَتهِم حتَّى مَا تَرَكوا في العَسْكَرِ وِعاءً إلَّا مَلَؤُوهُ، قَالَ: فأكَلوا حتَّى شَبعوا، وفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنَّي رَسُولُ الله، لا يَلْقَى الله بهِما عبدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فيُحْجَبَ عن الجَنَّةِ".
قوله: "أصاب الناسَ مَجَاعةٌ"، (المجاعة): الجوع.
قوله: "ثم دعا بِفَضْل أَزْوادهم"، الفضل والفَضْلة: ما فَضَل من شيء.
(الأزواد): جمع زاد، وهو طعام يُتَّخذ للسفر؛ يعني: طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أن يأتوا ببقيَّة أَزْوادهم.
قوله: "فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبركة"، قيل: البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وذلك إما أن يَجْعلَ الله سبحانه القليلَ مُشْبعًا بقدرته القديمة، أو يزيدَ في أجزائها زيادةً غيرَ محسوسة، ابتلاء للآكلين؛ لأن في الغيب ابتلاء للمؤمنين المُوقنين.
قوله: "لا يلقى الله بهما عبدٌ غيرُ شَاكٍّ فيُحْجَبَ عن الجنَّة"، الضمير في (بهما) للشهادتين.
(فيحجب): منصوب على جواب قوله: (لا يلقى)؛ يعني: مَنْ لقي الله سبحانه بالشهادتين - يعني: بالإسلام - من غير تردد وشك، فلا يُحجب عن الجنة البتَّةَ.
* * *
4628 -
وقَالَ أنَسٌ رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَروسًا بزَيْنَبَ، فعَمَدَتْ أُمَّي أُمُّ سُلَيْمٍ إلى تَمرٍ وسَمنٍ وأَقِطٍ، فَصَنَعَتْ حَيْسًا فجعلَتْهُ في تَوْرٍ، فَقَالتْ: يَا أَنَسُ! اذهَبْ بهذا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقُلْ: بَعَثَتْ بهذا أُمِّي إليكَ، وهيَ تُقْرِئُكَ السَّلامَ، وتَقُولُ: إنَّ هذا لكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله! فذهبْتُ فقلتُ، فَقَالَ:"ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ:"اذهبْ فادْعُ لي فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا - رِجالاً سمّاهُمْ -، وادْعُ مَنْ لَقِيتَ"، فدعَوْتُ مَنْ سَمَّى ومَنْ لَقِيتُ، فرجعتُ، فإذا البَيْتُ غَاصٌّ بأهلِهِ، قِيلَ لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ عَدَدُكمْ؟ قال: زُهاءَ ثَلَاثِ مِئَةٍ، فَرَأَيتُ النَّبيَّ وَضَع يَدَهُ على تِلْكَ الحَيْسَةِ، وتَكلَّمَ بَما شَاءَ الله، ثُمَّ جَعَلَ يَدعُو عَشَرَةً عَشَرةً يأْكُلونَ منهُ ويقولُ لهُمْ:"اذْكُروا اسْمَ الله عَلَيْهِ، ولْيأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَليهِ"، قال: فَأَكَلوا حتَّى شَبعوا، فخَرَجَتْ طَائِفةٌ ودَخلَتْ طَائِفةٌ حتَّى أكَلوا كلُّهُمْ، فقالَ لي:"يا أنسُ! ارْفَعْ"، فرفَعْتُ، فَمَا أدْرِي حِينَ وضَعْتُ كَانَ أكثرَ أمْ حينَ رَفَعْتُ!.
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بزينب"، والعَروس يُستعمل في الرجل والمرأة جميعًا.
قال في "الصحاح": يقال: رجُلٌ عَروس في رجال عُرُس، وامرأة عروس في نساء عرائس، وفي المَثَل: كاد العَروسُ يكون أميرًا. وسببُ الاستواءِ المبالغةُ في عَرُوس؛ كَصَبُور.
قوله: "فعمَدَتْ أميِّ أمُّ سُلَيم إلى تَمْرٍ وسَمنٍ وأَقِطٍ، فصنَعَتْ حَيْسًا"(عَمَدت)؛ أي: قصدت، و (الحيس): تمر يُخْلط بالسمن، و (الأقط)، و (التور): إناء يُشرب فيه.
قوله: "فرجعَتْ، فإذا البيتُ غاصٌّ بأهله"، قال الحافظ أبو موسى: يقال: غَصَّ الموضعُ بالقوم: إذا امتلأ بهم.
* * *
4629 -
قَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: غزَوْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا على نَاضحٍ قدْ أعْيا فلا يَكَادُ يَسيرُ، فَتَلاحَقَ بِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"ما لِبَعيرِكَ؟ "، قُلْتُ: قدْ عَييَ، فتخلَّفَ رَسُولُ الله فَزَجَرَهُ ودَعا لَهُ، فما زالَ بينَ يَدَي الإِبلِ قُدَّامَها يَسيرُ، فَقَالَ لِي:"كيفَ تَرى بَعيرَكَ؟ " قلتُ: بخَيْرٍ، قدْ أصابَتْهُ بَرَكَتُكَ، قال:"أفَتَبيعُنِيهِ بِوُقيَّةٍ؟ "، فبعْتُهُ على أنَّ لي فَقارَ ظهرِهِ إلى المدينةِ، قَالَ: فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينةَ غَدَوْتُ عليهِ بالبَعيرِ، فأَعْطَانِي ثَمْنَهُ، ورَدَّهُ عليَّ.
قوله: "وأنا على نَاضحٍ قد أَعْيا"، (الناضح): بعير يُسْتَسْقى عليه الماء.
(عيي): إذا عَجَز عن المشي وغيره.
قوله: "فما زال بين يدَي الإبلِ قُدَّامَها يسيرُ"؛ يعني: فما دام ذلك البعير يسير قدَّامَ الإبلِ سيرًا شديدًا بركة لدعاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "فبعته على أنَّ لي فَقَارَ ظهرِه إلى المدينة"، (الفَقَار): عِظام الظَّهْر، والمراد به ها هنا: الظَّهر؛ أي: ركوب فَقَار ظهرِه؛ يعني: بعتُ البعير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يكون مركوبًا لي إلى المدينة، فلمَّا قدمنا المدينة ردَّ ثمنَ البعيرِ إليَّ، ووهبَ لي البعير أيضًا، وفيه دليلٌ على جواز استثناء بعض منفعة المَبيع مدةً.
* * *
4630 -
عَنْ أَبي حُمَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبوكَ، فأتَيْنا وادِي القُرَى على حَديقةٍ لامْرأةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اخْرُصُوهَا"، فخَرَصْناهَا، وخَرَصَها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أوْسُقٍ وقال:"أحْصِيْهَا حتَّى نَرجِعَ إِلَيكِ إِنْ شَاءَ الله عز وجل"، وانْطَلَقْنا حتَى قَدِمْنَا تَبوكَ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ستَهُبُّ عَلَيكُمُ اللَّيلةَ رِيحٌ شَديدةٌ، فلا يَقُمْ فيها أَحدٌ، فمَنْ كَانَ لَهُ بَعيرٌ فلْيَشُدَّ عِقالَهُ"، فهَبَّتْ رِيحٌ شَديدةٌ، فَقَامَ رَجَلٌ فحَملَتْهُ الرِّيحُ حتَّى ألْقَتْهُ بجَبَلَ طَيئٍ، ثُمَّ أقبَلْنا
حتَّى قَدِمنا وادِي القُرَى، فَسَألَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَرأَةَ عنْ حَديقتِها، "كَمْ بَلَغَ تمرُها؟ "، فَقَالت: عَشَرَةَ أوْسُقٍ.
قوله: "فأتينَا وادي القُرى على حديقة"، (وادي القرى): موضع، (الحديقة): عبارة عن كل بستان عليه حائط.
قال في "الغريبين": قال أبو عبيدة: الحديقة: كل ما أحاط به البناء، يقال: حَدَق به، وأَحْدَق به.
قوله "بجبلي طيء"، جبلا طيء؛ أحدهما سَلْمى، والآخر أَجَأ، على وزن فعلى، بفتح الكل، وهما بأرض نجد.
* * *
4631 -
وقَالَ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّكُمْ ستَفْتَحُونَ مِصْرَ، وهيَ أَرْضٌ يُسمَّى فيها القِيراطُ، فإذا فتَحتُموها فأحْسِنوا إلى أَهلِها فإنَّ لَها ذِمَّةً ورَحِمًا - أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وصِهْرًا - فإِذَا رَأيتُم رجُلَيْنِ يَخْتصِمَانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فاخْرُجْ مِنْهَا"، قَالَ: فَرَأَيْتُ عبدَ الرَّحمنِ بن شُرَحْبيلَ بن حَسَنةَ وأَخاهُ رَبيعةَ يَخْتصِمانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فخرجْتُ منها.
قوله: "إنكم ستفتحونَ مِصْرَ وهي أرضٌ يسمَّى فيها القِيراطُ"، تقديره: إنكم ستفتحون مِصْرَ، ومِصْرُ أرضٌ يسمَّى فيها؛ أي: في مصر (القيراط).
قال الطحاوي في "مشكل الآثار": إن أرضَ مصرَ يسمى فيها القيراط؛ لأنَّ أهلَها يستعملونه في السبِّ وإسماع المكروه، فيقولون: أعطيت فلانًا قيراطًا؛ أي: أسمعته المكروه، ويقولون: اذهب وإلا أعطيك القراريط؛ أي: السب والشتم، إنما ينبههم على صفة تلك البلدة بخصوصها، وإنما ينبههم عند فتحها عن خُلُق أهلها، أو معجزة لأن هذا من الغيب.
قوله: "فإنَّ لها ذِمَّة ورَحِمًا، أو: ذمةً وصِهْرًا" قيل: الذمة المراد بها الذَّمام الذي حصل لهم من جهة إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارِية القِبْطية، فإنها من مصر، وأما الرَّحِم فمن جهة هاجرَ أمِّ إسماعيل صلوات الله عليهما، فإنها أيضًا من مصر، وقيل: الصِّهر مختصٌّ بمارية، والذَّمَّة بهاجر.
قوله: "فإذا رأيتُم رجلين يختصِمان في موضع لَبنة
…
" الحديث.
قيل: قد ظهر هذه الخصومة في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه حين عَتَبوا عليه ولايةَ عبدِ الله بن سعد بن أبي سَرْح، أخيه من الرَّضَاعة، فكان منهم ما كان، وإنما قال لأبي ذر:(فاخرج منها) شفقةً عليه ونظرًا له، كيلا يتضرَّر من تلك الخصومة التي هي مادَّة الفتن.
وهذا الذي قد أخبر صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، وقد وقع = من جملة معجزاته أيضًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
4632 -
عَنْ حُذَيْفَة رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"في أَصحَابي - وفي رَوِايَةٍ: في أُمَّتِي - اثْنا عَشَرَ مُنافِقًا، لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ ولا يَجدونَ رِيحَها حتَّى يَلِجَ الجمَلُ في سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيةٌ منهُم تَكفِيهِم الدُّبَيْلَةُ: سِراجٌ مِنَ النارِ تَظهرُ في أكتافِهِم حتَّى تَنْجُمَ في صُدورِهِم".
قوله: "حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط"، وَلَج يَلِجُ: إذا دخل، (السَّم): الثقبة، (الخياط) - بكسر الخاء -: الإبرة.
قوله: "ثمانيةٌ منهم تَكْفيهم الدُّبَيلة"، (الدبيلة) في الأصل هي الدَّاهية، وهي مصغَّرة للتكبير، واستعمل في الطاعون وقَرحة متصلِّبة شديدة كانت تظهر في أكتافهم.
قوله: "سِراجٌ من النَّار تظهرُ في أكتافهم حتى تَنْجُمَ في صدورهم"، يقال: نَجَم النَّبتُ يَنْجُم: إذا خرج؛ يعني: تلك القَرحة تظهر في أكتافهم مثل سراجٍ من النار لشدة أَلَمِها وحرقة محلِّها، حتى يَسْرِيَ فيها إلى الصدور ويَهْلَك صاحبُها.
* * *
4633 -
عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنيَّةَ المُرارِ فإنَّهُ يُحَطُّ عنهُ ما حُطَّ عنْ بني إسْرائيلَ"، فكانَ أوَّلَ مَنْ صَعِدَها خَيْلُنا خَيْلُ بني الخَزْرجَ، ثمَّ تَتامَّ النَّاسُ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"وكُلُّكُمْ مَغفورٌ لهُ إِلَاّ صاحِبَ الجَملِ الأحمرِ"، فَأتَيْنَاهُ فقُلنا لهُ: تَعَالَ يَستغفِرْ لكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أحبُّ إليَّ منْ أنْ يَستغفِرَ لِي صاحِبُكُم، وكَانَ رَجُلًا يَنشُدُ ضَالَّةً لهُ.
قوله: "مَنْ يَصعَدُ الثنيَّةَ ثنيَّةَ المُرارِ، فإنه يُحَطُّ عنه ما حَطَّ عن بني إسرائيل"، قيل: ثنية المرار - بضم الميم -: عَقَبة منسوبة إلى شجرة مُرّ، يقال لها: المُرار.
قال الحافظ أبو موسى في "المُغيث": هو ما بين مكة والمدينة من طريق الحديبية، قيل: لعلَّ هذه الثنية كان صعودُها شاقًّا على الناس، إما لقُربها من العدو، أو لصعوبة طريقها، فلهذا قال:(يُحَطُّ عنه ما حَطَّ عن بني إسرائيل) حين امتثلوا قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: 161].
قوله: "ثم تتامَّ النَّاسُ"؛ أي: صَعِدَ الناسُ الثنيةَ كلُّهم.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4634 -
عَنْ أَبي مُوْسَى الأَشْعرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ أبو طَالِبٍ إلى الشَّامِ،
وخَرجَ مَعَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أَشْياخٍ منْ قُريشٍ، فلمَّا أشْرَفوا على الرَّاهِبِ، هَبَطوا فحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فخرجَ إليهِم الرَّاهِبُ، وكانوا قَبْلَ ذلكَ يَمُرُّونَ بهِ فَلا يَخرُجُ إليهِمْ، قَالَ: فهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فجَعَلَ يَتخلَّلُهُم الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فأخذَ بيدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: هذا سَيدُ العَالَمِينَ، هذا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبعثُهُ الله رَحمَةً للعَالَمينَ، فقالَ لهُ أَشْياخٌ منْ قُريشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قال: إنَّكُمْ حِينَ أشْرَفْتُم مِنَ العَقَبةِ لم يَبْقَ شَجرٌ ولا حجرٌ إلَّا خَرَّ سَاجِدًا، ولا يَسجَدانِ إلَّا لِنَّبيٍّ، وإنَّي أَعْرِفُهُ بَخَاتَمِ النُّبوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْروفِ كتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لهُمْ طَعَامًا، فلمَّا أَتاهُمْ وكانَ هوَ في رِعْيَةِ الإِبلِ قَالَ: أَرسِلوا إِليْهِ، فأقبَلَ وعلَيهِ غَمامَةٌ تُظِلُّهُ، فلمَّا دَنا مِنَ القَومِ وجَدَهُمْ قدْ سَبقوهُ إلى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فلمَّا جَلَسَ مالَ فَيْءُ الشَّجرةِ عَلَيْهِ فَقَال: انظُروا إلى فَيْءِ الشَّجَرةِ مَالَ عليهِ، فَقَالَ: أنشُدُكُم الله، أيُّكُمْ ولِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فلم يَزَلْ يُناشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبعثَ معهُ أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه بِلالاً (1)، وزوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ.
قوله: "فلمَّا أشرفُوا على الرَّاهب هَبَطوا فحلُّوا رِحَالَهم"، (أشرف عليه): اطلع عليه، (الراهب): الزاهد من النصارى، قيل: اسم هذا الراهب كان بَحيرا،
(1) قال في "مرقاة المفاتيح"(11/ 65): رواه الترمذي (3620)؛ أي وقال: حسن غريب، وقال الجزري: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيحين أو أحدهما، وذِكْر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، وعدَّه أئمتنا وهمًا، وهو كذلك فإن سِن النبي إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وأبو بكر أصغر منه بسنتين، وبلال لعله لم يكن وُلد في ذلك الوقت اهـ.
وقال في "ميزان الاعتدال"(4/ 307) قيل: مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله: "وبعث معه أبو بكر بلالاً" وبلال لم يخلق بعد وأبو بكر كان صبيًا اهـ.
وضعف الذهبي هذا الحديث لقوله: "وبعث معه أبو بكر بلالاً"؛ فإن أبا بكر إذ ذاك ما اشترى بلالاً.
وقال الحافظ ابن حجر في "الإصابة"(1/ 353): الحديث رجاله ثقات، وليس فيه سوى هذه اللفظة، فيحتمل أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهمًا من أحد رواته.
وكان أعلم النصارى، وموضعه كان بصرى من بلاد الشام.
(هبط): إذا نزل، (حلَّ)؛ أي: فتح.
قوله: "فجعل يتخلَّلُهم الراهبُ"، (جعل)؛ أي: طَفِق، (تخلَّلَ في الشيء): إذا دخل في خَلَله، وهو الوسَط.
قوله: "وإنَّي أعرِفُه بخاتَم النُّبوة أسفلَ من غُضْروفِ كَتفِه"، (الغضروف): ما لان من العَظْم، وقيل: غضروف: فوق الكتف، وغضروفة اللحم: الذي بين الكتفين.
قوله: "فلم يَزَلْ يُنَاشِده حتَّى رَدَّه"؛ يعني: لم يزل الراهبُ يقول لأبي طالب: بالله عليك أنْ تردَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ، واحفظْه من العدو، حتى ردَّه إلى مكة.
قيل: كان الراهب يخاف أن يذهبوا به إلى الروم، فتقتله الروم، فلذلك ناشدَ أبا طالب عمَّه حتى ردَّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
* * *
4636 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بالبُراقِ لَيْلةَ أُسْرِيَ بهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فاسْتَصْعَبَ عليهِ، فَقَالَ لهُ جبريلُ:"أَبمُحَمَّدٍ تفعلُ هذا؟ فَمَا ركِبَكَ أَحَدٌ أَكْرمُ على الله مَنْهُ"، قَالَ: فارْفَضَّ عَرَقًا. غريب.
قوله: "مُلْجَمًا مُسْرَجًا"، (ملجمًا)؛ أي: مَشْدودًا عليه اللِّجام، (مُسْرجًا)؛ أي: موضوعًا عليه السَّرج؛ يعني: كان مُهيّأً للركوب.
قوله: "فاستصْعَبَ عليه"؛ أي: صعب عليه الركوب؛ يعني: ما قدر أن يركبَه.
قوله: "فارفَضَّ عَرَقًا"؛ أي: سال منه العَرَق وترشَّش.
* * *
4637 -
وعَنْ بُرَيْدةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا انتهَيْنا إلى بيتِ المَقْدِسِ قالَ جِبريلُ بأُصبُعِهِ، فخَرَقَ بها الحَجرَ، فشدَّ بهِ البُراقَ".
قوله: "قال جبريل صلى الله عليه وسلم بإصبعه، فخرق بها الحجر، فشد به البراق"، (قال به)؛ أي: أشار بإصبعه الحجر، فشقَّ الحجر بإصبعه، فانشق، ثم شَدَّ البراق بذلك الحجر.
* * *
4638 -
عن يَعلى بن مُرَّة الثَّقَفيِّ قَالَ: ثَلاثةُ أَشْياءَ رأَيْتُها مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: بَيْنا نحنُ نسَيرُ معهُ إِذْ مَرَرْنا ببَعِيرٍ يُسْنَى عَلَيهِ، فلَمَّا رَآهُ البَعيرُ جَرْجَرَ، فوضَعَ جِرانَهُ، فوقَفَ عليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"أينَ صاحِبُ هذا البعيرِ؟ "، فجَاءَهُ، فَقَالَ:"بِعْنِيهِ"، فَقَالَ: بلْ نَهَبُهُ لكَ يَا رَسُولَ الله! وإنَّهُ لِأَهلِ بيتٍ ما لهُم مَعيشَةٌ غيرُهُ، فقال:"أَمَّا إِذَ ذَكَرتَ هذا منْ أمْرِهِ فإنَّه شَكا كَثْرَةَ العملِ وقِلَّةَ العَلَفِ، فأحْسِنوا إليهِ"، ثُمَّ سِرْنا حتَّى نَزَلْنا مَنْزِلاً، فَنَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجَاءَتْ شَجَرةٌ تَشُقُّ الأَرضَ حتَّى غشِيَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَكانِها، فلمَّا استيقظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرْتُ لهُ، فقال:"هِيَ شَجرةٌ استأْذَنَتْ ربَّها في أَنْ تُسَلِّمَ على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأذَنِ لَها"، قال: ثُمَّ سِرْنا، فمَرَرْنا بماءٍ، فأتَتْهُ امرأَةٌ بابن لَهَا بهِ جِنَّةٌ، فأخذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمَنْخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"اخرُجْ، إِنَّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم"، ثمَّ سِرْنا، فلمَّا رَجَعْنا مَرَرْنا بذلكَ المَاءِ، فَسَألَها عَنْ الصَّبيِّ، فَقَالَتْ: والَّذِي بعثَكَ بالحَقِّ، ما رأَيْنا منهُ رَيْبًا بَعدَك.
قوله: "ببعيرٍ يُسنَى عليه"؛ أي: يُسْتَقى عليه.
قوله: "فلما رآه البعيرُ جَرْجَرَ"، (جرجرَ)؛ أي: صَوَّتَ وصاح، (الجرجرة): صوت يردِّده البعير في حَنْجَرته، يقال: جَرْجَرَ البعير، فهو جَرْجَار، كما يقال: ثَرْثرَ
الرجل، فهو ثَرْثار.
قوله: "فوضعَ جِرانَه"، (جِرانُ البعير): مقدَّم عُنقه من مَذْبَحه إلى مَنْحَره.
قوله: "فأتته امرأةٌ بابن لها به جُنَّة" أي: بالابن جُنونٌ.
قوله: "ثم قال: اخْرُج"، أي: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنون: اخرج.
قوله: "والذي بعثكَ بالحقِّ ما رأينا منه رَيبًا بعدَك"، (الريب): الشك؛ أي: ما رأينا منه ما أوقعَنَا في شكِّ من حاله ورِيبة بعدَكَ.
وقيل: صوابه (رَئيًّا)، الرَّئي: الذي يُرى من الجِنِّ في صورة حيوان كحيَّةٍ وغيرها.
* * *
4639 -
وَقَالَ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّ اَمْرأةً جَاءَتْ بابن لَها إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ ابني بهِ جُنونٌ، وإِنَّهُ يأخُذُهُ عِنْدَ غَدائِنا وعَشائِنا، فمَسَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَدرَهُ ودَعا، فثَعَّ ثَعَّةً، وخرجَ منْ جَوْفِهِ مثلُ الجَروِ الأَسْودِ يَسعَى.
قوله "فثعَّ ثَعَّةً، وخرجَ من جوفه مثل الجِرْو الأسود يَسْعَى"، ثَعَّ الرجل ثَعًّا: إذا قاء.
(الجِرْو): ولد الكَلْب وغيره من السباع.
وفيه دليل على جواز الرُّقية إذا لم يكن فيها غير اسمِ الله سبحانه.
* * *
4641 -
وقَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فأقبَلَ أَعْرَابيٌّ، فَلَمَّا دَنا قَالَ لهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تشهدُ أنْ لا إِله إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ
لهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ؟ "، قَالَ: ومَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "هذِهِ السَّلَمَةُ"، فَدَعَاهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ بِشَاطِيءِ الوَادِي، فَأَقبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ حتَّى قامَتْ بينَ يَدَيْهِ، فاستَشْهَدَها ثَلَاثًا، فَشَهِدَتْ ثَلاثًا أَنَّه كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَنْبتِها.
قوله: "هذه السَّلَمة"، قيل:(السلمة): شجرة من العِضَاه، ورقُها القَرَظ، والقَرَظ: ما يُدبغ به الجِلد.
قوله: "فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطيء الوادي، فأقبلت تَخُدُّ الأرضَ، حتى قامتْ بين يديه"؛ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفًا بشاطيء الوادي؛ أي: طَرفه، (تَخُدُّ الأرض)؛ أي: تشقُّها، والخَدُّ: الشَّقُّ، (بين يديه)؛ أي: عنده.
* * *
4642 -
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نبيٌّ؟ قَالَ: "إنْ دَعَوْتُ هذا العِذْقَ منْ هذهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ أنَّي رَسُولُ الله"، فدَعاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعلَ يَنزِلُ منَ النَّخْلَةِ حتَّى سَقَطَ إلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال:"ارجِعْ"، فَعَادَ، فَأَسْلَمَ الأَعْرابيُّ. صَحَّ.
قوله: "إنْ دعوتُ هذا العِذْقَ من هذه النَّخلة"، (العِذق) - بكسر العين - الكِبَاسة، والكِبَاسة من النخل بمنزلة العُنْقود من العِنَب، والعَذْق - بالفتح -: النَّخْلة.
* * *
4643 -
عَنْ أبي هُريْرَة رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ذِئبٌ إلى رَاعِي غَنْمٍ فأخذَ منها
شَاةً، فطَلبَهُ الرَّاعِي حتَّى انتزَعَها منهُ، قَالَ: فصَعِدَ الذَّئبُ على تَلًّ فأقْعَى واستَقَّر وقال: عَمَدتُ إلى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ الله أَخَذْتُهُ ثمَّ انتزَعْتَهُ منِّي؟ فقالَ الرَّجلُ: تالله إنْ رأيتُ كاليومِ! ذِئبٌ يَتكلَّمُ؟ فقالَ الذِّئبُ: أَعجَبُ منْ هذا رَجُلٌ في النَّخَلاتِ بينَ الحَرَّتَيْنِ يُخْبرُكُم بِمَا مَضَى وبمَا هوَ كَائِنٌ بعدَكُمْ، قال: وكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًا، فجَاءَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرَهُ وأسلَمَ، فصَدَّقَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّها أَمَاراتٌ بينَ يَدَي السَّاعَةِ، فقد أَوْشَكَ الرَّجُلُ أنْ يَخرُجَ فلا يَرجِعَ حتَّى تُحدِّثَهُ نَعْلاهُ وسَوْطُه بِمَا أَحدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ".
قوله: "فأقْعى واسَتَثْفَر"، (الإقعاء): أن يجلس على وِرْكيه، وينصبَ يديه، و (الاستثفار): إدخال ذَنبَه من بين أَلْيتيه كما هو عادة الكِلاب.
قوله: "تالله إنْ رأيتُ كاليومِ ذئبٌ يتكلَّم"، قال في "الفائق"؛ أي: ما رأيتُ أُعجوبة مثلَ أعجوبةِ اليوم، فحذف الموصوف، وأقيم الصفةَ مقامَه، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
قوله: "بين الحَّرتين"؛ أي: الحجرين، والحَرَّة: حجارة سُود بين جبلين.
* * *
4644 -
عَنْ أبي العَلاءِ عَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نتَداول منْ قَصْعَةٍ مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى اللَّيلِ، تَقُومُ عَشَرة وتَقْعُدُ عَشَرةٌ، قُلنا: فَمَا كانتْ تُمَدُّ؟! قَالَ: منْ أيِّ شَيءٍ تَعْجَبُ؟ ما كانتْ تُمَدُّ إِلَاّ مِنْ هَا هُنَا، وأَشَارَ بيدِهِ إِلى السَّماءِ.
قوله: "كنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم نَتَداوَلُ من قَصْعَة، مِنْ غَدْوة حتى الليل"؛ أي: نتناوب بأكل الطعام منها طولَ النهار.
قوله: "فما كانت تُمَدُّ"؛ أي: مِنْ أين تُمَدُّ؛ أي: تُزاد القَصْعة من الطعام؟
يعني: من أين يكثُر الطعام فيها؟
"قال" النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "من أيِّ شيء تَعْجَب؟ "؛ أي: لا تَعْجَب، فإنَّ القَصْعة لا يكثُر فيها الطعام إلا مِنْ عَالَمِ القُدْرة، وهو عبارة عن نزول البركة فيما في القصعة من الطعام، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما كانت تمد
…
" إلى آخر الحديث.
* * *
4645 -
عَنْ عبدِ الله بن عَمرٍو رضي الله عنه: أَنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يومَ بَدرٍ في ثَلَاثِ مِئةٍ وخَمْسةَ عَشَرَ، فقال:"اللهمَّ! إنَّهُمْ حُفاةٌ فاحمِلْهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ عُراةٌ فاكْسُهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ جِياعٌ فأَشْبعْهُمْ"، ففَتحَ الله لَهُ، فانقَلَبوا وما منهُمْ رَجُلٌ إلَّا وقد رَجَعَ بجَمَلٍ أو جَمَلَيْنِ، واكْتَسَوا وشَبعوا.
قوله: "اللهمَّ إنَّهم حُفَاة فاحمِلْهُم"، (الحفاة): جمع الحافي، وهو الذي يمشي بلا نَعْل ولا مَدَاسٍ، يقال: أحملت فلانًا؛ أي: أعَنْتُه على الحمل؛ يعني: اللهمَّ أعطِ كلَّ واحد منهم المركوب.
(الجياع): جمع جائع.
* * *
4646 -
عَنِ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنّكُمْ مَنصورُونَ ومُصِيْبُونَ ومَفتوحٌ لَكُمْ، فمَنْ أَدرَكَ ذلكَ منكُمْ فليَتَّقِ الله، ولْيأْمُرْ بالمَعْروفِ، ولْيَنْهَ عَنِ المُنكَرِ".
قوله: "ومفتوحٌ لكم"؛ يعني: تُفتح لكم البلادُ الكثيرة.
* * *
4647 -
وَعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ يَهودِيَّةً مِنْ أَهلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصلِيَّةً،
ثمَّ أهدَتْها لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فأَخذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الذِّرَاعَ فأَكَلَ منها، وأكلَ رَهْطٌ منْ أَصحَابهِ معهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ارْفَعوا أيْدِيَكُمْ"، وأَرْسَلَ إلى اليَهودِيَّةِ، فدَعَاها فقال:"سَمَمْتِ هذِه الشاةَ؟ "، فقالت: مَنْ أخبَرَكَ؟ فقال: "أخبَرَنِي هذِه في يَدِي"، يَعني: الذَّراعَ، قالتْ: نَعَمْ، قلتُ: إنْ كانَ نَبيًّا فلنْ يَضُرَّهُ، وإنْ لمْ يكُنْ نبيًّا اسْتَرَحْنا منهُ، فعفَا عَنْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يُعاقِبْها.
قوله: "سَمَّتْ شاةً مَصْلِيَّة"، (المَصْلية): المَشْوِيَّة، مِنْ صَلَيْتُ اللحمَ: إذا شويته بالصِّلاء، وهي النار.
قيل: اسم هذه المرأة زينب بنت الحارث، وهي بنت أخي مَرحَب بن أبي مرحب.
قيل: لصفيةَ بنت حُيي شاةٌ مَصْلية سَمَّتها، وأكثَرَتْ في الكتف والذراع، لمَّا عرفتهما أنهما أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقِبْها.
قال الإمام التُّورِبشْتي في "شرحه": وفي هذا اختلاف؛ لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها فقُتِلت، والجمع بين الروايتين أنه عفا عنها أولاً، فلمَّا مات بِشْر بن البراء من الأَكْلة التي ابتلَعَها أَمَرَ بقتلها، فقُتلت في الحال.
* * *
4648 -
عَنْ سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّةِ: أنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَومَ حُنَيْنٍ، فأطْنَبُوا السَّيْرَ حتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فجَاءَ فَارِسٌ فقال: يا رَسُولَ الله! إنَّي طَلعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذا وكَذا، فإذا أَنَا بهَوازِنَ على بَكْرَةِ أَبيهِمْ بظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فتبسَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال:"تِلكَ غَنيمَةُ المُسلِمِينَ غدًا إنْ شَاءَ الله"، ثُمَّ قال:"مَنْ يَحرُسُنا الَّليلةَ؟ "، قالَ أَنَسُ بن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِيُّ: أَنَا يا رَسُولَ الله! قال: "اركَبْ"، فركِبَ فرَسًا لهُ فقال: "استقْبلْ هذا الشَّعْبَ حتَّى
تكونَ في أَعْلاهُ"، فلمَّا أَصْبَحْنا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى مُصَلَاّه فركَعَ ركعَتَيْن ثُمَّ قال: "هلْ حَسِسْتُم فارِسَكُمْ؟ "، فقالَ رَجُلٌ: ما أَحْسَسْنا، فثُوِّبَ بالصَّلاة، فجعَل رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصلي يَلْتَفِتُ إلى الشِّعْبِ، حتى إذا قَضَى الصَّلاةَ قال: "أبشِروا فقدْ جاءَ فارِسُكُمْ"، فجعَلْنا نَنْظُرُ إلى خِلالِ الشَّجرِ في الشَّعْبِ، وَإِذَا هوَ قدْ جاءَ حتَّى وَقَفَ على رَسُوِل الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّي انطلَقْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعلَى هذا الشَّعْبِ حَيْثُ أمرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أَصبحْتُ طَلَعتُ الشِّعبَيْنِ كليهما فلم أرَ أَحَدًا، فقالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هلْ نزلْتَ الليلةَ؟ "، قال: لا، إلَّا مُصَلِّيًا أوْ قَاضيَ حَاجَةٍ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فلا عَلَيْكَ أنْ لا تَعمَلَ بَعدَها".
قوله: "فأطْنَبوا السَّيرَ"؛ أي: بالغوا في السير.
قوله: "إني طلعت على جبل كذا، فإذا أنا بِهَوازن على بَكْرة أبيهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم"، يقال: طلَعتُ على القوم؛ أي: أتيتهم، وطَلِعْتُ الجبلَ - بالكسر -؛ أي: عَلَوتُه.
وهَوَازن: قبيلة من قيس، وهو هوازن بن مَنصور بن عِكْرمة بن خَصَفَة بن قيس عَيلان.
ويقال: جاؤوا على بَكْرة أبيهم، للجماعة إذا جاؤوا معًا، ولم يتخلَّف منهم أحد، وليس هناك بَكْرة في الحقيقة، ذكره كله في "الصحاح".
قيل: الظَّعْن: جماعة الرجال والنساء الذين يَظْعُنون؛ يعني: قال الفارس: أتيت الجبل الفلاني، ورأيت قبيلة هوازن بأجمعِهم، كانوا مجتمعين إلى حُنين.
قوله: "هل حَسِسْتُم فارِسَكم؟ "؛ أي: هل أدركتم فارسَكم؟ يريد: أنسَ ابن مَرْثد الذي أرسله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليتفحَّصَ عن حال العدو.
قوله: "فثوِّبَ بالصلاة"؛ أي: أُقيم.
قوله: "فجعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي يلتفت إلى الشَّعْب، حتى قضى الصلاة"، (جعل)؛ أي: طَفِق، والواو في (وهو) واو الحال؛ يعني: طَفِقَ