الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم
-
(باب في أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم)
مِنَ الصِّحَاحِ:
(من الصحاح):
4520 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَدمتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عشرَ سِنينَ فما قَالَ لِي أُفًّ، ولا: لِمَ صَنَعتَ؟ ولا: ألا صَنَعتَ.
"فما قال لي أف، ولا لم صنعت، ولا ألا صنعت"، (الأُف) في أصل اللغة: وسخ الظفر والأذن، قال في "الغريبين": يقال لكل ما يُضجر منه ويستثقل: أفًّ له، وفيه عشر لغات: أُفُّ وأُفَّ وأُفِّ وأُفٌّ وأُفًّا وأُفًّ وأُفَّهْ، إِفًّ لك - بكسر الهمزة -، وأُفْ - بضم الهمزة وتسكين الفاء -، وأُفَّى، هذا كله في "الغريبين".
فالثلاثة الأُول غيرُ منوَّنة، والثلاثة الثانية منونةٌ، والسابعُة بالهاء، والعاشرة (أُفَّى) على وزن فُعلى، والهمزة مضمومة في الكل إلا في الثانية، كما ذكر.
قال ابن الجوزي في "تفسيره": معنى (أف): النتن والتضجُّر، وأصلها: نفخك الشيء ليسقط عنك من ترابٍ ورماد، ونفخُك المكان تريد إماطة الأذى عنه، فقيل لكلِّ مستثقَلٍ.
و (لَم): حرفٌ يستفهم به، وأصله:(لِمَا)، ثم حذفت منه الألف فرقًا بين (ما) الاستفهامية و (ما) الخبرية إذا دخل عليهما حرفُ الجر؛ لأنه أكثر استعمالًا فخصَّ بالحذف، ولأنه غير حتى يصير كأنه ليس بما الذي يجب تصدُّره.
و (ألا): حرف تحضيضٍ، معناه: لمَ لا؛ يعني: ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قط ما كان فيه أدنى تبرُّمٍ وملالٍ مدةَ ما خدمْتُه، ولا لشيء فعلتُه قال لي: لمَ فعلْتَه، ولا لشيء لم أفعله - وكنت مأمورًا به - قال لي: لِمَ لمْ تفعل.
وهذا الحديث مستَنَد أهل التحقيق الذين لا ينظرون إلى أفعالهم ولا إلى أفعال جميع الخلائق في سائر أحوالهم، بل ينظرون إلى فعل الحق - تعالى وتقدس - لا على عقيدة الجبرية، بل يقطعون الوسائط والأسباب بما لهم من المكاشفة والوجدان، وهؤلاء يسمَّون بلسان الصوفية: الأولياء بالأفعال.
* * *
4521 -
وقَالَ أَنسٌ: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسنِ النَّاسِ خُلُقًا، فأرسَلَنِي يومًا لِحاجَةٍ، فقلتُ: والله لا أذهبُ، وفي نفسِي أنْ أذهبَ لِما أمرَنِي بهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فخَرجتُ حتى أمُرَّ على صبيانٍ وهُمْ يَلعبونَ في السُّوقِ، فإذا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قدْ قَبضَ بِقَفايَ مِنْ ورائِي، قَالَ: فنظرتُ إليهِ وهو يَضحكُ فقال: "يا أُنَيْسُ! ذَهَبْتَ حيثُ أَمَرتُكَ؟ "، قُلتُ: نعمْ، أنا أذهبُ يا رَسُولَ الله!
قوله: "قد قبض بقفاي من ورائي" الحديث.
"قبض": إذا أخذ، "القفا" مقصورًا: مؤخَّر العنق، يذكَّر ويؤنث، و"وراء" - ممدودًا - بمعنى: خلف، وقد يكون بمعنى قدَّام، وهو من الأضداد، ذكره في "الصحاح"، وهي ها هنا بمعنى خلف، و"أنيس": تصغير أنس.
قول أنس: "نعم أنا أذهب" - في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قال له "ذهبت" معناه: أذهبت إلى مأموري؟ فقال له: (نعم) - يُوِهمُ أنه ذهب، وإن كان ما ذهب، لكن لمَّا عزم على الذهاب عليه صح أن يقول: نعم، إذ المأمول كالموجود، ثم صرح بقوله:(أنا أذهب).
* * *
4522 -
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنتُ أَمشِي معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وعليهِ بُرْدٌ نَجْرانِيٌّ غليظُ الحاشِيَةِ، فأدركَهُ أعرابيٌّ فجَبذَهُ بردائِهِ جَبْذَةً شَدِيدةً، رَجَعَ نبيُّ الله في نَحْرِ الأَعْرابيِّ، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرَتْ بها حَاشِيَةُ البُرْدِ منْ شِدَّةِ جَبْذَتِه، ثُمَّ قَالَ: يا مُحَمَّدُ! مُرْ لي منْ مالِ الله الذي عِندَكَ، فالتفَتَ إليهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضحِكَ، ثمَّ أمرَ لهُ بعَطاءٍ.
قوله: "وعليه برد نجراني غليظ الحاشية" الحديث.
"نجران": بلد باليمن. "حاشية" كل شيء: طرفه. "أدرك": إذا لحق. "جبذ" وجذب بمعنى. "النحر": موضع القلادة من الصدر. "الصفحة": الجانب.
يعني: جر أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه من خلفه جرًا شديدًا، بحيث رجع في نحره؛ يعني: اصطدم بنحره، وصار عاتقه متأثرًا من شدة جره بحاشية بُرْدِه صلى الله عليه وسلم، فلما التفت إليه طلب منه شيئًا من الزكاة، فضحك، وأمر له بالإعطاء.
وفيه إشارة إلى أنَّ مَن ولي على قوم يُستحبُّ له الاحتمال من أذاهم، والاحتمالُ في نفس الأمر حسن، ومن الحكام أحسن.
* * *
4523 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسنَ النَّاسِ، وأجودَ النَّاسِ، وأشجَعَ النَّاسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المَدِينةِ ذَاتَ لَيلةٍ، فانطلقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوتِ، فاستقبلَهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ سَبقَ الناسَ إلى الصَّوتِ، وهو يقول:"لَمْ تُراعُوا، لَمْ تُراعُوا"، وهوَ على فرسٍ لأبي طَلْحةَ عُرْيٍ ما عليهِ سَرجٌ، في عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ:"لقدْ وجدْتُهُ بَحْرًا".
وقوله: "ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة" الحديث.
قال في "شرح السنة": معناه: استغاثوا، والفزع يكون بمعنى الخوف،
ويكون بمعنى الاستغاثة.
قال أصحاب اللغة: يقال: فَزِعَ منه: إذا خاف، وفَزِعَ إليه: إذا استغاث والتجأ، ومنه المَفْزَع؛ أي: الملجأ.
"ذات ليلة"؛ أي: في ليلة. "انطلق": ذهب. "قبل الصوت": جانبه.
"الاستقبال": التوجه إلى شيء.
راع يَرُوعُ رَوْعًا: إذا خاف.
قال في "شرح السنة": يقال: فرسٌ عُرْيٌ وخيلٌ أَعْرَاء، ولا يقال: رجلٌ عُرْيٌ، ولكن عُرْيان، والعُرْي: مصدرٌ في الأصل وُصف به، ومعنى قوله:"فرس عُرْي": ليس عليه سرج.
قال في "الصحاح": عَرِيَ من ثيابه يَعْرَى عُرْيًا، فهو عارٍ وعُرْيان، والمرأة عُريانة، وما كان على فُعلان مؤنَّثه بالهاء.
ويقال للفرس: إنه لبحر؛ أي: واسع الجري، وإنما شبهه بالبحر؛ لأن البحر إذا كانت الريح طيبة يستريح مَن يركب فيه، فكذلك الفرس إذا كان جوادًا ولم يكن شموسًا يستريح راكبه، ويسيره كما يشاء بلا تعب.
* * *
4524 -
وقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: ما سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَيئًا قطُّ فَقَالَ: لا.
قوله: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا"، (قطُّ) معناه: للماضي من الزمان، بخلاف (عَوْض)؛ فهو للمستقبل من الزمان، تقول: قطُّ ما فارقتك، وعَوْضُ لا أفارقك، ولا يجوز أن تقول: قط ما أفارقك، كما لا يجوز أن تقول: عوض ما فارقتك، ذكره في "الصحاح".
يعني: ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يرد السائل أبدًا، بل كان يعطي السائل إذا
حضر عنده شيء من الأموال، وإلا كان يجيب بنعم.
* * *
4525 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ رَجُلاً سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا بينَ جبلَيْنِ فأعطَاهُ إيَّاهُ، فأتَى قَوْمَهُ فَقَال: أيْ قومِ! أسْلِمُوا، فَوَالله إنَّ مُحمَّدًا ليُعطِي عَطاءً ما يَخافُ الفقرَ.
قوله: "أي قوم أسلموا"، أي: للنداء، وهي للقريب. و (قومِ) - بكسر الميم - أصله: قومي، فحذفت الياء اكتفاء بكسرة الميم، والإسلام في اللغة: الانقياد والاستسلام، وفي الشرع: تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو والإيمان سواءٌ عند الجمهور.
و"ما يخاف": جواب القسم.
* * *
4526 -
عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ رضي الله عنه: بيْنَمَا هو يَسيرُ معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ منْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَتِ الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حتَّى اضْطَرُّوهُ إلى سَمُرَةٍ فخطِفَتْ رداءَهُ، فوقَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"أعطُوني رِدَائِي، لوْ كَانَ لي عَددُ هذِه العِضَاهِ نَعَمًا لَقسمْتُهُ بينكُمْ، ثمَ لا تَجِدُونَنِي بَخيلًا ولا كَذوبًا ولا جَبانًا".
قوله: "مَقْفَلَه من حنين" الحديث.
"المَقفَل" بفتح الميم والفاء: مصدر ميمي، من (قفل يَقْفُل): إذا رجع من السفر.
و"حُنين" بضم الحاء: موضعٌ بين مكة والطائف.
و"فعلقت الأعراب"؛ أي: طفقوا، وقيل: نشبوا.
يقال: اضْطَرَّه إليه: ألجأه، وأصل اضْطَرَّ: اضْتَرَّ، فقلبت التاء طاء للتجانس.
و"السَّمُرة": من شجرة الطَّلْح، وسَمُر وسَمُرات جمع، ذكره في "منتخب الصحاح".
خَطِفَ يَخْطَف: إذا استلب.
قوله: "لو كان لي عَدَدَ هذه العضاه نَعَمٌ"، (نعم) اسم (كان)، و (لي) خبره واجب التقديم، و (عدد) منصوبٌ على المصدر؛ أي: لو كان لي نعمٌ تعدُّ عددَ هذه العِضَاه لقسمتها بينكم ولا أبالي، ويجوز أن ينصب على نزع الخافض؛ أي: لو كان لي نعمٌ بعدد هذه، فحذفت الباء، ثم نصب.
وقوله: "ثم لا تجدوني بخيلًا" بمعنى: لا تعلموني بخيلًا، و (بخيلًا) مفعوله الثاني، "ولا كذوبًا": عطف عليه، وكذا "ولا جبانًا".
واعلم أن وجودك للشيء قد يكون بالحواس الخمس، وقد يكون بالعلم والبصيرة، فإذا وجدته بالعلم والبصيرة يتعدى إلى مفعولين؛ لأنك عرفت ذلك الشيء على صفة (1)، وهو كما ذكر، وإذا وجدته بأحد الحواس يتعدَّى إلى مفعول واحد، كقولك: وجدت الضالة.
يعني: إذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين، طفقت الأعراب يسألونه شيئًا من النعم، وقد أحاطوا به صلى الله عليه وسلم حتى ألجؤوه إلى شجرةٍ ذات شوكٍ من أشجار تلك البادية، فتعلق رداؤه بها، فوقف، ثم من غاية خُلُقه العظيم قال:"أعطوني ردائي، لو كان لي نعم بعدد هذه العضاه" يريد به الكثرة "لقسمته بينكم".
(1) في "ق": "صفته".
ثم عرفهم السخاوة له والصدق والشجاعة فقال: (ثم لا تجدوني) الحديث؛ يعني: إذا جربتموني في الوقائع لا تجدوني متصفًا بالأوصاف الرذيلة، وفيه دليلٌ على جواز تعريف نفسه بالأوصاف الحميدة لمن لا يعرفه؛ ليعتمد عليه.
قال في "الغريبين": العضاه: شجر أم غيلان، وقيل: كل شجر له شوك يَعْظُمُ، وهي جمع عِضَة، وأصلها: عِضَهة.
* * *
4527 -
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى الغَداةَ جَاءَ خَدمُ المَدِينةِ بآنِيَتهِمْ فيها المَاءُ، فَمَا يأتُونَ بإناءٍ إلَّا غَمسَ يَدهُ فِيْها، فرُبَّما جَاؤُوهُ في الغَداةِ البَارِدَةِ فيَغمسُ يَدهُ فيها.
قوله: "إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم" الحديث.
"صلاة الغداة": صلاة الصبح. "الخَدَم" بفتح الخاء والدال: جمع خادم غلامًا كان أو امرأة. "الآنية": جمع إناء، غمسه في الماء يبلُّه فانغمس؛ يعني: كان خدم المدينة يأتون بالأواني التي فيها الماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغمس فيها يده متبركين لذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغمس في كل واحد من الأواني ولو جاؤوا بها في الغداة الباردة.
وفيه دليل على جواز أن يُطلب مثلُ ذلك وغيرُه ممَّا يُتبرك به من العلماء والصلحاء.
* * *
4528 -
وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: كانتِ الأمَةُ منْ إمَاءِ أَهْلِ المَدِينةِ لَتأخذُ بيدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فتنطَلِقُ بهِ حيثُ شاءَتْ.
قوله: "كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ" الحديث.
"انطلق": إذا ذهب، وانطلق به: إذا أذهبه؛ يعني: لو أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ أو أمةٌ لحاجة لقضى حاجته، ولو دعاه إلى شغل لأجابه، بحيث لو كان يأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فيذهب به حيث شاء لَمَا أبى، تكريمًا وتفضُّلاً عليه صلى الله عليه وسلم.
* * *
4529 -
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ امرَأةً كَانتْ في عَقْلِها شيءٌ، فقَالَت: يا رَسُولَ الله! إنَّ لي إليكَ حَاجَةً، فَقَال:"يا أُمَّ فُلانٍ! انظُري أيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حتَّى أقْضيَ لكِ حاجَتَكِ"، قال: فخَلا مَعَها في بَعْضِ الطُّرُقِ حتَّى فَرغَتْ منْ حَاجتِها.
قوله: "أي السكك شئت"، (السكك): جمع سكة، وهي ها هنا بمعنى الزقاق، والزقاق يذكَّر ويؤنَّث.
* * *
4530 -
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لم يكُنْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فاحِشًا ولا لعَّانًا ولا سَبَّابًا، كانَ يَقُولُ عندَ المَعْتَبَةِ:"ما لَهُ؟ تَرِبَ جَبينُه".
قوله: "كان يقول عند المعتبة: ما له؟ ترب جبينه"، (المعتبة): مَفْعَلة من عتِب يعتَب: إذا غضب، وهي الخصلة التي تجر العتب، كالمنجلة والمندمة (1) وغير ذلك.
قيل: المعنى بقوله: "ترب جبينه": السجود لله سبحانه وتعالى، دعاء له بكثرة العبادة، وقيل: أراد بهذه الكلمة ما يراد بـ (تربت يمينه)؛ لِمَا فيهما من
(1) في "ش" و"ق": "والمندبة".
احتمال الدعاء عليه وله.
* * *
4531 -
عَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قيلَ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ على المُشركينَ، قَالَ:"إنَّي لمْ أُبعثْ لعَّانًا، وإنَّما بُعِثتُ رَحْمةً".
قوله: "وإنما بعثت رحمة"، (إنما): للحصر؛ يعني: ما بعثت إلا رحمة للعالمين، أما كونه صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين فظاهر، وكونه رحمة للكافر؛ فلا يعجل الله في عقوبته في الدنيا؛ لوجوده صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
* * *
4532 -
عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ في خِدْرِها، فإذا رَأَى شَيئًا يكرَهُهُ عَرَفْناهُ في وجههِ.
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها"، (العذراء): البكر، و (الخِدر) بكسر الخاء: الستر؛ يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حياء من البكر المخدَّرة التي من شأنها الحياء.
* * *
4533 -
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُستجْمِعًا قطُّ ضاحِكًا حتى أَرى منهُ لهَوَاتِهِ، إنَّما كانَ يَتبسَّمُ.
قوله: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قط ضاحكًا" الحديث.
يقال: استجمع السيل: اجتمع من كل موضع، واستجمع الفرس جريًا؛ يعني: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكًا كلَّ الضحك؛ يعني: ما ضحك بالقهقهة
حتى أرى منه لهواته.
و"اللهوات": جمع لهاة، وهي ما في أقصى سقف الفم، كاللثة.
"كان يتبسم"، والتبسُّم دون الضحك.
* * *
4534 -
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لمْ يكُنْ يَسرُدُ الحَدِيثَ كَسْردِكُمْ، كانَ يُحدَّثُ حَدِيثًا لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحصَاهُ.
قوله: "لم يكن يسرد الحديث كسردكم، كان يحدَّث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه" يقال: فلان يسرد الأحاديث سردًا؛ أي: يتابعها، ومثله: يسرد الصيام سردًا؛ أي: يواليه، ذكره في "الغريبين".
أحصى يحصي إحصاء: إذا عدَّ؛ يعني: ما كان أحاديثه صلى الله عليه وسلم متتابعة بعضها في أثر بعض، كما هو عادة الناس في التحديث والإخبار، بل كان يفصل بين الكلامين في الإخبار حتى لا يشتبه على المستمع بعض كلامه ببعض؛ يعني: كان يتكلم بكلام مفهوم واضح في غاية الإيضاح والبيان.
قال في "شرح السنة": "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردَكم هذا، ولكنه يتكلم بكلام بينه فصلٌ، يحفظه مَن جلس".
هذا دليل على المعنى الذي ذكر، وكان قليل الكلام بحيث لو أراد شخص أن يعدَّ أحاديثه لقدر أن يعدَّها بالسهولة.
* * *
4535 -
وسُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: ما كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصنعُ في بيتهِ؟ قَالَت: كانَ يَكُونُ في مَهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعنِي: خِدمَةَ أَهْلهِ - فإذا حَضرتْ الصَّلاةُ خرجَ إلى الصَّلاة.
قولها: "كان يكون في مَهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" قال في "الصحاح": (المَهنة) بالفتح: الخدمة. وحكى أبو زيد، والكسائي:(المِهنة) بالكسر، وأنكره الأصمعي.
يعني: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتغل بمصالح أهله وعياله في بيته، فإذا جاء وقت الصلاة خرج إليها.
* * *
4536 -
وعَنْها قَالَتْ: "ما خُيرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بينَ أمرَيْنِ قطُّ إلَّا أخذَ أيسَرَهُما، ما لمْ يكُنْ إِثْمًا، فإنْ كانَ إِثْمًا كانَ أبعدَ النَّاسِ منهُ، وما انتقمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ، إلَّا أنْ تُنْتَهكَ حُرمَةُ الله فيَنتقِمَ لله بها.
قولها: "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط" الحديث.
(نقم): إذا كره وأنكر، و (انتقم): إذا عاقب أحدًا لنفسه.
قال في "الصحاح": (انتهاك الحرمة): تناولُها بما لا يحل، يقال: فلانٌ انتهك محارم الله؛ أي: فَعَل ما حرَّم الله فِعْلَه.
يعني: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاقب أحدًا لنفسه؛ أي: في شيء يتعلق بنفسه، بل إذا أذنب أحد ذنبًا من الكبائر عاقبه لله سبحانه حدًا.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4539 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: لمْ يكُنْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فاحِشًا ولا مُتفحِّشًا، ولا سخَّابًا في الأَسْواقِ، ولا يَجزِي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكنْ يَعْفُو ويَصفحُ.
قولها: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا ولا سخابًا في
الأسواق"، (الفاحش): ذو الفحش، كتامِرٍ ولابن؛ أي: ذو تمرٍ، وذو لبن، و (المتفحش) بتاء: المتكلَّف؛ أي: الذي يتكلف الفحش ويتعمده.
و (السَّخاب): كثير السَّخَب، وهو الصياح، والسَّخَب والصَّخَب بمعنًى.
و (الأسواق): جمع سوق، وهو موضع التجارة، وهو يذكَّر ويؤنث.
* * *
4540 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه يُحدِّثُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ كَانَ يَعُودُ المَرِيضَ، ويتْبعُ الجَنَازَةَ، ويُجيبُ دَعوةَ المَمْلُوكِ، ويَركَبُ الحِمَارَ، لقدْ رأيتُهُ يومَ خَيْبَرَ على حِمارٍ خِطامُه لِيفٌ.
قوله: "لقد رأيته يوم خيبر على حمارٍ خطامُه ليف"، (خيبر): موضع بالحجاز، ذكره في "الصحاح"، و (الخطام): الزمام. و (اللَّيف): خوص النخل، الواحدة: ليفة، وفيه دليلٌ على أن الركوب على الحمار سنة.
* * *
4541 -
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْصِفُ نَعلَهُ، ويَخِيطُ ثوبَهُ، ويَعمَلُ في بيتِه كَمَا يَعْمَلُ أحدُكُمْ في بيتِهِ.
قولها "يخصف نعله، ويخيط ثوبه"، (الخصف): ترقيع النعل طاقةً على طاقةٍ، وأصل (الخصف): الضم؛ يعني: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر ما يحتاج إليه من خصف النعل وخياطة الثوب وغير ذلك بيده الشريفة، تنزُّهًا عن التكبر والتكلف، كما قال:"أنا وأتقياء أمتي بُرآءُ من التكلف".
* * *
4542 -
وقَالَتْ: كَانَ بَشَرًا منَ البشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، ويَحلُبُ شَاتَهُ، ويَخدُمُ نفسَهُ.
قولها: "كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" قال في "الصحاح": (البَشَر): الخلق، ويريد به: أولاد آدم، و (الفلي): النظر في الرأس أو في الثوب: هل فيه شيء من القمل؟
يعني: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من أولاد آدم من حيث الظاهر، كما قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] وكان يعمل بيده ما يعنُّ له من الحوائج كما ذكر قبل، لكنه مخصوصٌ من حيث المعنى بالنبوة والرسالة والقرب من الله سبحانه ما لا يفوز به أحد من الرسل والملائكة، كما قال:"لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملكٌ مقرَّب ولا نبي مرسل".
* * *
4543 -
وقِيْلَ لِزَيدِ بن ثَابتٍ رضي الله عنه: حدِّثْنا أَحَاديثَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ، فكَانَ إذا نزلَ عَلَيهِ الوَحْيُ بعثَ إليَّ فكتَبْتُهُ لَهُ، وكانَ إذا ذَكَرْنا الدُّنْيا ذَكرَها مَعنا، وإذا ذَكَرْنا الآخِرَةَ ذَكَرَها معَنا، وإذا ذكَرْنا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ معَنا، فكُلُّ هذا أُحدِّثُكُمْ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "كنت جاره، فكان إذا أنزل عليه الوحي" الحديث.
"الجار": الذي يجاورك. "بعث إلي": أرسل. "فكتبته له"؛ أي: كتبت الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
"وكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا"؛ يعني: إذا كنا شَرَعْنا في ذكر الدنيا كأنه يوافقنا في ذكرها، وكذلك إذا شرعنا في شيء من ذكر الآخرة وغيرها كان يوافقنا في ذكر ذلك، وهذا في قوله:"فكل هذا أحدثكم" إشارة إلى ما ذكر قبل.
واعلم أن ظواهر هذه الأحاديث كلِّها مستندة لضعفاء أمته صلى الله عليه وسلم، وكان ممهدًا بقواعد الشريعة المصطفوية، فلو لم يفعل ذلك لكان في الشرع ضيقٌ
وحَرَجٌ، فقد أتى بذلك حتى يكون لضعفاء أمته مستندٌ من عنده صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
* * *
4544 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا صَافحَ الرَّجُلَ لَم يَنزِعْ يَدَهُ مِنْ يدِهِ حتَّى يَكُونَ هوَ الَّذِي يَنزِعُ يَدَهُ، ولا يَصرِفُ وجهَهُ عنْ وجهِهِ حتَّى يكونَ هوَ الذِي يَصرِفُ وجهَهُ عنْ وجهِهِ، ولمْ يُرَ مُقدَّمًا رُكبتَيْهِ دينَ يَدَيْ جَليسٍ لهُ.
قوله: "كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده" الحديث.
(المصافحة والتصافح): الأخذ باليد. نزع ينزع نزعًا: إذا جرَّ. (الجليس) بمعنى المُجالس؛ يعني: ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يرفع ركبتيه عند من يجالسه، بل يخفضهما، تعظيمًا لجليسه.
وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وفيه تعليم لأمته أن يكرموا من يصافحهم ويجالسهم؛ جلبًا للمودة بينهم.
* * *
4545 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَدَّخِرُ شيئًا لِغدٍ.
قوله: "كان لا يدخر شيئًا لغد"، (ادخر يدَّخر): إذا أبقى شيئًا لنفسه للعاقبة، وأصل (ادخر): ادْتَخَر على زنة افْتَعَل، فقلبت التاء دالًا للتجانس، ثم أدغمت إحداهما في الأخرى؛ يعني: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقي شيئًا لغدٍ توكلًا على الله سبحانه، واعتمادًا على خزائن الله التي لا نفاد لها.
وهذا الحديث مستندُ ذوي البصائر واليقين.
* * *
4546 -
عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم طَويلَ الصَّمْتِ.
قوله "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت"، (طويل): نعتٌ من طال يطول، على زنة: ظَرُفَ يظرف، و (الصمت): السكوت؛ يعني: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير السكوت؛ يعني: ما كان يتكلم إلا لحاجة، أو لجوابِ سائل، أو لتعليمِ طالب، فإذا تَقرَّر هذا؛ فالسكوت عما لا يعني من أهم المهمات، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
4547 -
وعَنْ جَاِبرٍ رضي الله عنه قَالَ: كانَ في كَلامِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تَرْتيلٌ وتَرْسِيلٌ.
قوله: "كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل وترسيل"، (الترسل والترسيل): التبيين والإيضاح؛ يعني: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحًا مفهومًا فصيحًا في غاية الفصاحة.
* * *
4550 -
عَنْ عبدِ الله بن سَلامٍ رضي الله عنه قَالَ: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا جلَسَ يتحدَّثُ، يُكثِرُ أنْ يرفعَ طَرْفَهُ إلى السَّماءِ".
قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء"، (التحدث): التكلم، (الطرف): العين؛ يعني: كان يكثر النظر إلى السماء حالة التكلم، ترقبًا لمجيء جبريل - صلوات الله عليهما - من عند الله سبحانه.
* * *