المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌6 - باب الكرامات - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ٦

[مظهر الدين الزيداني]

فهرس الكتاب

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِها

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سَيدِ المُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌1 - باب في مَنَاقِبِ قُرَيْشِ وَذِكْرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ الصَّديق رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَنَاقِبِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْر وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ بن عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثةِ رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ بن أَبي طَالِبِ رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسٍ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثَوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌6 - باب الكرامات

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مصلِّيًا يلتفت إلى الشِّعب، حتى فرغ من الصلاة، وفيه دليل على أن الالتفات في الصلاة لا يُبْطِلُها.

قوله: "فلا عليكَ أن لا تعملَ بَعْدَها"؛ أي: فلا بأس عليك أن لا تعمل بعد هذه الليلة من الفضائل والنَّوافل؛ لأنه قد حصل لك فضيلةٌ كافية بتلك الحسنة، وأما الواجبات فلا تَسْقُط عن أحد ما دام حيًا.

* * *

4649 -

وعن أَبي هُريْرَة رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بتَمَراتٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله فيهِنَّ بالبَرَكَةِ، فضَمَّهُنَّ ثُمَّ دَعا لِي فيهنَّ بالبَرَكَةِ، قال:"خُذهُنَّ فاجعَلْهُنَّ في مِزْوَدِكَ، كُلَّمَا أَرَدْتَ أنْ تأخُذ منهُ شَيْئًا فأدْخِلْ فيهِ يَدَكَ فخُذْهُ، ولا تَنْثُرْهُ نَثْرًا"، فقدْ حَمَلْتُ منْ ذلكَ التَّمرِ كَذا وكَذا مِنْ وَسْقٍ في سَبيلِ الله، فكُنّا نَأْكُلُ مِنهُ ونُطْعِمُ، وكانَ لا يُفارِقُ حِقْوِي حتَّى كانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثمانَ فإنَّهُ انقطَعَ.

قوله: "وكان لا يفارِقُ حِقْوِي، حتَّى كان يومُ قتلِ عثمان رضي الله عنه، فإنَّه انقطَعَ"، (الحِقْو): الخَضْر وَمَشُّد الإزار؛ أي: كان مِزْودي لا يفارق وَسَطي إلى يوم قَتْلِ عثمان رضي الله عنه، فإنه فاتَ مني في ذلك اليوم، وذلك لأن الفساد إذا كثُر وشاع بين الناس ارتفعت البركةُ، كما أنَّ بالصلاح تنزل البركة، فبالفساد تزولُ وترتفع.

* * *

‌6 - باب الكَرَامَاتِ

(باب الكرامات)

(الكرامات) جمع كرامة، وهي تلو المعجزات وتتمتها.

ص: 267

اعلم أن الكراماتِ حقٌّ، كما أن المعجزات حق، وكلتاهما من عالَم القُدرة بحيث تَنْخَرِق القدرة إلى الحكمة، حتى يظهر ما يكون خارقًا للعادة، في كِسْوة ما هو ملكي، لكن الفرق بينهما: أن المعجزةَ معدودةٌ للأنبياء متى أرادوها؛ إما باختيارهم أظهروها، وإما باقتراح الأمة إيَّاهم، فكيف ما كان يسهُل عليهم إظهارُها، وإنما كان كذلك لأنهم كانوا مُمَهِّدين للشريعة، وسبب تمهيدهم هو المعجزة، فلو لم يسهُل عليهم إظهارُها لَمَا ثَبَتَ لهم الأديان، فلهذا سَهُل عليهم ذلك، وما صعب عليهم.

وأما الكرامات فهي بخلاف المعجزات، فإنَّ الولي ربما يقدِر أن يأتي بها، وربَّما لا يقدر، فرقًا بينها وبين المعجزة.

* * *

4651 -

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ أُسَيْدَ بن حُضَيْرٍ وعَبَّادَ بن بِشْرٍ تَحدَّثَا عِنْدَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في حَاجةٍ لَهُمَا حتَّى ذَهبَ مِن الَّليلِ سَاعةٌ، في لَيْلةٍ شَدِيْدةِ الظُّلمةِ، ثُمَّ خَرَجَا مِن عِندِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَنْقَلِبانِ وبيَدِ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا عُصَيَّةٌ، فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحدِهِما لَهُمَا حتَّى مَشَيَا في ضَوْئِها، حَتَّى إِذَا افترقَتْ بِهِما الطَّريقُ أَضَاءَت بالآخرِ عَصَاهُ، فمَشَى كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا في ضَوءِ عَصَاهُ حَتَّى بَلَغَ أَهْلَه.

قوله: "بيدِ كلِّ واحد منهما عُصَيَّة، فأضاءَتْ عصا أحدهما"، (عُصَية) تصغير عصا، وإنما ظهرت الهاء في عُصية؛ لأن العصا مؤنثٌ سَمَاعي، والمؤنث السماعي في تقدير الهاء، فضوء عَصَاهُما كان كرامة لهما.

* * *

4652 -

وقَالَ جَابرٌ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أبي مِنَ اللَّيلِ فَقَال ما أُراني

ص: 268

إِلَّا مَقْتُولاً في أَوَّلِ مَن يُقتَلُ مِن أَصحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإِنَّي لا أَتْركُ بعدي أَعَزَّ عليَّ مِنْكَ غيرَ نفسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ عَليَّ دَيْنًا فاقْضِ، واستَوْصِ بأخواتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيْلٍ، ودَفَنْتُه معَ آخرَ في قبرٍ.

قوله: "ما أُراني إلا مقتولاً في أوَّلِ مَنْ يُقتل من أصحاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم"، (أُرى)؛ أي: أَظُن، و (ني) مفعوله الأول، و (مقتولاً) مفعوله الثاني، وقوله:(ما أراني إلَاّ مقتولاً) كان كرامة له.

قوله: "فاستوصِ بأخواتك خيرًا"؛ أي: اقبل لهنَّ وصيتي بالخير.

* * *

4653 -

وقَالَ عَبدُ الرَّحمنِ بن أَبي بَكْرٍ رضي الله عنهما: إنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُناسًا فُقَراءَ، وإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَن كَانَ عِندَهُ طَعَامُ اثنينِ فلْيَذهبْ بثالثٍ، ومَن كَانَ عندَه طَعَامُ أَربَعةٍ، فليَذهبْ بخَامِسٍ، أو سَادِسٍ"، وإنَّ أَبَا بكرٍ جَاءَ بثَلاثةٍ، وانطلقَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ، وإنَّ أبا بَكْرٍ تَعَشَّى عِندَ النَّبيِّ عن صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَبثَ حتَى صُلِّيَت العِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فلبثَ حتَّى تَعَشَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجَاءَ بعدَ ما مَضَى مِن الَّليلِ ما شَاءَ الله، قالَتْ له امرأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عن أَضْيَافِكَ؟ قَالَ: أَوَ مَا عَشَّيْتِيهم؟ قالَت: أَبَوا حتَّى تَجيءَ، فغضبَ وقَالَ: والله لَا أَطْعَمُه أَبَدًا، فَحَلفَتِ المَرأةُ أنْ لا تَطعمُه، وحَلَفَ الأَضْيَاف أَنْ لا يَطَعمُوه، قَالَ أبو بكرٍ رضي الله عنه: كانَ هذا مِن الشَّيطانِ، فَدَعَا بالطَّعَامِ فأَكَلَ وأَكَلُوا، فجَعَلُوا لا يرفعُون لُقْمَةً إِلَاّ رَبَتْ مِن أَسْفلِها أَكثَرُ منها، فقالَ لامرأتِه: يا أُختَ بني فِرَاس! ما هذا؟ قَالَت: وقُرَّةِ عيني، إِنَّها الآنَ لأَكثرُ منها قبلَ ذلكَ بِثَلاثِ مِرارٍ، فأكلوا، وبَعَثَ بها إِلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذُكِرَ أَنَّه أَكَلَ منها.

قوله: "تعشَّى عند النبيَّ صلى الله عليه وسلم"، (تعشى): إذا أكل العشاء، وهو طعام الليل.

ص: 269

قوله: "أوما عشّيتِهم؟ قالت: أَبَوا حتَّى تجيء"، الهمزة في (أوما عشيتهم) للاستفهام، والواو للعطف، (التعشية): إعطاء العشاء أحدًا، (أبى): إذا أنكرَ وما قبلَ.

قوله: "لا يرفعونَ لُقمةً إلا رَبَتْ من أسفلها"، (ربت)؛ أي: زادت.

* * *

4655 -

وقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لمَّا أَرادُوا غَسْلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: لا نَدري، أَنُجَرِّدُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِن ثيابهِ كما نُجَرِّدُ مَوتَانَا، أمْ نَغْسِلُه وعَلَيْهِ ثِيابُه؟ فلمَّا اختلفُوا أَلْقَى الله عليهم النَّومَ، حتَّى مَا مِنهُم رَجُلٌ إلا وَذَقْنُه في صَدْرهِ، ثُمَّ كلَّمَهُم مُكَلَّمٌ مِن نَاحِيَةِ البيتِ لا يَدرُونَ مَن هُوَ: اغِسلُوا النَّبيَّ وعليهِ ثِيابُه، فَقَامُوا فَغَسلوهُ وعليهِ قَميصُه، يَصبُّونَ المَاءَ فَوْقَ القَميصِ ويُدَلِّكُونَهُ بالقَمِيْصِ.

قوله: "فغسَّلوه، وعليه قميصه

" الحديث.

قال في "شرح السنة": وَلِيَ غسلَه صلى الله عليه وسلم وتكفينَه عليٌّ والعباسُ والفَضْلُ بن عباس وأسامةُ بن زيد، ونَزَلَ في قبره عليٌّ وأسامةُ والفضلُ.

وفيه دليل على أن غسل الميت مع قميصه مستحب.

* * *

4656 -

عَنْ ابن المُنْكَدِرِ: أنَّ سَفِيْنَةَ مَولَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أخَطْأَ الجيشَ بأرضِ الرُّومِ، أَوْ أُسِرَ، فانطلقَ هارِبًا يلتمِسُ الجيشَ فإذا هو بالأسدِ، فقال: يا أبا الحَارثِ! أنا مَولَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ مِن أمري كَيْتَ وكَيْتَ، فأقبلَ

ص: 270

الأَسَدُ، لهُ بَصبَصَةٌ، حتَّى قَامَ إلى جنبهِ، كُلَّما سَمِعَ صَوتًا أَهْوَى إِليْهِ، ثُمَّ أَقبلَ يَمْشِي إِلى جَنْبهِ حتَّى بَلَغَ الجَيْشَ، ثُمَّ رَجَعَ الأَسَدُ.

قوله: "أنَّ سفينةَ مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخطأ الجيشَ بأرضِ الرُّوم"؛ يعني: أَضَلَّ طريقَه بحيث لا يَهْتدي إليهم سبيلاً.

قوله: "أبا الحارث"؛ أي: يا أبا الحارث، وأبو الحارث كُنيةُ الأَسَد.

قوله: "بَصْبَصَةٌ حتى قام إلى جنبه"، (البصبصة): تحريكُ الذَّنَب، كما يفعله الكَلْبُ عند التملُّق إلى صاحبه.

قوله: "كلَّما سَمِعَ صوتًا أهوى إليه"؛ أي: كما سمع الأسدُ صوتًا قَصَدَه.

* * *

4657 -

عَنْ أَبي الجَوْزَاءِ رضي الله عنه قال: قُحِطَ أَهْلُ المَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيْدًا، فَشَكَوْا إلَى عَائِشةَ رضي الله عنها فَقَالَت: انظُروا قبرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فاجعَلُوا مِنهُ كُوًى إلى السَّماءِ، حتَّى لا يكونَ بينَهُ وبينَ السَّماءِ سَقفٌ، ففعلُوا فمُطِرُوا مَطَرًا حتَّى نبتَ العُشْبُ وسَمِنَتِ الإِبلُ، حتَّى تَفتَّقَتْ مِنَ الشَّحمِ، فسُمِّيَ عامَ الفَتْقِ.

قولها: "فاجعلُوا منه كُوى"، (الكوى): جمع كُوَّة، وهي مَنْفَذٌ في جدار وغيره؛ أي: اجعلوا من قبرِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم منافذَ إلى السماء.

قوله: "حتى تفتَّقت الإبل"، (تفتقت)؛ أي: اتسعت، قيل: تفتقت أسنمتها من السمن، وقيل: انتفخت خواصِرُها من الرعي.

قوله: "فسمِّي عامَ الفَتْق"؛ أي: سمي ذلك العام عامَ الخَصْب والسَّعَة والنعمة لكثرة المطر.

قيل: أما الكشف عن قبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونزول المطر فهي نكتة، وهي أن

ص: 271

السماء إذا رأتْ قبرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بَكَت، بحيث سال الوادي من بكائها، وهذه نكتة لا بأس بها، فإنه تعالى قال حكاية عن الكفار إذا ماتوا:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]، فحقيقٌ أن تبكي السماء على فَقْدِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقوى تأثيرُ الروح الطاهرة المقدسة في الأرض المدفون جثته فيها اشتياق الروح إلى البدن المألوف.

ويحتمل أن ذلك الكشف كأنه وسيلة إلى الله تعالى في الاستسقاء، وكما كان حيًا يستسقي فَيُجاب في الحال، كذلك إذا استُسْقِي به وهو ميت.

ويحتمل أنه إذا انكشف شيء من قبره يطلب منه انكشاف معجزة من معجزاته بعد وفاته، فالحق يجيب، ليظهر صدقَ الرسولِ حيًا وميتًا بدعائه لهم.

وفيه دليل على أن الميت ينتفع بدعاء الأحياء، ويصل دعاؤهم إليه.

* * *

4658 -

عَنْ سَعِيْدِ بن عَبْدِ العَزيزِ قَالَ: لمَّا كَانَ أيَّامَ الحَرَّةِ لم يُؤَذَّنْ في مَسْجدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ولم يُقَمْ، ولم يَبْرَحْ سَعِيْدُ بن المُسَيَّبِ مِن المَسْجدِ، وكانَ لا يَعْرِفُ وقْتَ الصَّلاةِ إلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسمعُها مِن قَبرِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.

قوله: "لمَّا كان أيامُ الحَرَّة"، (كان) ها هنا تامة؛ أي: وقع، قيل: هي وقعة في المدينة مشهورة في زمن يزيد بن معاوية.

قوله: "وكان لا يعرفُ وقتَ الصلاة إلا بِهَمْهَمَةٍ يسمَعُها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، (الهمهمة): تَرْديد الصوتِ في الصَّدر، وحمار هِمْهِيم: يُهَمْهِم في صوته، ذكره في "الصحاح".

* * *

4662 -

عَنْ عُقْبَةَ بن عَامرٍ رضي الله عنه قَالَ: صلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على قَتلى أُحُدٍ

ص: 272

بَعد ثَمانِ مسنينَ كالمُودَّعِ للأَحْياءِ والأَمْواتِ، ثُمَّ طَلَعَ المِنْبرَ فقال:"إنَّي بينَ أَيْديكُم فَرَطٌ، وأَنَا عَلَيْكُم شَهيْدٌ، وإِنَّ مَوْعِدَكُم الحَوضُ، وإنَّي لأَنظرُ إليهِ من مَقَامِي هذا، وإنِّي قَدْ أُعطِيتُ مفاتيحَ خَزَائنِ الأَرْضِ، وإنَّي لَسْتُ أخْشَى عليْكُم أنْ تُشرِكُوا بَعدِي، ولكنْ أَخْشَى عليْكُم الدنيا أنْ تَنَافسُوا فيها". وزَادَو بعضُهم: "فتَقْتَتِلُوا فتَهْلَكُوا كَمَا هلَكَ مَن كانَ قبلَكم".

قوله: "صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قَتْلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين"، المراد بالصلاة ها هنا: الاستغفار؛ يعني: أوان انقضاء عُمُرِه المقدَّس، أمره الله بالاستغفار لشهداء أُحد، وكان هذا منه وداع للأحياء والأموات، وإعلام أنهم بعد شهادتهم تزداد درجاتُهم بدعائه لهم.

قوله: "إنَّي بين أيديكم فَرَطٌ"، (الفرط) - بالتحريك -: الذي يتقدَّم الوارِدة، فيهيئ لهم الأَرسان والدَّلاء، ويَمْدُر الحِيَاض، ويَسْتَقِي لهم، وهو فعل بمعنى فاعل، كتبع بمعنى تابع، يقال: رجل فَرَطٌ وقوم أيضًا، ذكره في "الصحاح".

يعني: أنا سابقُكم ومتقدِّمُكم، تلخيصه: أني إذا تقدمت كنت كالشفيع لكم عند الله تعالى، فإذا مُتُّم، وانقلبتم إلى دار الآخرة انتفعتم بجِواري فيها، كما كنتم تنتفعون بي حيًا، فهو شفيع الأمة، وهو نسبُهم في الدنيا والآخرة.

قوله: "ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أن تنافَسُوا فيها"؛ أي: أنْ تَرغبوا في الدنيا، وتَمَالوا إليها.

* * *

4663 -

وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إنَّ مِن نِعَمِ الله عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّيَ في بَيْتِي، وفِي يَوْمِي، وبينَ سَحري ونَحري، وأنَّ الله جَمَعَ بينَ ريقي وريقِهِ عِنْدَ مَوتِهِ، دَخَلَ عليَّ عبدُ الرَّحمنِ بن أبي بكرٍ وبيدِهِ سِوَاكٌ، وأَنَا

ص: 273

مُسْنِدةٌ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فرأيتُهُ يَنْظُرُ إِلَيه، فعَرَفْتُ أنهُ يُحِبُّ السِّواكَ، فَقُلتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فأَشَارَ برأسِهِ أنْ نَعَمْ، فتَناولْتُهُ، فاشتَدَّ عَلَيهِ فَقُلْتُ: أُلَينُه لكَ؟ فأَشَارَ برأسِهِ: أنْ نَعَمْ، فلَيَّنْتُه، فأَمَرَّهُ على أَسْنَانِهِ، وبينَ يديْهِ رَكْوَةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخِلُ يدَهُ في الماءِ فيَمسحُ بها وجْهَهُ ويَقُولُ:"لا إلهَ إلا الله، إنَّ للمَوتِ سَكَراتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يده فجعلَ يقولُ:"في الرَّفيقِ الأَعلَى"، حتَّى قُبضَ ومالَتْ يدُه.

قولها: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْري ونَحْري"، (السحر) - بالفتح والضم -: الرئة، و (النحر): موضع القِلادة من الصدر.

وقال أبو عبيدة: هو ما لحق ولصق بالحُلْقوم من أعلى البطن.

قال الحافظ أبو موسى: قال القتبي: بلغني عن عمارة، عن عقيل، عن بلال بن جرير: أنه قال: إنما هو (بين شجري ونجري) - بالشين المنقوطة والجيم -، (الشجر): التشبيك، يريد: أنه قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضَمَّته بيدها إلى نحرها وصدرها، قال الحافظ: الرواية هي الأولى.

قولها: "وأن الله جَمَعَ بين رِيقي وريقِه عند موته"، والجمع بين الريقين مفهوم من باقي الحديث، وهو أنها ليَّنَتِ السواكَ بريقها، وأعطته رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأَمَرَّه على أسنانه صلى الله عليه وسلم، فاجتمع الريقان.

قوله: "إنَّ للموت سَكَرات"، (السكرات): جمع سَكْرة، وهي الشدة والمَشقَّة.

قوله: "في الرفيق الأعلى"، قال في "شرح السنة": قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، كأنه أراد: أَلْحِقْني بالله.

وقال الأزهري: غَلِط هذا القائل، و (الرفيق) ها هنا: جماعة الأنبياء - صلوات الله عليهم - الذين يسْكُنون أعلى عِلِّيين، اسم جاء على فعيل معناه:

ص: 274

الجماعة، ومنه قوله تعالى:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

(في) وتعلق بفعل محذوف تقديره: اجعلني في الرفيق الأعلى؛ أي: الرفيق: الأنبياء؛ أي: أرواحهم السَّاكنات في حَظيرة القُدس، واجعلني في مكان الرفيق الأعلى، وأراد بـ (الرفيق الأعلى): نفسَه، وأراد بالمكان: المقام المحمود المخصوص به؛ أي: اجعلني ساكنًا فيه.

* * *

4664 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ، سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"ما مِن نبيِّ يمَرضُ إِلَاّ خُيرَ بينَ الدُّنيا والآخرةِ"، وكانَ في شكواهُ التي قُبضَ بها أخذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيْدةٌ، فسمعتُهُ يقولُ:"معَ الذينَ أَنْعمْتَ عليهم مِن النَّبيينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداء والصَّالحينَ"، فعَلِمتُ أَنَّه خُيرَ.

قوله: "وكان في شَكْواه الذي قُبضَ فيه"، (الشكوى) ها هنا: المرض؛ يعني: في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم.

قوله: "أخذته بُحَّةٌ شديدةٌ"؛ أي: سُعال شديد، والأصل في البُحَّة: الغلظة في الصوت، يقال: رجل بُحٌّ.

* * *

4665 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغشَّاهُ الكَربُ، فقالَتْ فاطِمَةُ رضي الله عنها: وَاكَرْبَ أَبَاه! فقالَ لها: "ليسَ على أَبيكِ كَرْبٌ بعدَ اليوم"، فلمَّا مَاتَ قالَتْ: يا أَبَتَاهُ! أجابَ ربًّا دَعَاه، يا أبتاهُ! مَنْ جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأواهُ، يا أبتاهُ! إلى جِبْريلَ نَنْعَاهُ، فلمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُم أنْ تَحْثُوا على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم التُّرابَ؟!.

قوله: "لما ثَقُلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه"؛ يعني: لمَّا اشتدَّ مرضه صلى الله عليه وسلم طَفِقَ

ص: 275

له يتغطَّى ويتستَّر بالثياب.

قيل: أراد بقوله: (يتغشاه): يُغْمى عليه من شدة مرضه صلى الله عليه وسلم.

قوله لفاطمة رضي الله عنها: "ليس على أبيكِ كربٌ بعدَ اليوم"، قال في "شرح السنة": يريد لا يصيبه بعد اليوم نَصَبٌ ولا وَصَبٌ يجد له ألمًا، إذا قضى إلى دار الآخرة والسلامةِ الدائمة.

قال إسحاق بن إبراهيم المَوصِلِي في كتاب له مشتمل على تزييف بعض ما ذكره أصحاب الحديث في شرحه معنى قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم": أنه كَرْبُه وشفقَتُه على أمته بعد موته، لِمَا عَلِمَ من وقوع الاختلاف والفتن بعده.

قال الخطابي: هذا ليس بشيء؛ لأنه لو كان كما زعم لم تكن شفقتُه باقيةً على أمته بعد موته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَيَّد، وقال:"ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم"، وليس كذلك؛ لأن شفقته على أمته كانت دائمةً مدةَ حياته، وتكون باقيةً بعد موته إلى قيام الساعة؛ لأنه مبعوثٌ إلى كافة الخلق، قرنًا بعد قرن إلى يوم القيامة، وإنما هو ما يَجِدُه من كُرَب الموت، وكان بَشَرًا ينالُه الوَصَبُ، فيجد له من الألم مثل ما يجدُ الناسُ وأكثر، وإن كان صبرُه عليه واحتمالُه أحسن.

قولها: "يا أبتاه! " أصله: يا أبي، فالتاء بدل من الياء؛ لأنهما من حروف الزوائد، والألف للنُّدبة لمَدِّ الصوت، والهاء للسَّكْت.

قال الحافظ أبو موسى: هي نُدْبة، ولا بد لها من إحدى العلامتين (يا) أو (وا)؛ لأن الندبة لإظهار التوجُّع، ومد الصوت وإلحاق الألف في آخرها للفصل بينها وبين النداء، وزيادة الهاء في الوقف إرادة بيان الألف؛ لأنها خَفِيَّة، وتحذف في الوصل كقولك: واعمر أمير المؤمنين.

* * *

ص: 276

مِنَ الحِسَان:

4666 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدينةَ لَعِبَتْ الحَبَشَةُ بحرابهم فرحًا لِقُدومِه.

قوله: "لعبتِ الحَبَشةُ بحِرَابهم"، الحراب: جمع حَرْبة، وهي سِنان كبير، يكاد يكون نصفَ السيف، على شَكْل خِنْجَر كبير.

* * *

4668 -

وَقَال: لمَّا كَانَ اليَومُ الَّذي دَخَلَ فيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدينةَ أضاءَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، فلمَّا كَانَ اليَومُ الَّذي مَاتَ فيهِ أَظْلمَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، وما نَفَضْنَا أَيْدِينَا مِنَ التُّرابِ وإنَّا لَفِي دفنِهِ حتَّى أَنْكَرْنَا قُلوبنا.

قوله: "وما نفضنا أيدينا عن التراب حتى أنكرْنَا قلوبنا"، (النفض): تحريكُ الشيء ليزولَ ما عليه من التراب والغُبار.

يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم أخبروا عن تغيُّر أحوالهم الذي ظهر فيهم بعدما دُفِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لم يجدوا صَفَاءَ قلوبهم الذي كان في حياته صلى الله عليه وسلم، بل وجدوه متغيرًا عما كان في حضرته، وكذلك غيره من الأُلفة والتودُّد والرَّقة فيما بينهم كانت متغيرة، وما كان ذلك إلا لانقطاع الوحي السَّمَاوي، والمفارقة عن صحبته التي هي مُوجِبة للسعادات الأبدية الدائمة، لكنَّ تصديقَهم لله ولرسولِه ولِمَا أتى به مِنْ عندِه كان ثابتًا كما هو، بل أكملُ وأبلغُ.

* * *

4672 -

عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَقْتَسِمُ ورثتي دِينارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نفقةِ نِسَائي وَمَؤُنَةِ عَامِلي فهو صدقةٌ".

ص: 277