الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضميرُ في (خَلَقْتُه) و (فيه) يعود إلى (من)، وهو آدمُ عليه السلام، وأضاف الروح إلى نفسه تعالى إضافَة المُلْك للتشريف والتخصيص، كبيت الله وناقة الله.
يعني: لا أجعلُ كرامةَ من خَلَقْتُه بيديَّ؛ أي: بوَصْفَي الجلالِ والإكرام، وهو آدم وذريته صلوات الله عليه = كرامةَ مَنْ خلقتُه بكلمة:(كن)؛ أي: بمجرَّد الأمر، وهو المَلَك.
يعني: لا يستوي البشرُ والمَلَك في الكرامة والقربة إلي، بل كرامةُ البَشَر أكثرُ، ومنزلتُه أَعلى وأجلُّ.
وهذا من جملة ما يَستَدِلُ به أهلُ السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة صلوات الله عليهم.
قال محيي السنة في "معالم التنزيل" في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]: والأَولى أن يقال: عوامُّ المؤمنين أفضلُ من عوامِّ الملائكة، وخواصُّ المؤمنين أفضلُ من خواصِّ الملائكة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7].
ورويَ عن أبي هريرة عنه قال: المؤمن أكرمُ على الله من الملائكة الذين عنده.
* * *
1 - باب فَضَائِلِ سَيدِ المُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ
(باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله عليه)
(الفضائلُ): جمع فضيلة، وهي خلافُ النقيصة.
مِنَ الصَّحَاحِ:
4460 -
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بُعثتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بني آدمَ قَرْنًا فقَرْنًا، حتَّى كُنتُ منْ القَرْنِ الذِي كُنتُ مِنْهُ".
قوله: "بُعِثْتُ من خيرِ قرونِ بني آدمَ قَرْنًا فقَرْنًا، حتَّى كنتُ من القَرْن الَّذي كنتُ منه".
قال في "شرح السنة": (القَرْنُ): كلُّ طبقةٍ مُقْتَرِنين في وقتٍ واحد، قيل: سُمَّيَ قَرْنًا؛ لأنه يَقْرِنُ أمةً بأمةٍ وعالَمًا بعالَمٍ، وهو مصدر (قَرَنْتُ)، وجُعِلَ اسمًا للوقت أو لأهله، وقيل: القَرْنُ ثمانون سنة، وقيل: أربعون سنة.
وفي الحديث دليلٌ على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على غيره من الخَلْق، وعلى تفضيل أمته على سائر الأمم السابقة؛ لاتباعهم إياه صلى الله عليه وسلم.
* * *
4461 -
وقَالَ: "إِنَّ الله اصْطَفَى كِنانَةَ مِنْ ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفَى قُريْشًا مِنْ كِنَانةَ، واصْطَفَى مِنْ قُريْشٍ بني هَاشِمٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بني هَاشِمٍ".
ويُرْوَى: "إنَّ الله اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْماعيلَ بني كِنَانَةَ".
قوله: "إنَّ الله اصطفى كِنَانَة من ولدِ إسماعيلَ، واصطفى قُرَيشًا من كِنَانَة"، الحديث.
يعني: أن الله سبحانه اختار كنانة من ولد إسماعيلَ؛ أي: من قبائلِ العرب، واختار قريشًا من كنانةَ، واختار بني هاشمٍ من قريش، واختارني - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم.
وأبو قريشٍ النَّضْر بن كِنَانة، بكسر الكاف، وقريشٌ سُمُّوا قريشًا؛ لأنهم
كانوا يَتَّجِرُون، ويسافرون للتجارة، وهي تصغير قَرْش، والقَرْشُ التكسُّبُ والجَمْع، أو لعِظَمِ أمرِهم وقُوَّتِهم فسُمُّوا بقريش، لأن القريشَ قيل: هي دابةٌ عظيمةٌ في البحر لا يقاوِمُها شيء.
قال الشاعر:
وقريشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْـ
…
ـرَ بها سُمِّيتْ قريشٌ قُرَيشًا
سُلِّطَتْ بالعُلُوِّ في لُجَّةِ البحـ
…
ـر على سائرِ البحور جُيوشا
تأكلُ الغَثَّ والسمينَ ولا تَتْـ
…
ـرُكُ فيه لذي الجَناحين رِيشا
هكذا في البلاد حَيُّ قريشٍ
…
يأكلُونَ البلادَ أَكْلًا كَمِيشا
ولهم آخرَ الزمانِ نبيٌّ
…
يُكْثِرُ الصَّدَ فيهم والخُمُوشا
قال ابن الحاجب في "شرح المفصل": قريشٌ على نوعين: قريشُ البَطْحَاء، وقريشُ الضَّواحِي.
وقريشُ البطحاء: هم الذين نزلوا ببطحاءِ مكة، والبطحاءُ: تأنيث أَبْطَح، وهو مَسِيلُ الماءِ الذي فيه حجارةٌ صِغَارٌ.
وقريشُ الضواحي: مَن خرجَ منها، والنازلون البطحاء خيرهم، والنازلون وسطها خيرَ الخَيْر، والضواحي جمع ضاحية، وهو بمعنى الناحية.
يقال: ضاحية كلِّ شيء ناحيتُه البارِزَة؛ يعني: الذين نزلُوا ببطحاءِ مكةَ خيرٌ من الذين نزلوا بضواحيها، والذين نزلُوا بوسَطِ البَطْحاء خيرٌ من الذين نزلُوا بالبطحاء، وكان عادةُ ساداتِ قريشٍ أن ينزِلُوا بوسطِ بطحاءِ مكة.
قيل: السرُّ في تفضيل قريشِ البطَاح: ورودُ جميعِ قبائلِ أيامِ الحاجِّ إليهم، فيخاطِبُونهم بلغاتٍ مختلفة، فعند إحاطتهم بجميعها يختارُون الأفصحَ من اللُّغَات، فإذا كانوا أفصحَ الباقين جاءَ اختيارُهم، إذ فضيلةُ العرب بالفصاحة،
ألا ترى أن القرآن غَلَبهم بشدة فصاحته.
يعني: النبي صلى الله عليه وسلم من ساداتِهم، بل سيدُ ساداتِهم.
* * *
4462 -
وقَالَ: "أَنَا سَيدُ وَلَدِ آدمَ يَومَ القِيامَةِ، وأوَّلُ مَنْ يَنشَقُّ عَنهُ القَبرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ".
قوله: "أنا سيدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامة، وأولُ من ينشقُّ عنه القبر"، الحديث.
"المُشَفَّعُ": مفعولٌ مِن (شُفِّعَ) إذا قَبلَ الشفاعة؛ يعني: أنا أول من تُعادُ فيه الروحُ يومَ القيامة، وأنا أولُ من يُشَفَّعُ للعصاة من أمتي، وأنا أولُ من تُقْبَلُ شفاعتُه.
وفي الحديث دليلٌ على أنَّه أفضلُ من سائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وفيه دليلٌ أيضًا على ثبوت الشفاعة لغيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والملائكة والمؤمنين.
* * *
4463 -
وقَالَ: "أَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَومَ القِيامَةِ، وأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقرَعُ بَابَ الجَنَّةِ".
قوله: "أنا أكثرُ الأنبياء تَبَعًا يوم القيامة"، الحديث.
"القَرْعُ": الدَّقُ، و (تَبَعًا) نصب على التمييز؛ أي: تَبَعِي أكثرُ من أتباع الأنبياء؛ يعني: أمتي أكثرُ من أمم جميع الأنبياء صلوات الله عليهم.
"وأنا أول من يدخل الجنة".
* * *
4464 -
وقَالَ: "آتِي بَابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الخازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأحَدٍ قَبلَك".
قوله: "آتي بابَ الجنة يوم القيامة فأستفتح"، الحديث.
(آتي): نفسُ متكلِّمٍ في المستقبل، مِن (أتى يأتي).
(فأستفتح) أيضًا للمتكلِّم من الاستفتاح، وهو طلبُ الفتح.
"الخازن": واحد الخَزَنَة، وهو مَلَكٌ موكَّلٌ بحفظ الجنة، سُمِّيَ خازنًا لأن الجنةَ خزانةُ الله سبحانه وتعالى، أعدَّها للمؤمنين، وهو حافظُها.
"مَن" في "مَن أنت" للاستفهام بمعنى السؤال.
"بك أُمِرْتُ"؛ أي: أُمِرْتُ بفتح بابك؛ يعني: أُمِرْتُ بأن أفتح لكَ بابَ الجنة أولُ، ثم لغيرك من الأنبياء والمرسلين.
* * *
4466 -
وقال: "نَحْنُ الآخِرونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلونَ يومَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لَهُمْ قَبْلَ الخَلائقِ".
قوله "نحن الآخِرون من أهل الدنيا، والأَوَّلونَ يومَ القيامة، المقضيُّ لهم قَبْلَ الخلائق".
(المَقْضيُّ): مفعولٌ مِن قضى حاجته يقضي، وأصلُه: مَقْضُوْي، على وزن مَفْعُول، قُلِبَت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فصار مَقْضيًا.
و (الخلائِقُ): جمع خَلِيقة، وهي الخَلْق، الضمير في (لهم) يعودُ إلى الأولين.
يعني: نحن الآخرون زمانًا، والأولون فضيلةً وقدرًا، وتنقضي حوائجنا؛ يعني: حوائج أمتي من الحساب، والجواز على الصراط، ودخول الجنة قبل قضاءِ حوائج الخلائق.
* * *
4467 -
وقَالَ: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ في الجَنَّةِ، لمْ يُصَدَّقْ نبيٌّ مِنَ الأَنبياءِ مَا صُدِّقْتُ، وإنَّ مِنَ الأَنبيَاءِ نَبيًّا مَا صَدَّقهُ منْ أُمَّتهِ إِلَّا رَجُلٌ واحِدٌ".
قوله: "أنا أولُ شفيعٍ في الجنة، لم يُصَدَّقْ نبيٌّ من الأنبياء"، الحديث.
(الشفيعُ)؛ يعني: الشافع؛ أي: أنا شافعٌ للعصاة من أمتي في دخول الجنة.
(ما) في (ما صُدِّقْتُ) للمصدر؛ أي: ولم يُصَدَّقْ نبيٌّ من الأنبياء تصديقًا مثل تصديق أمتي إياي، فالأنبياء في الأتباع والتصديق يتفاوتون، فمنهم من صدَّقه كثيرٌ من الناس كموسى عليه السلام، ومنهم مَنْ صَدَّقَه قليلٌ كنوح ولوط عليهما السلام.
ومنهم مَن صَدَّقَه أقلُّ من القليل وهو واحدٌ، كمن ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث.
* * *
4468 -
وقَالَ: "مَثَلي ومَثَلُ الأَنْبياءِ كمثَلِ قَصْرٍ أُحسِنَ بنيانُهُ، وتُرِكَ مِنْهُ مَوْضعُ لَبنةٍ، فَطَافَ بهِ النُّظَّارُ يتَعجَّبونَ مِنْ حُسْنِ بنيانِهِ إلَّا مَوْضعَ تِلكَ اللَّبنةِ، فكُنْتُ أَنَا سَدَدْتُ مَوْضعَ تِلْك اللبنةِ، فتَمَّ بيَ البنيانُ، وخُتِمَ بيَ الرُّسُلُ".
وفي رِوَايَةٍ: "فَأنَا اللَّبنةُ، وأَنَا خَاتَمُ النَّبيينَ".
قوله: "مَثَلي ومثلُ الأنبياءِ كمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بنيانُه"، الحديث.
(القَصْرُ): واحد القصور، وهو دارٌ رفيعةٌ، عاليةُ البنيان، جمع بناء، و (اللَّبنة): واحدة اللَّبن، وهو ما يُبنى به البيوت.
"طاف" طوفًا وطَوَفانًا: إذا دار حولَ الشيء.
"النُّظَّار": جمع ناظر [مثل] الكتَّابُ جمع كاتب.
"سَدَدْتُ"؛ أي: أَصْلَحْتُ الخَلَل؛ يعني: مَثَلِي في تبليغ الرسالة إلى الكافَّةِ ومَثَلُ سائر الأنبياء صلوات الله عليهم في تبليغ رسالتهم إلى أممهم كمَثَل قَصْرٍ، قَوِيَ أساسُه وكامِلُ بنيانِه، سوى مقدارِ لَبنةٍ، فإنه قد بقيَ من بنيانه قَدْرُ ذلك، بحيث إنه مَن دخلَ فيه مثلًا، ونظر إليه، فقد أعجَبه حسنُه، إلا مقدارَ تلك اللَّبنة المستعمَرة، فسدَدْتُ تلك الفُرْجَة، وأصلَحْتُها، وذلك كناية عن نبوتي ورسالتي على الكافة، التي هي الخاتمة لبنيان دارِ النبوة، والرافعة لأداء الرسالة.
* * *
4469 -
وقَالَ: "مَا مِنَ الأنبياءِ مِنْ نبيٍّ إِلَّا قدْ أُعطِيَ مِنَ الآياتِ مَا مِثْلُهُ آمنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّما كانَ الَّذِى أُوتيْتُ وَحْيًا أَوْحَى الله إليَّ، فأرجُو أنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابعًا يَوْمَ القِيامةِ".
قوله: "ما من الأنبياء من نبيٍّ إلا قد أُعطيَ من الآيات"، الحديث.
(من) في (من نبي) زائدة، لأنها تزادُ بعد النفي إجماعًا، و (من) في (الأنبياء) و (من) في (من الآيات) للبيان لِمَا مثَّلَهُ، وهي ها هنا بمعنى المعجزات، واحدتُها آيةٌ.
و (ما) في "ما مِثْلُه" موصولٌ، و (مِثْلُه) مبتدأ، و"آمن" خبره، والموصولُ مع صلته المفعولُ الثاني لـ (أعْطِيَ)؛ يعني: ما كان نبيٌّ من الأنبياء إلا أنَّ الله
تعالى أعطاه شيئًا من المعجزات مِثْل ما آمنَ عليه البشرُ، وصدقوه؛ أي: ما يناسِبُه في ذلك الزمان، وينقادُ له أهلهُ، كقلب العصا ثعبانًا في زَمَنِ موسى، وإخراج اليد البيضاء؛ لأنَّ الغلبةَ في زمنهِ السحرُ، فأتاهم بما هو فوقَ السحر، وفي زمن عيسى الطِّبُّ، فأتاهم بما هو أعلى من الطب، كإحياء الموتى، وإبراء الأَكْمَه، وفي زمن رسولنا البلاغة والفصاحة، فجاء القرآن، وأبطَلَ الكُلَّ.
و (إنما) في "إنما كان الذي" للحَصْر؛ يعني: ما كان الذي أعطيت إلا وحيًا.
وفي الحديثِ إشارةٌ إلى معنًى دقيقٍ، وهو الوَحْيُ المنزَّل عليه، وهو عبارةٌ عن القرآن العظيم، الذي هو أعظمُ معجزاتهِ، الذي لا ينقرِضُ بموته، بل يبقى إلى يوم القيامة، وإذا استمرَّ المُعْجِزُ كَثُرَ أتباعه، فيكثُرُون كلَّ وقت، فلا ينقطعُ إلى منقرَضِ العالم، وغيرُه من الأنبياء انقرضَتْ معجزاتُهم بموتهم، فلذلك قلَّ تَبَعُهم.
* * *
4470 -
وقَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعبِ مَسيرَةَ شَهرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أدرَكَتْهُ الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ ولمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكَانَ النبي يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّة".
ويُروَى: "فُضلْتُ على الأَنْبياءِ بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوامعَ الكَلِم - وذكرَ هذهِ الأَشْيَاءَ إلَّا الشَّفاعةَ وَزَاد: - وخُتِمَ بيَ النَّبيُّونَ".
قوله "أُعْطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهن أحدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بالرُّعْب"، الحديث.
خمسًا؛ أي: خمسَ خصال:
الأولى: (نصرت بالرعب)، والثانية:"وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا"، والثالثة:"وأُحِلَّتْ لي الغنائم"، والرابعة:"وأُعطيتُ الشفاعة"، والخامسة:"وبعثْتُ إلى الناس عامَّةً".
(الرُّعب) - بضم الراء -: الخوف.
"مسيرة شهر": مسافة شهر.
قال في "شرح السنة": (نُصِرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر)؛ معناه: أن العدَّو يخافني وبيني وبينه مسيرةُ مسافةِ شهرٍ، وكان ذلك من نصرِ الله عز وجل إياه.
قوله: (وجُعلت لي الأرض مسجدًا)، أراد أن أهلَ الكتاب ما أبيحتْ لهم الصلاةُ إلا في بِيَعهم وكنائسهم، والبيَعُ جمع بَيْعَة، وهو موضعُ الصلاة للنصارى، والكنائس: جمع كنيسة وهي موضع الصلاة لليهود.
وأباح الله لهذه الأمة الصلاةَ حيث كان، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثم خصَّ منها المقبرة والحمام والمكان النَّجِسَ، فنُهُوا عن الصلاة فيها نهيَ كراهةٍ لا نهيَ تحريم.
قوله: "وطَهُورًا"، أراد به الترابَ، كما بيَّنه في الحديث الآخر:"وجُعِلَتْ تربتُها لنا طَهُورًا".
قوله: (وأُحِلَّت لي الغنائمُ)، أراد أن الأممَ المتقدمةَ منهم من لم يكن أُبيح لهم جهادُ الكفار، فلم يكن لهم مغانمُ، ومنهم من أُبيحَ لهم الجهادُ، ولكن لم يُبَحْ لهم الغنائم، فكانت غنائمهم تُوْضَع، فتأتي نارٌ فتحرقها، وأباحها الله لهذه الأمة.
(الغنائم): جمع غنيمة، وهي ما يُؤْخَذُ من أموال الكفار قهرًا.
قوله: (وأُعْطِيتُ الشفاعة)، فهي الفضيلة العظمى التي لا يشاركُه فيها أحدٌ يوم القيامة، وبها سادَ الخلقَ كلَّهم، حتى قال:"أنا سيد ولد آدم"، وهو
المقامُ المحمودُ الذي أعطاه عز وجل، الألف واللام في قوله:"وكان النبيُّ قبلي" للجِنس عند النحويين، والعهدِ عند الأصوليين، وهو لبيانِ الماهيَّةِ المتعلِّقة في الرسل، لا لتعيين الذات، وتلك الماهيَّةُ عبارةٌ عن النبوة، وهي إخبارٌ عن الله سبحانه وتعالى إلى عباده، فكلُّ مَن وجدَ فيه هذا المعنى يُسمَّى نبيًا، فعلى قول النحويين معناه: كان الأنبياء قبلي.
وعلى قول الأصوليين قوله: (كان النبي) يشمل جميع الأنبياء على سبيل البدل، وعلى المذهَبين جميعًا معناه: كان جميع الأنبياء - صلوات الله عليهم - قبلي يُبْعَثُون إلى أقوامٍ مخصوصين؛ يعني: يبعث كلُّ واحدٍ منهم إلى قومه خاصةً، وبُعِثْتُ إلى كافَّةِ الخَلْق.
قوله: "ويروى: فُضلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ"؛ أي: بسِتِّ خِصَالٍ، وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فُضلْتُ على جميع الأنبياء بسِتِّ خصال، وهي عبارةٌ عن الخصالِ الخمسِ المتقدمة، وذكرها كلَّها سوى الشَّفَاعة.
"وزاد" على الخمس: "وخُتِمَ بي النَّبيون".
* * *
4471 -
وَقَالَ: "بُعِثْتُ بجَوامِعِ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وبَيْنا أَنَا نائِمٌ رأَيتُني أُتيتُ بِمَفاتِيح خَزائِنِ الأَرْضِ فوُضعَتْ في يَدِي".
قوله: "بعثت بجوامعِ الكَلِم"، الحديث.
(الجوامع): جمعُ جامعةٍ، وهي التي تَجْمَع، و (الكَلِمُ): جمع كلمة، وهي ما يُتَكلَّمُ به، في اللغة، وفي الاصطلاح: عبارةٌ عن اسمٍ واحد، أو فعلٍ مَحْضٍ واحد، أو حرفٍ واحدٍ.
قال في "الغريبين": يريدُ بجوامع الكَلِم القرآنَ، جمعَ الله بلُطْفِه في
الألفاظ اليسيرة - أي: القليلة - منه معاني كثيرة.
وقال في "شرح السنة": معناه: إيجازُ الكلامِ في إسباغ من المعاني، فالكلمة القليلةُ الحروفِ منها ما يتضمَّنُ كثيرًا من المعاني، وأنواعًا من الأحكام.
الإيجاز: مصدر أوجز الكلام إذا قصره، والإسباغُ: مصدر أسبغَ عليه النعمة إذا أتمَّها.
قوله: "رأيتني أُتيتُ بمفاتيح خزائنِ الأرض"، (رأيتني): من الرؤيا، اجتمعَ فيه ضميرُ الفاعل والمفعول، وهذا من خاصية أفعال القلوب؛ لأنه لا يستحيل اجتماعُ الفاعل والمفعول فيها، يقول: ظننتُني منطلِقًا، فالمفعولُ الأول متيقَّن، والثاني مظنونٌ، لأن المفعولَ الأول ذاتُك، ولا شكَّ لك في ذاتك، فإذا كان كذلك لم يجتمعْ ضميرا الفاعل والمفعول في الحقيقة، فحينئذ (رأيتني) بمعنى عَلِمْتُني.
(المفاتيح): جمع مِفْتَاح، وهو ما تُفتَحُ به الأبواب.
(الخزائن): جمع خزانة، قال في "الغريبين": الخِزَانة: عمل الخازن، أو الموضع، أو الوعاء الذي يُخْزَنُ فيه الشيء، مِن (خَزَنَ المال) إذا غيَّبَه.
قال في "شرح السنة": يحتملُ أن يكونَ هذا إشارةً إلى ما فُتِحَ لأمته وجنودِه من الخزائن، كخزائنِ كسرى وقيصر، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ منه: معادنَ الأرض التي فيها الذهبُ والفضةُ وأنواعُ الفِلِزِّ؛ أي: ستُفْتَحُ البلدانُ التي فيها هذه المعادنُ والخزائنُ، فتكونُ لأمته.
قال أبو هريرة: ذهبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تَنْشِلُونها، أي: تستَخْرِجُونَها، الفِلِزُّ: ما ينقِّيه الكِيرُ مما يذابُ من جواهر الأرض.
المعادِنُ: جمع مَعْدِن، مِن عدنْتُ البلدَ: توطَّنْتُه، وسُمِّيَ معدِنًا؛ لأن الناس يقيمون فيه الصَّيفَ والشتاءَ.
* * *
4472 -
وقَالَ: "إنَّ الله زَوَى لِيَ الأَرْضَ فرَأَيتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَها، وإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِي مِنْها، وأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمرَ والأَبْيضَ، وإنِّي سَألتُ رَبي لأُمَّتِي أَنْ لا يُهْلِكَهَا بسَنَةٍ عَامَّةٍ، وأَنْ لا يُسلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهِمْ فَيَستَبيحَ بَيْضَتَهُمْ، وإنَّ رَبي قَالَ: يا محمّدُ! إنِّي إذَا قَضَيتُ قَضَاءً فإنَّهُ لا يُرَدُّ، وإِنِّي أَعْطَيْتُك لأُمَّتِكَ أنْ لا أُهلِكَهُمْ بسَنَةٍ عَامَّةٍ، وأنْ لا أُسلِّطَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهِمْ فيَستَبيحَ بَيْضَتَهُمْ، ولو اجتَمعَ عَلَيْهِم مَنْ بأَقْطَارِهَا، حتَّى يكُونَ بعضُهُمْ يُهلِكُ بعضًا ويَسبي بعضُهُمْ بَعضًا".
قوله: "وإنَّ أمتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها"، الحديث.
(زُوِيَ): ماضٍ مجهول، معناه: جُمِعَ، (زَوَى) إذا تعدَّى بـ (إلى) معناه: جمع، وإذا تعدَّى بـ (عن) معناه: بَعَّد.
قال في "الغريبين": زُوِيتْ لي الأرضُ؛ أي: جُمِعَتْ.
وقال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: لمَّا زوى الله عنك من الدنيا؛ أي: لما نَحَّى عنك.
قال الخطابي: توهَّمَ بعض الناس أن حرف (مِن) ها هنا للتبعيض، وليس ذلك على ما توهَّمُوه، وإنما معناه التفصيلُ للجملة المتقدمة، والتقديمُ لا يناقِضُ الجملة، لكن يأتي عليها، ويستوفيها جزءًا جزءًا.
والمعنى: أن الأرضَ زُويتْ جملتُها له مرةً واحدةً فيراها، ثم هي تُفتَحُ له جزءًا فجزءًا، حتى يأتي عليها كلِّها.
"الكنز": المالُ المدفون.
قيل: أراد بـ "الأحمر والأبيض" كنوزَ كسرى من الفضة والذهب، أفاءَها الله على أمته.
وقيل: أراد العربَ والعجمَ، جَمَعَهم الله في دينه ودعوته، ذكرهما في "الغريبين".
قال الحافظ أبو موسى: (الأَحْمَرُ): ملك الشام، و (الأبيضُ): مَلِكُ فارس، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَفْر الخندق.
قال إبراهيم الحربي: إنما قال لملكِ فارسَ الكنز الأبيض؛ لبياض ألوانهم، وكذلك قيل لهم: بنو الأحرار؛ يعني: البيض، ولأن الغالبَ على كنوزهم الوَرِقُ، وهو الأبيضُ، وإنما فتحها عمر رضي الله عنه، وأخذ أبيضَ المدائن، وهو موضعُ المسجدِ اليوم.
قال: والغالب على ألوان أهل الشام الحمرةُ، وعلى بيوت أموالهم الذهبُ، وهي حمراء.
(السَّنَةُ): القَحْطُ، (العامَّة): ضدُّ الخاصَّة، من عَمَّ عمومًا، إذا شملَ، "سنة عامة"؛ أي: قَحْطٌ شاملٌ لجميعِ الخلق، "التسليطُ": الغلبة والقهر.
"يستبيح بَيْضَتَهم"، قال في "الغريبين": قال شمر: يريد جماعتَهم وأصْلَهم.
وقال الأصمعيُّ: بيضةُ الدار وَسَطُها ومُعْظَمُها، (الاستباحةُ): الاستحالة.
"الأقطارُ": جمع قُطْر، وهو الجانبُ والنَّاحِيةُ.
"يَسْبي": مضارعٌ مِن (سبَى يَسْبي سَبْيًا)، إذا أسرَ أسيرًا؛ يعني سألتُ الله سبحانه وتعالى ألَّا يُهْلِكَ أمتي بقَحْطٍ يشمَلُ جَمِيعَهم، بحيث يَسْرِي إلى جميع بلدان المُسْلِمين وأمصارِهم، وألَّا يغلب عليهم الأعداءُ من غيرهم؛ أي: من الكفرة، فيستأصلوهم، فأجابَ الله دعاءَه صلى الله عليه وسلم عليهم.
وقال: "يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتُك لأمتك أن لا أُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ" إلى آخره.
قوله: "إني قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ"؛ يعني: إذا حكمتُ بوقوعِ شيءٍ فإنه غير مردودٍ لا محالة.
واعلمْ أنَّ لله تعالى قضى في خلقه قضاءين مبرَمًا ومُعَلَّقًا، وأمَّا القضاءُ المُعَلَّقُ فهو عبارةٌ عما قَدَّرَه في الأَزَل مُعَلَّقًا بفِعْل، كما قال: إنْ فَعَلَ الشيءَ الفلانيَّ فكان كذا أو كذا، وإن لم يفعلْه فلا يكونُ كذا وكذا.
وهو من قَبيل ما يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثباتُ، كما قال تعالى في مُحْكَم كتابه {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39].
وأما القضاء المُبْرَمُ؛ فهو عبارةٌ عما قَدَّره سبحانه في الأزل من غير أن يُعَلِّقَه بفعل، فهو في الوقوع نافذٌ غايةَ النَّفَاذ، بحيث لا يتغيَّرُ بحالٍ، ولا يتوَّقفُ على الَمْقضيِّ عليه ولا الَمْقضيِّ له؛ لأنه من عِلْمِه بما يكون وبما كان، وخلافُ معلومه مستحيلٌ قطعًا، وهذا مِن قَبيلِ ما لا يتطرَّقُ إليه المَحْوُ والإثبات، قال الله عز وجل: و {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، وقال تعالى:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا مردَّ لقضائه، ولا مانعَ لحكمه".
فقولُه صلى الله عليه وسلم حكايةً عن الله سبحانه: "إني قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ" من القَبيل الثاني، وما ذَكَرَه تعالى في إجابة دعاءِ حبيبه صلى الله عليه وسلم إلا لتأكيد الإجابة، والاعتماد عليها غايةَ الاعتماد.
* * *
4473 -
عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمَسجِدِ بني مُعَاوِيةَ، دَخَلَ فرَكعَ فيهِ رَكعتَيْنِ، وصَلَّيْنا مَعَهُ، ودَعا ربَّهُ طَوْيلاً، ثمَ انْصَرَفَ، فَقَال صلى الله عليه وسلم: سَأَلْتُ ربي، ثَلَاثًا فأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، ومَنعَنِي وَاحِدةً: سَألتُ ربي أنْ لا يُهلِكَ أُمَّتِي بالسَّنَةِ فأَعْطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُهلِكّ أُمَّتي بالغَرَقِ فأعْطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمَنعَنِيها".
قوله: "مرَّ بمسجدِ بني معاوية دخلَ فركعَ فيه ركعتين"، الحديث.
(مسجد بني معاوية)، قيل: هو في المدينة حرسها الله، وبنو معاويةَ بطنٌ من الأنصار.
"ركع"؛ أي: صلَّى طويلاً؛ أي: دعاءً طويلاً.
"انصرفَ": رجع، "البأس" ها هنا: الشدة في الحرب، يريد "بالغرق": الغَرَق العام.
يعني: سألتُ ربي أَلَاّ يُهلكَ جميع أمتي بالغَرَق، كما غَرِقَ قوِمُ فرعونَ كلُّهم، وكما غَرِقَ قومُ نوح عليه السلام بالطوفان.
"فأعطانيها"؛ أي: أعطاني الله تعالى تلك المسألة، فأجاب دعائي فيها.
وسألتُه تعالى ألَاّ يوقِعَ بين أمتي الحربَ الشديدةَ، "فمَنَعَنِيها"؛ أي: فمَنَعَنِي تلكَ المسألةَ، وما أجابَ دعائي فيها.
* * *
4474 -
عَنِ عَطَاءِ بن يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقِيْتُ عَبْدَ الله بن عَمرِو بن العَاصِ رضي الله عنه قُلْتُ: أخبرْني عَنْ صِفةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في التَّوْراةِ، قَالَ: أجَلْ، والله إنَّهُ لمَوصُوفٌ في التَّوْراةِ ببعْضِ صِفتِهِ في القُرآنِ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وحِرْزًا للأُمييْنَ، أَنتَ عَبْدِي ورَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتوكِّلَ، لَيْسَ بفَظٍّ ولا غليْظٍ ولا سَخَّابٍ في الأَسْواقِ، ولا يَدْفَعُ بالسَّيئةِ السَّيئةَ ولكنْ يَعفُو ويَغْفِرُ، ولنْ يَقبضَهُ حتَّى يُقيمَ بهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلهَ إلَاّ الله، وتُفتَحُ بِهَا أَعيُن عُميٌ، وآذان صُمٌّ، وقُلوبٌ غُلفٌ، ورَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابن سَلَام.
قوله: "قال أَجَلْ، والله إنه لموصوفٌ في التوراة"، الحديث.
(أَجَلْ) في التصديق مِثْلُ (نَعَم) في الاستفهام.
الضمير في (إنه) للرسول صلى الله عليه وسلم، و (إنه) جوابُ القسم.
الحِرْزُ: الحِفْظُ، الأُمِّيُّ ها هنا منسوبٌ إلى أمَّ القرى، وهي مكة، ويحتمل أن يقال: منسوب إلى ما عليه العربُ، وهو عدم الكتابة، قال في "الغريبين" في تفسير "بُعِثْتُ إلى أمةٍ أُمِّية": قيل: هي التي على أصل ولادِة أُمَّهاتها، لم تتعلَّمِ الكتاب.
قوله: "وحِرْزًا للأميين": معناه: أنه من جملة صفاتِه المذكورةِ في التوراة أنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ حفظًا لأمته من عذاب الاستئصال، كما ذُكِرَ في الحديثين اللذين تقدَّما.
وقيل: معناه: وحفظًا لهم من العذاب مطلَقًا ما دامَ فيهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
"الفظ": الرجل الغليظ، و"الغليظ": فعيلٌ مِن (غَلُظَ غَلَظًا) إذا كان فيه فظاظة.
قال في "شرح السنة": معنى قوله: "ليس بفظًّ"؛ أي: غليظِ الجانب، سيئ الخُلُق، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
"الصَّخَّاب": كثير الصَّخَب، والصَّخَبُ: الصياحُ.
(دَفَع) إذا مَنعَ، فقوله:"لا يدفَعُ السيئةَ بالسيئة"؛ معناه: لا يسيء إلى مَن أساءَ إليه، بل يعفو عن المسيء، ويُحْسِنُ إليه، وتسمية الثاني سيئةً ازدواجٌ.
"الإقامة" ها هنا بمعنى التقويم، والتقويم: جعلُ الشيء مستقيمًا.
"المِلة" - بكسر الميم -: الدِّين والشَّريعة.
"العوجاء": ضد المستقيمة.
قوله: "يُقيمُ به المِلَّةَ العَوْجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله": معناه: أنَّ الله سبحانه قال: يُزيلُ الكُفْرَ بوجودِ رسولي وحبيبي صلى الله عليه وسلم، أنْ يدعوَ الناسَ عن آخرِهم إلى كلمةِ التوحيد، وهي اعترافُهم بأنه لا إله في عالَمِ الوجودِ وفي الوجود إلا الله سبحانه وتعالى برسالته صلى الله عليه وسلم.
و (لا) في "لا إله" لنفي الجنس، و (إله) اسمه، وخبره مقدَّرٌ؛ أي: في الوجود، والله مرفوعٌ بدلاً عن محلِّ المَنْفيِّ، و (لا) مع المنفي مبنيٌّ على الفَتْح؛ لتضمُّنهِ (مِنْ) الاستغراقية.
"الأعين": جمع عين، "العُمْي" - بضم العين -: جمع أعمى، و"الصم": جمع أَصَمَّ، و"الغُلْفُ": جمع أَغْلَف، وهو الذي لا يَفْهَم، كأنَّ قلبه في غِلَاف.
فقوله: "تفتح بها
…
" إلى آخره، قيل: معناه: أنه يفتحُ أعينَ الكُفَّار الذين ذَكَرَهم الله في كلامه القديم وآذانَهم وقلوبَهم بكلمة لا إله إلا الله؛ يعني: يدعوهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، ويحرِّضُهم على ذلك، فيوِفِّقهم الله تعالى لَقبوله والامتثال بأوامره سبحانه، قال الله تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
* * *
مِنَ الحِسَان:
4475 -
عَنْ خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةً فأطَالَها، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! صَلَّيْتَ صَلَاةً لمْ تكُنْ تُصلِّيْها! قال: "أجَلْ، إنَّها صلاةُ رَغْبَةٍ ورَهْبَةٍ، إِنَّي سَألتُ الله فِيها ثلاثًا فأَعْطانِي اثنتَيْنِ ومَنعنِي واحِدَةً: سَأَلتُهُ أَنْ لا يُهلِكَ أُمَّتي بسَنَةٍ فأَعْطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُسلِّطَ علَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ
غَيْرهِمْ فأعْطانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُذيقَ بَعْضَهُمْ بأْسَ بعْضٍ فمنعَنِيها".
قوله: "إنها صلاةُ رَغْبةٍ ورَهْبةٍ"؛ أي: صلاةٌ فيها رغبة إلى الله تعالى، ورَهْبةٌ؛ أي: خوفٌ منه تعالى؛ يعني: صلاةٌ مشتمِلَةٌ على الخضوع والخشوع، تعليمًا لأمته إذا ظهرَ لهم أمرٌ عظيمٌ وخوفٌ شديدٌ، أو رجاءٌ إلى الله سبحانه، يلتجِئون إلى صلاةِ رغبةٍ ورَهْبةٍ، ليزولَ عنهم ذلك بفضْلِه ورحمته.
ويحصلُ ذلك المطلوبُ بلُطْفِه، وما كانت صلاتُه صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الكيفية المذكورة؛ يعني: مشتمِلَةً على الخضوع، لكنه أظهرَ عن نفسه الخضوعَ في هذه الصلاة تَلْقِينًا لهم، حتى يعرِفُوا كيفيةَ السؤالِ مِنْ حَضْرَتِه تعالى.
* * *
4476 -
عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله عز وجل أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاثِ خِلالٍ: أنْ لا يَدعُوَ عَلَيكُم نبيُّكُم فتَهلِكُوا جَمِيْعًا، وأنْ لا يَظهرَ أَهْلُ البَاطِلِ على أَهْلِ الحَقِّ، وأنْ لا تَجتمِعُوا على ضَلَالةٍ".
قوله "إن الله عز وجل أَجَاركُمْ من ثلاثِ خِلَالٍ"، الحديث.
(أجارَ) إذا حَفِظَ، (الخِلالُ): جمع خَلَّة، بفتح الخاء، وهي الخَصْلةَ؛ يعني: أنَّ الله سبحانه حَفِظَكم من ثلاثِ خِصَالٍ، كرامة لكم، وتعظيمًا لنبيكُم صلى الله عليه وسلم.
الأُولى: "أن لا يدعوَ عليكُم نَبيُّكم"؛ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم،"فَتْهلَكُوا"؛ أي: فتَهْلَكُوا كلُّكُم، كما دعا الأنبياءُ على أُمَمهم، فهَلَكُوا حين ما آمنوا بهم، وما صدَّقُوا ما أَتَوا به مِن عندِه تعالى.
والثانية: "أن لا يظهرَ أهلُ الباطل على أهلِ الحق"، قيل: ألَاّ يغلِبَ الكُفَّارُ على المُسْلمِين، بصرفهم عما هو حقٌّ؛ يعني: عن الإسلام إلى الكفر، كما فَعَلَ الكُفَّارُ بقوم موسى عليه السلام في غيبته بأنْ حَمَلُوهم على عِبادَةِ
العِجْل، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33].
والثالثة: "أن لا تَجْتَمِعُوا على ضلالة"، قيل: معناه: لا تَتَّفِقُوا على شيءٍ باطلٍ، فإنكم إذا اتفقتُم على شيءٍ فهو حقٌّ، يقومُ مَقامَ النَّصِّ، ومَنْ خالَفَه فهو على الباطلِ، قال الله تعالى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وفيه دليلٌ على أن إجماعَ الأمة مُتَّبَعٌ في الأحكام الشرعية.
* * *
4477 -
وعَنْ عَوْفِ بن مالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَجْمَعَ الله تعالى على هذِهِ الأُمَّةِ سَيفَيْنِ: سَيفًا مِنْها وسَيفًا مِنْ عدُوَّها".
قوله: "لن يَجْمَعُ الله على هذه الأمةِ سيفين، سيفًا منها وسيفًا من عَدُوِّها"؛ يعني: لا يَجْمَعُ أبدًا على هذه الأمة؛ يعني: الأمةَ المسلمةَ، الذين آمنوا بي وصدَّقُوا ما أَتيتُ به من عندِ الله سبحانه من الآيات = سيفين؛ أي: المحاربةُ العامةُ منهم ومن الكفار؛ يعني: لا يجتمعُ عليهم الكفارُ والمسلمونَ جميعًا بالمحاربة معهم، بل إمَّا أن يحارِبَ بعضُ المسلمين بعضًا، أو يحاربَهم الكُفَّارُ، و (لن) لتأكيد النفي، والمبالغةِ في المستقبل.
* * *
4478 -
عَنِ العَبَّاس رضي الله عنه: أَنَّه جَاءَ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فكأنَّهُ سمِعَ شَيْئًا، فَقَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى المِنْبَرِ فَقَالَ:"مَنْ أَنَا؟ "، فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ الله، قَالَ: أَنَا مُحمَّدُ ابن عبدِ الله بن عبدِ المُطَّلِب، إنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرقتَيْنِ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ فِرقةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ
قَبيلةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيوْتًا فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نفْسًا وأَنَا خَيْرُهُمْ بَيتًا".
قوله: "فكأنه سَمِعَ شيئًا، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم على المِنْبر"، الحديث.
الضميرُ في (كأنه) للعَبَّاس؛ يعني: كَأَنَّ العباسَ عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ شيئًا في حَقَّه. "فقام على المِنْبر"؛ أي: وَعَظَ أُمَّتَه.
فقال: "من أنا؟ "(مَنْ) للاستفهام، سؤالُ تقرير، و (أنا) عائدٌ إلى حقيقته وكماله النَّبوي المُصْطَفَوي الذي ما كانوا يعرفونه، وما عرفوا، ثم بَيَّنَ بعضَ كمالاته وفضائله.
فقوله: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب"، تواضُعًا منه صلى الله عليه وسلم مع فضائله التي لا تُحْصَى، وتَلْقينًا لأمته بالتواضع.
فقوله: "ثُمَّ جَعَلَهم فِرْقَتين"؛ أي: صَيَّر الخلقَ فريقين: العربَ والعَجَمَ.
"فجَعَلني في خيرهم فِرْقَةً"، (فِرْقَةً) نُصِبَ على التمييز؛ أي: خَلَقَني في خيرِ الخَلْق، وهم العَرَب.
"ثُمَّ جعلَ العربَ قبائلَ، فجعلني في خيرِهم قبيلةً"؛ أي: خَلَقَني في القبيلةِ التي هي خيرُ القبائل، وهي قريشٌ.
"ثم جَعَلَ تلك القبيلةَ بيوتًا"؛ أي: بُطونًا، والبطونُ: جمع بَطْنٍ، وهو دونَ القبيلة.
"فجَعَلَني في خيرِهم بيتًا"؛ أي: خَلَقَني في خيرِ البيوت، وهم قبيلةُ هاشم.
"فأنا خيرُهم نَفْسًا، وخَيرُهم بيتًا"؛ يعني: إذا تقرَّرَ هذا فأنا خيرُ جميعِ الخلائق نَفْسًا وبيتًا.
وتلخيص المعنى: أن وجودَه الطاهرَ ودُرَّه النبويَّ الزاهر - صلوات الله عليه - حُفِظَ في صُلْبِ آدمَ بنظرِ العناية، وغُذِيَ بلُبَابِ المَحَبَّة، وشَرُفَ آدمُ وبنوه به صلى الله عليه وسلم، فأمر بنزوله ظهرًا فظهرًا إلى أن وصل إلى قبيلة هاشم، وهو بالإضافة إلى سائر الخلائق شرفًا وفضلًا، كالقلب بالإضافة إلى سائر الأعضاء.
* * *
4479 -
عَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالُوا: يا رَسُولَ الله! متَى وَجَبَتْ لكَ النُّبُوَّةُ؟ قال: "وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسدِ".
قوله: "متى وجَبَتْ لك النبوةُ؟ قال: وآدمُ بين الروحِ والجسد". (متى): سؤالٌ عن الزمان، والواو في (وآدم) للحال.
(وجبت)؛ أي: ثَبَتَتْ؛ يعني: ثبتت نبوتي في حال أنَّ آدمَ بين الرُّوح والجَسَد.
* * *
4480 -
وعَنِ العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ:"إِنَّي عِنْدَ الله مَكتوْبٌ: خَاتَمُ النَّبيينَ، وإنَّ آَدمَ لمُنْجَدِلٌ في طِينَتهِ، وسَأُخبرُكُمْ بأوَّلِ أَمْرِي: دَعْوةُ إِبراهِيْمَ، وبشَارَةُ عيسَى، ورُؤْيا أُمِّي الَّتي رَأَتْ حِينَ وضَعَتْني وقدْ خَرجَ لها نُور أضَاءَتْ لَها منهُ قُصُورُ الشَّامِ".
قوله: "إني عند الله مكتوبٌ خاتَم النَّبيين، وإن آدم لمُنْجَدِلٌ"، الحديث.
(المُنْجَدِلُ): الساقط، والمُجْدَّلُ المُلْقى بالجَدَالة، وهي الأرض، ذكَره في "الغريبين".
قال الزمخشري في "الفائق": (انجَدل) مطاوع جَدَلهَ، إذا ألقاه على الأرض،
وأصلُه الإلقاءُ على الجَدَالة وهي الأرض الصلبة، وهذا على سبيل إنابة فعلٍ منابَ فعل، و"الطينة": الخِلقْةَ، من قولهم طانَه الله على طينتك؛ أي: خَلقَهَ.
قال: والجارُّ الذي هو (في) ليس يتعلَّقُ بمنجدل، وإنما هو خبرٌ ثان، لأن الواو مع ما بعدها في محل النصبِ على الحال من (المكتوب)، والمعنى: كنتُ خاتمَ الأنبياءِ في الحال التي آدمُ مطروحٌ على الأرض حاصلٌ في أثناء الخلق، لما يفرغ من تصويره وإجراء الروح فيه، هذا كلُّه لفظ الزمخشري.
وإنما قال: (في طينته) خبر ثان، لا ظرفُ (منجدل)، لأنه لو كان ظرفَه فسدَ المعنى، إذ يصير تقديره: انجدل في الطين، وليس ذلك معناه، بل معناه أنه كان طِينًا، ثم صُوَّرَ على شكل الآدمي، وأُطْرِحَ على الأرض، كما تُطْرَحُ الأصنام والصُّوَرُ.
"الصُّورةُ: الجماد".
قوله: "سأخبركم بأولِ أمري، دعوةُ إبرا هيم
…
" إلى آخره.
قال في "شرح السنة": قوله تعالى حكايةً عنه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129]
قال في "اللُّبَاب": يريد بالآيات خبرَ مَن مضى وخبرَ مَن بقيَ إلى يوم القيامة، والضمير في (فيهم) و (منهم) يعود إلى الذرية.
وقال أيضًا في "شرح السنة": وبشَارة عيسى عليه السلام قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، الضمير في (لها) عائدٌ إلى قوله (أخي)، واللام للعِلَّة، والضمير في (منه) يعود إلى (النور).
"القصور": جمع قصر، وهو بيتٌ رفيع، معناه أنه قد سأل الخليلُ عليه السلام الحضرةَ الإلهيةَ أن يبعثَ في ذريته منهم، كما قال تعالى حكاية عن قوله:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} [البقرة: 129] الآية.
وقد بَشَّرَ عيسى عليه السلام بمجيئه إلى العالم، قال الله حكايةً عن قوله:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، وأُمَّي حين ولدتني قد رَأَت أنه خرجَ منها نورٌ، أضاءت من ذلك النورِ لها قصورُ الشام لأجلها، وذلك النورُ عبارةٌ عن نبوته صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وقد أضاءت نبوته ما بين المشرق والمغرب واضمحل بها ظلمة الكفر والضلالة.
* * *
4481 -
عَنْ أَبي سَعِيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سيدُ ولَدِ آدمَ يَومَ القِيامَةِ ولا فَخْرَ، وبيَدِيْ لِواءُ الحمْدِ ولا فخرَ، ومَا منْ نَبيًّ يومَئذٍ آدمُ فمن سِواهُ إلَاّ تَحْتَ لِوائِي، وأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنشقُّ عنهُ الأَرْضُ ولا فَخْرَ".
قوله: "وبيدي لواء الحمد ولا فخر
…
"، الحديث.
اللَّواء - بكسر اللام وبالمد -: رايةُ الأمير، لكنه دون الأعلام والبنود، ذكره في "الصحاح".
سُمَّيَ لواءَ الحمد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يحمدُ الله تعالى في الحالة التي معه اللَّواءُ يومَ القيامة، حمدًا يليق بذاته سبحانه، على أن قرَّبه إليه، وفضَّلَه على جميع عباده الأنبياء والمرسَلين وغيرِهم، من أهل المَحْشر، وحوَّجَهم إلى أن يحضُروا تحت لوائه جَذِلين، وإلى شفاعته راغبين، بل مضطرين مُلْجَئين، وتواضعَ صلى الله عليه وسلم مع هذا الفَضْل والكمال.
وقال: "ولا فخر"؛ يعني ما لي مفاخرةٌ بذلك؛ يعني: لا أذكره مفاخرةً طبعًا كما هي عادةُ العرب، بل أذكُره لتعدُّدِ النَّعَم، لأنه مَحْضُ فَضْلِه وإنعامه علي.
وقيل: معناه: لا أفتخرُ بذلك، بل فَخْرِي بربي الذي أعطاني هذه المرتبةَ.
وقيل: لا أفتخرُ بذلك لأنه ما حَصَلَ بسعيي وكَسْبي حتى أفتخرَ به.
و (نبي) في "وما من نبي": للعموم؛ لأن النكرةَ التي تقع بعد النفي تَعُمُّ وتَشْمَل، والتنوين في "يومئذٍ" تنوينُ العِوَض، تقديرُه: يومَ إذ تقومُ الساعةُ.
و"من" في "مَنْ سِوَاه" موصولٌ، و (سواه) صلته؛ لأنه نصبٌ على الظَّرْف، وهو عطفٌ على (آدم)، و (آدم) عطفُ بيان لقوله:(ما مِن نَبيٍّ)، أو بدل؛ يعني: لا نبيَّ يومَ القيامة - يعني: آدم وغيره من الأنبياء والمرسلين - إلا أن يحضُروا تحت لوائي، وأنا أُحْشَرُ قبلَ الخلائق كلِّهم، ولا فخرَ، بل لطفُ منِّ الله وفَضْلِه.
* * *
4482 -
عنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَلسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فخَرجَ، فسمِعَهُمْ يَتذاكَرونَ، قَالَ بعضُهُمْ: إِنَّ الله اتَّخذَ إِبْراهِيمَ خَليلاً، وقَالَ آخرُ: مُوسُى كلَّمهُ الله تَكْلِيْمًا، وقالَ آخرُ: فعيسَى كَلِمةُ الله ورُوحُهُ، وقَالَ آخرُ: آدمُ اصْطَفَاهُ الله، فخَرجَ عَلَيهِم فسَلَّمَ وقَالَ:"قدْ سَمِعْتُ كَلامَكُمْ وعَجَبَكُمْ أنَّ إِبْراهيمَ خَلِيْلُ الله وهوَ كذلِكَ، ومُوسَى نَجيُّ الله وهوَ كذَلكَ، وعِيْسَى رُوْحُهُ وكَلِمتُهُ وهُوَ كذلكَ، وآدمُ اصْطَفاهُ الله وهُوَ كذلكَ، أَلَا وأَنَا حَبيبُ الله ولا فَخْرَ، وأَناَ حَامِلُ لِواءِ الحَمْدِ يَومَ القِيامةِ ولَا فَخْرَ، تحتَهُ آدَمُ فمنْ دُونَهُ ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ شَافِعٍ وأوَّلُ مُشفَّعٍ يومَ القِيامةِ ولا فَخْرَ، وأَنا أوَّلُ مَنْ يُحرِّكُ حِلَقَ الجنَّةِ فيَفتَحُ الله لِيَ فيُدْخِلُنِيْها ومَعِي فُقَراءُ المُؤمِنينَ ولا فَخْرَ، وأَنَا أكْرَمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ على الله ولا فَخْرَ".
قوله: "فخرج سَمِعَهم يتذاكرون"، الحديث.
(سَمِعَ): نصب على الحال من الضمير في (خرج)، وهو يعودُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (قد) مُقدَّرَة.
و (يتذاكرون) أيضًا نصب على الحال من الضمير المنصوب في (سمعهم)؛ يعني: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد سَمِعَهم مُتَذَاكِرين في فضائل الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وهي مذكورةٌ في الحديث.
فإذا خرجَ سلَّم عليهم، وصَدَّقَ كلامَهم في الفضائل، وقال: قولُكم في فضيلة كلَّ واحد منهم عليهم السلام حَقٌّ وصِدقٌ، ولكني حبيبُ الله سبحانه ولا فخرَ؛ يعني: لا أذكره مفاخرةً، بل أذكرُه إظهارًا لفَضْلِه الكاملِ وإنعامِه السابغِ عليَّ، لأني مأمورٌ بذلك، قال الله جل جلاله:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]
"الخليل": الصديق.
و"ألا" كلمة تنبيه، معناها: تنبهوا، "الحبيب": فعيل، بمعنى مفعول، قيل: مَنْ قاسَ الحبيبَ بالخليل فقد أخطأ، فإن الخليلَ اشتقاقه من الخلَّة، التي هي الحاجة، فكأن إبراهيم كان كلُّ افتقاره إلى الله تعالى، فمِن هذا الوجه اتخذَه الخليلُ، والحبيبُ اشتقاقهُ من المحبة، والفعيل يُستعمل بمعنى الفاعل، وبمعنى المفعول كالشَّهيد.
فكأنه صلى الله عليه وسلم محبوبٌ ومُحِبٌّ، وأصيبت حَبَّةُ قلبهِ بالمَحَبَّة؛ لأنك إذا قلتَ حبيبه كأنك أصبتَ حَبَّةَ قلبه، كما يقول كَبَّدْتُه وفَأَّدْتُه ورَأَّسْتُه في إصابة الكَبدِ والفُؤَاد والرأس، والخليلُ مُحِبٌّ لحاجته إلى من يُخَالُّه، والحبيب مُحِبٌّ لا لغرض.
"المُشَفَّع": الذي قُبلَت شَفَاعتُه.
و"الحِلَقُ": جمع حَلْقَة، وهي حَلْقَة الباب؛ يعني: بابَ الجنة.
وقوله: "ومعي فقراءُ المؤمنين"، دليلٌ على فضلهم وكرامتهم عند الله سبحانه، وإنما اختصُّوا بهذه الكرامة لأنهم متَّصِفُون بالفقر، وهو ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عُرِضَتْ مفاتيحُ خزائن الأرض، فقال:"أريدُ أن أجوعَ يومًا، وأشبعَ يومًا": وقال في "آداب المريدين": ليس الفقرُ عند الصُّوفِيَّة الفاقةُ والعُدْمُ، بل الفَقْرُ المحمودُ الثقةُ بالله، والرِّضَا بما قَسَمَ الله سبحانه.
(الفَاقَةُ): الحاجةُ، والفقرُ، و (العُدْم): - بضم العين وسكون الدال - بمعناها.
قوله: "وأنا أكرمُ الأَوَّلين والآخِرين على الله"، دليلٌ على أنه أفضلُ مَن في السماوات والأرض.
* * *
4483 -
عَنْ عَمْرِو بن قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ الآخِرونَ، ونَحْنُ السابقُونَ يومَ القِيامةِ، وإنَّي قَائِلٌ قَوْلًا غيرَ فَخْرٍ: إبْراهِيمُ خليلُ الله، ومُوسَى صَفِي الله، وأَنَا حَبيْبُ الله، ومعِي لِواءُ الحَمْدِ يومَ القِيامةِ، وإنَّ الله وعَدَنِي في أُمَّتِي وأَجَارَهُمْ مِنْ ثَلاثٍ: لا يَعمُّهُمْ بسَنةٍ، ولَا يَستأصِلُهُمْ عَدُوٌّ، ولا يَجْمعُهُمْ عَلَى ضَلالَةٍ".
قوله: "نحن الآخِرون، ونحن السَّابقون يوم القيامة"، الحديث.
يعني: نحن الآخِرون في المجيء إلى الدنيا، والسابقون يومَ القيامة في دخول الجنة، وغيرِ ذلك من الفضائل.
و"موسى صَفِيُّ الله"؛ أي: مختاره.
و"أجارَهم من ثلاثٍ"؛ أي: أنقذَهم وحَفِظَهم من ثلاث خصال.
قال في "الصحاح": يقال: أجاره الله من العذاب؛ أي: أنقذه.
* * *
4485 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَنَا أوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إذَا بُعِثوا، وأَنَا قائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وأَنَا خَطيبُهُمْ إذَا أنْصَتُوا، وأَنَا مُستَشفِعُهُمْ إذا حُبسُوا، وأَنا مُبشَّرُهُمْ إذَا آيسُوا، الكَرامةُ والمَفَاتيحُ يَومَئِذٍ بيَدِي، ولواءُ الحَمْدِ يومَئذٍ بيدي، وأَنَا أكْرمُ ولَدِ آدمَ على ربي، يَطوفُ عَليَّ ألفُ خَادِمٍ كأنَّهُمْ بَيْضٌ مَكْنونٌ أو لُؤلؤٌ مَنْثورٌ"، غريب.
قوله: "أنا أولُ الناسِ خروجًا إذا بعثوا، وأنا قائِدُهم إذا وَفَدُوا"، الحديث.
(بَعَثَ) الحديثَ: إذا نشره.
(القائدُ): واحد القادة، مَن قاد الفرسَ وغيرَه يقودُ قَوْدًا.
قال في "الصحاح": (وفدَ) فلان على الأمير؛ أي: وردَ رسولًا، فهو وافدٌ، والجمع: وَفْد، مثل صاحبة وصَحْب.
"أنْصَتَ": إذا سَكَت.
"المُسْتَشْفَع": اسم مفعول مِن (استشفعتُه إلى فلان)؛ أي: سألتُه أن يَشْفَعَ لي إليه، ذكره في "الصحاح".
"أيس يَيْأَسُ": إذا قَنَط، (المكنون): اسم مفعول مِن (كَنَّ) إذا سَتَر، و"بيضٌ مَكْنُون"؛ أي: لؤلؤٌ مخزونٌ مستورٌ في صَدَفه، لم تمسَّه الأيدي، ذكرَه بعض المُفَسِّرين.
و"المنثور": اسم مفعول من نثر السكر وغيره نثارًا.
و"أو" في قوله: "أو لؤلؤ منثور" شكٌّ من الراوي.
يعني: أنا مُقدَّمٌ في الخروج عن القبر على سائر الناس كلِّهم، فإذا وَرَدُوا على الله سبحانه فأنا متبوعُهم، وإذا سكتُوا متحيرين فأنا خطيبُهم.
يعني: يكونُ لي قدرةٌ على الكلام في ذلك الوقت، وإذا حُبسُوا في الموقف، ولم يحاسَبوا، أشفعُ لهم في المقام المحمود الموعودِ لي، فتقبل شفاعتي، فيحاسَبون.
وإذا أَيسُوا الكرامة؛ أي: وإذا قَنَطُوا من لطفه ورحمته تعالى بَشَّرْتُهم بالرحمة والرضوان.
"والمفاتيحُ يومئذٍ بيدي"؛ يعني: مفاتيحُ كلَّ خيرٍ بيدي في ذلك اليوم، وإنما قال هذا؛ لأنه يصلُ أنواعَ اللطف والرحمة من الله سبحانه إلى أهل العَرَصَات من الأنبياء وغيرِهم بواسطة شفاعته العامة في المقام المحمود وغير ذلك، كما هو مذكورٌ في الحديث.
وكما أنَّ المفاتيحَ سببٌ للفتح، فهو سببٌ لما ينفتح من فَضْلِه العَمِيم تعالى على عباده.
* * *
4486 -
عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فأُكْسَى حُلَّةً منْ حُلَلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ أقومُ عَنْ يَمينِ العَرْشِ، لَبسَ أَحدٌ مِنَ الخَلائِقِ يَقومُ ذلكَ المَقامَ غَيْري".
"فأُكْسَى حُلَّةً من حُلَلِ الجَنَّة"، (الحُلَل): جمع حُلَّة، وهي إزارٌ ورداء.
قوله: "ثم أقومُ عن يمين العرش
…
" إلى آخره، (العَرْشُ): سرير الملك؛ يعني: بعد أن أَشْرُفَ بتلك الحالة الأبدية أقومُ عن يمين العرش، وذلك المقامُ مختصٌّ بي.
* * *
4487 -
عَنْ أبي هُريْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَلُوا الله لِيَ الوَسيلَة"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! ومَا الوَسيلَةُ؟ قَالَ: "أَعْلَى درَجةٍ في الجَنَّةِ، لا ينالُها إِلَاّ رَجُلٌ واحِدٌ، أرجُو أنْ أكُونَ أَنَا هوَ".
قوله: "وما الوسيلةُ؟ قال: أعلى درجةٍ في الجنة"، الحديث.
(الوَسِيلَةُ): ما يُتَقَرَّبُ به إلى الغير، المراد بها ها هنا ما فسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و (درجة): جرٌّ؛ لأنها مضافٌ إليها لـ (أَعْلَى)، الضمير في (لا ينالها) يعودُ إلى الدرجة.
قوله: "أرجو أن أكونَ أنا هو"؛ يعني: أرجو مِن الله أن يَرْزُقَني الوسيلةَ، وأنْ أكونَ ذلك الرَّجُلَ الذي تكونُ الوسيلةُ له بفضْلِه، وإنما ذكرَ الكلامَ مبهَمًا على سبيل التواضع، لأنه قد عرف جَزْمًا على أنها له، (أنا) مبتدأ، و (هو) خبره، والجملةُ خبرُ (أكون).
* * *
4488 -
عَنْ أُبيَّ بن كَعْبٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا كانَ يومُ القِيامَةِ كُنْتُ إمَامَ النَّبيينَ وخَطيبَهُمْ، وصاحِبَ شفاعَتِهِمْ غيرَ فَخْرٍ".
قوله: "إذا كان يوم القيامة"، (كان) هنا تامة، معناه: أتى أو وقع.
* * *
4489 -
عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِكُلَّ نبيًّ وُلاةً مِنَ النَّبيينَ، وإنَّ وَلِيي أَبي خَلِيلُ رَبي"، ثُمَّ قَرأَ:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68].
قوله: "إنَّ لكلِّ نبيًّ ولاةً مَن النبيين"، الحديث.
(الولاةُ): جمع وَلِيًّ، وهو بمعنى الصَّدِيق والحَبيب؛ يعني: أنَّ لكلَّ نبيًّ أحباءَ وقُرَنَاء، وهو أَوْلَى بهم، وأقربُ إليهم في جميع الأوقات.
"وولِيي أبي"؛ يعني: به إبراهيم صلوات الله عليهما، وقد بيَّنَ لقولهم:"وخليلُ ربي" بإضافة الخليل إلى قوله: (ربي)، أنَّ قولَه:(أبي) يعني به: إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لا كما ذكر في كتاب "المصابيح"، وهو قوله:(ووليي أبي).
هذا معنى كلام الإمام التُّوْرِبشْتِي في "شرحه".
فعلى هذا (خليل ربي) معطوف على (ربي)، الذي هو مرفوع.
وكان قياسه أن يكون: وليي أبي خليلُ ربي، من غير (واو)؛ ليكون عطفَ بيانٍ لـ (أبي)، لأن الواو تؤدَّي إلى التغاير، فيؤذِنُ بأن الروايةَ: وليي أبي وخليلي ربي، كما هو في كتاب "المصابيح".
* * *
4490 -
عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ الله بَعثَنِي لِتَمَامِ مَكارِمِ الأخْلاقِ، وكَمَالِ مَحاسِنِ الأفعْالِ".
قوله: "إنَّ الله بعثني لتمامِ مكارمِ الأخلاق، وكمالِ محاسنِ الأفعال".
(بَعَثَ) إذا أَرْسَلَ، (التمامُ): مصدرُ (تَمَّ) إذا كَملَ، (المكارم): جمع مَكْرُمَة، وهي خصلةٌ يُكْرَمُ الشخصُ بها؛ أي: يَسْتَحِقُّ أن يكون كريمًا، والكَرَمُ ليس نفسَ السَّخَاء، ولهذا يوصَفُ العَرْشُ والقرآن بالكريم، بل الكريم صفةٌ محمودةٌ عالية.
و (الأخلاقُ): جمع خُلُق، و (المحاسن): جمع حُسْن، جمعٌ غير قياسي.
يعني: إن الله سبحانهَ بعثني إلى العالَم ليتمَّمَ بوجودي مكارمَ أخلاقِ عبادهِ، ويُكَمَّلَ بي محاسنَ أفعالهم.
* * *
4491 -
عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه يَحْكِي عَنِ التَّوراةِ قَالَ: نَجدُ مَكتوبًا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، عَبدِي المُختارُ، لا فَظٌّ ولا غَليظٌ، ولا سَخَّابٌ بالأَسْواقِ، ولا يَجزِي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكنْ يَعفُو ويَغْفِرُ، مَوْلدُهُ بمكَّةَ، وهِجرتُهُ بطَيْبةَ، ومُلكُهُ بالشَّامِ، وأُمَّتُهُ الحمَّادونَ، يَحمَدونَ الله في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، يَحْمَدونَ الله في كلِّ مَنْزِلَةٍ، ويُكبرونَهُ على كُلِّ شَرَفٍ، رُعاةٌ للشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلاةَ إذا جَاءَ وقتُهَا، يَتأزَّرُونَ على أَنْصافِهِمْ، ويتوَضَّؤُون على أَطرافِهِمْ، مُنادِيهِمْ يُنادِي في جَوِّ السَّماءِ، صفُّهُمْ في القِتالِ وصَفُّهُمْ في الصَّلاةِ سَواءٌ، لهُمْ باللَّيلِ دَوِيٌّ كدَوِيَّ النَّحلِ.
قوله: "مولده بمكةَ، وهجرتُه بطَيْبة، ومُلْكُه بالشام"، الحديث.
(المَوْلِد): موضع الولادة، (الهِجْرة): تركُ الوطنِ والذهابُ إلى موضعٍ آخر.
(طيبة): مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي غيرُ منصرف للعَلَمية والتأنيث، وكذلك مكة.
(ومُلْكُه بالشام)، يريد بالملك ها هنا النُّبُوَّةَ والدِّين؛ يعني: يَعُمُّ دينهُ جميعَ البلدان، لكن الشام يغلبُ على سائر البلادِ في اتَّباع أهلِها له، والأمْنِ من غَلَبة الكفار عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالشام".
وأيضًا: مُلْكُه ظهرَ بالجهاد مع الكفار، ومِنْ فَتْحِ الشام إلى اليوم لا ينقَطِعُ الجهادُ بها، ولهذا أَمَرَ بالمسافرة إليه، ليغزوا، وليرابطوا، وأيضًا فهناك المسجدُ الأقصى وقبورُ أكثرِ الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
و"الحَمَّادُ": كثير الحمد.
"المنزلة" ها هنا بمعنى المَنْزِل.
قال في "الصحاح": والمنزلة والمنزلُ واحدٌ.
قال ذو الرمة:
أَمَنْزِلَتَيْ مَيًّ سلامٌ عليكما
…
هلِ الأَزْمُنُ اللَاّئي مَضَيْنَ رَوَاجِعُ
أي: يا مَنْزِلتَيْ مَيًّ: وهي اسمُ امرأةٍ.
"الشرف": المكان العالي.
(الرعاة): جمع الراعي، مِن (رَعَى) إذا حَفِظَ.
قيل: المراد بـ "رعاةِ الشمس" الذين يحْفَظُون أوقاتَ الصلوات بطلوع الشمس وغروبها ودُلُوكها، وَينْظُرُون في سيرها؛ ليعرِفُوا مواقيتَها، وهذا دليلٌ على أنَّ معرفَة النجوم قَدْرَ ما يُعْرَفُ به مواقيت الصلاةِ مطلوبةٌ.
قال الشيخ محيي السنة في "التهذيب": معرفةُ دلائلِ القِبْلَةِ فرضٌ على العَيْن أم فرضٌ على الكفاية؟.
فيه وجهان: أَصَحُّهما فرضٌ على العين، يجبُ على كل بَصيرٍ أن يتعلَّمَها؛ لأنها تحصُلُ في ليالٍ ذواتِ عَدَدٍ، بخلاف تعلُّمِ العِلْم كان فرضًا على الكفاية، لا يحصل إلا بأن يَجْعَلَ مُعْظَمَ عمرهِ فيه.
قوله: "يتأزَّرُون على أنصافهم"؛ أي: يشدُّون الأُزُرَ على أنصافهم؛ أي: من السُّرَّةِ إلى تحت الركبة.
قوله: "ومناديهم ينادي في جو السماء"، قيل:(المنادي): المؤذَّن، (الجَوُّ) ما بين السماء والأرض؛ يعني: يؤذِّنُ مؤذِّنُوهم في جوِّ السماء؛ أي: في مواضعَ عاليةٍ مثل المنارة وغيرها.
"ولهم بالليل دويٌّ كدويِّ النحل"؛ يعني: لهم في الليل أصواتٌ خَفِيَّةٌ في التسبيح والتهليل وقراءة القرآن كدويِّ النحل، وهو هنيمته.
* * *