الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في المِعْرَاجِ
(فصل في المِعْرَاجِ)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4577 -
عَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه، عَنْ أَنَسِ بن مالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ مالِكِ بن صَعْصَعَة رضي الله عنه: أَنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّثَهُم عَنْ لَيْلَةِ أُسرِيَ بهِ: "بَيْنَما أَنَا في الحَطِيمِ - وربَّما قَالَ: في الحِجْرِ - مُضطَجِعًا، إذْ أتانِي آتٍ فشقَّ ما بينَ هذِه إلى هذِه - يَعني: منْ ثُغْرةِ نَحْرِهِ إلى شِعْرَتِهِ - فاستخرجَ قَلبي، ثُمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ منْ ذَهبٍ مملوءٍ إيْمانًا، فغُسِلَ قَلبي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعيدَ - وفي روايةٍ: ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إيْمَانًا وحِكْمةً - ثُمَّ أُتيتُ بِدابَّةٍ دُونَ البَغلِ وفوقَ الحِمارِ أبيضَ، يَضَعُ خَطْوَهُ عندَ أقصَى طَرْفِهِ، فحُمِلتُ عليهِ، فانطلقَ بي جِبريلُ، حتَّى أتَى السَّماءَ الدُّنيا، فاسْتفتَحَ، قيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جِبريلُ، قيل: ومَن معكَ؟ قال: محمّدٌ، قيلَ: وقدْ أُرسلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرحبًا بهِ فنِعْمَ المجيءُ جاءَ، ففَتَحَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذا فيها آدمُ صَلَواتُ الله عليهِ، فَقَالَ: هذا أَبوكَ آدمُ فسَلِّمْ عليهِ، فسلَّمتُ عليهِ، فردَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرحبًا بالابن الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الثَّانيةَ، فاسْتَفتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَال: جِبريلُ، قِيلَ: ومَنْ معكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ أُرسلَ إليه؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، ففَتَحَ، فلمَّا خَلَصْتُ إذا يَحيَى وعيسَى صلواتُ الله عليهما، وهُمَا ابنا خَالَةٍ، قَالَ: هذا يَحيَى وعيسَى فسلِّمْ عليهما، فسَلَّمتُ، فردَّا ثُمَّ قالا: مَرحبًا بالأخِ الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءِ الثَّالثةِ، فاسْتفتَحَ، قِيْلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيْلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ،
ففُتِحَ، فلمَّا خَلَصْتُ إذا يُوسُفُ، قَالَ: هذا يُوسُفُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالح، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الرَّابعةَ، فاسْتَفتَحَ، قِيْل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيْلَ: ومَنْ معكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، ففُتِحَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذا إِدْرِيسُ، قَالَ: هذا إِدْرِيسُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الخَامِسَةَ، فاستفتَحَ، قِيْل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْريْلُ، قِيْل: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيْلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإِذَا هَارونُ، قَالَ: هذا هَارونُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَال: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ السَّادِسةَ، فاستفتَح، قيل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قِيْل: وقَدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإذا مُوسَى، قال: هذا مُوسَى فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، فلمَّا تَجَاوَزْتُ بكَى، قِيلَ لَهُ: ما يُبكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأنَّ غُلامًا بُعِثَ بعدِي يَدخُلُ الجَنَّةَ منْ أُمَّتِه أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدخُلُها منْ أُمَّتي، ثمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءَ السَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، قِيلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيْلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحمَّدٌ، قِيْل: وقدْ بُعِثَ إِليْهِ؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإِذَا إِبْراهيمُ، قَالَ: هَذا أَبُوكَ فسَلِّمْ عليهِ، فسَلَّمْتُ عليهِ، فردَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرحبًا بِالابن الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ رُفِعَتُ إِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فإذَا نبَقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ، وإذَا وَرَقُها مِثْلُ آذانِ الفِيَلَة، قَالَ: هذه سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فإذا أَرْبَعةُ أَنْهارٍ: نهَرانِ باطِنان، ونَهرانِ ظاهرانِ، قُلتُ: ما هذانِ يا جِبْريلُ؟ قَالَ: أمَّا البَاطِنانِ فَنهرانِ
في الجَنّةِ، وأمَّا الظّاهِرَانِ فَالنِّيلُ والفُراتُ، ثُمَّ رُفِعَ لي البَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتيتُ بإناءٍ منْ خَمْرٍ وإناءٍ مِن لَبن وإناءٍ منْ عَسَلٍ، فأخذتُ اللَّبن، فَقَالَ: هِيَ الفِطرةُ التي أنتَ عليها وأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَليَّ الصَّلاةُ خَمسينَ صَلاةً كُلَّ يومٍ، فرَجَعْتُ فمَررْتُ عَلَى مُوسَى فَقَال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بخَمسينَ صَلاةً كُلَّ يَومٍ، قَالَ: إنَّ أمَّتَكَ لا تَستطيعُ خَمسينَ صَلاةً في كُلِّ يومٍ، وإنَّي والله قدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فارجِعْ إلى ربك فسَلْهُ التخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فرجَعْتُ، فوضَعَ عنِّي عَشْرًا، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَال مِثْلَهُ، فرجَعْتُ فوضَعَ عنَّي عَشْرًا، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرَجَعْتُ فوضَعَ عنِّي عَشْرًا، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فقالَ مِثْلَهُ، فرجَعتُ فأُمِرْتُ بعَشْرِ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرجَعْتُ فأُمِرْتُ بخَمسِ صلواتٍ كُلَّ يومٍ، فرجَعتُ إلى مُوسَى فقال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قلت: أُمِرْتُ بخَمسِ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ، قال: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَستطيعُ خَمسَ صَلواتٍ كُلَّ يومٍ، وإنَّي قدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بني إِسْرائيلَ أشَدَّ المُعَالجَةِ، فارجِعْ إلى ربكَ فسَلْهُ التخْفِيفَ لأُمَّتِكَ"، قَالَ: "سَأَلْتُ ربي حتَّى استَحْيَيْتُ ولكنِّي أرْضَى وأُسلِّمُ" قال: "فلمَّا جاوَزْتُ نادَى مُنادٍ: أمضَيْتُ فَريضَتِي، وخفَّفْتُ عن عِبادِي".
"حدثهم عن ليلة أسري به: بينما أنا نائم في الحطيم" الحديث.
"ليلة": مضافة إلى (أسري)، و (ليلة): يجوز أن تُبنى على الفتح لإضافتها إلى الماضي، وهو مبني، كقول الشاعر:
على حينَ عاتبتُ المشيب على الصبا
ويجوز أن تجر.
(سرى وأَسْرَى) بمعنى، فيعدى (أسري) بالباء.
قال في "شرح السنة": "الحطيم": الحِجْر، سمي حَطيمًا لِمَا حُطم من جداره، فلم يسوَّ ببناء البيت، حُطم؛ أي: كُسر.
قيل: نقل عن مالك أنه قال: (الحطيم): ما بين المقام إلى الباب.
وعن ابن جريج: هو ما بين الركن والمقام وزمزم.
وعن ابن حبيب أنه قال: (الحِجْر) ما بين الركن الأسود إلى الباب إلى المقام، حيث ينحطم الناس للدعاء؛ أي: ينكسر.
وقيل: كان أهل الجاهلية يتحالفون هناك، ينحطمون بالأيمان.
قال في "الصحاح": قال ابن عباس: (الحطيم): جدار حجر الكعبة، و (الحِجْر): هو ما حول الحطيم.
(الثُّغرة) بالضم: ثغرةُ النَّحر التي بين الترقوتين.
و (الشَّعرة) بالكسر: منبتُ العانة، وقيل: هي شعر العانة.
وقيل: ويمكن أن يُقال: إن هذا الشق غير الشق الذي كان في صباه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشق الذي كان في زمان الصبا ليخرِجَ من قلبه مادة الهوى، والشق المذكور في الحديث: كان ليُدخلَ في قلبه كمالَ الحكم والمعرفة والإيمان.
كما ذكر في الحديث: "ثم حُشِيَ"؛ أي: مُلِئَ قلبُهُ إيمانًا وحكمة.
قوله: "ثم أُتِيْتُ بدابةٍ دونَ البغلِ وفوقَ الحمار
…
" الحديث.
هذه الدابة عبارة عن البراق، وصفتها: أنها كانت لا تمرُّ على شيء، ولا تطأُ شيئًا إلا حييَ، وكذا لا يصل ريحُها إلى شيء إلا حَييَ.
وقيل: إن السَّامري قد أخذ شيئًا من تراب أثر حافرها، ثم ألقاه في فم العجل الذي صاغه من الذهب، فخار لهذا.
قوله: "يضعُ خَطوه عند أقصى طَرْفِهِ"، (أَقْصَى): أفعل التفضيل، من
(قَصَا يَقْصُو): إذا بعد.
(الطَّرف) بالفتح: الجَانب، وبالسكون: العَيْنُ؛ يعني: هذه الدابة حينما يركبُها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كانَتْ تضعُ خَطوها عند غايةِ نظرِهَا ومُنتهاه، لا عند ركوب غيره من الرسل والأنبياء - صلوات الله عليهم -؛ لأنه كان لكمال ذاته لا يتجاوز نظر علمه قدم حاله، بل اعتدلَتْ أحوالُه، فكان قلبُهُ وقَالبُهُ وظَاهرُهُ وبَاطنُهُ سواء، فلهذا وصل في المِعراج بالجسم والروح إلى ما وصل غيره من الأنبياء بالروح، وكان في هذا المقام ما التفتَ ظاهُره وباطنُه إلى ما سوى الله تعالى، فوصَلَ إلى مَا وَصَلَ، وفَازَ بما فَازَ.
ثم مدَحَهُ تعالى وتقَدَّسَ، وقال:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، فلو لم يكن كذلك؛ لما وَصَلَ إلى هذا المقام، بل وَصَلَ إلى بعض السماوات كوصول غيره من الأنبياء إلى بعضها بحسب مراتبهم، كما ذكر في الحديث.
قوله: "فاستفتَحَ، قيل: مَنْ هذا؟ "، (استَفْتَحَ): إذا طلب الفتح، و (مَنْ) في (مَنْ هذا؟): استفهام.
قيل: أراد بذلك: تقريرَ شدة حراسةِ السَّماء وكثرة حراسها، وأن أحدًا لا يقدر أن يمرَّ عليها، ويدخل فيها، إلا بإذن مَنْ هو مُوكَّل عليها.
قيل: الاستفتاح من جبريل؛ لأنه كان معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان منفردًا لما احتاج إليه.
قوله: "وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا، فنِعْمَ المجيء جاء": (مرحبًا) نُصب على المصدر؛ أي: رحب مرحبًا.
(المَجيءُ): فاعل (نِعْمَ)، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: نعم المَجيءُ مجيء جاء، قيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: جَاءَ فنِعْمَ المَجيءُ مجيئه.
قيل: معنى قوله: (أُرسل إليه؟)؛ أي: أُرسل إليه العروج؟ لأن بعثةَ نبينا صلى الله عليه وسلم -
من معظمات الأمور ومشاهيرها، فكيفَ يجوزُ أن يخفى على الملائكة ظهورُها؟
قيل: ربما يخفى عليهم ظهورها، ولو كانَ مِنْ عظائم الأمور؛ لاستغراقهم فيما عنده تعالى وتقدَّس، ورُبما لا يخفى عليهم ظهورُها، لكنهم سألوا عن الإرسال تعجبًا بما أنعمَ الله عليه، أو فرحًا واستبشارًا لعُروجه.
قوله: "فلما خَلَصْتُ فإذا فيها آدمُ، فقال: هذا أبوكَ آدمُ، فسلَّم عليه": خَلَصْتُ؛ أي: بلغْتُ وأتيت.
قيل: أمرَ جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالتسليم على الأنبياء عليهم السلام؛ لأنه كانَ مارًا عليهم، فكأنه قائمٌ، وهم قعودٌ، ومعلومٌ أن القائمَ يسلمُ على القاعد، وإن كان أفضل.
قيل: رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أرواحَ الأنبياء - صلوات الله عليهم - في السماوات، وفي بيتِ المقدس مُشكَّلة بصورهم التي كانوا عليها في الدنيا، إلا عيسى عليه السلام، فإنه يحتمل أنه رأى شخصَه لا رُوحه المُشكَّل بصورتهِ كرؤيته غيرَه من الأنبياء.
قوله: "وهُما ابنا خَالة"؛ يعني: يحيى وعيسى عليهما السلام، كانا ابني خالة؛ لأن عيسى بن مريم ابنة عمران، وهو يحيى بن الأشيع بنت عمران.
قوله: "فلمَّا تَجاوَزْتُ بَكَى": يريد به: موسى عليه الصلاة والسلام.
قال الخطابي: لا يجوز أن يُتأوَّل بكاءُهُ على الحَسَدِ له؛ لأن ذلك لا يليقُ بصفات الأنبياء عليهم السلام، وأنه بكى من الشَّفقة على أُمته إذا قَصرَ عددُهُم عن مَبْلَغِ أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قيل: يحتمل أنه لما علم أنه نبيُّ آخرِ الزمان، وعلى عَقبه تقوم الساعة، فَأشفق من دنوها، فبكى.
ويحتمل أنه لما علمَ أن الرسول سوف ينتهي إلى العرش، وما أرسل إليه إلا لإدراك الرؤية، حتى يحصلَ له شرفٌ لم يحصلْ لأحدٍ قبله، بكى رحمةً لنفسه، غِبطة لا حسدًا، إذ ليس المراد بقوله:"لأنَّ غلامًا جاء بعدي" حقارةَ شأنه، بل المرادُ منه: كثرةُ نعمِ الله تعالى وأفضالِهِ له في مدةٍ يسيرةٍ، فإن العربَ قد يطلقون الغُلام على الشَّاب القوي الذي لم يظهر فيه الضَّعف.
قوله: "وإذا ورقُها مثل آذانِ الفِيلَةِ"، الضمير في (ورقها) يعود إلى (سِدْرَةِ المُنتهى).
و (الفِيَلَةُ): جمع فيل، كـ: قِرَدَةٌ جمع قِرْدٍ، وباقي الحديث مفسر في (باب صفة الجنة).
قوله: "فإذا أربعةُ أنهار؛ نهرانِ باطنان، ونهرانِ ظاهران": قيل: إنما ذكر (بَاطنان)؛ لخفاء أمرهما، وفقدان المَثَل لهما في الشاهد، ولأنهما مخفيَّان عن أبصار الناظرين.
وقد جاء في حديث آخر: أنَّ أحدَهما يُقال له: الكَوثر، والثاني يقال له: نهر الرحمة.
وقيل: النهران الآخران إنما سُميا: ظاهرين؛ لأنهما يفيضان على الأرض، ويَسقيان الأشجار والزُّروع بلا تعب.
قوله: "ثم رُفع لي البيتُ المعمور": قيل: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة، حُرمته في السماء كَحُرمة الكعبة في الأرض، ويقال لهذا البيت: الضُّرَاح، بالضاد المعجمة المضمومة.
وشرح (إناء الخمر) و (إناء اللبن) مذكور في (باب بدء الخلق)، وقيل: ما اختار العسل؛ لأنه مشبه بالدنيا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا حلوة خضرة" فلو اختاره لما كان مناسبًا لقوله، مباينًا لفقره ومسكنته حين عُرضَتْ عليه مفاتيح كنوز
الدنيا: "أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا"، ولكانت مظنة لمفاسدَ كثيرة في أُمته من الهمَّ إلى جمع الدنيا والإكباب عليها، والحرصِ العظيم في تحصيلِها، المؤدي إلى مَرارة الفِطام الضروري عنها.
قوله: "هي الفِطرةُ أنتَ عليها وأمَّتُكَ"؛ يعني: قال لي جبرائيل عليه السلام: اخترت اللبن هي الفطرة؛ أي: ما اخترتَهُ هي الفطرةُ المذكورة التي جُبلْتَ أنتَ وأمَّتك عليها، وهي الاستعدادُ لقَبولُ السَّعادات الأبدية، التي أوَّلُها الانقيادُ للشرع، وآخرها الوصول إلى الله سبحانه.
قوله: "أمضيْتُ فريضتَيِ، وخفَّفْتُ عن عبادي"، يقال:(أمضيت الشيءَ الفلانيَّ): إذا أنفذتُه؛ يعني: نُودي: قد أَنفذْتُ فريضتي على عبادي، وخفَّفْتُ عنهم، فهي خمسُ فرائض كلَّ يوم وليلة في التخفيف، وخمسون فريضة في التضعيف.
كما قال في رواية أخرى: "فقال: هي خمسٌ، وهي خمسون، لا يُبدَّلُ القولُ لديَّ"؛ أي: لا تَبديل ولا خُلف لأمري، يعني: ما قضيْتُ عليكم من الفرائضِ لا تبديلَ له، فإن الخمسَ المخفَّفة في العددِ هي الخمسون عندي في التضعيف، [يعني: التخفيفُ من الخمسين إلى الخَمس نظرًا إلى المعنى والحقيقة؛ لأنه من باب الحَسنة، والحسَنةُ بعشرِ أمثالِهَا، فالصلواتُ الخمسُ في العشر تصير خمسين صلاةً، فلهذا خُفِّفَتْ إلى الخمس، فإذا كان كذلك، فالصلوات الخَمسون حكمها باقٍ في الأجر والثواب.
أو يريد: أنه يعطي على خَمس صلواتٍ من الثَّواب ما كان يعطي على الخمسين لو فعلوها، فيصيرُ الثواب خمس مئة ضعف] (1).
(1) ما بين معكوفتين في "ش" و"ق" مؤخر بعد قوله: "قال أرشد الدين الفيروزاني في شرحه".
قال أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": قيل: ويُحتمل أن تكون الصَّلوات الخمسون التي أوجبَها الله سبحانه قبل أن يخفِّفها إلى الخمس هي جميع ما يُؤَدَّى يومًا وليلة من الفرائض والسنن المؤقتة وغيرها، فعند عَدِّها يُعرف أنها خمسون.
والفرائضُ خمس، ورواتبها التي ما قبلها وما بعدها إحدى عشرة صلاة، فالصبح صلاة واحدة، والظهر قبلها صلاتان، وكذا بعدها صلاتان، والعصر قبلها صلاتان، والمغرب بعدها صلاة واحدة، وللعشاء بعدها صلاة واحدة، والوتر صلاتان؛ إحداهما المقدمة، والثانية هي الوتر، وصلاةُ الليل سِتُّ، وصلاةُ الضُّحى ست، وبين المغرب والعشاء ثلاثٌ، وتحيةُ المسجد عند دخولِه لكلِّ فريضةٍ خمس، وبين الأذان والإقامة خمس، وشُكر الوضوء خمس، وصلاة التسبيح والاستخارة وصلاة التوبة وصلاة الحاجة أربع، فمجموعها خمسون، فقد أوجب الله سبحانه في الأول الخَمسين كلها، ثم خَفَّفَ عن عباده، واقتصر على الخَمس رحمةً لهم، وصار الباقي مندوبًا إليها.
قال الخطابي رحمة الله عليه: ومراجعةُ النبي صلى الله عليه وسلم في باب الصلاة إنما جاءَ من رسولنا محمد وموسى - صلوات الله عليهما -؛ لأنهما عَرَفَا أن الأمرَ الأولَ غيرُ واجبٍ قطعًا، فلو كان واجبًا قطعًا؛ لَمَا صدرَتْ منهما المراجعة، فصدورُ المراجعة دليلٌ على أنَّ ذلك غيرُ واجب قطعًا؛ لأن ما كان واجبًا قطعًا لا يَقبل التخفيف.
وقيل: فرضَ في الأول خمسين، ثم رَحِمَ عباده، ونَسَخَهَا بخمسٍ، كآية الرضاع وعدة المتوفى عنها زوجها، وفيه دليل أنه يجوزُ نسخُ الشيء قبلَ وُقُوعِهِ.
* * *
4578 -
ورَوَى ثَابتٌ عَنْ أنسِ رضي الله عنه: أَنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "أُتيتُ بالبُراقِ، وهوَ دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ فَوقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ، يَقَعُ حافِرُهُ عندَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فركِبْتُهُ حتَّى أتيتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فربَطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي يَربطُ بها الأَنبيَاءُ"، قَالَ:"ثُمَّ دخلتُ المَسجِدَ فصلَّيْتُ فيهِ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإناءٍ مِنْ خَمْرٍ وإناءٍ منْ لَبن، فاخْتَرتُ اللَّبن، فَقَالَ جِبريْلُ: اختَرْتَ الفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ". وقَالَ في السَّماءِ الثَّالِثَة: "فإذا أَنَا بيُوسُفَ، إذا هوَ قدْ أُعطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، فَرَحَّبَ بي ودَعا لي بخَيْرٍ". وقالَ في السَّماءِ السَّابعة: "فإذا أنا بإِبْراهيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، وإذا هوَ يَدخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبعونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعودونَ إليهِ، ثمَّ ذَهبَ بي إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، وإذَا وَرَقُها كآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ، فلمَّا غَشِيَها منْ أمْرِ الله ما غَشِيَ تَغيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ منْ خَلْقِ الله يَستطيعُ أنْ يَنْعَتَها منْ حُسْنِها، وَأوْحى إِليَّ مَا أوْحَى، ففَرضَ عَليَّ خَمسينَ صلاةً في كُلِّ يَوْمٍ ولَيلةٍ، فنزَلْتُ إلى مُوسَى". وقال: "فلمْ أَزَلْ أرْجِعُ بَيْنَ ربي وبَيْنَ مُوسَى حتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّهُنَّ خَمسُ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ وليلةٍ، لكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فذلِكَ خَمْسُونَ صلاةً، ومَنْ هَمَّ بحَسنةٍ فلمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لهُ حَسنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لهُ عَشْرًا، ومَنْ همَّ بسَيئةٍ فلمْ يَعْمَلْها لمْ تُكْتَبْ شَيئًا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ سَيئةً واحِدةً".
قوله: "وإذا هو قد أُعطي شَطْرَ الحُسْنِ فرحَّبَ بي"، (الشَّطْرُ): النصف.
وقيل: المراد به ها هنا: البعض، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الطهورُ شَطْرُ الإيمان"؛ أي: بعضه.
وقال شريح: أصبحتُ ونصفُ الناس عليَّ غِضَابٌ.
قال الشاعر:
إذا متُّ كانَ الناسُ نصفين شامتٌ
وآخر مُثْنِ بالذي كنتُ أفعلُ
والمقصود منهما: البعض مطلقًا لا على التساوي، فإذا كان كذلك فمعناه: قد أعطي يوسف بعض الحُسْنِ.
قال الإمام أرشد الدين الفيروزاني في "شرحه": ويحتمل أن المراد: أنَّ الحُسْنَ شطرُهُ للرجال، وشطرُهُ للنساء، فقد يُوْصَفُ الرجل بالحُسْنِ من حيث لا تُوصف المرأة به، وكذلك تُوصَفُ المرأةُ بالجَمَال بما لا يُوْصَفُ به الرجال، فإعطاؤه شَطْرَ الحُسْنِ كونه أَحْسَنَ من جميع الرجال، وإن لم يكن أحسنَ من جميع الخلق رجالهم ونسائهم.
قوله: "فلما غَشِيَها من أَمْرِ الله ما غَشِيَهَا تغيَّرت": (غَشِيَهُ غِشْيَانًا): جَاءَهُ، الضمير في (غشيها) عائدٌ إلى (السِّدرة)؛ يعني: فلمَّا اختصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند السدرة بعميم القُرُبَاتِ وعظيم الكَرَامات، غَشِيَ السِّدرةَ أنواعُ الألطافِ الإلهية، وفاضَ عليها ما لا يقدرُ أن يصفها الواصفون، تشريفًا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، فلما غشيها تغيَّرَتْ السِّدرة من ذلك.
قوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قيل: أوحى الله إلى عبده ورسوله ما أوحى.
وقيل: أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله سبحانه إليه، ولا يُعرف مقدار ما أوحى إليه حملة العرش في ليلة المعراج.
فما ذكره القصَّاص في الوحي، وقيدوه بأنه تعالى أوحى إليه كذا وكذا وحيًا، وأمره بأن يبلغ أمته بعضَ ما أوحي إليه، وأن لا يبلغهم بعضًا، غير مُلْتَفَتٍ إليه.
قوله: "مَنْ همَّ بحسنةٍ فلم يعْمَلْها كُتِبَتْ له حسنة
…
" الحديث.
يقال: (هَمَمْتُ بالشيء أَهُمُّ همًا): إذا أردْتُه؛ يعني: مَنْ أرادَ أن يعملَ حسنةً فلم يعمَلْهَا كُتِبَتْ له حسنة، فإن عَمِلَها كانَتْ له عشرَ حسنات، ومَنْ أرادَ أن يعملَ سيئةً فلم يَعْمَلْها لم تكتبْ له سيئة، فإن عَمِلَها كُتِبتْ له سيئة واحدة، هذا من جملة إنعامه الكامل على عباده، ونتائج سَبْق رحمته على غضبه.
* * *
4579 -
عنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَبو ذَرٍّ يُحدِّث: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُرِجَ عنِّي سَقْفُ بَيتي وأَنَا بمكَّةَ، فنزلَ جِبريْلُ ففَرَجَ صَدرِي، ثم غَسلَهُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَسْتٍ منْ ذَهَبٍ مُمتلِئٍ حِكمةً وإِيْمَانًا فأفرَغَهُ في صَدرِي، ثم أطبَقَهُ، ثُمَّ أخذَ بيدِي فَعَرَجَ بي إلى السَّماءِ، فلمَّا جِئتُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا قَالَ جِبريلُ لخازِنِ السَّماءِ: افْتَحْ، فلمَّا فَتحَ عَلَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا، فإِذَا رَجُلٌ قاعدٌ، على يَميِنه أَسْوِدَةٌ، وعلى يَسارِهِ أسْوِدَةٌ، إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمينِهِ ضَحِكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ شِمالِه بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بالنَّبيِّ الصَّالح والابن الصَّالحِ، قُلْتُ لِجبريلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: هذا آدمُ، وهذِه الأَسْوِدَةُ عنْ يَمينِه وعنْ شِمالِهِ نَسَمُ بنيهِ، فأهْلُ اليَمينِ منهُمْ أهْلُ الجَنَّةِ، والأسْوِدَةُ التي عنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فإذا نَظَرَ عنْ يَمينه ضَحِكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ شِمالِهِ بَكَى".
وقال ابن شِهابٍ رضي الله عنه: فأخبرَني ابن حَزْمٍ: أنَّ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وأبا حَيَّةَ الأنصارِيَّ كانا يَقُولان: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ثمَّ عُرِجَ بي حتَّى ظَهرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمعُ فيهِ صَريفَ الأقلامِ".
وقالَ ابن حَزْمٍ وأنسٌ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ففَرَضَ الله على أُمَّتي خَمسينَ صَلاةً، فرجَعْتُ حتَّى مَرَرْتُ على مُوسَى عليه السلام، فَرَاجَعَني، فوَضَعَ
شَطْرَها"، وقَالَ في الآخرِ: "فراجَعْتُه، فَقَالَ: هِيَ خَمسٌ، وهي خَمْسُونَ، ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَال: رَاجِعْ ربَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ ربي، ثُمَّ انطلَقَ بي حتَّى انتهىَ بي إِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وغَشِيَها ألْوانٌ لا أدْرِي ما هِيَ، ثمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فإذا فيها جَنَابذُ الُّلؤْلؤِ، وإذا تُرابُها المِسْكُ".
قوله: "فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بيتي
…
" الحديث، (التَّفْرِيْجُ): الشقُّ والكشفُ؛ أي: شُقَّ سقفُ بيتي، وكُشِفَ.
(أَفْرَغَهُ)؛ أي: صَبَّه؛ أي: صَبَّ ما في الطَّسْت.
(أطْبَقَه)؛ أي: غَطَّاه.
(ولأَمَهُ)؛ أي: أصلحَ محلَّ الشقِّ من صدري.
قوله: "على يمينه أَسْوِدَةٌ، وعلى يَسارِهِ أَسْوِدَةٌ": قال في "شرح السنة": (الأَسْوِدَةُ): جَمْعُ سَوَاد، وهو شخص الإنسان.
قيل: سُمي الشخص سوادًا؛ لأنه يُرى من بعيدٍ أسود؛ يعني: كان على يمين ذلك الرجل ويساره جماعات متفرقون.
و (النَّسَمُ): جمع النَّسَمَة، وهي النفس، وكلُّ دابة فيها رُوح فهي نَسَمَة، و (النَّسَمُ): الرُّوح، وأراد: أرواحَ أولاده، قيل: هي الأجساد المصورة في صور الإنسان.
قوله: "ثم عُرِجَ بي حتى ظَهرْتُ لمستوى أسمعُ فيه صَريفَ الأقلام" يقال: (ظهرتُ البيت)؛ أي: صعدتُهُ، وعلوتُهُ، (المُسْتَوَى): المصعد والموضع العالي، من (استوى على الشيء): عَلاه، والمراد بـ (المستوى): ما استوى به صعوده؛ أي: لم يكن منفذ هناك ولا تَجاوز، كأنه مُنتَهى العالَم.
و (صَريفُ الأقلام): صَوتُها عند الكتابة وجريانها على اللَّوح وغيره، والأصل فيه: صوت البكرة عند الاستقاء، يقال:(صَرَفَتِ البَكَرَةُ تَصْرِفُ صَرِيفًا).
وقيل: (صَرِيفُ الأقلام) عبارةٌ عن التَّجَلِّي له صلى الله عليه وسلم، فما أُوحي إليه من غير واسطة جبريل وغيره من الملائكة، فإن القلمَ يُنبئ عن مكتوبات (1) علمه تعالى، وبه الاطلاع على علم الله سبحانه، قال الله عز وجل:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]، وأراد به: أنه يُسمِعُه صريفَ القلم في الوحي إليه، كما سمع موسى عليه السلام في وحي التوراة إليه صريفَ الأقلام.
قال في "شرح السنة": قوله: (أسمع صريفَ الأقلام): يريد - والله أعلم -: ما تكتبه الملائكةُ من أقضية الله تعالى، وما ينسخونَهُ من اللوح المحفوظ.
وقال الإمام التوربشتي في "شرحه": وفي بعض طرق هذا الحديث: "حتى ظهرت المُسْتَوى"، (المُسْتَوى): المُنْتَصَبُ العَالي المرتفع، واللام في الروايتين: لام العاقبة؛ أي: إلى مُنتهى صُعوده إليه.
قوله: "فإذا فيها جَنَابذُ اللُّؤْلُؤِ، وإذا تُرابها المِسْكُ"، الضمير في (فيها) و (ترابها): يعود إلى الجنة.
و (الجَنَابذ): جمع جُنْبُذَة، وهي القبة الكبيرة، وهي معربة كُنْبَذ؛ يعني: في الجنة التي أُعِدَّت لِمَنْ آَمَنَ به قُبَابٌ من اللؤلؤ الشَّفْاف، وترابُها المسك.
* * *
4580 -
عن عبدِ الله رضي الله عنه قَالَ: لمَّا أُسرِيَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم انتُهِيَ بهِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وهيَ في السَّماءِ السَّادِسَة، إليها يَنتهِي ما يُعْرَجُ بهِ مِنَ الأَرضِ
(1) في "م": "يغني عن مكنونات".
فيُقبَضُ مِنْها، وإِليها يَنتهي ما يُهْبَطُ بهِ مِنْ فَوقِها فيُقْبَضُ مِنْها، قَالَ:{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ؛ قَالَ: فَراشٌ منْ ذَهَبٍ، قَالَ: فأُعطِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثًا: أُعطِيَ الصَّلواتِ الخَمسَ، وأُعطِيَ خَواتيمَ سُورَةِ البقَرَةِ، وغُفِرَ لمنْ لا يُشرِكُ بالله مِنْ أُمَّتِه شَيئًا المُقْحِمَاتُ.
قوله: "فَرَاشٌ من ذَهَبٍ": قال في "الغريبين": (الفَرَاش): ما تراه كصغار البقِّ، يتهافَت في النار.
قيل: وفي المثل: (أطيشُ من فَرَاشَة).
قوله: "وأُعطِيَ خواتيمَ سُورةِ البقرة": قيل: معناه: استجيب له صلى الله عليه وسلم مضمون الآيتين: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] إلى آخر السورة، ولمَنْ سَأل من أمته إذا رَعَى حَقَّ السؤال.
قوله: "وغُفِرَ لِمَنْ لا يشركُ بالله شيئًا من أُمته المُقْحِماتُ": قال في "الغريبين": (المُقْحِمَات)؛ أي: الذُّنوبُ العِظامُ التي تَقْحِمُ أصحابَها في قُحم النار؛ أي: تُلقيهم فيها، وفيه دليلٌ على أن الذنوب لا تحبطُ العملَ الصالح.
* * *
4581 -
وعن أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لقدْ رأَيْتُنِي في الحِجْرِ وقريشٌ تَسْألُنِي عنْ مَسْرايَ، فَسَألَتْنِي عنْ أَشْيَاءَ منْ بيتِ المَقْدِسِ لمْ أُثْبتْها، فكُرِبْتُ كَرْبًا ما كُرِبْتُ مِثلَهُ، فرفَعَهُ الله لِي أَنظُرُ إليهِ، مَا يَسْألوننِي عَنْ شَيءٍ إِلَاّ أنبأْتُهُمْ، وَلقد رأيْتُنِي في جَماعةٍ مِنَ الأنبياءِ، فإذا مُوسَى قَائِمٌ يُصلِّي، فإذا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كأنّهُ مَنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عيسَى قائِمٌ يُصلِّي، أَقْربُ النَّاسِ بهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بن مَسعودٍ الثَّقَفيُّ، وإذا إِبْرَاهيمُ قائِمٌ يُصلِّي، أشبَهُ النَّاسِ بهِ صَاحِبُكُمْ - يَعني: نَفْسَهُ - فَحَانَتْ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُمْ، فلمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قَالَ لِيْ قَائِلٌ: