الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام
(باب بدء الخلق)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4422 -
عن عِمرانَ بن حُصَينٍ رضي الله عنه: أنَّه قال: إنِّي كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ جاءَهُ قَوْمٌ منْ بني تَميمٍ، فقالَ:"اقبَلُوا البُشْرَى يَا بني تميمٍ". قالوا: بَشَّرتَنا فأَعِطِنا، فَدَخَلَ ناسٌ منْ أهلِ اليَمَنِ، فقالَ:"اقبَلُوا البُشْرَى يا أَهْلَ اليمنِ إذْ لم يَقْبَلْها بنو تميمٍ". قالوا: قبلْنا، جِئْناك لنتَفَقَّهَ في الدِّينِ، ولنَسْأَلكَ عنْ أَوَّلِ هذا الأَمْرِ ما كان؟ قالَ: كانَ الله ولَمْ يكنْ شَيْءٌ قبلَهُ، وكانَ عَرْشُهُ علَى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ". ثُمَّ أتاني رَجُلٌ فقالَ: يا عِمرانُ! أدْرِكْ ناقَتَكَ فقدْ ذَهَبَتْ، فانطلَقْتُ أَطلُبُها، وايْمُ الله لودِدْتُ أنَّها قد ذَهبَتْ ولمْ أقُمْ".
قوله: "جئناك لنتفقَّه في الدِّين ولنسألَك عن أول هذا الأمر ما كان":
(التفقُّه): طلب الفقه، و (هذا الأمر)؛ أي: هذا الخلق؛ يعني: جئناك لنُحصِّلَ الفقهَ، حتى نصيرَ فقهاء وعلماء في الدِّين، ولنسألَك عما خُلق أولًا قبل خلق السماوات والأرضين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في جوابهم: "كان الله، ولم يكن شيءٌ قبلَه، وكان عَرشُه على الماء"؛ يعني: كان الله في الأزل، ولا شيءَ معه ولا قبلَه، فالعالَمُ صَدَرَ عن تعلُّق اختياره القديم بصدوره من غير مادةٍ ولا عدةٍ ولا مدةٍ، فحينَئذٍ فالله سبحانه وتعالى فاعلٌ مختارٌ يفعل ما يشاء ويختار، فالعَرشُ والماءُ خُلِقا قبلَ خلق السماوات والأرضين.
وأشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (وكان عَرشُه على الماء)؛ يعني: أنهما كانا مخلوقَين قبل السماوات والأرض، فالعَرشُ على الماء، والماءُ على متن الريح، والريحُ قائمةٌ بقدرته القديمة.
قوله: "وكَتَبَ في الذِّكر كلَّ شيء":
(الذَّكر): عبارة عن اللوح المحفوظ؛ يعني: أَثبتَ الكائناتِ بأسرها في اللوح المحفوظ.
قوله: "فانطلقتُ أَطلبُها"، (انطلقت)؛ أي: طَفِقتُ.
"وايمُ الله"؛ أي: والله.
"لَوددتُ"؛ أي: تمنَّيتُ واشتَهيتُ.
* * *
4423 -
عن عُمَرَ رضي الله عنه قالَ: قامَ فينا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقامًا، فأخْبَرَنا عنْ بِدْءِ الخَلْقِ حتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ منازِلَهُمْ، وأهلُ النَّارِ منازِلَهُمْ، حَفِظَ ذلكَ مَنْ حَفِظَهُ، ونسِيَهُ مَنْ نسِيَه".
قوله: "قام فينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم مقامًا، فأخبَرَنا عن بدء الخلق"، الحديث.
"قام فينا"؛ أي: خَطَبنا.
"مقامًا"؛ أي: قيامًا.
"فأَخبَرَنا عن بدء الخلق"؛ أي: فأخبرنا عن بدء خلقه تعالى، ويحتمل أن يكون الخلق باقيًا على العموم، ويحتمل أن يكون مخصوصًا بأُمته، فإذا بقي على عمومه فمعناه: أنه بيَّن أحوالَ أُمته صلى الله عليه وسلم وأحوالَ جميع الأمم كلِّهم؛ يعني: بيَّن لنا ما جرى على الأمم السالفة، وما يجري على أُمته من الخير والشر إلى أن يدخل أهلُ الجنةِ منهم الجنةَ وأهلُ النارِ منهم النارَ، فحفظَ تلك الأخبارَ مَن
حفظَها، ونسيَ ذلك مَن نسيَه، وإذا كان مخصوصًا بالله فظاهرٌ، فهذه المرتبةُ العظيمةُ التي هي إخبارهُ إيانا من المغيبات التي أخبرها الله سبحانه إياه صلى الله عليه وسلم مختصةٌ به، فإنها غيرُ مَرويةٍ عن غيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
* * *
4424 -
وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ الله تعالى كتبَ كِتابًا قبلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبي، فهو مَكْتوبٌ عِندَهُ فَوْقَ العَرْشِ".
قوله: "إن الله كتب كتابًا قبل أن يَخلُقَ الخلقَ: إن رحمتي سبقتْ غضبي"، (كتبَ)؛ أي: أثبتَ، الرحمة من الله تعالى: إرادتُه الخيرَ لعباده، والغضب منه سبحانه: إرادتُه العقوبةَ لهم.
ومعنى سبقِ رحمتِه غضبَه: أنه لا يعجل في عقوبة الكفَّار والعُصَاة من المسلمين، بل يرزقهم ويعافيهم ويحفظهم عن الآفات، ويُمهلهم إلى يوم القيامة، فإنه لو لم يكن كذلك أُهلكوا حين خرجوا عن طاعته تعالى، ولو لم يَهِلكوا لَسدَّ عليهم أبوابَ الرزق، وفتحَ عليهم أبوابَ الشدائد، وإذ تابوا عن الكفر والمعصية لم يَقبَل الله توبتَهم، ولم يضمحل كفرُهم ومعاصيهم التي ارتكبوها سنينَ كثيرةً، والأمر بالعكس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الإسلامُ يَهدِم ما كان قبلَه"، و"التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له".
فإذا تقرَّر هذا عَلِمْنا بالمعقول والمنقول أن رحمتَه سبقَتْ غضبَه تعالى، وكيف لا وما وجب على جناب كبريائه وعظمته شيءٌ، بل ما أَنعَم على عباده من الإيمان والعلم والمعرفة لا يكون إلا مِن نتاجِ فضلِه ورحمتِه العامةِ، وكذلك المغفرةُ واللقاءُ والبقاءُ من ذلك الفضل العميم، لا بجزاء العمل الصالح؛ فإنه
يستحق العبادةَ لذاته تعالى.
* * *
4425 -
وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مِمَّا وُصِفَ لكُم".
قوله: " {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] "(الجانَّ): أبو الجِنِّ.
قال في "الغريبين": سُمِّي الجِنُّ جانًا؛ لأنهم مُوارَون، وبه سمي الجنين؛ لأنه موارًى في بطنِ أمه، (المارج): اللهب المختلِطُ بسواد النار.
وقال الفراء: المارج: نارٌ دون الحجاب، ومنها هذه الصواعقُ، ويرى جلد السماء منها، ذكره في "الغريبين".
* * *
4426 -
وعن أنسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا صَوَّرَ الله آدمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ الله أنْ يترُكَهُ، فجَعَلَ إِبْليسُ يُطيفُ بهِ يَنْظُرُ ما هوَ، فلَمَّا رآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ".
قوله: "فجعل إبليسُ يُطيفُ به ينظر ما هو" الحديث، الفاء في (فجعل) عطف على قوله (تركه)، و (جعل) بمعنى طَفِقَ؛ أي: يتفكَّرُ في عاقبة أمره وماذا يظهرُ منه، وكأنه أحسَّ شقاوةَ نفسِه من جهته، وخاف أن يستعيذَ ويُمتحن، فوقع فيما حذر، فلهذا أَشِرَ وبطر، وقال في نفسه: إن أُمِرْتُ بالانقيادِ له تأبَّيتُ.
قوله: "فلما رآه أجوفَ عرفَ أنَّه خَلَقَ خَلْقًا لا يتمالَكُ"، (رأى) إذا كان من رؤية البصر، فالضمير البارز مفعوله، و (أجوف) نصب على الحال، وإذا كان
بمعنى (علم)، فالضمير البارز مفعوله الأول، و (أجوف) مفعوله الثاني و (عرف) جواب (لما).
و (الأجوف): الذي له جوفٌ، (لا يتمالَكُ)؛ أي: لا يملِكُ بعضه بعضًا؛ لأنه ذو أبعاض مختلفة، فيصدرُ منه ما يوجبُ تغيُّرَ الأحوال عليه، وعدم الاستمرار على الطاعة، فيكون محتاجًا إلى الطعام والشراب والنكاح، فإن مُنِعَ فلا يَصْبر، أو يريد: سوف يكون فانيًا لاختلاف أحواله، فإذا غلبَ نوعٌ أفسدَ الباقيَ لغلبته، كما هو حال أولاد آدم.
* * *
4427 -
عن أنسٍ رضي الله عنه: قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا خَيْرَ البرِيَّةِ، فقالَ:"ذاكَ إِبْراهِيْمُ".
قوله: "فقال: يا خيرَ البرية، فقال: ذاك إبراهيم"، (البرَّيةُ): فعيلة، متروكة الهمزة في الاستعمال مِن (بَرَأَ) إذا خَلَقَ.
(ذاك): إشارة إلى خير البرية.
ولا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم أفضلُ مَن في السماواتِ والأَرَضين بدلائلَ كثيرةٍ، لكنه تواضعَ، إما لتعظيم الأبوة، وإما لأنَّ هذه الصفة تعني الأفضلية مختصَّةً به.
فحينئذٍ يجوزُ له أن يعطيَها أحدٌ من الأنبياء صلوات الله عليهم، سيما إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما أن الصلاةَ المخصوصةَ به كان له أن يصليَ على واحدٍ من الذين كانوا يُعْطُون الزكاة حالةَ الأداء، كما قال:"اللهم صلِّ على آلِ أبي أوفى"، بخلاف غيره صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوزُ أن يصلِّيَ على المعطي عَقِبَ الأداء، بل يدعو له.
* * *
4428 -
وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اِخْتَتَنَ إبْراهيمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهوَ ابن ثَمانينَ سَنَةً بالقَدُومِ".
قوله "اختتن إبراهيمُ النبيُّ وهو ابن ثمانينَ سنةً بالقَدُوم"، (اخْتَتَنَ وخَتَنَ): إذا أزالَ الجِلْدَة التي فوق المُخْتَتَن، وهو الحَشَفَة، القدوم مقيل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هي قرية بالشام، ذكره في "الغريبين".
والباء في (بالقدوم) بمعنى: (في)؛ يعني: اختتنَ صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع.
وقيل: أراد (بالقَدُوم) القَدُومَ الذي يُنْحَتُ به، فإن صحَّ هذا فالباء فيه بالآلة، والخِتَانُ واجبٌ عند الشافعي، سنةٌ عند أبي حنيفة رحمة الله عليهما، وكشفُ العورة عند الخاتِن دليلٌ على وجوبه؛ لأن كَشْفَها محرَّمٌ، والخِتَانُ لا بد له من الكَشْفِ، وتَرْكُ الواجب للسنة غيرُ جائزٍ، فإذا كان كذلك فلا يكون إلا واجبًا.
* * *
4429 -
وعن أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لمْ يَكْذِبْ إبْراهيمُ إلَّا ثلاثَ كَذَباتٍ: ثِنتَيْنِ مِنْهُنَّ في كتابِ الله تعالَى: قولهُ: {إِنِّى سَقِيمٌ} ، وقولهُ:{بل فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} .
وقالَ: بَينا هُوَ ذاتَ يومٍ وسارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبابرَةِ، فقيلَ لهُ: إنَّ ها هُنا رَجُلًا مَعَهُ امرأةٌ منْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فأَرْسَلَ إليهِ فَسَألَهُ عنها: مَنْ هذِهِ؟ قال: أُخْتي. فأتَى سارَةَ فقالَ لها: إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ يَعْلَمْ أنَّكِ امرأتي يغلِبني عليكِ، فإنْ سَأَلكِ فأخبريهِ أنَّكِ أُخْتي، فإنَّك أُخْتِي في الإِسلامِ، ليسَ علَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْري وغَيْرُكِ. فأَرْسَلَ إليها فأُتِيَ بها، وقامَ إبْراهيمُ يُصَلَّي،
فلَمَّا دخَلَتْ عليهِ ذَهَبَ يتناوَلُها بيدِهِ فأُخِذَ - ويُروَى فغُطَّ حتَّى رَكَضَ برِجْلِه - فقالَ: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، ثُمَّ تناوَلَها الثَّانِيَةَ فأُخِذَ مِثْلَها أو أَشَدَّ، فقال: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، فدَعا بعض حجَبتِهِ فقالَ: إنَّكَ لمْ تأتِني بإنسانٍ إنَّما أتيتَني بشَيْطانٍ، فأخْدَمَها هاجَرَ، فأتَتْهُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي، فأَوْمَأ بيدِهِ مَهْيَمْ؟ قالت: رَدَّ الله كَيْدَ الكافرِ في نَحْرِهِ وأَخْدَمَ هاجَر".
قال أبو هُريرَةَ رضي الله عنه: تِلْكَ أُمُّكُم يا بني ماءِ السَّماءِ.
قوله: "ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلُهُ كَبِيُرهُمْ} [الأنبياء: 63] ": الحديث.
يعني: ثِنتان من الكذبات الثلاث مشتملتان على تنزيهِ الله سبحانه عما كان قومه مُكِبين عليه من الإشراك في الربوبية والدعوى الباطلة.
إحداهما: قولُه سبحانه حكايةً عن قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وما قبلَه يدلُّ على أنَّه نَزَّهَ ذاته عما يقولُه الكفرةُ له من عبادة الأصنام، وهو قولُه تعالى حكايةً عنه:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 85 - 89] فسَبَبُ نَظَره في علم النجوم وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أنهم طلبوا منه عليه السلام أن يخرجَ معهم إلى عيدٍ لهم من الأعياد، فأراد أن يتخلَّفَ عن الأمر الذي هم به، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89]؛ أي: خارجٌ مزاجي عن حد الاعتدال، وقلَّ من يخلو عنه.
والثانية: قولُه سبحانه حكايةً عن قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، وما قبلَه أيضًا يدلُّ على تنزيه ذاتهِ تعالى عما يقولُ قومُه من الضلال، وهو قولُه تعالى حكايةً عنه عليه السلام:{بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} إلى قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 56 - 63]
والثالثة: قوله: سارة أختي، وهي كانت زوجتَه؛ يعني حين سأله المَلَك القاصِدُ سارَة عن حالها، قال: أختي، خلاصًا لها عن شَرِّه.
فالحاصل: أن هذه الكذبات الثلاث كان إبراهيم عليه السلام يناضلُ بها عن دينه، وكلُّ واحدة منهن تَقبلُ تأويلًا مبرِّئًا لساحة عصمته عن غبار الكذب.
أما تأويلُ الأولى التي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أنَّ كل واحدٍ من الناس - وإن كان معافًى - لا بد له من تغيير المزاج والموت، فقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} أي: سأسقم، أو أنَّه إذا خُلِقَ للموت فهو سقيم دائمًا، أو أنه إذا نظر في النجومِ استدلَّ بها على سُقْمٍ في بدنه، وكان علم النجوم حقًا ومن النبوة، ثم نُسِخ.
وتأويل الثانية التي هي قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} أنه عليه السلام قاله إلزامًا للحُجَّةِ عليهم، على معنى أنه يجب أن يفعلَه كبيرُهم لو كان معبودًا؛ لئلَّا يُعْبَدَ معه غيرُه، أو على تقدير الشرط، كأنه قال: إنْ كانوا ينطقون فقد فعلَه كبيرُهم، وتأويلُ الثالثة التي هي قوله: سارة أختي، أنه أراد عليه السلام هي أختي في الدين.
فإن قيل: لم عَدَلَ الخليلُ عليه السلام عن الزوجية إلى النسبية؟.
قيل: لأن دينَ الملكِ القاصِدِ لها لا يُحِلُّ له التزوُّجَ، ولا التمتُّعَ بقرابات الأنبياء عليهم السلام، فلهذا عَدَلَ إلى النسبة.
واختلفَ الأئمة في جواز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، فطائفة يجوِّزون ذلك سهوًا من غير تأويل، وهم أهلُ السنة، وطائفةٌ يجوِّزون كل ذلك عَمْدًا وسهوًا بتأويل، وهم أكثرُ المعتزلة، هذا على رأي الأصوليين، أما المفسرون فقد اتفقوا في التأويل.
قوله: "فلمَّا دخلتْ عليه"؛ أي: على الجبار.
"ذهب"؛ أي: طفق.
قوله: "فغُطَّ حتَّى رَكَضَ برجله"؛ أي: فضُغِطَ، والرَّكْضُ بالرجل: الضَّرْبُ بها.
"الحَجَبَة"، جمع حاجب.
قوله: "فأَخْدَمَها هاجَرَ"؛ يعني: إذا عرف الملكُ عنها الكرامةَ والقُرْبَة عند الله سبحانه خلَّى عن سبيلها طاهرةً عن دَنَسِ جِوارِه، وأَخْدَمَها هاجر؛ أي: جعلَها خادمةً لها، وهاجر أمُّ إسماعيل عليه السلام.
قوله: "فأوَمَأ بيده مَهْيَم": أومأ؛ أي: أشار، مَهْيَم: ما الخبر؟
قوله: "ردَّ الله كيدَ الكافرِ في نَحْرِه"؛ أي: ردَّ الله كيدَه في صَدْره، وإنما خَصَّتِ الكيدَ في النحر على عادة العرب، ومعنى ردَّ الكيد: ما تمَّ على الجَبَّار من الضَّغْط والغَلَبة مع كونه قاهرًا غالبًا.
قوله: "تلك أمُّكم يا بني ماء السماء"، تلك إشارةٌ إلى هاجر، والكاف والميم خطاب إلى العرب.
قيل: والمراد ببني ماء السماء بنو إبراهيم عليه السلام، ونسبتُهم إلى ماء السماء لطهارة موالدهم ونقاءِ نُطَفهم.
قال الخَطَّابي: يريد بماء السماء العرب، وذلك أنهم يعيشون بماء السماء، ويتبعون مواقعَ القَطْر في بواديهم.
ويقال: إنه أراد ماءَ زمزم، أنبطها الله تعالى لهاجر، فعاشُوا بها فصاروا كأنهم أولادها.
* * *
4430 -
وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قال: "أكرَمُهُمْ عِنْدَ الله أتقاهُمْ" قالوا: لَيْسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قالَ: "فأَكْرَمُ
النَّاسِ يوسُفُ نبَيُّ الله ابن نبَيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليلِ الله". قالوا: ليسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قال: "فعَنْ معادِنِ العَرَبِ تسألُونني؟ " قالوا: نَعَم، قالَ: "فخِيارُكُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيارُكُمْ في الإِسلامِ إذا فَقِهُوا".
قوله: "فأَكْرمُ الناسِ يوسفُ نبيُّ الله ابن نبيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليلِ الله".
(الفاء) في (فأَكْرمُ) جواب شرطٍ مقدَّر؛ يعني: إذا لم تسألوا عن هذا، فأكْرَمُ الناس يوسفُ نبي الله، فنبيُّ الله الأول صفة ليوسف، والثاني: يريد به يعقوب، والثالث: يريد به إسحاق؛ يعني: يوسف نبيُّ الله بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ صلوات الله عليهم أجمعين كانَ أكرمَ الناسِ في زمانه.
* * *
4432 -
وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إبراهيمَ إذْ قالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، ويَرْحَمُ الله لُوْطًا لقدْ كانَ يأْوِي إلى رُكْنٍ شَديدٍ، ولوْ لبثْتُ في السِّجنِ طُولَ ما لَبثَ يوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي".
* * *
قوله: "نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم"، قال الخَطَّابي: نفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشكَّ عن نفسه، وعن إبراهيم صلوات الله عليهما، فقال على سبيل التواضع:"نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيمَ"؛ أي: نحن لا نشكُّ البتَّةَ، فكيف يَشُكُّ إبراهيم وهو أرفَعُ درجة منا؟، وهذا ثناءٌ على إبراهيم عليه السلام.
وتلخيصُ المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك تعظيمَ شأنِ إبراهيمَ عليه السلام، وبيانِ أنه ما سألَ عن ذلك لأجلِ مَلَلٍ في نفسه، بل إنما سألَ عن ذلك من قِبَلِ زيادةِ العِلْمِ بالمشاهدة، فإن المشاهدةَ تفيدُ من المعرفة والطمأنينة
ما لا يُفيدُه الاستدلالُ.
قيل: لما نَزَلَت هذه الآيةُ قيل: شكَّ إبراهيمُ ولم يَشُكَّ نبيُّنا، فقال صلى الله عليه وسلم:(نحن أحقُّ بالشَّكِّ منه)، قاله تواضعًا وتقديمًا لإبراهيم عليه السلام؛ أي: أنا دونَه ولم أشُكَّ، فكيف يشكُّ إبراهيم؟.
قوله: "ويرحمُ الله لوطًا، لقد كان يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ"؛ يعني: أنَّ لوطًا عليه السلام حين قصدَ قومُه أضيافَه بسوء، ظانَّين أنهم غلمانٌ، وكان يناظِرُهم من وراءِ الباب مغلَقًا، ما تكلَّم بهذا إلا ساهيًا ناظرًا إلى ضَعْف البشرية، عاجزًا عن مقاومتهم، وهو قوله تعالى حكايةً عنه صلى الله عليه وسلم:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يعني: لو أنَّ لي بدفعكم قوةَ البدن، أو أنضمُّ إلى عشيرةٍ منيعة لدفعناكم، وما صدَرَ منه عليه السلام هذا القولُ إلا حينما صَعُبَ عليه الأمر، وضاقَ الصدر، فدعا له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمغفرة؛ لعِظَمِ ما جَرى على لسانِه غيرَ راضٍ به قلبُه، ناسيًا ملاذَ كلِّ مخلوق بما دَهمه من قومه، إذ لا ركنَ أعظمُ وأشدُّ منه.
ويحتمل أن يقال: هذا من قَبيل ما قيلَ: حسناتُ الأبرار سيئاتُ المُقَرَّبين، فلهذا عدَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم نادرةً، ودعا له بالمغفرة.
قوله: "ولو لبثتُ في السجن ما لبثَ يوسفُ لأجبتُ الداعيَ"؛ يعني: لأجبت داعيَ الملك حين قال: {ائْتُونِي بِهِ} ولم أقلْ لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وتركتُ التفتيشَ عن شأنهنَّ، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعًا.
وقيل: أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأجبت الداعيَ) إلى مقام التفويض، وهو أنه كلُّ ما يأتي إليه يتلقَّاه بالقَبُول، ويتركُ الوسائط، ولا يتلقَّى الفَرَجَ قبلَ مجيئه؛ يعني: لو كُنْتُ مكانهَ لتلقَّيتُ دعوةَ الداعي مستعينًا بالله سبحانه، ومفوِّضًا إليه أمري.
* * *
4433 -
وقالَ: "إنَّ مُوْسى صلواتُ الله عليه كانَ رَجُلًا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى منْ جِلْدِهِ شَيءٌ استِحْياءً، فآذاهُ مَنْ آذاهُ منْ بني إِسْرائيلَ فقالوا: ما يَتَسَتَّرُ هذا التَّستُّرَ إلا مِنْ عَيْبٍ بجلدِهِ: إمَّا بَرَصٍ أو أُدْرَةٍ، وإنَّ الله أرادَ أنْ يُبَرِّئهُ، فَخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ لِيَغْتَسِلَ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بثَوْبهِ، فجَمَحَ مُوْسى في إثْرِهِ يقولُ: ثَوْبي يا حَجَرُ، ثَوْبي يا حجرُ، حتَّى انتهَى إلى مَلإٍ منْ بني إسْرائيلَ فرأَوْهُ عُرْيانًا أَحْسَنَ ما خَلَقَ الله، وقالوا: والله ما بِمُوسى منْ بَأْسٍ، وأَخَذَ ثوبَهُ وطَفَقِ بالحَجَرِ ضَرْبًا، فوالله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَبًا منْ أثرِ ضربهِ" ثلاثًا أو أَرْبَعًا أو خَمْسًا.
قوله: "كان رجلًا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى من جِلْدِه شيءٌ"، الحديث.
(الحَييُّ): المستحي، (السِّتِّيرُ): المستور؛ يعني كان من شأنه؛ أي: يسترُ جميعَ بدنهِ في الاغتسال بحيثُ لا يُرَى من بشرته شيءٌ استحياءً.
"فآذاه مَن آذاه"؛ يعني: إذا كان له هذه العادةُ، وكان بنو إسرائيل يُؤْذُونه بأن يَنْسِبُوا إليه العيوبَ كالبَرَصِ والجُذَام والأُدْرَةِ وغير ذلك، وفي قوله:(مَن آذاه) مبالغة في المعنى؛ أي: آذاه كثيرٌ من بني إسرائيل.
قوله: "إما بَرَص أو أُدْرَة"، (البَرَصُ): بياضٌ يَظْهَرُ في البَشَرة، يخالف لون البشرة، قيل: إنه من اليُبُوسة، و (الأُدْرَة): نَفْخَةٌ في الخِصْيَة.
قوله: "فجمحَ موسى في إِثره، يقول: ثوبي يا حجرُ، ثوبي يا حجرُ"، (جَمَحَ): أسرعَ، الضمير في (إثر) يعود إلى الحجر.
(ثوبي): نصب بفعل مقَّدر؛ أي: أعطِ ثوبي.
قوله: "حتى انتهى إلى ملِأ من بني إسرائيل"، انتهى؛ أي: وصَلَ.
(الملأ): الجماعة الأشراف الذين ليس على شرفهم مَزِيدٌ، واشتقاقُه من (ملأت)؛ أي: يملؤون القلوبَ جلالةً ومَهابةً، ذكره في "لُبَاب التفسير".
قوله: "والله ما بموسى من بأس"، (البَأْس) هنا: بمعنى العيب.
قوله: "إنَّ بالحجر لَنَدبًا من أثرِ ضَرْبه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا"(النَّدَبُ): بفتح الدال: أثر الجُرْح، إذا لم يرتفعْ من الجلد، ذكره في "الغريبين".
و (أو): للترديد والشكِّ، والشكُّ ها هنا من الراوي.
* * *
4434 -
وقالَ: "بَيْنا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ منْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوبهِ، فناداه ربُّه: يا أيُّوبُ أَلَمْ أكُنْ أغنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولَكنْ لا غِنى بِيْ عَنْ بَرَكَتِك".
قوله: "فخرَّ عليه جَرَادٌ من ذهب، فجعلَ أيوبُ يحتثي في ثوبه".
(خرَّ): سقط، الضميرُ في (عليه) يعود إلى أيوب عليه السلام.
(جعل أيوبُ)؛ أي: طَفِقَ.
(احتثى يحتثي): إذا جمعَ شيئًا في ذيله، وضم طرفَ الذَّيْلِ إلى نفسه.
"أغنيتك"؛ أي: جعلتُك ذا غِنًى؛ يعني حينما يغتسلُ أيوب عليه السلام كان يسقطُ عليه جَرَادٌ من ذهب، فطفِقَ يجمعُ ذلك الجرادَ في ذيله.
فقال له ربه تعالى: ألم أجعلك غنيًا بأنواع النعم الكثيرة؟ قال: بلى، ولكن مالي استغناءٌ عن بركتك وإنعامك السابغِ عليَّ.
* * *
4435 -
عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهودِ، فَقَالَ المُسلمُ: والَّذي اصطَفَى مُحمَّدًا على العَالَمِيْنَ، فقالَ اليَهُودِيُّ: والذي اصْطَفَى مُوسَى علَى العَالَمِينَ، فَرَفعَ المُسْلمُ يدَهُ عندَ ذلكَ
فلطَمَ وَجْهَ اليَهُوديِّ، فَذَهبَ اليَهُودِيُّ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبَرَهُ بِمَا كانَ منْ أَمْرِهِ وأَمْرِ المُسلِمِ، فدَعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المُسلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذلكَ، فأخبَرَه، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا تُخيروني على موسَى، فإن النَّاسَ يَصْعَقُونَ يومَ القِيامَةِ فَأُصْعَقُ مَعَهُم فأكون أوَّلَ من يُفيقُ، فإذَا موسَى باطِشٌ بجانِبِ العَرشِ، فلا أَدْرِي كانَ فيمَنْ صَعِقَ فأفاقَ قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنْ استَثْنَى الله".
وفي رِوَايَةٍ: "فَلَا أَدْرِي أحُوسِبَ بصَعقةِ يَومِ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي، ولا أَقُولُ إنَّ أَحَدًا أَفضَلُ مِنْ يونُسَ بن مَتَّى".
وفي رِوَايَةٍ: "لا تُخيروا بينَ الأَنبياءِ".
وفي رواية: "لا تُفضلُوا بَيْنَ أَنْبياءِ الله".
قوله: "استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود"، (استبَّ): افتعل مِن (سَبَّ)، إذا جرى الشتمُ بين اثنين فصاعدًا، وفاعل (افتعل) متعدِّدٌ؛ أي: أكثرُ من واحد، يقول: اشترك زيدٌ وعمرو.
قوله: "لا تخيرُوني على موسى" إلى قوله: "فأصعق معهم".
(التخيير): التفضيل.
(صعِق - بكسر العين - يصعَق - بفتحها - صعقة): إذا غُشِيَ عليه.
يعني: لا تفضلُوني على موسى، فإن الناس يصيرون مَغْشِيًّا عليهم يوم القيامة، وأكون أيضًا في الغَشْيَةِ معهم، لكني أولُ أحدٍ أَفيقُ.
"فإذا موسى باطِشٌ بجانب العرش"؛ أي: متعلِّقٌ به بقوَّة، فلا أدري أنَّه صلى الله عليه وسلم حين شاهدَ الإصعاق استوثقَ من إمساكِ العرش لينجوَ من الإصعاق، أو كان فيمن صار مغشيًا عليه معنا، فأفاقَ قبلي، أو كان من الذين استثناهم الله تعالى في قوله:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].
أو كان عوفي وحُفِظَ من الصَّعْق العامِّ يومَ القيامة بدلًا من الصَّعْقِ الذي أصابه في الطُّور، قال الله تعالى:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
قوله: "لا تُخَيرُوا بين الأنبياء"، وفي رواية:"لا تفضلُوا بين أنبياء الله"، قال في "شرح السنة": ليس معنى النفي عن التخيير أن يعتقدَ التسويةَ بينهم في درجاتهم، بل معناه تركُ التخيير على وجه الإِزْراء ببعضهم، فإنه يكون سببًا لفساد الاعتقاد في بعضهم، وذلك كفر.
الإزراء: العيب.
وتلخيص المعنى: أن تفضيلَ الأنبياء - صلوات الله عليهم - بعضَهم على بعض لا شكَّ فيه، كقوله سبحانه:{تِلْكَ الْرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، وقوله تعالى على سبيل العموم:{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165]، وفي حديث المعراج: أنه رأى بعضَ الأنبياء في السماء الثانية، وبعضَهم في الرابعة، وبعضَهم في السادسة.
والمراد رفعةُ الدرجات، وحيث قال:"لا تفضلُوني على يونس بن متَّى" وهو هضْمٌ لنفسه، وتواضُعٌ لها.
قوله: "لا تفضلوا بعضَ الأنبياء على بعض"، حيث رأى في ذلك مجادلةً بين أصحابه، وثورانَ فِتنة، فمنعَهم من ذلك لأجل الفساد، وأيضًا إنما منعَهم من التخيير؛ لأن المخِّيرَ لا بدَّ أن يكونَ عالمًا بدرجات التخيير، وأما كيفيةُ التَفْضيل فبأن يَفْهَمَ معنى النبوة.
ومعناها - والله أعلم -: الكمالُ في نفسه، وتكميلُ الناقِصين، وأصولُ الكمال أربعةٌ: العلمُ والفقه والشجاعةُ ببذل النفس والمال.
فإن السخاءَ قِسْمٌ من الشجاعة، والعدالة في هذه الأخلاق، فإن الوسطَ محبوسٌ بطرفين، هما ذيلان، وهذه الأربع يتشَّعبُ كلُّ واحدةٍ منها إلى شُعَبٍ
كثيرة، كانشعاب العِلْم إلى سائر العلوم النقلية والعقلية، وكذا الأخلاق الباقية.
وأما التكميل فحَمْلُ الناسِ لُطْفًا وعُنْفًا، وحثُّهم على تحصيل الكمالات المذكورة، وكلُّ نبيٍّ كان في الكمال والتكميل أزيدَ من غيره كان أفضلَ منه، ولمَّا كان نبيُّنا - صلوات الله عليه - في جميع أنواع المَعْنَيَيْنِ - أعني الكمالَ والتكميلَ - بالغًا إلى حدٍّ لم يبلغْه غيرُه من الأنبياء كان أفضلَ الأنبياء، وسيدَ الرسل صلوات الله عليهم.
فإنَّ نوحًا عليه السلام لم يؤمن به من قومِه إلا نفرٌ قليلٌ، تَسَعُهم سفينته، قيل: كانوا ثمانين، ولمَّا هبطَ من السفينة هلكُوا جميعًا، ولم يبقَ إلا هو وأولادُه وتناسَلُوا، ولهذا سُمِّيَ آدمَ الثاني.
وأما موسى عليه السلام فلم تتجاوزْ دعوتُه بني إسرائيلَ إلى غيرهم.
وأما عيسى عليه السلام فالمُحِقُّونَ من قومه كانوا نفرًا قليلًا، والباقون في ضلالةِ التثليث والولادة، تعالى الله عن ذلك.
وأما محمدٌ صلى الله عليه وسلم فلمَّا جاء كان العالمُ كلُّه مشحونًا بكفر عَبَدَة الأصنام والكواكبِ، وتشبيهِ اليهود وتثليثِ النصارى، وهو - صلوات الله عليه - دعا جميع الخلائق إلى الواحد الحقِّ بالحكمة والموعظة الحسنة والجِدال بالتي هي أحسنُ، فآمن به خَلْقٌ كثير.
والباقون الذين يؤمنوا به إما عنادًا أو حسدًا كاليهود والنصارى، وإما جهلًا لم ينفع دعوته صلوات الله وسلامه عليه، فنزلت فريضةُ الجهادِ واستعمالُ السيف، ومع ذلك كان يؤلِّفُ قلوبَهم باللُّطْف وبذْلِ الأموال، حتى ملأ العالمَ شرقًا وغربًا من القَبُول والعمل الحق.
فمن أنصفَ ونظر إلى المَعْنَيَينِ فيه، وفي غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم، أنَّ المعنيين فيهم بالنسبة إليهما فيه = عَلِمَ أنهم في الفضيلة بالنسبة إليه
كالقَطْرَةِ بالنسبة إلى البحر المحيطِ الأعظم.
* * *
4438 -
وعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الغُلامَ الَّذي قَتَلَهُ الخَضرُ طُبعَ كَافِرًا، ولوْ عَاشَ لأَرهَقَ أبويهِ طُغيانًا وكُفرًا".
قوله: "إنَّ الغلامَ الَّذي قتلَه الخَضرُ طُبعَ كَافرًا، ولو عاش لأرهقَ طغيانًا وكفرًا".
(طُبعَ)؛ أي: خُلِقَ، (رَهِقَه): غشيه، (أَرْهَقَه طغيانًا): أغشاه؛ يعني: لو عاش الغلامُ المقتولُ لظهر منه الكُفْرُ والطغيان طَبْعًا، لأنه كان مَجْبولًا على الكفر.
أما اعتراض موسى على الخَضر عليهما السلام بعد القتل، بقوله {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}؛ أي: طاهرة معصومةً على ظاهرِ الأمر، {بِغَيْرِ نَفسٍ} [الكهف: 74]؛ أي: إنْ قَتَلَ نفسًا فاقتصَّ فسائغٌ من حيث الظاهر، بل واجبٌ على الأنبياء ألَّا يتجاوزوا عن ظاهرِ الشرع، ولا يصبرُوا على الأشياء المنكَرة، وَكان ظاهرُ الحال يَحْكُمُ بعصمته.
فلهذا قال سبحانه حكايةً عن الخَضر مخاطبًا لموسى عليهما السلام: {كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبُرًا} [الكهف: 68]؛ أي: عِلْمًا، تمهيدًا لعذره في ترك الصبر، لأن فِعْلَه قد عدلَ عن الظاهر، لكنْ من حيثُ الحقيقةُ كان الخَضرُ غيرَ مُلامٍ بقتله، لأنه قد كُشِفَ له من عند الله سبحانه أنه مستحِقٌّ القَتْلَ، وقد ظهرَ له ذلك بنور القلب.
قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُّنَا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ أي: علمَ الباطن، إن قيل: ما الحكمة أن الخَضرَ عليه السلام اطَّلَعَ على هذا الغيب ولم يطَّلِعْ عليه
موسى صلوات الله عليه، مع أنه نبيٌّ مرسَلٌ باتفاق، وفي نبوة الخَضر خلافٌ؟.
قيل: لأن علمَ الغيبِ اختصَّ بالله سبحانه {وَعِنْدَهُ مَفَاتحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمْهَا إلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، فلا يطَّلِعُ عليه أحدٌ إلا بإطلاعِ الله إياه، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، فحينئذ لو اطَّلع المفضولُ على شيءٍ من المغيَّبات دون الأفضل جاز؛ لأنه لم يطَّلِعْ عليه إلا بإطلاع الله إياه.
والأفضلُ لا يلزمُ أن يكونَ له الاطلاع على سائر المغيَّبات، لأنه رِزْقٌ يسوقُه الله إلى مَن يشاء من عباده، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]
* * *
4439 -
وعَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّما سُمِّيَ الخَضرَ لأنَّهُ جَلَس على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فإِذَا هِيَ تَهْتزُّ منْ خَلْفِهِ خَضراءَ".
قوله: "على فروة بيضاء"، قال الخَطَّابي:(الفَرْوَةُ): جلدةُ وجْهِ الأرض، وصارت خضراءَ بعد أن كانت جَرْداءَ؛ أي: لا نباتَ فيها.
ويقال: بل أراد الهَشِيمَ من نباتٍ اخْضَرَّ بعد تَيَبُّسِه وبياضه.
قيل: اسم الخَضر: بلياء، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من أبناء الملوك الذين تزهَّدُوا في الدنيا.
* * *
4440 -
وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى فَقَالَ لهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ موسَى عينَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَهَا، قال: فرَجَعَ
المَلَكُ إِلَى الله تَعَالَى فَقَالَ: إنَّكَ أَرْسَلْتَني إلى عَبدٍ لكَ لا يُريدُ المَوتَ وقَدْ فقأَ عَيْني، قَالَ: فردَّ الله إلَيْهِ عَيْنَهُ وقَالَ: ارجِعْ إِلَى عَبدِي فَقُل: الحَيَاةَ تَريدُ؟ فإنْ كنْتَ تُريْدُ الحَياةَ، فضَعْ يدَكَ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وارَتْ يدُكَ منْ شَعْرةٍ فإنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فالآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ! أَدْنِني مِنَ الأَرْضِ المُقدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجرٍ. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"والله لوْ أنِّي عِندهُ، لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَنْبِ الطَّريقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ".
قوله: "فلطمَ موسى عينَ ملكِ المَوْت ففَقَأَها"، الحديث.
(اللَّطْمُ): الضَّرْبُ على الوجه بباطنِ الكفِّ، و (الفَقءُ): الشَّقُّ، فَقَأْتُ عينَه؛ أي: شَقَقْتُها؛ أي: أَعْمَيْتُها.
قيل: الملائكة يَتَصَوَّرُون تصُّورَ الإنسان، وتلك الصُّوَر بالنسبة إليهم كالملابس بالنسبة إلى الإنسان.
واللَّطْمَةُ أَثَّرَتْ في العين الصُّورِيَّة لا في العين المَلَكية، فإنها غير متأثِّرةٍ باللَّطْمة وغيرها، وإنما لطَمَها موسى - صلوات الله عليه - من حيث إنَّ الأنبياءَ - صلوات الله عليهم - كانوا مخيَّرين من عند الله سبحانه آخرَ الأمر بأحد الشيئين، إما الحياة وإما الوفاة، فأقدمَ مَلَكُ الموتِ على قَبْضِ روحهِ - صلوات الله عليهما - قبل التخيير؛ فلهذا سبقتْ منه هذه اللَّطْمَة.
وقيل: كرهَ الموتَ كراهيةً شديدةً بحيث لو أمكَنه لَطْمُه وفَقْء عينه لفعل؛ لأن إجراءَه على الظاهر وهو في صورته المَلَكية لا يمكن، وعلى صورته المتشكِّلِ هو بها لا يجيزه النبيُّ المعصوم.
إن قيل: ما الحكمة في أنَّ موسى عليه السلام أعمى عينَ مَلَك الموت، ولم يَعُدَّه ذنبًا، مع أنَّه مرسَلٌ من عندِه تعالى، والله سبحانه ما عاتبَ عليه، بل قال:"ارجعْ إلى عبدي" الحديث، تمهيدًا لعذره، وإذا قتل قبطيًا كافرًا ندم على
ذلك وتاب، وقال:"تبت يا رب، إني ظلمتُ نفسي"؟.
قيل: لأنه قتل القبطيَّ قبل أن يشرَّف بتشريف الرسالة والمكالمة، وأما إعماءُ عينِ مَلَكِ الموت بعد أن شُرِّفَ بخِلْعَةِ الرسألة والمكالمة والكرامة، فلهذا ما عوتِبَ بل عُذِر، ولأن عينَه الصورية حكمُها حُكْمُ لباسِه، كما ذُكِرَ قَبْلُ، فما صار مُلِيمًا بفقئها.
* * *
4441 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَرَرْتُ على مُوسَى لَيْلةَ أُسرِيَ بي عِندَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وهُوَ قائِمٌ يُصلِّي في قبرِهِ".
قوله: "ليلة أسري بي"، (ليلة): منصوبة على الظرف، والعاملُ فيه (مررت)، و (أُسْرِيَ) فعل ما لم يسمَّ فاعله، والباء في (بي) للتعدية، وأُسْرِيَ وسُرِّي بمعنًى واحد.
والجملة يعني: (أسري بي)، في محل الجر بإضافة (ليلة) إليها.
و"الكثيب": مجتمَعٌ من الرمل، مِن (كَثَبَ) إذا جمع.
و (الواو) في "وهو قائم" للحال.
"ويصلي" نصب في موضع الحال من الضمير في (قائم)؛ يعني: مررتُ على موسى عليهما السلام في الليلة التي أُسْرِيَ بي؛ يعني: في ليلة المِعْراج عند الكثيب الأحمر، قائمًا مصلِّيًا في قبره، وصلوات الأنبياء عليهم السلام في قبورهم عبارةٌ عن زيادة دَرَجَاتِهم بعد الموت.
فإن الصلاة والسجدة فيها خاصَّةُ قُرْبٍ من الله سبحانه، كما قال تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"وقرة عيني في الصلاة".
ولا شك أن درجاتِ القربِ من الله سبحانه غيرُ متناهية، فهو المراد من
الصلاة، والله أعلم.
* * *
4442 -
وعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَ عليَّ الأنبياءُ، فإذا مُوسَى ضَرْبٌ من الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَة، ورَأَيتُ عِيْسَى بن مَرْيمَ فإِذَا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، ورَأيتُ إبْراهيْمَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي: نَفسَهُ -، ورَأَيْتُ جِبْرِيْلَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا دِحْيَّةُ بن خَليفةَ".
قوله: "عُرِضَ علي الأنبياءُ صلوات الله عليهم، فإذا موسى ضَرْبٌ من الرِّجال" الحديث.
أي: عُرِضَ عليَّ أرواحُ الأنبياء - صلوات الله عليهم - مشكَّلِين بتلك الصور التي كانوا عليها في الدنيا مع الأجساد، وأيضًا أرواحُ الأنبياء كأرواحِ الملائكة، فكما أنَّ لهم أنْ يتشكَّلُوا بصورة الإنسان، فكذا أرواحُ الأنبياء.
(الضَّرْبُ): الرجلُ الخفيفُ من اللَّحْم، والخفيفُ من المَنْظَر، ذكره في "منتخب الصحاح".
وقيل: اللَّبن القليل، والإسراعُ، ذكره الحافظ أبو موسى في "المغيث".
(إذا) في (فإذا موسى) للمفاجأة.
(أَزْدُ شَنُوَءة): قبيلة؛ يعني: كان موسى عليه السلام يشابه واحدًا من رجال هذه القبيلة.
"فإذا أَقْربُ": (إذا) للمفاجأة، و (أَقْرَبُ) مبتدأ، و"مَنْ" موصول، و"شَبَهًا" مفعول رأيت، والباء صفة لقوله شبهًا، والجملةُ صلة (مَن)، والموصول والصلة في موضعِ الجرِّ بإضافة الأقرب إليه، و"عروة" خبرُه، أو إذا يعني: رأيت عيسى
عليه السلام، فكان أقرب إليه في الشبه عروة بن مسعود الثقفي.
* * *
4443 -
عَنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رَأَيتُ لَيْلةَ أُسرِيَ بي موسَى رَجُلًا آدمَ طُوَالًا جَعْدًا كأنَّهُ منْ رِجَالِ شَنوءَةَ، ورَأَيتُ عيسَى رَجُلًا مَربوعَ الخَلْقِ إلى الحُمرَةِ والبَيَاضِ سَبطَ الرَّأسِ، ورَأَيتُ مالِكًا خَازِنَ النَّارِ، والدَّجالَ في آياتٍ أَرَاهُنَّ الله إيَّاهُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} ".
قوله: "رجلًا آدم طُوَالًا جَعْدًا"، الحديث.
(آدم): نعتٌ من الأُدْمة، وهي السُّمْرة.
و (الطُّوالُ) - بضم الطاء -: الطويلُ، لكنه وُضعَ للمبالغة في الطُّول، نحو كُبَار.
جَعُدَ الشعر فهو (جَعْدٌ)، (المربوعُ): لا طويلٌ ولا قصيرٌ، والرَّبْعَةُ مثلُه.
"إلى الحمرِة والبياض"؛ يعني: كان يضربُ لونُه إلى الحمرة والبياض؛ يعني: ما كان أحمرَ قانيًا ولا أبيضَ نقيًا، بل كان لونُه بين اللَّونين.
"سَبَطَ الرأسَ"؛ أي: مسترسِلَ شعرِ رأسِه، يقال: سَبطَ فهو سَبَطٌ.
"والدجَّالَ في آيات أراهُنَّ الله إياه": (الآياتُ): جمع آية، وهي العلامة، و (أراهُنَّ) صفةُ (آيات)؛ يعني: أراه الدجالَ أيضًا مع آياتٍ أُخَرَ ما حكاها، فإذا كان خروجُه موعودًا {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} في شكٍّ {مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] و (اللِّقاء): الرؤيةُ، و (لا تَكُنْ) خطابٌ لمن سَمعَ هذا الحديثَ إلى يومِ القيامة.
* * *
4444 -
عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي
لَقِيتُ موسَى - فَنَعَتَهُ -، فإذا رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الشَّعرِ، كأنَّهُ منْ رِجالِ شَنُوءَةَ، ولَقيْتُ عيسَى رَبْعَةٌ أَحمَرُ، كأنَّما خرجَ منْ دِيْمَاسٍ - يعني: الحَمَّام - ورأيتُ إِبْراهِيمَ صلَواتُ الله عَلَيْهِ، وأنا أشبَهُ ولدِهِ بهِ، قَالَ: وأُتِيتُ بإِنَاءَيْنِ أحدُهُما لَبن والآخَرُ فيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبن فشرِبْتُهُ، فَقِيْلَ لي: هُدِيتَ الفِطْرةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".
قوله: "وأُتِيتُ بإناءَين؛ أحدُهما: لبن، والآخرُ فيه خَمْر"، الحديث.
كان قياسُ العربية في قوله صلى الله عليه وسلم: (أحدُهما فيه لَبن) كما قال: (فيه خمرٌ)، لكنه عدَلَ عن القياس، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد تكثيرَ اللبن، فلما كَثُرَ صار كأنَّ الإناءَ انقلبَ لَبنًا، فجعلَه لبنًا كلَّه، تكثيرًا لِمَا يختارُه.
ولمَّا كان الخمرُ منهيًّا عنه قَلَّلَه؛ أي: إناءٌ فيه خمرٌ قَليلٌ، والظاهر: أنه أراد باللبن الحليبَ لا الرائبَ، إذ ذاك عند العرب غالبًا، وإنما عُرِضَ عليه كلاهما؛ ليَظْهَرَ للملائكة تفضيلهُ واختيارهُ ما هو الصواب، والمأتيُّ بهما كان اختراعًا إلهيًا في الحال، لا مأخوذًا من الدنيا، إذ لم يكن المأتيُّ بهما في عالم الكون والفساد، بل في عالم الملكوت.
قوله: "أمَا إنَّكَ لو أخذتَ الخمرَ غَوَتْ أمتُك"، (أَما): كلمةُ تنبيه؛ أي: لو اخترتَ الخمرَ بدلَ اللبن لضلَّتْ أمتُك.
* * *
4445 -
عَنِ ابن عبَّاسِ قَالَ: سِرْنا معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بيْنَ مكَّةَ والمَدِينَةِ، فَمَرَرْنا بِوادٍ فَقَالَ:"أيُّ وادٍ هَذَا؟ " فَقَالوا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ:"كأنِّي أنظُرُ إلى موسَى، فذكَرَ منْ لونِهِ وشَعْرِهِ شَيْئًا، واضعًا أُصْبُعَيْهِ في أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤارٌ إلى الله بالتَّلبيَةِ مارًّا بهذا الوَادِي"، قَالَ: ثُمَّ سِرْنا حتَّى أَتَيْنا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَال: "أيُّ ثَنِيَّةٍ هذهِ؟ " قالوا: هَرْشَى أو: لِفْتٌ، فَقَال: "كَأنِّي أنظُرُ إلَى يُونُسَ عَلَى ناقَةٍ حَمْراءَ،
عليهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذا الوَادِي مُلبيًا".
قوله: "كأني أنظرُ إلى موسى، فَذكَرَ مِنْ لونهِ وشَعْرهِ شيئًا، واضعًا إصبعيه في أذنيه"، الحديث.
(واضعًا): نصب على الحال، و (إصبعيه) مفعوله.
"الجُؤَارُ": الصياح، يقال: فلان جأَرَ إلى الله عز وجل؛ أي: تضرَّع.
و"التلبية": مصدرُ (لبَّى) إذا قال: لَبّيك، وأصل لَبَّى: لَبَّبَ، فقُلِبت الباءُ الآخرة ياءً للخِفَّة، فصار: لَبَّى تَلْبيةً، فَأُجْرِيَ مُجْرى: وصَّى توصيةً؛ يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم في الوادي الأزرق الذي بين مكة والمدينة حينما كُشِفَ له من عالَم الغيب حالاتُ موسى ويونس عليهما السلام في الإحرام والتلبية ممَّا جرى عليهما في الحجِّ وغير ذلك، من حِلْيةِ موسى، ولباسِ يونسَ، ووصفِ ناقته وذكر أن "خِطَامَ ناقتهِ خُلْبَةٌ"؛ أي: زمامُ ناقتِه ليفةُ نَخْل = أخبر عن ذلك كلِّه.
"مارًا" و"ملبيًا": نصب على الحال مِن يونس.
"هَرْشَى": ثنية في طريق مكة، "وَلفت" أيضًا: موضعٌ في طريق مكة.
هذا دليلٌ على أنَّ لأرباب القلوب أن يُخبروا عما كُشِفَ لهم من المغيَّبات.
* * *
4446 -
عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خُفِّفَ عَلَى دَاودَ القُرآنُ، فكَانَ يأمرُ بدوابهِ فتُسرَجُ، فَيقْرَأُ القُرآنَ قبلَ أنْ تُسرَجَ دَوابُّهُ، ولا يأكُلُ إلَّا مِنْ عَمِلِ يَدِهِ".
قوله: "خُفِّفَ على داود القرآنُ"، الحديث.
(القرآنُ) ها هنا بمعنى القراءة.
قال في "الغريبين": (القرآن): سُمِّيَ به لأنه جُمعَ فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد، وكلُّ شيء جمعتَه فقد قَرَأْتَه.
"الدواب": جمع دابة، وهي التي تُرْكَبُ، والمراد بها ها هنا الفَرَس.
"فتُسْرَجُ"؛ أي: فتُجْعَلُ الدوابُّ ذاتَ سُرُوج؛ يعني: خُفِّفَ على داود عليه السلام قراءةُ الزَّبُور، بحيث لو أمرَ بِسَرْجِ دابته مبتدئًا في قراءته لفرغ من قراءته "قبل أن تُسْرَجَ"، وهذا من جملة معجزاته عليه السلام، وكثيرًا ما نُقِلَ هذا وأمثالُه من أولياءِ أمةِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من طَيِّ الأرض وغيرِ ذلك؛ لقطع مسافات بعيدةٍ طَرْفَة عين، وينبغي أن يُعتقَد أن كراماتِ الأولياء حقٌّ، وهي تتمةُ معجزاتِ الأنبياء صلوات الله عليهم.
* * *
4447 -
وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانتْ اِمْرأتَانِ مَعَهُما ابناهُما، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابن إِحْدَاهُما، فَقَالتْ صَاحِبَتُها: إنَّما ذَهبَ بِابنكِ، وقَالَتِ: الأُخرى: إنَّما ذَهَبَ بابنكِ، فتَحَاكمَتا إِلى دَاوْدَ، فَقَضَى بهِ لِلْكُبرى، فخَرجَتَا عَلَى سُلَيْمانَ بن داودَ، فَأخْبَرتَاهُ فَقَال: ائْتُوني بالسِّكَينِ أشقُّهُ بَيْنَكُما، فَقَالتْ الصُّغرَى، لَا تَفعَلْ، يَرحَمُكَ الله، هُوَ ابنها، فَقَضَى بهِ للصُّغرَى".
قوله: "فتحاكمَتا إلى داودَ، فقضى به للكُبْرى"، الحديث.
(التحاكُم): الترافُع، وهو أن يرفعَ كلُّ واحدٍ من الخَصْمين شرحَ حاله إلى الحاكم.
"فقضى"؛ أي: حكمَ "به"؛ أي: بالابن "للكبرى"، تأنيثُ الأكبر، و"الصغرى"، تأنيثُ الأَصْغَر.
"فخرجَتَا على سليمان"؛ أي: خرجتا من عند داودَ، ودخلَتا على سليمانَ
عليهما السلام، فأخبرتَاه بما حكَمَ داود عليه السلام بذلك، فألهمه الله سبحانه ما كان محرِّكًا للرحمة والأمومية والمحَّبة والبُغْض، وهو قوله:"ائتوني بالسِّكِّين أَشُقُّه بينكما"، فقالت أمه التي هي الصغرى خوفًا على ذهاب روحه:
"لا تفعلِ" الشقَّ يا نبي الله، "فإنه ابنها"، فحكمَ به للصغرى؛ لوجودِ هذه القوينة المعينة لها، وهي الرَّأْفةُ والشَّفقةُ، واعلم أن قضاءهما حقٌّ وصدق؛ لكونهما مجتهِدَين، وكلُّ مجتهدٍ مصيبٌ.
ومستندُ قضائهما في هذه القضية نفسُ القرينة، لكنَّ القرينةَ التي حكمَ بها سليمان عليه السلام كانت أقوى من حيث الظاهرُ، فقد غلبَ على ظنه بذلك أنه ابن للصغرى، فحكمَ لها بالابن.
قال بعض الشارحين: ويحتمل أن قرائنَ الأحوالِ كانت في شرعهم بمثابة البَينة، فلهذا حكمُوا بها.
* * *
4448 -
عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "قالَ سُلَيْمانُ صَلَواتُ الله عليهِ: لأَطوفَنَّ اللَّيلةَ عَلَى تِسعِيْنَ امرأةً - وفي رِوَايَةٍ: على مِئَةِ امرأةٍ - كُلُّهنَّ تَأتِي بِفارِسٍ يُجاهِدُ في سَبيلِ الله، فَقَالَ لهُ المَلَكُ: قُلْ: إنْ شاءَ الله، فلمْ يقُلْ ونَسِيَ، فَطَافَ عليهِنَّ، فلمْ تحمِلْ منهُنَّ إلَّا امْرأةٌ واحِدةٌ جَاءَتْ بشِقِّ رَجُلٍ، وايْمُ الَّذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ الله، لَجَاهَدُوا في سَبيْلِ الله فُرسَانًا أَجْمَعُونَ".
قوله "لأطوفَنَّ الليلة على تسعين امرأةً - وفي رواية بمئة امرأة - كلُّهن تأتي بفارسٍ يجاهد"، الحديث.
(اللامُ) في (لأطوفنَّ) جوابُ قَسَمٍ مقدَّر، تقديرُه: والله لأَطُوفَنَّ، و (الطوافُ)
هنا كنايةٌ عن المُجَامَعة.
(كلُّهن) مبتدأٌ و (تأتي) خبرُه، و (يجاهد): صفةٌ لفارس، (الشِّقُّ): نصف الشيء، وناحية الجَبل، والأَخُ، والمراد به ها هنا المعنى الأول:(شِقُّ رَجُلٍ)؛ أي: نصف رجل.
يعني: قال سليمان عليه السلام: والله لأجامِعَنَّ الليلةَ تسعينَ امرأةً، وروي: مئة امرأة، كلُّ واحدة منهنَّ تلدُ فارسًا يجاهدُ في سبيل الله، وما ذَكَرَ عَقِيبَه: إن شاء الله تعالى، فجامع النسوةَ التسعين أو المئة كلَّهن، فما حملتْ منهن إلا واحدةٌ، فجاءت بولدٍ نصفُه أَشَلُّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"وايمِ الذي نفسُ محمدٍ بيدهِ"؛ أي: والذي نفسُ محمدٍ في قبضة قدرته، "لو قال إن شاء الله" لحصل مقصودهُ، وحملَتْ كلُّ واحدةٍ منهن، وأتت - كما ذكر - كلُّ واحدةٍ منهن بفارسٍ يجاهد في سبيل الله.
قوله: "لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون"، فـ (أجمعون) تأكيد للضمير في (جاهدوا)، و (فرسانًا) نصب على الحال من الضمير في (جاهدوا).
وفيه دليلٌ على أن مَن قال: أعملُ للشيء الفلانيِّ غدًا، فينبغي أن يذكر عَقِيبَه: إن شاء الله؛ تبرُّكًا وتيمُنًا وتسهيلًا لذلك العمل.
* * *
4449 -
وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زَكرِيَّا نجَّارًا".
قوله: "كان زكرِيَّا نَجَّارًا"، (زكريَّا) غيرُ منصرفٍ للعَلَمية والعُجْمة، وفيه إشارةٌ إلى أن الحِرَف مطلوبةٌ.
* * *
4450 -
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بن مَريمَ في الأُولَى والآخِرةِ، الأَنْبيَاءُ إِخْوةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وأُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودينُهُمْ واحِدٌ، ولَيْسَ بَيْننا نَبيٌّ".
قوله: "أنا أولى الناسِ بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة"، الحديث.
قال في "منتخَب الصحاح": بنو العَلَّاتِ أولادُ الرجلِ من نسوة شَتَّى، والأَعْيان: الإخوةُ بنو أب وأم، والأخياف: إخوةٌ آباؤهم شتَّى؛ أي: متفرقة.
"أَولى" - بفتح الهمز -: أفعل التفضيل مِن (وَلِيَ) إذا قرب، و"الأَوْلَى"؛ أي: الدنيا.
يعني: أنا أقربُ الناس بعيسى عليهما السلام في الدنيا والآخرة.
"وليس بيننا نبيٌّ"؛ يعني: ليس بيني وبينه نبيٌّ، بل جئت بعدَه، كما قال:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، ثم بيَّن أن دينَ الأنبياء - صلوات الله عليهم - واحدٌ، وإن كانت شرائعهم مختلفةً، كما أنَّ أولادَ العَلَّاتِ أبوهم واحدٌ، وإن كانت أمَّهاتهم شَتَّى؛ لأن الأنبياءَ عن آخرهم يَدْعون الخَلْقَ إلى الله تعالى.
* * *
4451 -
وعَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بني آدَمَ يَطْعنُ الشَّيْطانُ في جَنبَيْهِ، بإِصْبعَيْه حِينَ يُولَدُ، غيرَ عيسَى بن مَرْيمَ، ذَهَبَ يَطْعنُ فَطَعنَ فَوَقعَ في الحِجَابِ".
قوله "كلُّ بني آدمَ يَطْعَنُ الشيطانُ في جنبيه بإصبعيه"، الحديث.
"ذهب"؛ أي: طَفِقَ، (الطَّعْنُ): الضرب، وهو ها هنا بمعنى المَسِّ.
قيل: "الحجابُ" ها هنا عبارةٌ عن المَشِيمَة، وهي ما فيه الولدُ؛ يعني:
يَمَسُّ الشيطانُ بإصبعيه - يعني السبابة والوسطى - جَنْبَي جميعِ بني آدم حين يولَدُ إلا عيسى عليه السلام.
فإنه ما وصلَ إليه مِن مِسِّه، لأنه ما طَعَنَ في المشيمة، بحيث ما كان متأثِّرًا من طَعْنِه، وإنما لم يتأثَّرْ من مَسِّه؛ لأن الله تعالى أعاذَ مريمَ وأولادَها من الشيطان تقبُّلًا لنَذْرِ حَنَّةَ أمِّها، وأعاذ بها مريمَ وذريتها، لقوله تعالى حكايةً عنها:{سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، فهذا لا يخلو إما أن يكونَ من الفضائل أو الخصائص، فإنْ كان من الفضائل، فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بذلك، لأنه أفضلُ من في السماوات والأرض، وإن كان من الخصائص فيجوزُ أن يختصَّ عيسى عليه السلام بذلك، فإن الخاصية لا تَقْبَلُ الاشتراك.
* * *
4452 -
عَن أَبي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيمُ بنتُ عِمرَانَ وآسِيَةُ امرَأةُ فِرعَوْنَ، وفَضْلُ عَائِشةَ عَلَى سَائِر النِّسَاءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
قوله: "كَمَلَ من الرجالِ كثيرٌ، ولم يكمُلْ من النساء إلا مريمُ"، الحديث.
يعني: كَثُرَ أهلُ الكمال في الرجال وهم الأنبياءُ والأولياءُ، فإنهم الكاملون المكمِّلون.
يعني: الكامِلون في أنفسهم، والمكمِّلون لغيرهم، على حسب مراتبهم في عِلْمهم ومعرفتهم بالله سبحانه.
وأما النساء: فما كَمَلَ منهنَّ إلا مريمُ بنت عمران، وآسيةُ زوجةُ فرعون رضي الله عنهما في زمانهما؛ لأنه وردتْ أحاديثُ أخرى في كمال خديجةَ وفاطمةَ وعائشةَ رضي الله عنهن.
وسنذكر فضلَهن في (باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) مستقصًى مشروحًا - إن شاء الله تعالى - وحدَه.
وقوله: "فضلُ عائشةَ على النساء كفَضْلِ الثَّرِيد على سائر الطعام"، سيأتي البحث في ذلك أيضًا في (باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) إن شاء الله.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4453 -
عَنْ أَبي رَزْينٍ قَالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ الله! أَينَ كَانَ ربنا قبلَ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَال: "كَانَ في عَمَاءٍ مَا تحتَهُ هَوَاءٌ ومَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وخَلَقَ عَرْشَهُ علَى المَاءِ"، وقَال يَزيدُ بن هَارُون: العَمَاءُ؛ أَيْ: لَيْسَ مَعَه شَيءٌ.
قوله: "كان في عَماءٍ، ما تحته هواءٌ، وما فوقه هواءٌ، وخلقَ عرشَه على الماء"، قال في "الغريبين": قال أبو عُبيد: (العَمَاءُ): السحابُ في كلامِ العرب، لا يُدْرَى كيف كان ذلك العَماء.
وحُكِيَ عن أبي الهيثم أنه قال: هو في عَمًى مقصود، قال: وهو أمرٌ لا تدركه عقولُ بني آدم، ولا يبلغُ كُنْهَه الوصْفُ، ولا يُدْرِكُه الفَطِنُ.
(ما) في (ما تحته وما فوقه) للنفي؛ أي: ما فوقَه وما تحته هواءٌ؛ أي: شيءٌ، والواو في (وخلق) للحال، و (قد) مقدَّرة؛ يعني قد كان الله سبحانه في الأَزَل في عَمَاءٍ؛ أي: في صفةٍ لا ندري كيفيتَها، بل نؤمنُ بذلك، كما أرادَها، ونَكِلُ عِلْمَها إليه سبحانه، كما نعرفُ ذاتَه تعالى، ونؤمنُ به بلا كيف.
فالحاصِلُ: أن هذا وأمثالَه وجبَ على السامع أن يؤمنَ بظاهره، ويصدِّقَه، ويعرضَ عن التفتيش في حقيقة ذلك حتى لا يقعَ في التشبيه والتعطيل.
* * *
4454 -
عَنِ العَبَّاس بن عَبْد المُطَّلِب رضي الله عنه: زَعَمَ أنَّه كانَ جَالِسًا في البَطْحاءِ في عِصَابةٍ ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فيهِمْ، فمرَّتْ سَحابَةٌ فنظَرُوا إليها، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما تُسَمُّونَ هَذِه؟ "، قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ:"والمُزْنُ"، قَالُوا: والمُزْنُ، قَالَ:"والعَنَانُ"، قَالُوا: والعَنَانُ، قَالَ:"هَلْ تَدرَونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ؟ "، قَالُوا: لا نَدرِي، قَالَ:"إنَّ بُعْدَ مَا بينَهُما إِمَّا واحِدَةٌ وإِمَّا اثنَتانِ أو ثَلَاثٌ وسَبْعُونَ سَنةً، والسَّماءُ الَّتي فَوْقَها كَذلِكَ، حتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعَةِ بحرٌ بَيْنَ أَعْلاهُ وأَسْفلِهِ كَمَا بَينَ سَماءٍ إلى سَماءٍ، ثُمَّ فوقَ ذَلِكَ ثَمَانِيةُ أوْ عَالٍ بَيْنَ أَظْلافِهنَّ ورُكَبهنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إلى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهورِهِنَّ العَرْشُ بَينَ أَسْفلِهِ وأَعلاهُ مَا بَينَ سَماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ".
قوله: "ما تُسمُّون هذه؟ قالوا: السَّحاب"، (ما) للاستفهام بمعنى التقرير، و (هذه) إشارة إلى السحابة، و (ما) مفعولٌ مقدَّم، و (هذه) مفعولُه الثاني، تقديره؛ أيُّ شيءٍ تسمون هذه؟، و (السَّحَابُ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هي السحاب، وكذلك (المُزْن) و (العَنان)، إن روي بالرفع، وإن روي بالنصب فهو مفعولُ فِعْلٍ مقدَّر، تقديرُه: نُسمِّيها السحابَ.
"المُزْن": السحابُ الأبيضُ، واحدُه مُزْنَةٌ، و"العَنَان": السَّحَاب، وإنما سُمِّي عَنَانًا؛ لأنه عَنَّ في السماء؛ أي: ظَهر.
قوله: "إنَّ بُعْدَ ما بينهما إمَّا واحدةٌ وإمَّا اثنتان أو ثلاثٌ وسبعون سنةً"، الضمير في (بينهما) يعود إلى السماء والأرض؛ يعني: بُعْدُ ما بين السماء والأرض إمَّا واحدةٌ وسبعون سنةً، أو اثنتان وسبعونَ، أو ثلاثٌ وسبعون سنةً، وكذا السماء التي فوق السماء الدنيا إلى السماء السابعة.
قوله: "ثم فوقَ السماءَ السابعةِ بحرٌ بينَ أعلاه وأسفلِه كما بينَ سماءٍ إلى
سماء"، الضمير في (أعلاه وأسفله) يعودُ إلى البحر.
قوله: "ثم فوقَ ذلك ثمانيةُ أوعالٍ بين أَظْلَافِهِنَّ وورِكِهِنَّ مثلُ ما بين سماءٍ إلى سماء
…
" إلى آخره، (الأَوْعالُ): جمع وَعْل، وهو العنزُ الوحشيُّ، و (الأَظْلاف): جمع ظِلْفٌ، وهو للبقرة والشاة، والظِّلْفُ بمثابة الحافرِ للدَّابة، والوَرِكُ ما فوقَ الفَخِذ.
وذلك إشارة إلى البحر؛ يعني فوق ذلك البحر ثمانيةُ أملاك، وهم الذين يحملون العَرْش، الضمير في "أسفله وأعلاه" يعود إلى العرش.
قوله: "ثم الله فوق ذلك"، (ذلك) إشارة إلى العَرْش؛ يعني: الله سبحانه فوق العرش عُلُوًّا بالشأن لا بالمكان، تعالى عما يقول الجاهلون.
* * *
4455 -
عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَعْرابيٌّ فَقَال: جُهِدَتْ الأنفُسُ وجَاعَ العِيالُ، ونُهِكَتْ الأَمْوالُ، وهَلكَت الأَنْعامُ، فاسْتَسْقِ الله لَنَا، فإنَّا نستَشْفِعُ بِكَ عَلَى الله، ونستَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"سُبحَانَ الله، سُبحانَ الله"، فَمَا زَالَ يُسبحُ حتَّى عُرِفَ ذلكَ في وُجوهِ أَصْحَابهِ، ثُمَّ قَالَ:"وَيْحَكَ! إنَّهُ لا يُستَشْفَعُ بالله علَى أَحَدٍ، شَأنُ الله أَعْظَمُ مِنْ ذلكَ، ويْحَكَ! أَتَدْرِي مَا الله؟ إنَّ عَرْشَهُ علَى سَمَاواتِهِ لَهَكَذا - وقَالَ بأَصابعِهِ مِثْلَ القُبَّةِ عليهِ -، وإنَّه لَيَئِطُّ بهِ أطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكِبِ".
قوله: "جُهِدَت الأنفسُ، وجاعَ العيالُ، ونُهِكَت الأموالُ"، الحديث.
(الجَهْدُ): المشقة، وبالضم: الطاقة.
(الأنفس): جمع نفس، والنفسُ: الروحُ والدمُ والجَسَد، والمراد بها ها هنا الجسد.
(وجاع): فعل ماضٍ من الجوع، وهو ضد الشبع.
(العيالُ): جمع عائل، مِن (عال) إذا افتقر.
وعيالُ الرجل: من يَتَمَوَّنُه من الزوجة والأولاد والعبيد والإماء.
"نُهِكَت" إذا نَقَصَتْ، يقال: نهكَتْه الحمَّى إذا جَهَدَتْه ونَقَصَتْه من قوته.
"الأنعام": جمع نَعَم، وهو الإبلُ والبقرُ والغَنَم.
"الاستسقاء": طلب السقي، و"الاستشفاع" طلب الشفاعة.
"سبحان الله"، نصب على المصدر، ولا يتغيَّرُ نصبُه لأنه من مصادرَ لا تنصرف، (سبحان الله) كلمة تقالُ عند التعجُّب "الشأن": الأمر والحال، "ويحك"؛ يعني: أتى أعرابيٌّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مشتكيًا عن قلة المطر والجَدْب.
فقال: يا رسول الله! أخذت النفوسُ في الفتك والشِّدَّة، والعيال في الجوع والعَبْرة، وهلكت المواشي والضروع، ونقصتِ الثمارُ والزُّروع، فاطلب من الله سبحانه أن يسقِيَنا بلُطْفه بغيثٍ مِدْرار ومُغيث، ونحن نطلبُ الشفاعة بوجودك على الله سبحانه، ونطلبُ الشفاعَة أيضًا بالله سبحانه عليك؛ يعني: نجعلُك شفيعًا على الله سبحانه؛ ليجيب دعاءنا، ونجعلُه تعالى شفيعًا عليك؛ ليحصل مقصودُنا، بأن تستسقيَ لنا من الله سبحانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم.
"سبحان الله"، متعجِّبًا عن قوله:(إنا نستشفع بالله عليك).
"فما زال"؛ أي: فما دام "يسبح"؛ أي: يكرر التسبيحَ "حتَّى عُرِفَ ذلك"؛ أي: التغيُّر "في وجوه أصحابه" صلى الله عليه وسلم؛ أي: ساءهم تكريرُ التسبيح منه صلى الله عليه وسلم، وتوهَّموا أنه غضبَ من هذا السؤال، فخافوا من غضبه، وتغيرتْ وجوهُهم خوفًا من الله تعالى، فلمَّا أَثَّرَ فيهم الحزنُ رقَّ لهم، وقطعَ التسبيحَ، وبيَّنَ عظمة الرب حتَّى نُزِّهَ أن يَجعلَ أحدًا من الخلق وسيلةً إليه، فإنه أعظمُ من ذلك.
ثم قال: "ويحك! شأنُ الله أعلى وأجلُّ أن يستشفِعَ على أحد"، ثم قال:"أتدري"؛ أي: أتعلم وتعرف "ما الله؟ "؛ أي: ما عظمةُ الله سبحانه؟ وطَفِقَ يقِّرر عظمة الله سبحانه وتعالى.
وقال: "إن عرشَه على سمواته هكذا، وقال بأصابعه"؛ أي: أشار بأصابعه.
قال الخطابي: هذا الكلام إذا أُجْرِيَ على ظاهره كان فيه نوعٌ من الكيفية، والكيفية عن الله سبحانه وصفاتِه منفيةٌ.
فعُقِلَ أن المراد منه ليس تحقيقَ هذه الصفة ولا تحديدَه على هذه الهيئة، وإنما هو كلامُ تقريب، أريد به تقريرُ عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قُصِدَ به إفهامُ السائل من حيث يدركُه فَهْمُه، إذ كان أعرابيًا جِلْفًا لا علمَ له بمعاني ما دقَّ من الكلام، وبما لَطُفَ منه عن درك الأفهام.
وقوله: "إنه ليئِطُّ به"؛ معناه: إنه ليعجزُ عن جلاله وعظمته حتَّى يَئِطَّ به، إذا كان معلومًا أن "أطيطَ الرَّحْلِ بالراكب" إنما يكون لقوةِ ما فوقَه، ولعَجْزِه عن احتماله.
فقرَّر بهذا النوعِ من التمثيل عنده معنى عظمةِ الله وجلاله وارتفاعِ عَرْشِه؛ ليعلمَ أن الموصوفَ بعلو الشأن وجلالة القَدْر وفخامة الذَّكْر لا يُجْعَلُ شفيعًا إلى ما هو دونَه في القَدْر وأسفلَ منه في الدرجة، وتعالى الله عن أن يكون مشبَّهًا بشيء، أو مكيَّفًا بصورة خَلْق، أو مُدْرَكًا بحدٍّ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
* * *
4456 -
عَنْ جَاِبرٍ بن عَبْدِ الله رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحدِّثَ عنْ مَلَكٍ منْ ملائِكَةِ الله مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنيهِ إِلَى
عَاتِقِهِ مَسِيْرةُ سَبْعِ مِئَةِ عَامٍ".
قوله: "أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَكٍ"، الحديث، يقال: أُذِنَ له في الشيء ففعله إذنًا.
"الحَمَلَةُ"؛ جمع حامل.
"شَحْمَة الأُذُن"، مُعَلَّقُ القُرْط؛ يعني: ما لان من الأذن.
"العاتق"، موضعُ الرداء من الكَتِف، يذكَّرُ ويؤنَّث، ذكره في "منتخب الصحاح".
يعني: قال النبي صلى الله عليه وسلم: صرت مأذونًا مِن حضرته تعالى وتقدَّس أن أخبرَ أمتي عن كيفية عِظَمِ جُثَّةِ مَلَكٍ من الملائكة الذين يحمِلُون العرش، فقال:"ما بينَ شحمة أذنيه إلى كتفيه مقدارُ سبع مئة سنة"، فقدرتُه تعالى لا تتقاصر من خلق جثته، وأعظم من هذا، فإنه على كل شيء قدير.
* * *
4457 -
عَنْ زُرَارَةَ بن أَوْفَى رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجبْريلَ عليه السلام: "هل رَأَيتَ ربَّك؟ "، فانتفضَ جِبْريلُ عليه السلام فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّ بَيني وبيْنَهُ سَبْعِيْنَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ لَو دنَوْتُ منْ بَعْضها لَاحْتَرَقْتُ.
قوله: "فانتفضَ جبريلُ"، الحديث.
(انتفضَ): إذا تحرَّكَ؛ أي: ارتعدَ شديدًا من عظمة ذلك السؤال.
"الدنو": القرب، و"الحجاب": عبارةٌ عن كمال الله سبحانه وتعالى ونقصانِ جبريل، من حيث إن الله سبحانه وتعالى قديمٌ أزليٌّ أبديٌّ، وهو مخلوقٌ موسومٌ بسمة الحدوث، فالحجاب من طرف جبريلَ عليه السلام.
وقول جبريل: "لو دنوتُ من بعضها لاحترقت"؛ يعني: لو تجاوزتُ على
فرض المحال عن مقامي المعلوم الذي أُمِرْتُ أن أعبدَ الله سبحانه وتعالى ثمَّةَ وهو في السماء؛ لاحترقتُ وهلكتُ.
والدليل على هذا: قولُه تعالى حكايةً عن قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164]، فلهذا إذا سئل ارتعد خوفًا من الله سبحانه.
وهذا الحديث دليلٌ على حقيقة رؤية الله سبحانه وتعالى في دار البقاء، فإنه إذا كانت مستحيلةً لما سألَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنها.
* * *
4458 -
عَنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله خَلَقَ إسْرافيلَ مُنْذُ يَومَ خَلَقَهُ صَافًّا قَدمَيْهِ لا يَرْفَعُ بَصَرَه، بَيْنَهُ وبَيْنَ الرَّبِّ تبارك وتعالى سَبْعُونَ نُورًا، مَا مِنْها مِنْ نُورٍ يَدْنُو مِنهُ إلَّا احتَرقَ"، صَحَّ.
قوله: "منذ يومَ خلَقَه صافًّا قدميه"(منذ) ها هنا حرفُ جر، وهو بمعنى (في)، و (صافًّا) نصب على الحال من الضمير المنصوب في (خلقه)، و (قدميه) مفعولُه.
* * *
4459 -
عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ الله تعالى آدمَ وذُرِّيَّتَهُ قَالَتِ المَلائِكةُ: يَا ربِّ! خَلَقتَهُمْ يَأْكُلونَ ويَشْرَبُونَ ويَنْكِحُونَ ويَرْكَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهمُ الدُّنيا ولَنَا الآخرة، قَالَ الله تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلقْتُهُ بِيَديَّ، ونَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحِي، كمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ".
قوله: "لا أَجعلُ من خَلَقْتُه بيديَّ، ونفخْتُ فيه من روحي كمن قلتُ له: كن فكان".