الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ
(باب خلق الجنة والنار)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4418 -
عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ".
قوله: "حُفَّتِ الجنةُ بالمَكَاره، وحُفَّتِ النارُ بالشهوات"، (حُفَّ به): طاف به واستدارَ وأَحْدَقَ.
(المَكَاره) جمع: كَرْه، وهو المشقة والشدة، جمع على غير قياس، كـ (محاسن) جمع حسن؛ يعني: الجنةُ مُحدَقة بأنواع الشدائد والمشقات، وهي عبارة عن التكاليف الشرعية من الصوم والصلاة والحج والزكاة، فإنها ثقيلةٌ على الأنفس، سيما الزكاةِ؛ فإنها ماليةٌ، فالثقلُ فيها أشدُّ؛ لأن البخلَ مركوزٌ في الطبيعة.
فحينَئذٍ مَن امتثلَ أوامر الشرع فقد قطعَ مفاوزَ المشقات العظيمة من التكاليف، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يحصلَ له الجنةُ الباقيةُ؛ جزاءً لذلك الاحتمال العظيم في التكاليف رزقنا الله سبحانه إياها بفضله.
وكذا النارُ مُحدَقة بالشهوات، وهي عبارة عن الدنيا ومستلذاتها ومرادات النفس، كشرب الخمر والزنا وغير ذلك من المحرَّمات الشرعية، فإن النفوسَ مائلةٌ إليها طبعًا، والشيطانُ مساعدٌ لها طوعًا، أعاذنا الله تعالى منها برحمته.
* * *
4419 -
عن أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمُتَكبرينَ والمُتَجبرينَ، وقالت الَجنَّةُ: فما لي لا يدخُلني إلَّا ضُعفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهُم وغِرَّتُهُمْ؟ فقالَ الله للجَنَّةِ: إنَّما أَنْتِ رَحْمَتي أرحَمُ بكِ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبادِي، وقال للنَّارِ: إنَّما أَنْتِ عَذابي أُعذِّبُ بكِ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبادِي، ولكُلِّ واحدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها، فأمَّا النَّارُ فلا تَمْتَلِئُ حتَّى يَضَعَ الله رِجْلَهُ فيها، وتَقُول: قَطْ قَطْ قَطْ، فَهُنالِكَ تَمْتَلِئُ ويُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ فلا يَظْلِمُ الله مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وأمَّا الجَنَّةُ فإِنَّ الله يُنشِئُ لها خَلْقًا".
وقوله: "تحاجَّت الجنةُ والنارُ"، الحديث.
(تحاجَّ)؛ أي: تخاصَمَ، وفاعلُه أكثرُ من واحد، كما يقال: تخاصَمَ زيدٌ وعمروٌ.
"آثَرَ"؛ أي: اختارَ.
"أُوثِرت"؛ أي: اخترت.
"فما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسَفَلتُهم وغِرَّتُهم"، (السَّفَلة): السُّقَّاط من الناس.
الغِرُّ: الذي لم يجرب الأمور، و (غرَّتهم)؛ أي: ذوي غِرَّتهم.
(فما لي؟) أي: فما وقعَ لي؟ أي؛ أيُّ شيءٍ وقع لي، لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وأراذلُهم ومَن لا مبالاةَ بهم ولا تجربةَ لهم في الأمور الدنيوية؟
يعني: الذين ليس لهم اهتمامٌ بالدنيا، بل راغبون عنها ومائلون إلى الآخرة، بحيث لو أبصرَهم أهلُ الدنيا لَوجدوهم البُلْهَ والحَمْقَى - باعتقادهم - في الأمور الدنيوية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"أكثرُ أهلِ الجنة البُلْهُ"؛ أي: في أمور الدنيا.
قول الجنة مجازًا: فمالي لا يدخل فيَّ إلا ضعيفٌ أو سقط، يُنظر في الأنبياء والأولياء الداخلين إليها في أنهم من أيَّ قَبيلٍ هم؟ معاذَ الله أن يكونوا من
الثاني، ووصفهم بالضعف ضد التكبُّر والتجبُّر، أو لأنهم استَضعفوا أنفسَهم متواضعين، كطلبهم على المسكنة والحياء فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أَحيني مسكينًا، وأَمِتْني مسكينًا".
قال في "شرح السُّنَّة": قوله: "إنما أنتِ رحمتي" سمَّى الجنةَ رحمةً؛ لأن بها تظهر رحمةُ الله على خلقه، كما قال:"أرحمُ بكِ مَن أشاء"، وإلا فرحمةُ الله تعالى صفةٌ من صفاته التي لم يزل بها موصوفًا، ليس لله صفةً حادثةً، والاسمُ حادثٌ، فهو قديمٌ بجميع أسمائه وصفاته، جل جلاله وتقدَّست أسماؤه وتعالى جَدَّه.
وقال أيضًا في "شرح السُّنَّة": القَدَم والرِّجل المذكورتانِ في الحديث من صفات الله تعالى المنزَّه عن التشبيه والتكييف، وكذلك كلُّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السُّنَّة، كاليد والإصبع والعين والمجيء والإتيان والنزول؛ فالإيمانُ بها فرضٌ، والامتناعُ من الخوض فيها واجبٌ، والمهتدِي مَن سلك فيها طريقَ التسليم، والخائضُ زائغٌ، والمُنكِرُ مُعطِّلٌ، والمُكيفُ مُشبهٌ تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقيل: وضعُ القَدَم والرِّجل من باب المجاز والاتساع، ولم يُرِدْ بهما أعيانَهما، بل أراد بذلك ما يَدفع شدتَها ويُسكِّن سورتَها ويقطع مسألتَها.
"قَطْ": بفتح القاف وسكون الطاء، معناه: حَسْبُ.
قوله: "ويُزوَى بعضُها إلى بعض"؛ أي: يجتمع بعضُ النار إلى بعض، من زَويتُ الشيءَ: إذا جمعتُه وقبضتُه؛ يعني: ينضم بعضُها إلى بعض من غاية الامتلاء، تصديقًا لقوله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
قوله "فلا يَظلِم الله مِن خلقِه أحدًا"؛ يعني: كلُّ واحدٍ من الناس مَجزيٌّ
بعمله، إنْ خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ، فحينَئذٍ لا ظلمَ على أحدٍ، قال الله عز وجل:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17].
فإن قيل: كيف يُتصوَّر الظلمُ في جناب عظمة مَن لا اعتراضَ في أمره ولا كيفَ في حُكمِه، وهو الفاعلُ المختارُ بما نطق به القرآن العظيم، يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]؟
قيل: دفعًا لوهمِ مَن يقيس الغائبَ على الشاهد.
قوله: "وأما الجنةُ فإن الله يُنشئ لها خلقًا"، (ينشئ)؛ أي: يُظهِر ويَخلُق؛ يعني: أن الله سبحانه وتعالى يَخلُق يومَ القيامة خلقًا؛ لتَمتلئَ الجنةُ بهم، بعدما دخل فيها الأنبياءُ والأولياء والمؤمنون؛ تصديقًا لقوله:"ولكلِّ واحدةٍ منكما ملؤُها".
* * *
4420 -
وعن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"لا تزالُ جَهَنَّمُ يُلقَى فيها وتَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قدَمَهُ، فيَنْزَوِي بَعْضُها إلى بَعْضٍ وتقولُ: قَطْ قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وكَرَمِكَ، ولا يزالُ في الجَنَّةِ فَضْلٌ حتَّى يُنْشِئَ الله لها خَلْقًا فيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ".
قوله: "فيُسكنهم فضلَ الجنة"؛ يعني بـ (فضل الجنة): اتساع المساكن عن ساكنيها، كما يسكن جماعةٌ قليلةٌ في بلدٍ كبيرةٍ فتخلو أكثرُ المَسَاكن.
وفي الحديث: سِرُّ أنَّه أيضًا خَلَقَ في النار هذا الاتساعَ، ولكن يأمرُها بالانزواء والانضمام، تغليظًا على المعذَّبين، والجنةُ موضعُ رحمةٍ؛ فالانضمامُ ينافي إطلاقَ ساكنيها فيها، فيدع الفضلَ بسعته وتمكينه مما يشاء، شيءٌ لا يهتدي العقلُ إليه، قال الله تعالى:{وَيَخلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
* * *