الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى كلّت خيول التتار، وخارت قواهم، وألقوا سلاحهم واستسلموا للقتل، فقتلتهم العساكر قتلا ذريعا بغير مدافعة عنهم عن أنفسهم، فكان أرذال العامّة والغلمان يقتلون منهم خلائق ويغنمون شيئا كثيرا، ويقتل الواحد من العساكر العشرين من التتر وأكثر. وخرج عربان البلاد إليهم وكادوهم بأن صار يأتي الجماعة من التتر اثنان أو ثلاثة من العرب في صورة من يدلّهم على الطريق فيدخل بهم البرّيّة ويسير معهم إلى الليل، ثمّ يتركهم ويمضي فيتحيّرون في البرّيّة طول الليل، فإذا أصبحوا ماتوا عطشا. وكان منهم جماعة قد اختفوا في غوطة دمشق فقتلوا عن آخرهم.
وتتبّع بغزّة من نهب الخزائن، وأخذوا بما نهبوه منها، بحيث لم يذهب منها إلّا القليل. وشمل السلطان الأمراء بالخلع والإنعام، ثمّ توجّه من دمشق في ثالث شوّال إلى جهة مصر.
ومرّ قطلوشاه على وجهه في قليل من أصحابه إلى غازان، فنزل به من الغمّ ما لا يوصف.
[احتفال القاهرة بالنصر]
وقدم السلطان إلى القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوّال، وقد تزيّنت زينة عظيمة جدّا نصب فيها سبعون قلعة من باب النصر إلى باب زويلة وإلى باب القلعة، بلغت النفقة عليها آلافا كثيرة.
وقدم أهل الأرياف لرؤية السلطان، وخرج أهل القاهرة ومصر عن آخرهم، فبلغ اكتراء البيت للفرجة من بين خمسين درهما إلى مائة درهم.
وعند ما وصل السلطان إلى باب النصر، ترجّل الأمراء كلّهم وسار على رأسه الجترة (1) بالقبّة والطير على شفاف الحرير، وهو يتأمّل القلاع التي
[93 ب] نصبها الأمراء وزيّنوها، وصار كلّ أمير يفرش الشقاق الحرير من قلعته إلى قلعة غيره.
وقدّمت أسرى التتر بين يدي السلطان، وفي أرجلهم القيود، ورءوس قتلاهم معلّقة في رقابهم، وعدّتهم ألف وستّمائة أسير، في أعناقهم ألف وستّمائة رأس. وحملت ألف رأس على ألف رمح، وجعلت طبولهم مخرّقة، وأعلامهم منكّسة، وسهامهم مكسّرة.
فلمّا وصل السلطان إلى المدرسة المنصوريّة صعدها وزار قبر أبيه، ثم توجّه على شقاق الحرير بفرسه إلى أن عبر قصره بقلعة الجبل. فكان يوما عظيما إلى الغاية.
فلمّا دخلت سنة ثلاث وسبعمائة، أكمل السلطان عمارة المدرسة الناصريّة بجوار المارستان المنصوريّ بين القصرين. وكان العادل كتبغا قد شرع في بنائها، فخلع ولم تكمل. فلمّا تمّ بناؤها قرّر بها [السلطان الناصر] أربعة دروس على المذاهب الأربعة، وجعل لها أوقافا جليلة فاستمرّت إلى يومنا.
وفيها توجّهت العساكر ونازلت [قلعة] تلّ حمدون حتّى فتحتها. ودخل بعض العسكر الدربند (2) ونهب وأسر.
وفي سنة خمس وسبعمائة (3) غزت العساكر جبل كسروان الروافض.
[القطيعة بين الناصر والأميرين بيبرس وسلّار]
فلمّا كان أوّل محرّم سنة سبع وسبعمائة (4) عيل
(1) الجتر والجترة: المظلة كالتي كانت للخلفاء الفاطميّين (السلوك 1/ 939 هامش 1).
(2)
الدربند على بحر طبرستان، وقد خصّها ياقوت بترجمة طويلة تحت اسم باب الأبواب. وهي الآن في داغستان.
وانظر دائرة المعارف الإسلاميّة 2/ 212.
(3)
أهمل المقريزيّ سنة 704، وقد خصّص لها صفحات في السلوك 2/ 3 - 14.
(4)
وكذلك فعل بسنة 706 (السلوك 2/ 22 - 33).
صبر السلطان من كثرة تحكّم بيبرس الجاشنكير وسلّار النائب عليه، ومنعهما له من التصرّف، وضيق ذات يده. فشكا ذلك لخاصّته، وأكثر من التوجّع. فوعدوه بالقيام معه وأخذ الأميرين وأحبّوا الاستظهار على ذلك بأحد من الأمراء.
فوقع الاختيار على الأمير بكتمر الجوكندار أمير جاندار لما كان يظهر من موادّته للسلطان في السرّ. فاستدعاه السلطان وعرّفه ما وقع عليه الاتّفاق، فوافق عليه، وقرّر أنّه إذا غلق باب القلعة وباب القلّة وحضرت المفاتيح عند السلطان على العادة ألبس مماليكه وأركبهم الخيول منالاسطبل فيمضو [ن] إلى إسطبلات بيبرس وسلّار وأتباعهما ويأخذون خيولهم منها، وتضرب الكوسات السلطانيّة ليجتمع الناس لطاعة السلطان. ثم إنّه يأتيهم وقت أذان الفجر حتى يتوجّه هو والمماليك السلطانيّة، ويهجموا على بيبرس وسلّار في دورهما بالقلعة ويأخذوهما.
فنقل ذلك إلى بيبرس وسلّار من أعين كانت لهما دائما تنقل إليهما ما يكون في مجلس السلطان.
فكتما ذلك وأخذا في الاحتراس، وبيّتا مع الأمير بلبان الدمشقيّ والي القلعة- وكان من أخصّاء بيبرس، ومن جملة البرجيّة- أن لا يغلق أبواب القلعة في تلك الليلة ويوهم أنّه غلّقها ويطرّف أقفالها ويدخل بالمفاتيح على ذلك. ففعل ذلك، وظنّ [94 أ] المماليك السلطانيّة أنّهم قد حصلوا على ما أرادوه. فتهيّئوا وانتظروا بكتمر الجوكندار أن يأتيهم، فلم يحضر، حتى فتح باب القلّة بعد الفجر، فبعثوا إليه، فإذا به جالس مع بيبرس وسلّار، وقد تحالفوا أن يكونوا يدا واحدة. وفتح باب القلعة وحضر الأمراء بأجمعهم إلى الخدمة على العادة. فاشتدّ وهم السلطان وظنّ أنّ الجوكندار غدر به وانتظر وقوع المكروه به من الأمراء.
وما كان الجوكندار بالذي غدر، إلّا أنّه لمّا بلغ بيبرس وسلّار ما وقع الاتّفاق عليه اجتمعا بدار النيابة من القلعة، وعزم بيبرس على أن يبعث إلى الجوكندار من يهجم عليه بيته ويأخذه منه بالقوّة.
فمنعه سلّار من ذلك- وكان كثير السياسة حسن التدبير- وبعث من يستدعيه برفق لضرورة حديث. وقال بيبرس: إن امتنع، فأخرجوه كرها.
فلمّا قدم الرسول إليه ظنّ السوء وهمّ بالامتناع، ثمّ توجّه إليهما. فعنّفاه تعنيفا كثيرا على ما قرّره مع السلطان، فأنكر ذلك وحلف أنّه باق على ما يعهد [ان] هـ من قيامه معهما. فجدّدا عليه اليمين بالوفاء لهما وحادثاه حتى أصبح. وحضر الأمراء هذا، وقد وقف أتباع بيبرس وسلّار على خيولهما بباب الإسطبل يترقّبون من يخرج منه ليوقعوا به. فمنع بيبرس وسلّار الأمراء من الدخول لخدمة السلطان على العادة، وأغروهم بالسلطان ومماليكه، فطار الخبر بالقاهرة أنّ الأمراء عزموا على قتل السلطان أو إخراجه إلى الكرك. فغلّقت الأسواق واجتمعت العامّة تحت القلعة. وركب الأجناد والأمراء وأقاموا نهارهم على ذلك.
فلمّا أقبل الليل خشي الأمراء من نزول السلطان من باب سرّ القلعة فأكّدوا على أمير آخور بالاحتراس على الخيل وأوقفوا جماعة بالسلاح على باب الإسطبل. فلمّا انتصف الليل سمعت حركة بالإسطبل: وهي أنّ المماليك السلطانيّة قصدوا النزول ليركبوا من الإسطبل ويقاتلوا على الباب. فمنعهم السلطان من ذلك. فضرب سمك طبله وحطّم إلى الإسطبل ورمى بالنشّاب فوقع سهم في الرفرف (1) السلطانيّ، فأخذها السلطان
(1) حطّم هنا بمعنى: أجرى فرسه بسرعة (دوزي). والرفرف- حسب تعليق محمد مصطفى زيادة (السلوك 2/ 35 -
عنده. واستمرّ الحال على هذا إلى العصر من الغد، فبعث السلطان إلى الأمراء يسألهم عن سبب ركوبهم للحرب على باب الإسطبل ويقول: إن كان لكم غرض في الملك، فما لي إليه تطلّع، خذوه [94 ب] وأعطوني أيّ موضع شئتم أسير إليه!
فدخل إليه بيبرس الدوادار، وأيبك الخزندار، وبرلغي الأشرفيّ، فعتبهم طويلا على ما هو فيه، وعلى ما تجدّد من حركة الركوب، فاعتذروا إليه وقالوا: الأمراء قد تشوّشوا ممّن يحرّض عليهم عند السلطان. فأنكر أن يكون [أحد من مماليكه] نقل له عنهم شيئا، أو عنده علم بما أوجب الحركة. فعادوا إلى الأمراء بجوابه، وإذا بصيحة عظيمة، والعامّة قد ثارت يدا واحدة تحت القلعة، وحملوا بأجمعهم على الواقفين عند باب الإسطبل يريدون رجمهم، وهم يصرخون: يا ناصر يا منصور!
فبعث إليهم بيبرس وسلّار بالأمير بتخاص المنصوريّ في طائفة كبيرة ليبطش بهم، فعند ما أقبل عليهم تزايد صراخهم: يا ناصر يا منصور، الله يخون من يخون ابن قلاوون! - وحملوا عليه ورجموه بالحجارة. فجرّد هو ومن معه سيوفهم وحطّموا عليهم، يريدون إتلافهم. فتلاحق به الأمراء الذين على باب الإسطبل ومنعوه من ذلك، وألانوا الكلام مع العامّة وطيّبوا قلوبهم من جهة السلطان، وما زالوا بهم حتى رجعوا وعاد بتخاص إلى القلعة. وتردّدت الرسل بين السلطان والأمراء إلى أن تقرّر إخراج من عنده من الخاصّكيّة إليهم بعد جهد وامتناع من السلطان، وإفحاشهم عليه بأنّه إن لم يخرجهم وإلّا خرج إلى الكرك.
فسلّمهم إلى برلغي ليقيموا عنده عشرة
أيّام ويعيدهم إليه، بعد ما حلف له على ذلك.
فمضى بهم برلغي إلى بيبرس وسلّار: وهم بيبغا التركماني، وأيدمر المرقبيّ، وخاصّ ترك. فلمّا رآهم بيبرس أغلظ عليهم وهدّدهم بالقتل والحبس والعقوبة، وأمر بهم ليقيّدوا فقام برلغي وآقوش قتّال السبع ويعقوبا الشهرزوريّ ونحوهم من أكابر الأمراء قياما تامّا حتى أخرجوهم إلى القدس بغير قيود، ورتّب لهم ما يقوم بهم، فساروا على البريد.
ودخل بيبرس وسلّار وسائر الأمراء إلى السلطان فقبّلوا له الأرض ثم قبّلوا يده، وتعاتبوا عتابا لطيفا. وخلع على بيبرس وسلّار، واتّفقوا على ركوب السلطان إلى الجبل الأحمر وقبّة النصر خارج القاهرة لتطمين قلوب الرعيّة، وخرجوا.
فبات السلطان بشرّ ليلة، من كثرة قلقه لأسفه على مفارقة مماليكه، وقهره. ولم يتمالك نفسه إلى أن أصبح فركب بجميع العسكر إلى قبّة النصر. فرأى بكتمر الجوكندار وهو إلى جانب بيبرس الجاشنكير يحادثه، فشقّ عليه ذلك.
واستدعى بيبرس وسلّار [95 أ] وبرلغي، وقال: يا أمراء، قد زال ما في نفسي منكم، غير أنّه ما كان سبب هذه الفتنة غير هذا- وأشار إلى بكتمر الجوكندار. فأخذوا في استعطاف خاطره عليه فعجزوا فيه، وحلف بالله: لا جلس على كرسيّ السلطنة أبدا ما دام بكتمر بمصر- وصمّم. فاتّفقوا على إخراجه إلى قلعة الصبيبة منفيّا. فعند ما عاد السلطان إلى قلعة الجبل، أخرج على البريد، وذلك في نصف المحرّم، وأقيم بدله أمير جندار بكتوت الفتّاح.
فبعث الأمير آقوش الأفرم نائب الشام ينكر على بيبرس وسلّار إخراج خاصّكيّة السلطان من عنده ويهدّدهما أنّه يحضر بنفسه حتى يعيدهم إلى
- هـ 4): هو مكان بالطرف الجنوبيّ من القلعة. أمّا سمك فيسمّيه المقريزيّ في السلوك: سيف سمك أخو سلّار.
السلطان. فلم يجدا بدّا من إحضارهم والإنعام عليهم.
وكانت البرجيّة أتباع بيبرس الجاشنكير قد قامت قياما كبيرا في إخراج السلطان إلى الكرك، وسلطنة بيبرس. فما زال سلّار يتلطّف بهم حتّى كفّوا عن ذلك.
فأقام منحصرا إلى أن دخلت سنة ثمان وسبعمائة، [ف] عدّى السلطان النيل إلى برّ الجيزة، وأقام يتصيّد عشرين يوما. وعاد إلى قلعة الجبل وقد اشتدّ خناقه وقوي تحكّم بيبرس وسلّار عليه، ومنعاه التصرّف في شهوات نفسه من المأكل والمشرب لقلّة ما رتّب له. فلمّا عيل صبره، أخذ يدبّر في الخلاص، وأظهر أنّه يريد الحجّ لقضاء الفرض، ومعه حريمه. وحدّث بيبرس وسلّار في ذلك، فسألاه المهلة بالجواب حتى يستخيرا الله. وخرجا من عنده فجمعا خواصّهما وأعلماهم الخبر. فأعجب البرجيّة هذا ليتمكّنوا بخروجه من إقامة بيبرس في السلطنة، وحسّنوا له تمكينه من السفر، وهوّنوا عنده أمره وأنّه ماذا عساه يخرج من يده؟ - ونحو ذلك، إلى أن مال إلى قولهم، وأذن للسلطان في الحجّ، وشرع هو وسلّار في تجهيز ما يحتاج إليه. وكتب لآقوس نائب الشام ولغيره بتجهيز الإقامات.
وتمادى الأمر إلى العشرين من شهر رمضان منها.
فقدّم الأمراء تقادمهم من الخيل والجمال بحسب مقدار كلّ منهم، فقبل تقادمهم، وركب في خامس عشرينه من قلعة الجبل، ومعه الأمراء وسائر العسكر، يريد السفر. وخرج الناس من كلّ جهة، وتباكوا حوله أسفا على فراقه، إلى أن نزل بركة الحاجّ. فودّعه الأمراء وعادوا. ورحل من ليلته ومعه من الأمراء [95 ب] أيدمر الخطيري الأستادار، وآل ملك الجوكندار، وقرا لاجين أمير مجلس، وبلبان أمير جندار، وأيبك الروميّ أمير سلاح، وبيبرس الأحمديّ، وسنجر الجمقدار، ويقطاي الساقي، وسنقر السعديّ نقيب المماليك، وخمسة وسبعون مملوكا.
وعرّج من طريق الحجاز إلى جهة الصالحيّة بدرب الشام وعيّد بها. ورحل إلى الكرك فقدمها يوم الأحد عاشر شوّال، فاستقبله الأمير جمال الدين آقوش الأشرفيّ، المعروف بنائب الكرك، وقام من خدمته بما يجب. فعبر السلطان القلعة من باب السرّ على فرسه، وقد مدّ له الخشب (1)، وكان له مدّة ما مدّ. فلمّا تقدّمت الدوابّ بالأثقال وعبرت الفرسان، فعند ما تعدّت يدا فرس السلطان الجسر انكسر، فسقطت رجلا الفرس، ولم يبق إلّا أن يسقط في الخندق. فجذب عنان الفرس حتى سار به خارج الجسر وهو سالم. وسقط بعض الأمراء والمماليك من ورائه. واستقرّ السلطان بقلعة الكرك سالما. فتباشر الناس بقدومه وسلامته بعد ما أشفى على الهلاك.
فلمّا اطمأنّ استدعى الأميرين أيدمر الخطيري وآل الملك، وعرّفهما أنّه قد بطل عزمه على الحجّ واختار الإقامة بالكرك ليخلو أسره ويستريح، وأنّه نزل عن السلطنة. فبكيا وقاما ووقعا يقبّلان الأرض ويسألانه الرجوع عن هذا، وكشفا رءوسهما يتضرّعان إليه، فلم يصغ إلى قولهما، واستدعى علاء الدين [علي] بن أحمد ابن الأثير الموقّع- وكان قد سافر معه- وأمره أن يكتب إلى الأمراء بالسلام عليهم، وأنّه عرض له ما منعه من الحجّ فأقام بالكرك، وليس له رغبة في ملك مصر، فليقيموا فيه من يختارونه، فإنّي نزلت عنه من غير إكراه ولا إجبار- وسأل أن يتصدّق عليه بالكرك والشوبك. فكتب الكتاب، وخلع السلطان
(1) السلوك 2/ 44: ومدّ له الجسر، وقد ساس خشبه.
على الأميرين وأمرهما بالانصراف. ودفع إليهما الكتاب وسلّمهما الهجن، وهي نحو الخمسمائة راحلة، سوى الجمال، فسارا ومعهما الأمراء إلى جهة مصر.
ثمّ استدعى نائب الكرك، وعرّفه ما كان فيه من الذلّة وقلّة الحرمة وضيق اليد. فتوجّع له وأطلعه على ما في قلعة الكرك من المال، وهو مبلغ سبعة وعشرين ألف دينار مصريّة، وألف ألف درهم وسبعمائة درهم فضّة، فتسلّمها منه. وأصبح فدعا سائر أهل الكرك وحلّفهم على الطاعة له [96 أ] فحلفوا له. وأمرهم فنزلوا مع نائب الكرك بأجمعهم ليحمل كلّ منهم حجرا يصعد به إلى القلعة، فلم يبق صغير ولا كبير حتى خرج من المدينة ونزل إلى الوادي، وشرعوا في ضمّ الحجارة، وإذا هم برسول السلطان قد ورد على النائب بالسلام عليه، وأنّ السلطان يستحي منه أن يقف في خدمته، لكبر سنّه وما له من حقّ تربيته، وأنّه يخشى أن يتّهمك الأمراء بمصر بموافقتي فتصير عدوّا لهم. فابعث أحدا من جهتك يأخذ جميع ما لك من حريم ومال، وسر إلى مصر مكرّما، فإن كان لنا عمر كافأناك. وأمّا أهل الكرك فلا سبيل إلى مجاورتهم لي ولا إقامتهم معي في الكرك: فإنّي أعلم ما اتّفق لهم أيّام الملك السعيد بركة ابن الظاهر، وكيف صاروا عليه وباعوه بالمال مع طرنطاي. وقد أمرت بنزول حريمهم وأولادهم إليهم.
فلم يجد النائب بدّا من أخذ ماله. وقدّم غلاله للسلطان، وكانت كثيرة جدّا، فقبلها. وسار، فأخرج السلطان إلى أهل البلد حريمهم وأولادهم فتفرّقوا في الضياع. واستدعى عرب الشّوبك ليكونوا في خدمته بمواضع الصيد.
وكان حريمه قد خرج من القاهرة في سابع عشر شوّال، فبعث إلى عقبة أيلة فأحضرهم إليه، ومعهم الأمير جمال الدين خضر بن نوكاي، فسرّ بقدومهم سرورا كبيرا.
ورتّب بقلعة الكرك الأمير سيف الدين أيتمش المحمّدي، ومعه أخوه الحاج أقطاي، وأرغون الدوادار. فأقاموا بها. ونادى فيمن معه من المماليك وأرباب الوظائف والعلماء، يخيّرهم بين الإقامة معه والسفر إلى مصر، وأنّه لا يقيم معه إلا من قطع علاقته من مصر. فسافر جماعة وأقام عنده جماعة.
وقدم الأمراء إلى قلعة الجبل في ثاني عشرين شوّال، وأقيم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير سلطانا ولقّب بالملك المظفّر، في يوم السبت ثالث عشرينه [سنة 708].
فكانت مدّة سلطنة الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما.
وكتب له المظفّر بيبرس تقليدا بنيابة الكرك والشوبك، وأقطعه إمرة مائة فارس، وجهّزه إليه.
فأظهر البشر والفرح. وبعث إلى متولّي القلعة أن يعرّف الحرّاس بالدعاء في الصباح باسم السلطان الملك المظفّر ركن الدين بيبرس المنصوريّ. وأمر الخطيب فدعا باسمه في الخطبة يوم الجمعة. وخلع على البريديّ الذي أحضر التقليد وأنعم عليه وأعاده.
واستمرّ مقيما بالكرك، وأكثر من الركوب للصيد. فخشي المظفّر بيبرس منه، وأراد إضعاف جانبه [96 ب] فكتب إليه يعلمه بأنّ خربندا ملك التتار قد تحرّك، وأنّ نائب حلب طلب تجريد العسكر إليه، وأنت تعلم أنّ الأجناد ضعفاء الحال، ويحتاجو [ن] إلى نفقات كثيرة. وأنت، فقد صحبت معك ما لا له صورة (1) ثمّ أخذت حاصل الكرك الذي هو مرصد لمصالح المسلمين.
(1) هكذا، ولعلّ المعنى: ما لا يوصف.
وقد أخذت صحبتك أيضا جملة مماليك، وليس لك بهم حاجة، ولا بشيء من المال المذكور.
فترسل جميع ما تسلّمته من المال الذي بالكرك وجميع المماليك، وتخلّي منهم عشرة مماليك برسم الخدمة. وترسل أيضا الخيول التي أخذتها معك. ومتى لم ترسل ذلك، جرّدنا إليك عسكرا بعد عسكر، إلى أن نخرّب الكرك- وبعث الكتاب مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيتغلي.
فلمّا قرأ الكتاب جمع من عنده واستشارهم فيما يفعل إلى أن اقتضى رأيه إخماد الشرّ. وكتب إلى بيبرس: إنّي ما قصدت أن أقيم بهذا المكان إلّا أن أعيش باقي عمري في أيّامك. وأنت الذي ربّيتني، وما أعرف أبا لي غيرك. والذي أنا فيه، فمنك وعلى يديك. والقدر الذي أخذته وتناولته من الكرك، فأنت تعلم أنّه لا بدّ [منه] على كلفة ونفقة. وقد امتثلت المرسوم [الشريف] وأرسلت نصف المبلغ الذي تأخّر عندي امتثالا لأمرك. وأمّا الخيل فبعضها مات، وما بقي لي شيء أركبه إلّا قليلا منها. وأمّا المماليك فما عندي إلّا من اختار أن يقيم معي، وهو منقطع العلائق من الأهل والولد. فكيف يحلّ أن أخرجهم. وما بقي لي إلّا إحسان مولانا السلطان.
وكتب أوّل الكتاب: المملوك محمد بن قلاوون يقبّل الأرض، وتحت [هـ]: السيّد الملكيّ المظفّري. ودفعه إلى أيتغلي وأعطاه مبلغ مائتي ألف درهم.
فقنع المظفّر بها وسكت قليلا. ثم أعاده إليه ليحضر الخيل بأسمائها والمماليك بأسمائها، وجنف (1) في القول عليه وأغلظ في مخاطبته وحمّل الرسول مشافهة قبيحة. فلمّا بلّغها لم يطق الناصر الصبر، واشتدّ غضبه وقال: أنا تركت ملك
مصر والشام لبيبرس، وما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي أو مملوك لي، حتى أرسل يطلبه ويكرّر الطلب! ارجع إليه وقل له عنّي: والله لئن لم تتركني في هذه القلعة وإلّا سرت إلى بلاد التتار، وأعلمتهم بحالي.
فلم يلاطفه أيتغلي بل جافاه في القول حتى أغضبه، وأمر بقتله وأن يطرح من أعلى القلعة إلى الخندق. فتناولته أيدي المماليك وأقاموه وسبّوه ولعنوه، ولم يبق إلّا أن يلقى من شارف القلعة.
فشفع فيه خواصّ السلطان، فعفا [97 أ] عنه وحبسه. وأخذ في إجالة الرأي مع خواصّه إلى أن عزم على مكاتبة النوّاب والأمراء.
وكان عند قدومه الكرك قد أخذ رجل بها طالع وقت دخوله، فاقتضى من حيث معرفة الفلك أنّه سيعود للملك. وجهر بذلك حتى بلغ السلطان.
فبعث إليه وصار يجتمع به كثيرا ويفاوضه في هذا ونحوه. وحضر إليه رجل يضرب بالرمل، وأخبره أنّه لا يقيم بالكرك إلّا دون السنة، ويعود إلى مصر سلطانا، ويكون على يده عجائب، ويقتل أناسا كثيرة. وأحضر إليه رجل ملحمة تتضمّن أسماء من يملك من الأتراك، وأنّه آخر من يملك من أولاد قلاوون، وفيه صفته وجميع ما وقع له. وأنّه يعود إلى الملك ويظفر بأعدائه، وتطول مدّته.
فتعلّقت نفسه بالعود إلى الملك، إلى أن أغضبه أيتغلي فتحرّك منه ما كان ساكنا. وكتب إلى نائب حلب، ونائب حماة، ونائب طرابلس، ونائب صفد، وإلى أمراء مصر، يعرّفهم ما كان فيه من ضيق اليد وقلّة الحرمة، وأنّه لأجل ذلك ترك ملك مصر، وقنع بالكرك ليستريح، وأنّ السلطان الملك المظفّر في كلّ وقت يرسل يطالبني بالمال، ثمّ بالخيل، ثمّ بالمماليك. وما منكم إلّا من هو مملوك أبي، وربّاني. فإمّا أن تردّوه عنّي، وإمّا أن أخرج إلى بلاد التتار فأقيم بينهم حتى أموت.
(1) جنف بوزن ضرب: حاد عن الصواب.
فأجابه الأمير قبجق نائب حماة بأنّي مع الأمير قراسنقر نائب حلب، موافق له في كلّ ما يرى.
وبعث قراسنقر نائب حلب جوابه يقول فيه بأنّي مملوك مولانا السلطان ويمتثل جميع ما يرسم به.
وسأل أن يبعث إليه من المماليك من يوثق به.
وأمّا الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، فلم يمكّن القاصد من الاجتماع به وطرده عنه. فبعث الملك الناصر مملوكه أيتمش المحمّديّ بملطّفين إلى الأمير قطلبوك المنصوريّ، وإلى الأمير بكتمر الحساميّ الحاجب بدمشق. فنزل عند بعض مماليك قطلوبك مختفيا، وأعلمه بما جاء فيه.
فلمّا بلغ ذلك قطلوبك نفر منه وعزم على أخذه وإحضاره إلى الأمير آقوش الأفرم نائب الشام.
فنجا أيتمش بنفسه، وأتى ليلا بهادر آص وأعلمه بخبره وما عزم عليه قطلوبك من قبضه، فأمّنه وأمره أن يبيت عنده ويحضر من الغد إلى موكبالنائب ويتكلّم بما يختار من غير خوف. وتكفّل بمساعدته، فبات عنده في أعزّ كرامة. وأركبه معه إلى الموكب فرسا من خيله. وكان قطلوبك [97 ب] قد بادر وأعلم النائب بمجيء قاصد الملك الناصر إليه، وأنّه هرب لخوفه منه. فقلق النائب من ذلك قلقا زائدا وألزم متولّي مدينة دمشق بإحضار قاصد الملك الناصر، وإلّا كانت روحه عوضه. فقال بهادر آص: ما يحتاج إلى هذا: قد أتاني المذكور في الليل وعرّفني أنّ معه مشافهة لا يقولها إلّا لمولانا ملك الأمراء بحضرته، وهذا هو- وأشار لأيتمش. فقام على قدميه وقال: السلطان الملك الناصر يسلّم عليكم.
فلم يردّ أحد من الأمراء السلام، إلّا نائب الشام وحده.
ثمّ قال: يقول لكم الملك الناصر: ما منكم أحد إلّا وأكل من خبز الشهيد والده، ومن خبزه.
وما منكم إلّا من [كثر] إنعامه عليه. وأنتم تربية الشهيد والده مثلما ربّاه، وإنّي قاصد الدخول إلى دمشق و [أن] أقيم فيها، فإن كان فيكم من يقاتلني ويمنعني فعرّفوني.
فلم يتمّ كلامه حتى بكى الكوكندي الزرّاق أحد الأمراء، وصاح: وا ابن أستاذاه! وا ابن أستاذاه! يا مسكين! - فبكى الأمراء بأجمعهم لبكائه، فغضب النائب، وأخرج الزرّاق وقال لأيتمش: قل له- يعني الملك الناصر-: كيف تجيء إلى الشام أو إلى غيرها، تحسب أنّ الشام الآن تحت ملكك؟
أنا لمّا أرسل الملك المظفّر إليّ لأحلف له أخّرت الحلف حتى بعثت إليه أقول له: يا خوند، لا تخلّ ملكك! - فأرسل يقول: أنا ما بقيت لي رغبة في السلطنة، وكتب خطّه، وأشهد عليه بنزوله عن الملك، [ف] حلفت بعد هذا للمظفّر، ثمّ يبعث الآن يقول: من يردّني عن الشام؟
وأمر به، فأخذ ووكّل به، وانفضّ المجلس، فلمّا كان الليل استدعاه وأعطاه خمسين دينارا، وقال له: قل للسلطان: لا يرجع يذكر الخروج من الكرك. وأنا أبعث إلى الملك المظفّر بسبب ما طلبه منه (1) وأرجعه عنه- وترك أيتمش فعاد إلى الكرك.
وبلغ أهل مصر حركة الملك الناصر، فسار إليه الأمير نوغاي القبجاقيّ، والأمير مغلطاي القازاني في ستّين مملوكا. فسرّ بهم سرورا كثيرا. ثمّ قدم عليه من المنصورية والأشرفيّة والأويراتيّة مائة وعشرون مملوكا بخيولهم وأسلحتهم. فقوي بأسه بهم. وبعث أيتمش المحمّدي إلى قبجق نائب حماة والي قراسنقر نائب حلب يدعوهما إلى القيام معه. فكتب إليه قراسنقر بالسمع والطاعة، وأن
(1) أي استعادة المال والمماليك والخيل.
تكون حركته إلى دمشق أوّل شعبان. وكتب إليه أيضا قبجق نائب حماة وأسندمر نائب طرابلس.
فسيّره إلى الأمير [98 أ] بكتمر الجوكندار نائب صفد، وإلى الأمير كراي المنصوري بالقدس يدعوهما، فأجابا إلى الطاعة.
وخرج السلطان من الكرك كأنّه يتصيّد، فلمّا بلغ خروجه نائب الشام بعث إليه آي دغدي شقير وجوبان ليردّاه. فقدما عليه وحلفا له على الطاعة وعادا إلى دمشق وقد بقيا عينا له، [وأعلما] النائب أنّ الناصر يتصيّد على زيزاء. فجرّد الأفرم نائب الشام من الأمراء قطلوبك الكبير، والحاج بهادر الحلبيّ الحاجب، وبهادر آص وبكتمر الحساميّ الحاجب، وجوبان، وكجكن، وعلم الدين سنجر الجاوليّ، ليحفظوا طرقات الشام على من يخرج إلى الملك الناصر، إلى أن يحضر عسكر مصر، ليتوجّهوا جميعا إلى الكرك، ويحاصروا الناصر حتى يأخذوه برغمه. وكتب يستحثّ الملك المظفّر على مجيء عسكر مصر، وأنّه قد أخرج عسكر دمشق وجدّد الحلف عليهم وعلى سائر الأمراء، ألّا يخونوا السلطان ولا يروحوا إلى الملك الناصر.
فجرّد الملك المظفّر من مصر الأمير آقوش الروميّ ليقيم بناحية السويس، حفظا لها ممّن يتسحّب إلى الكرك. فقتله مماليكه وأخذوا جميع ما معه ولحقوا بالملك الناصر. فأكرمهم وأجرى عليهم الرواتب.
وفرّ أيضا ممّن جرّده المظفّر مع الأمير برلغي الأشرفيّ إلى العبّاسة عدّة من أمراء الطبلخاناه والمماليك الأويراتيّة، وقدموا على الناصر.
وتلاهم غيرهم حتى لم يبق مع برلغي إلّا خواصّ المظفّر.
فسار الملك الناصر من الكرك أوّل شعبان يريد دمشق، فكتب إليه قطلوبك وبهادر وبكتمر الحساميّ ورفقتهم بالدخول في طاعته وأشاروا بالمهلة في السير ليعرفوا ما عند بقيّة الأمراء.
وبعثوا بمسير الناصر إلى الأفرم نائب الشام، وقصدوا بذلك الإشاعة بين الناس، وقالوا في كتبهم: إنّا لا نقاتل، فلتخرج أنت ببقيّة العسكر لقتاله، فما هو إلّا أن أشيع ذلك بدمشق، فثار الناس يدا واحدة وصاحوا بأجمعهم: نصر الله الملك الناصر!
فنادى الأفرم في الناس: طيّبوا خواطركم! فما لكم من سلطان إلّا الملك المظفّر.
فصاح الناس كلّهم صوتا واحدا: لا! لا! ما لنا سلطان إلّا الملك الناصر!
وشرع الأجناد يخرجون بأسلحتهم طوائف طوائف كما جرى في مصر. وعزم الأميران بيبرس العلائي، وبيبرس المجنون على أخذ الأفرم. ففرّ ليلا إلى جهة الشقيف، فلمّا بلغ فراره الأمير قطلوبك، ركب هو وبهادر الخلفي إلى الملك الناصر [98 ب] وبشّراه بذلك، فسرّ سرورا زائدا وخلع عليهما، وأنعم على كلّ منهما بعشرة آلاف درهم.
ثمّ حضر إليه علم الدين سنجر الجاوليّ، وجوبان، فتلقّاهما وأكرمهما، وسار إلى الكسوة (1). فخرج إليه بقيّة من بدمشق من الأمراء والأعيان والعسكر. وأخرج له الأمراء جميع شعار السلطنة من السناجق الخليفيّة والسلطانيّة والعصائب والجتر والغاشية. فحلف العساكر بأجمعهم.
وركب في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان يريد مدينة دمشق، وقد زيّنت بأعظم زينة وخرج سائر
(1) الكسوة على طريق مصر من دمشق (ياقوت).
أهلها إلى لقائه، حتى صغار المكاتب، وامتلأت الطرقات والبيوت بالناس بحيث بلغ كراء البيت للفرجة من مائة درهم إلى خمسمائة درهم فضّة ما بين ميدان الحصا إلى القلعة والقصر الأبلق بالميدان.
وبسطت له شقاق الحرير الملوّنة، وسار والأمراء مشاة بأجمعهم، وحمل الأمير قطلوبك الكبير الغاشية، وحمل الأمير بهادر الحلبي الجتر (1)، إلى أن نزل [السلطان] بالقصر الأبلق. وعند نزوله بالقصر قدم مملوك الأمير قراسنقر نائب حلب يخبر بأنّه ركب من حلب، وركب قبجق من حماة، إلى لقاء السلطان.
فخلع عليه وأعاده ليحضر مخدومه سريعا.
واستشار الأمراء في أمر الأفرم نائب الشام، فأشاروا بأن يؤمّن. فبعث إليه الجاولي، فلم يحضر حتى حلف له السلطان، وبعث الحاج أرقطاي الجمدار باليمين فحضر معه، وخرج السلطان إلى لقائه وترجّل له وخلع عليه وأقرّه في نيابة الشام على حاله.
فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشرينه خطب باسم الملك الناصر بدمشق، وفيه حضر الأمراء قراسنقر نائب حلب، وقبجق نائب حماة، وأسندمر نائب طرابلس، وتمر الساقي نائب حمص. فركب السلطان والتقاهم، وترجّل لقراسنقر وعانقه، وأثنى على الأمراء. ثمّ حضر الأمير كراي من القدس، والأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، فلم يبق أحد من الأمراء إلّا وقدّم للسلطان التقادم النفيسة على قدر حاله. فأنفق السلطان في سائر الأمراء والعساكر. وقدّم الأمير كراي بطائفة إلى غزّة، وخرج بمن بقي في يوم الثلاثاء تاسع رمضان يريد مصر، وسلك على طريق القدس. فزار (2)، وقدم غزّة فأقام بها حتى تكامل الجيش.
وكان المظفّر بيبرس قد انحلّ أمره وفرّ من القلعة في سادس عشر رمضان. فأصبح الحرّاس يوم الأربعاء سابع عشره وضجّوا في [99 أ] قلعة الجبل باسم الناصر. وخطب باسمه على منابر مصر والقاهرة وقلعة الجبل في يوم الجمعة تاسع عشره. وبعث إليه سلّار نائب السلطنة بالنمجاة (3) وأعلمه بهروب بيبرس. وخرج من القاهرة بيبرس الدوادار وبهادر آص يريدان الملك الناصر وقدما عليه غزّة. وقدم أيضا الأمير ساطي السلاح دار في جماعة من الأمراء. وقدم برلغي وآقوش نائب الكرك بمن معهما. وقدم الأمير مهنّا أمير العرب في عربان كثيرة. وقدمت التركمان، حتى صار في عساكر يضيق بها الفضاء.
فرحل عن غزّة، فإذا بقاصد سلّار ومعه النمجاة. فسرّ سرورا عظيما بفتح مصر من غير قتال. وسار إلى أن نزل بركة الحاجّ ظاهر القاهرة يوم الأربعاء أوّل شوّال يوم العيد. فخرج سلّار ومن معه إلى لقائه، ولم يكد يتأخّر بالقاهرة كبير أحد حتى خرج إليه فرحا بقدومه ومحبّة فيه.
وعزم على الإقامة يومه وأن يقصد إلى القلعة في غده. فجاء النذير بأن آقوش الأفرم نائب الشام وبرلغي قد وافقا البرجيّة على الفتك به. فركب وحوله ثقاته بالسلاح عليهم وفي أيديهم، يمنعون الأمراء أن يدنوا منه حتى دخل القلعة. فكان يوما مشهودا، وتفرّق الأمراء في منازلهم وبات جماعة من ثقات السلطان على خيولهم حول القلعة يحرسونها، وعليهم السلاح، إلى أن أصبح يوم الخميس ثاني شوّال وجلس على سريرالسلطنة.
وحضر الخليفة، وسائر الأمراء، والقضاة، والعلماء، للهناء. فاستفتح [محمد بن عليّ] بن
(1) الغاشية: بساط فاخر والجتر مظلّة كبيرة، وهما من شعارات السلطنة.
(2)
أو: فخار.
(3)
النمجاة: سيف مقوّس (دوزي). وانظر السلوك 1/ 857 هامش 1.
موسى الراعي وقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ] الآية [آل عمران: 26] ودعا، فلمّا تقدّم الخليفة أبو الربيع ليسلّم على السلطان قال له: كيف تسلّم على خارجيّ؟ هل كنت أنا خارجيّا، وبيبرس من بني العبّاس؟
فتغيّر لونه وسكت، ثمّ التفت إلى علاء الدين عليّ بن عبد الظاهر الموقّع، وكان قد كتب عهد السلطنة لبيبرس عن الخليفة، وقال: يا أسود الوجه!
فقال له على الفور: يا خوند، أبلق خير من أسود!
فقال له السلطان: ويلك! حتى [الآن] لا تترك رنكه أيضا؟ - ومعنى هذا أنّ ابن عبد الظاهر كان من الزام الأمير سلّار، ورنك سلّار أبلق (1).
ثمّ التفت السلطان إلى قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة وقال له: يا قاضي، كنت تفتي المسلمين بقتالي؟
فتبرّأ من ذلك، ثمّ حضر صدر الدين محمّد بن [عمر] ابن المرحّل فقال له: كيف تقول [99 ب][البسيط]:
ما للصبيّ وما للملك يكفله
…
شأن الصبيّ لغير الملك مألوف
فحلف أنّه لم يقل هذا، وإنّما دسّه الأعداء في شعره ليسعوا في تلافه، ثمّ قال: والعفو من شيم الملوك- فعفا عنه. واستأذن عليه الشيخ شمس الدين محمد بن عدلان فلم يأذن له، وقال للدوادار: قل له: أنت أفتيت بأنّه خارجيّ وأنّ قتاله جائز، [ف] ما لك عنده دخول. ولكن أنت وابن المرحّل يكفيكما ما قاله الشّارمساحيّ فيكما
من شعره- يعني قول الشهاب أحمد بن عبد الدائم الشّارمساحيّ من أبيات في بيبرس [البسيط]:
ومن يقوم ابن عدلان بنصرته
…
وابن المرحّل، قل لي: كيف ينتصر! ؟
وأنعم على الأمير سلّار بالشوبك، وولّى الأمير قراسنقر نائب حلب نيابة دمشق عوضا عن آقوش الأفرم، والأمير قبجق نائب حماة نيابة حلب، والأمير الحاج بهادر الحلبيّ نيابة طرابلس عوضا عن أسندمر كرجيّ، والأمير قطلوبك الكبير نيابة صفد عوضا عن بكتمر الجوكندار. وولّى أسندمر كرجي نيابة حماة. وولّى سنقر الكمالي على عادته حاجب الحجّاب بديار مصر، والأمير قرا لاجين أمير مجلس على عادته، والصاحب فخر الدين عمر ابن الخليليّ الوزارة عوضا عن ضياء الدين عبد الله بن أحمد النشائيّ، والأمير بيبرس دوادار على عادته، وأضاف إليه نيابة دار العدل ونظر الأحباس. ورسم بسفره هو وبهادر آص بالأمان إلى المظفّر بيبرس، وأن يتوجّه إلى صهيون نائبا بها ويحضرا من عنده بما أخذه من المال وغيره.
فلمّا كان يوم الخميس سادس عشره وحضر الأمراء الخدمة، قرّر السلطان مع مماليكه أنّه، إذا رفع السماط، وطلب السلطان أمير جندار، يقبض على أمراء عيّنهم، وجعل على كلّ عشرة من المماليك واحدا يتقدّم عليهم منهم، ويقبض العشرة الأمراء بعد أن يكونوا في الخدمة مع مقدّمهم خلف ذلك الأمير الذي عيّن لهم. فلمّا دخل الأمراء إلى الخدمة وقف كلّ عشرة من المماليك بمقدّمهم خلف من عيّن لهم، وجلس السلطان وقد عرف الغضب في وجهه. فأحسّ الأمراء بالشرّ، وما هو إلّا أن فرغوا من الأكل [حتى] أشار السلطان إلى أمير جندار فتقدّم إليه وقبض المماليك على اثنين وعشرين أميرا. ثمّ
(1) في السلوك 2/ 74: كان رنك سلّار أبيض وأسود.
قبض بعد ذلك على خمسة أمراء. وأنعم في يوم واحد على اثنين وثلاثين مملوكا ممّن كان معه بالكرك بإمرتات ما بين طبلخاناه وعشرات.
وأحضر إليه المظفّر بيبرس مقيّدا فقتله كما ذكر في ترجمته (1) بعد ما عدّد عليه ذنوبه. وأخذهم واحدا بعد واحد، ويؤمّر مماليكه بدلهم، إلى أن توحّد بدولته.
وأنشأ [الجامع الجديد] الناصري على شاطئ النيل بساحل مصر في سنة إحدى عشرة.
وجلس بدار العدل من قلعة الجبل في يوم الاثنين [عشرين جمادى الأولى] من السنة المذكورة [أي 711] بعد ما دار النقباء على القضاة وسائر أهل الدولة بحضورهم ونودي بالقاهرة ومصر: من كانت له ظلامة فعليه بدار العدل- فخاف [الأمراء وغيرهم] وأدّوا ما عليهم من الحقوق. واستمرّ يجلس بدار [العدل كلّ يوم اثنين] ثمّ [
…
] (2) وخميس وجمعة القضاة والأمراء وتقرأ عليهم القصص، ويفصل المحاكمات بين المتخاصمين. فاستمرّ الأمر على ذلك مدّة أيّامه وبعده طول أيّام أولاده.
وفي شهر رجب [سنة 711] أقام أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الهنتاتيّ اللحياني الخطبة للسلطان بمدينة طرابلس الغرب. [ولم يحدث هذا] قبله [لملك] من ملوك الترك.
وفيها سار السلطان إلى [بلاد الصعيد].
فلمّا كانت سنة ثنتي عشرة تحرّك خربندا بن أرغون بن هولاكو بن جنكز خان، وقد أغراه ببلاد الشام وأطمعه فيها قراسنقر نائب حلب وآقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنّا بن عيسى أمير العرب
عند ما تسحّبوا إليه، وهم مغاضبون للسلطان.
ووصل إلى آمد. وقدم الخبر بذلك إلى السلطان مستهلّ شعبان، فتهيّأ للسفر، وعرض أجناد الحلقة بنفسه، وبعث الأمراء شيئا بعد شيء بمضافيها. وركب في ثاني شوّال، واستخلف على مصر الأمير أيتمش المحمديّ، وسار يريد دمشق.
فقدم البريد [في ثامن شوّال] برحيل خربندا من الرحبة عائدا إلى بلاده. فسرّ بذلك. وفرّق العساكر في عسقلان وقاقون (3)، وتوجّه بطائفة إلى دمشق فدخلها في تاسع عشر شوّال وأقام بها إلى ثاني ذي القعدة. ورحل عنها يريد الكرك وقد أجمع أمره على الحجّ فقدمها في ثامنه. وسار منها في أربعين أميرا فحجّ ودخل المدينة النبويّة وسار على طريق الكرك فدخل دمشق يوم الثلاثاء حادي عشر المحرّم [سنة 713]، وقد ركب ناقة لطيفة وعليه بشت (4) من صوف وعمامة بلثام كهيئة العرب، وبيده حربة، فكان لدخوله موقع عظيم في الناس، وحوله العلماء والصلحاء. فأقام بدمشق خمسة عشر يوما وخلع على الأمراء وصلّى بها الجمعة بجامع بني أميّة مرّتين.
وسار إلى القاهرة فقدم يوم الجمعة ثاني [100 ب] عشر صفر، واهتمّ بأمر العمارة [فعمّر الميدان تحت] قلعة الجبل، وغرس فيه الأشجار، ولعب فيه بالكرة. وأنشأ عدّة سواق تحمل الماء من النيل إلى القلعة. واهتمّ بعمل جسور الجيزة.
وراك البلاد الشاميّة، وندب لذلك [الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزّة، وابن معبد]، ومعين الدين هبة الله بن حشيش ناظر الجيش بالشام. فأقام الجاولي مع الأمير تنكز نائب الشام إلى أن تحرّرت الأوراق بعبرة البلاد ومتحصّلها
(1) ترجمة بيبرس مرّت برقم 1004.
(2)
في هذه الصفحة مواضع لا تقرأ لأنّها غطّيت بمربّعات بيضاء ملصقة.
(3)
قاقون: حصن قرب الرملة (ياقوت).
(4)
البشت: عباءة من صوف.