الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاويذان حلّت فيه وأخذ يعيث ويفسد، ويظهر مقالات المجوس، ويصرّح بتناسخ الأرواح، وأنّها تنتقل من حيوان إلى غيره، وأباح نكاح الأمّ والبنت والأخت وكانت بينه وبين عساكر المأمون حروب عظيمة، إلى أن بويع المعتصم. فوجّه إليه أبا سعيد محمّد بن يوسف، وقتل في حروبه من أصحاب بابك وأسر عددا كبيرا، فكانت هذه أوّل هزيمة على أصحاب بابك. ثمّ كانت الأخرى لمحمّد بن البعيث.
وفي سنة عشرين دخل عجيف بالزطّ إلى بغداد، بعد ما ضيّق عليهم وقاتلهم حتى خرجوا إليه بأمان [181 ب]، وعدّتهم اثنا عشر ألف مقاتل، ولهم من النساء والصبيان خمسة عشر ألفا، فعبّأهم في السفن على هيئتهم في الحرب، معهم البوقات حتى دخل بهم على المعتصم يوم عاشوراء، والمعتصم في سفينة ينظر إليهم، فمرّوا به على تعبئتهم، وهم ينفخون في البوقات، فأقاموا في سفنهم ثلاثة أيّام. ثمّ نقلوا إلى عين زربة فأغارت الروم عليهم بعد ذلك، فلم يفلت منهم أحد.
وعقد المعتصم للأفشين، واسمه خيذر بن كاوس الصغديّ، ووجّهه إلى حرب بابك، فسار إليه وقاتله. فقتل من أصحابه خلقا كثيرا. وفرّ بابك في نفر يسير إلى موقان، ثمّ رحل إلى البذّ (1). وأقام الأفشين معسكرا بموضعه.
[بناء سامرّا]
ثمّ خرج المعتصم إلى بناء سامرّا، وسبب ذلك أنّه لمّا قدم بغداد منصرفه من طرسوس، أقام بها سنة ثماني عشرة وتسع عشرة وعشرين، وكان معه خلق من الأتراك، فكان أولئك الأتراك العجم إذا
ركبوا الدوابّ ركضوا فيصدمون الناس يمينا وشمالا، فيثب عليهم الغوغاء فيقتلون بعضا وتذهب دماؤهم هدرا لا يقدرون على من فعل ذلك. فثقل ذلك على المعتصم وعزم على الخروج من بغداد فخرج إلى الشمّاسيّة، وهو موضع كان المأمون يخرج إليه فيقيم به الأيّام والشهور. فقدّر أن يبني بها مدينة، فضاقت عليه أرض ذلك الموضع، وكره أيضا قربها من بغداد، فمضى إلى البردان (2)، بمشورة وزيره إذ ذاك، الفضل بن مروان، وذلك في سنة إحدى وعشرين، فأقام به أيّاما وأحضر المهندسين، ثم لم يرض الموضع فسار إلى باحمشا (3)، من الجانب الشرقيّ من دجلة فقدّر هناك مدينة وطلب موضعا يحفر فيه نهرا فلم يجده، فنفذ إلى المطيرة فأقام بها مدّة، ثمّ مرّ إلى القاطول للنصف من ذي القعدة، فقال: هذا أصلح المواضع.
فسيّر النهر المعروف بالقاطول، وبسط المدينة، فابتدأ البناء وأقطع الكتّاب والقوّاد والناس وابتدأ حتّى ارتفع البناء وأحيطت الأسواق على القاطول وعلى دجلة. وسكن هو في بعض ما بني له، وسكن بعض الناس أيضا.
ثمّ قال: إنّ أرض القاطول غير طائلة، إنّما هي حصى وأفهاد والبناء بها صعب جدّا، وليس لأرضها سعة. ثمّ ركب متصيّدا فمرّ على موضع سرّ من رأى، وهي صحراء من الأرض لا عمارة بها ولا أنيس فيها إلّا دير [ا] للنّصارى. فوقف بالدير وعلم من فيه من الرهبان به فأتوا إليه فقال:
ما اسم هذا الموضع؟
فقال بعض الرهبان: نجد في كتبنا المتقدّمة أنّ هذا موضع يسمّى [182 أ]، سرّ من رأى، وأنّه كان
(1) الطبريّ 9/ 14.
(2)
البردان: على أربعة فراسخ من بغداد (مروج 4/ 351).
(3)
الطبريّ 7/ 632.
مدينة سام بن نوح، وأنّه سيعمر بعد الدهور على يدي ملك جليل مظفّر منصور له أصحاب كأنّ وجوههم وجوه طير الفلاة، ينزلها وينزلها ولده.
فقال: أنا والله أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي.
ولقد أمر الرشيد يوما أن يخرج ولده إلى الصيد، فخرجت مع محمد والمأمون وأكابر ولد الرشيد، فاصطاد كلّ واحد منّا صيدا، واصطدت بومة. ثمّ انصرفنا وعرضنا صيدنا عليه، فجعل من كان معنا من الخدم يقول: هذا صيد فلان، وهذا صيد فلان- حتى عرض عليه صيدي، فلمّا رأى البومة، وقد كان الخدم أشفقوا من عرضها لئلّا يتطيّر بها أو ينالني منه غلظة، فقال: من صاد هذه؟ فقالوا: أبو إسحاق، فاستبشر وضحك وأظهر السرور، ثمّ قال: أما إنّه يلي الخلافة ويكون جنده وأصحابه والغالبون عليه قوما وجوههم مثل وجه هذه البومة فيبني مدينة قديمة وينزلها بهؤلاء القوم، ثمّ ينزلها ولده بعده- وما سرّ الرشيد [بشيء من الصيد كما سرّ بصيدي لتلك البومة]، ثمّ عزم المعتصم على أن ينزل بذلك الموضع.
فأحضر محمد بن عبد الملك الزيّات، وأحمد ابن أبي دؤاد، وعمر بن الفرج، وأحمد بن خالد المعروف بابن الوزير، وقال لهم: اشتروا من أصحاب هذا الدير هذه الأرض، وادفعوا إليهم ثمنها أربعة آلاف دينار. ففعلوا ذلك، ثمّ أحضر المهندسين واختار مواضع القصور. ثمّ خطّ القطائع للقوّاد والكتّاب والناس، وخطّ المسجد الجامع، واختطّ الأسواق، وجعل بناءها على هيئة بناء بغداد، وجعل فيها الكرخ والدور كما في بغداد.
وكان اسم سرّ من رأى في الكتب المتقدّمة «زوراء بني العبّاس» . ويصدّق ذلك أنّ قبل مساجدها كلّها مورّبة (1)، فيها ازورار، ليس بها قبلة مستوية.
ويقال: إنّه أنفق على جامعها فوق الخمسمائة ألف درهم، وقيل: إنّما سمّيت «سرّ من رأى» لأنّه لمّا انتقل بجملته وعسكره إليها سرّ كلّ منهم برؤيتها، فقيل فيها: سرّ من رأى- ولزمها هذا الاسم. والمسمّى بالجملة عند النحويّين يحكى على صيغته الأصليّة من غير تحريف فيها ولا تغيير لها. وقد غيّرتها العامّة فقالوا: سامرّا. وقد سمّيت أيضا بالعسكر لنزول العسكر بها.
وقيل: كان السبب في بنائها أنّ العامّة شكوا من الجند والنزول عليهم في المساكن والتعرّض [182 ب] بهم، فقال له بعض صلحاء المحدّثين: يا أمير المؤمنين، إنّي لا آمن عليك أن تقاتلك العامّة.
فقال: وبم تقاتلني العامّة؟ ومن يجمعها على ذلك، وأنا في هذا العسكر العظيم؟
فقال: يقاتلون بقيام الليل ورفع الأيدي إلى الله تعالى في المساجد.
فركب في الحال وتخيّر موضع سرّ من رأى على شاطئ دجلة فبنيت في أسرع وقت- على كبرها- وارتحل إليها. وقال لذلك المحدّث: قد تركنا قتال العامّة، فكيف هم اليوم؟
فقال: يا أمير المؤمنين، هم بأيد مبسوطة إلى الله تعالى بالدعاء لك، وبنيّات خالصة، وطاعة صافية، رغبة إلى الله تعالى في دوام دولتك.
وقيل: كان سبب بنائه ذلك أنّه قال: إنّي ههنا أتخوّف الخرّميّة- يعني أصحاب بابك الخرّميّ- أن يصيحوا بي صيحة فيقتلون غلماني. وأريد [أن] أكون فوقهم، فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البرّ
(1) مورّبة: منحرفة.