الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3314 - ابن حيدرة السعديّ [658 - 731]
محمد بن مسلم بن ثابت بن عبد الله بن حيدرة، أبو عبد الله، السعديّ، التاجر.
ولد بالشارع ظاهر القاهرة سنة ثمان وخمسين وستّمائة. سمع من زكيّ الدين إلياس ابن أبي الدرّ، وسمع من ابن علّان وغيره.
توفّي بدمشق ليلة الخميس سابع صفر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
3315 - ابن شهاب الزهريّ [51 - 124]
(1)
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن الأصغر بن شهاب بن عبد الله (2) بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي، أبو بكر، القرشيّ، المدنيّ، يكنّى أبا بكر، أحد الأئمّة الأعلام وعالم أهل الحجاز والشام.
أمّه من بني الديل بن عبد مناة بن كنانة.
ولد سنة إحدى وخمسين- وقيل سنة ثمان وخمسين- في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، وأدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم، منهم:
أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وعبد الرحمن بن أزهر الزهريّ، وسنين أبو جميلة السلميّ. واختلف في عبد الله بن عمرو، فروى معمر عن ابن شهاب أنّه سمع منه حديثه في الحجّ مع الحجّاج. وقيل:
إنّه سمع منه حديثين، وقيل: ثلاثة.
وسمع من جماعة أدركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم صغار، منهم ربيعة بن عبّاد الديليّ، والسائب بن يزيد، ومحمود بن الربيع، ومحمود بن لبيد، وأبو الطفيل.
وروى عن أبي هريرة، وجابر، وأبي سعيد، ورافع بن حديج مرسلا. وقد روي عن عمرو بن دينار أنّه ذكر عنده الزهريّ فقال: وأيّ شيء عنده؟
أنا لقيت جابرا ولم يلقه، ولقيت ابن عمر ولم يلقه، ولقيت ابن عبّاس ولم يلقه- فقدم الزهريّ مكّة فقيل لعمرو: قد جاء الزهريّ.
فقال: احملوني إليه- وكان قد أقعد. فحمل [127 أ] إليه فلم يأت أصحابه إلّا بعد هويّ من الليل. فقيل له: كيف رأيته؟
فقال: والله ما رأيت مثل هذا القرشيّ قطّ.
وروى ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار، وعبّاد بن تميم، وعبيد الله بن عبد الله، وعتبة بن الزبير، وعلقمة بن وقّاص، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي إدريس الخولانيّ، وخلق كثير.
وروى عنه أبان بن صالح، وأيّوب السختيانيّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، وإبراهيم بن أبي عبلة، وإسحاق بن راشد الجزريّ، وإسماعيل بن أميّة، وبكر بن وائل، وجعفر بن برقان، وربيعة الرأي، وزمعة بن صالح، وزياد بن سعد، وسعيد بن بشر، وسعيد بن عبد العزيز، وسفيان بن حسين، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن داود الخولانيّ، وسليمان بن أرقم بن كثير العبديّ، وصالح بن كيسان، وعبد الرحمن بن إسحاق المدنيّ، والأوزاعي، وابن جريج، وعبد العزيز بن الماجشون، وعقيل بن خالد، وعمرو بن الحارث، وعمرو بن دينار- وهو أكبر منه-
(1) وفيات 4/ 177 (563)، الوافي 5/ 24 (1990)، شذرات 1/ 162، المعارف 472، الأعلام 7/ 317، تاريخ دمشق (ابن منظور) 23/ 227 (264)، سير أعلام النبلاء 5/ 326 (160).
(2)
في شذرات الذهب: محمد بن عبد الله بن عبيد الله أحد الفقهاء السبعة
…
وفليح بن سليمان، وقرّة بن عبد الرحمن، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن أبي حفصة، وابن أبي ذئب، وابن أخيه محمد بن عبد الله الزهريّ، وموسى بن عقبة، والنعمان بن راشد، وهشام بن سعد، وهشيم، ويوسف بن يعقوب بن الماجشون، والوليد بن محمد الموقريّ، ويونس بن يزيد الأيليّ، وأمم سوى هؤلاء.
قال ابن المدينيّ: له نحو ألفي حديث.
وقال أحمد بن القرّاب: ليس فيهم أجود مسندا من الزهريّ: له نحو ألف حديث.
وقال أبو داود: أسند أكثر من ألف حديث عن الثقات، وحديثه كلّه ألفا حديث ومائتا حديث، نصفها مسند، ونحو مائتين عن غير الثقات، وأمّا ما اختلفوا فيه عليه، فلا يكون خمسين حديثا.
وقال سفيان بن عيينة: رأيت الزهريّ أحمر الرأس واللّحية وفي حمرتها انكفاء كأنّه يجعل فيها كتما (1)، وكان أعيمش وله جميمة.
وقال سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ:
جالست سعيد بن المسيّب ستّ سنين. وروى مالك عنه أنّه جالس سعيدا عشر سنين.
وعن أبي الزناد: كنت أطوف أنا والزهريّ، ومعه ألواح وصحف، فكنّا نضحك به، وكان [127 ب] يكتب كلّ ما يسمع. فلمّا احتيج إليه علمت أنّه أعلم الناس.
وقال محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن: كان ابن شهاب يختلف إلى الأعرج، وكان الأعرج يكتب المصاحف، فيسأله عن الحديث ثمّ يكتبه ثمّ يحفظه، فإذا حفظ الحديث مزّق الرقعة.
وقال صالح بن كيسان: كنت أطلب العلم، أنا والزهريّ، فقال: تعال نكتب السنن! - فكتبنا ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة! - فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيّعت.
وقال الليث بن سعد: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئا قطّ فنسيته.
وكان يكره أكل التفّاح، وسؤر الفار، ويقول:
إنّه ينسي- ويشرب العسل ويقول: إنّه يذكّر.
وقال عبد الرحمن بن مهديّ عن مالك: حدّث الزهريّ يوما بحديث، فلمّا قام قمت، فأخذت بعنان دابّته، فاستفهمته فقال: تستفهمني! ما استفهمت عالما قطّ، ولا رددت شيئا على عالم قطّ.
وجعل ابن مهدي يتعجّب، ويقول: فذيك الطوال وتلك المغازي (2).
وفي رواية مروان بن محمد عن مالك: أخذت بلجام بغلة الزهريّ فسألته أن يعيد عليّ حديثا، فقال: ما استعدت حديثا قطّ.
وفي رواية إسماعيل بن أبي أويس: حدّثنا مالك قال: حدّثنا ابن شهاب أربعين حديثا، فتوهّمت في حديث منها، فانتظرت حتى خرج وأخذت بلجام بغلته ثمّ سألته عن الحديث الذي شككت فيه، فقال: أولم أحدّثكه؟
قلت: بلى، لكنّي توهّمت فيه.
فقال: لقد فسدت الرواية! خلّ لجام البغلة!
فخلّيته، ومضى.
وقال ابن إسحاق عن الزهريّ، ما استعدت
(1) الكتم والكتمة: نبت يستخرج منه خضاب أسود للشعر بعد الحنّاء.
(2)
كلام غير مفهوم، وهو هكذا في تاريخ دمشق 23/ 233.
والعبارة لم تأت في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي أبي سعيد العنبريّ (ت 198)، ولا في ترجمة الإمام مالك (ت 179). انظر أعلام النبلاء 9/ 192 (56) و 8/ 43 (10).
حديثا قطّ، ولا شككت في حديث، إلّا حديثا واحدا. فسألت صاحبي، فإذا هو كما حفظت.
وقال قرّة بن عبد الرحمن: لم يكن للزهريّ كتاب إلّا كتاب نسب قومه.
وقال الأوزاعيّ: ما داهن ابن شهاب ملكا من الملوك قطّ إذا دخل عليه، ولا أدركت خلافة هشام بن عبد الملك أحدا من التابعين أفقه منه.
وعن مكحول: ابن شهاب أعلم الناس.
وعن سعيد بن عبد العزيز: ما ابن شهاب إلّا بحر.
وعن أبي بكر ابن أبي مريم: قلت لمكحول:
من أعلم الناس؟
قال: ابن شهاب أعلم الناس.
قال: ثمّ من؟
قال: ابن شهاب.
قلت: ثمّ من؟
قال: ابن شهاب.
وعن مكحول: ما بقي على ظهر الأرض أعلم بسنّة ماضية من الزهريّ.
وعن قتادة: ما بقي على ظاهرها إلّا الزهريّ وآخر- يعني نفسه [128 أ].
وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه: ما جمع أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جمع ابن شهاب.- وفي رواية: ما وعى أحد من العلم بعد رسول الله ما وعى ابن شهاب.
وقال سفيان: قال لي أبو بكر الهذليّ: جالست الحسن وابن سيرين فما رأيت مثله- يعني الزهريّ. (قال سفيان) كانوا يقولون: ما بقي من الناس أحد أعلم بالسنّة منه.
وعن عمر بن عبد العزيز: ما أتاك الزهريّ بسنده فاشدد به يديك.
وعن أيّوب: ما رأيت أعلم من الزهريّ.
قيل: ولا الحسن؟
فقال: ما رأيت أعلم من الزهريّ.
وعن الليث بن سعد: ما رأيت عالما قطّ أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علما. ولو سمعت ابن شهاب يحدّث بالترغيب لقلت: لا يحسن إلّا هذا.
وإن حدّث عن الأتقياء وأهل الكتاب، قلت: لا يحسن إلّا هذا. وإن حدّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلّا هذا. وإن حدّث عن القرآن والسنّة، كان حديثه.
وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك (1) بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟
قال: أمّا أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، وأفقههم فقها، وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيّب. وأمّا أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير. ولا تشاء أن تفتجر من عبيد الله بن عبد الله بحرا إلّا فجّرته. (قال عراك): وأعلمهم عندي ابن شهاب، لأنّه جمع علمهم جميعا إلى علمه.
وعن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون:
سمعت ابن شهاب يقول: ما كتبت شيئا قطّ. ولقد وليت الصدقة وأتيت سالم بن عبد الله فأخرج إليّ كتاب الصدقة فقرأه عليّ فحفظته. وأتى إليّ عمرو بن [
…
] [فقرأ] عليّ كتاب العقول فحفظته.
وعن سعيد بن عبد العزيز: كان سليمان بن موسى يقول: إذا جاءنا العلم من الحجاز عن الزهريّ قبلناه. وإن جاءنا من العراق عن الحسن قبلناه. وإن جاءنا من الجزيرة عن ميمون قبلناه.
(1) عراك بن مالك الغفاري المدنيّ (ت 104): أعلام النبلاء 5/ 63 (21).
وإن جاءنا من الشام عن مكحول قبلناه.
(قال سعيد): كان هؤلاء الأربعة علماء الناس في خلافة هشام.
وقال الزبير بن أبي بكر: حدّثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أهل المدينة يعاتبهم، فوصل كتابه في طومارين (1)، فقرئ الكتاب على الناس على المنبر.
فلمّا فرغوا وافترق الناس، اجتمع إلى سعيد بن المسيّب [128 ب] جلساؤه، فقال لهم سعيد: ما كان في كتابكم؟ فإنّا نودّ أن نعرف الذي فيه.
فجعل الرجل منهم يقول: فيه كذا، والآخر يقول: فيه كذا أيضا. فلم يشف سعيد فيما سأل عنه. فقال لابن شهاب عنه فقال: أتحبّ يا أبا محمّد أن تسمع كلّ ما فيه؟
قال: نعم.
قال: فأمسك! - فهذّه عليه والله هذّا (2) كأنّما هو في يده يقرؤه، حتى أتى على آخره.
(قال): وقال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا قطّ فنسيته.
وعن عبد العزيز بن محمد الدراورديّ: أوّل من دوّن العلم وكتبه ابن شهاب.
وعن يونس بن يزيد: كان ابن شهاب إذا دخل رمضان، فإنّما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكان ابن شهاب أكرم الناس وأخيرهم.
وعن عمرو بن دينار: ما رأيت أنصّ للحديث من ابن شهاب، ولا رأيت أجود منه. ما كانت الدنانير والدراهم عنده إلّا بمنزلة البعر.
وذكر ابن وهب عن مالك: قيل لابن شهاب:
لو جلست إلى سارية تفتي الناس؟
قال: إنّما يجلس هذا المجلس من زهد في الدنيا.
وعن مطرّف: سمعت مالكا يقول: ما رأيت محدّثا فقيها إلّا واحدا.
قلت: من هو؟
قال: ابن شهاب.
وعن يحيى بن سعيد القطّان: ما أحد أعلم بحديث المدنيّين من الزهريّ، وبعد الزهريّ يحيى بن أبي كثير. وليس مرسل أصحّ من مرسل الزهريّ لأنّه حافظ.
وعن ابن المبارك: حديث الزهريّ عندنا كأخذ باليد. ورأي الزهريّ أحبّ إليّ من حديث أبي حنيفة.
وكان نقش خاتم الزهريّ: محمد يسأل الله العافية.
وعن الليث: قلت لابن شهاب: يا أبا بكر، لو وضعت للناس هذه الكتب ودوّنت وشرعت؟
فقال: ما نشر أحد هذا العلم نشري ولا بذله بذلي، قد كان ابن عمر لا يجترئ عليه أحد حتى يأتيه إنسان فيسأله، وكنّا نجالس ابن المسيّب فلا نسأله حتّى يأتي إنسان فيسأله، فيهيجه ذلك فيحدّث، أو يبتدئ هو فيحدّث.
وعن إبراهيم بن سعد: قلت لأبي: بم فاتكم الزهريّ؟
فقال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شابّ إلّا سأله، ولا كهل إلّا سأله. ثمّ يأتي الدار من دور الأنصار فلا يترك فيها شابّا ولا كهلا ولا عجوزا إلّا سألهم، حتّى يحاول ربّات الحجال.
(1) الطومار والطوماردان: الوعاء للصحف (دوزي).
(2)
هذّ الحديث: سرده.
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهريّ أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب وأملى عليه أربعمائة حديث، ثمّ خرج، وقال: أين [129 أ] أنتم يا أصحاب الحديث؟ - فحدّثهم بتلك الأربعمائة حديث. ثمّ لقي هشاما بعد شهر أو نحوه، فقال له: إنّ ذلك الكتاب قد ضاع.
فقال: لا عليك.- فدعا بكاتب فأملاها عليه، ثمّ قابل هشام بالكتاب الأوّل فما غادر حرفا.
وقال معمر: ما رأيت مثل الزهريّ في الفنّ الذي هو فيه.
وقال أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر:
كنت أرى الزهريّ فلا يقرأ ولا يقرأ عليه، فيقال له: نروي هذا عنك؟ فيقول: نعم.
وروى الفريابي عن سفيان الثوريّ قال: أتيت الزهريّ فتثاقل عليّ، فقلت: لو أنّك أتيت أشياخنا فصنعوا بك هكذا؟
فقال: كما أنت! - ودخل فأخرج إليّ كتابا وقال: خذ هذا فاروه عنّي، فما رويت عنه حرفا.
وقال داود بن عبد الله بن أبي الكرام: سمعت مالكا يقول: كان ابن شهاب من أسخى الناس، فلمّا أصاب تلك الأموال قال له مولى له: قد رأيت ما مرّ عليك من الضيق، فأمسك مالك!
قال: ويحك! إنّي لم أر السخيّ تنفعه التجارب!
وقدم الزهريّ على عبد الملك بن مروان واستوطن دمشق، وكان يتردّد إلى الحجاز، وقدم مصر.
قال الليث عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب: لزمت ابن المسيب ثماني سنين حتّى توفّي. ثمّ بعثني عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بمصر، فإذا عنده إبراهيم بن قارظ الزهريّ، فسمعني أحدّث عن ابن المسيّب، فقال لي: لا أراك تحدّث عن عروة شيئا؟
فقلت: أو صاحب ذلك هو؟
فقال: نعم.
(قال ابن شهاب): فلمّا قدمت المدينة لزمت عروة بعد ابن المسيّب، فإذا هو بحر لا تكدّره الدّلاء.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أدّى هشام بن عبد الملك عن الزهريّ سبعة آلاف دينار، وكان يؤدّب ولده ويجالسه.
وعن الليث: ما رأيت أكرم من ابن شهاب، كان يعطي كلّ من جاء فإذا لم يبق معه شيء استسلف. وكان يسمر على العسل كما يسمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول: اسقونا وحادثونا! - وكانت له جبّة معصفرة وعليه ملحفة معصفرة.
وعن ابن أبي ذيب قال: ضاقت حال الزهريّ، فخرج إلى الشام، فجالس قبيصة بن ذؤيب، فأرسل عبد الملك بن مروان إلى الحلقة: من منكم يحفظ القضاء عن عمر في أمّهات الأولاد؟
- قلت: أنا، [قال: قم]- فأدخلت عليه، فقال:
من أنت؟ - فانتسبت له، فقال: إن كان [129 ب] أبوك لنعّار في الفتن، اجلس! - فسأله مسائل، وقضى دينه.
وقال ابن أخي الزهريّ: جمع عمّي القرآن في ثمانين ليلة.
وروى إسحاق السبيعيّ أنّ نافع بن أبي نعيم عرض القرآن على الزهريّ.
وقال مالك عن الزهريّ: كنت أستقي لعبيد الله بن عبد الله، فيقول لجاريته: من بالباب؟ - فيقال: غلامك الأعمش.
وعن محمّد بن المنكدر: رأيت بين عيني الزهريّ أثر السجود.
وعن إبراهيم بن سعد: سمعت أبي يسأل الزهريّ عن شيء من الخلع والإيلاء، فقال: إنّ عندي فيه لثلاثين حديثا ما سألتموني عن شيء منها.
وقال ابن القاسم عن مالك: بقي ابن شهاب وما له في الناس نظير.
وقال سعيد بن عبد العزيز: جعل يزيد بن عبد الملك ابن شهاب قاضيا مع سليمان بن حبيب.
وعن مكحول: أيّ رجل الزهريّ لولا أنّه أفسد نفسه بصحبة الملوك!
وروى الشافعيّ: ثنا عمّي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك، فقال:
من الّذي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ [النور: 11].
قال: عبد الله بن أبيّ بن سلول.
فقال: كذبت! هو عليّ بن أبي طالب، يا ابن شهاب، من هو؟
قال: عبد الله بن أبيّ بن سلول.
فقال: كذبت! هو عليّ.
قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك! فو الله لو ناداني مناد من السماء: إنّ الله تعالى أحلّ الكذب، ما كذبت! حدّثني سعيد بن المسيّب، وعروة، وعبيد الله، وعلقمة بن وقّاص، عن عائشة أنّ الذي تولّى كبره عبد الله بن أبيّ.
(قال): فما زال القوم يغرون به حتّى قال له هشام:
ارحل، فو الله ما ينبغي لنا أن نحمل عن مثلك.
قال: ولم؟ أأنا اغتصبتك على نفسي أو أنت اغتصبتني؟ فخلّ عنّي!
قال: ولكنّك استدنت ألفي ألف!
فقال: قد علمت، وأبوك قبلك، أنّي ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك.
فقال هشام: إنّا إن نهيّج الشيخ [يهتمّ الشيخ](1).
فأمر فقضى عنه ألف ألف، فأخبر بذلك فقال:
الحمد لله الذي هذا هو من عنده.
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعيّ يقول: مرّ تاجر بالزهريّ، وهو في قومه، والرجل يريد الحجّ، فابتاع منه بزّا بأربعمائة دينار إلى أن يرجع من حجّه. فلم يبرح حتّى فرّقه الزهريّ، فلمّا رجع وفّاه، وزاده ثلاثين دينارا.
وقال سعيد بن عبد العزيز: كنّا نأتي الزهريّ فيقدّم إلينا كذا وكذا لونا.
وعن حمّاد بن زيد: كان الزهريّ يحدّث، ثمّ يقول: هاتوا من أشعاركم وأحاديثكم، فإنّ الأذن [131 أ] مجّاجة والنفس حمضة.
وقيل للزهريّ: إنّهم يعيبون عليك الدين، فقال: وكم ديني؟
قيل: عشرون ألف دينار.
قال: أناملي خمسة أعين، كلّ عين منها تمنّ أربعين ألف دينار.
ومن كلام الزهريّ: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب.
وقال: لا يرضى الناس قول عالم إلّا بعمل، ولا عمل عامل ما لم يعلم.
وقال: كنّا نكره [
…
] حتّى أكرهنا عليه الأمراء، فرأيت أن لا أمنعه مسلما.
وقال: الاعتصام بالسنّة نجاة.
ومن شعره يخاطب أخاه عبد الله، وقيل: إنّه قالها لعبد الله بن عبد الملك بن مروان، من أبيات [الطويل]:
(1) قراءة ظنّيّة، وأخذنا بقراءة تاريخ دمشق 240، وفي السّير 5/ 340: فقضى عنه
…
وفي المخطوط: وذكر كلمة فأمر
…
أقول لعبد الله يوم لقيته
…
وقد شدّ أحلاس المطيّ مشرّقا
تتبّع خبايا الأرض وادع مليكها
…
لعلّك يوما أن تجاب فترزقا
لعلّ الذي أعطى القدير بقدرة
…
وذا خشب أعطى وقد كان دودقا
سيعطيك ماء ثابتا ذا وثابة
…
إذا ما مياه القوم غارت تدفّقا (1)
وتوفّي رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائة في شهر رمضان ليلة الثلاثاء لتسع عشرة مضت منه، وهو ابن ستّ وستّين. وقيل: مات وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. ودفن على قارعة الطريق ليدعى له.
وكانت وفاته بضيعة له بناحية شغب وبدا، مرض هناك. وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق فدفن بموضع يقال له: أدامى وهي خلف شغب وبدا، وهي أوّل عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز.
وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، وهو وهم.
وقيل: في سنة خمس وعشرين، والصحيح الأوّل.
[130 أ](2) وأنشد الزبير بن بكّار لفائد بن أقرم يمدح ابن شهاب، فنسب في أوّلها، ثمّ قال [الكامل]:
ذر ذا وأثن على الكريم محمّد
…
واذكر فواضله على الأصحاب
وإذا يقال: من الجواد بماله
…
قيل: الجواد محمّد بن شهاب
أهل المدائن يعرفون مكانه
…
وربيع ناديه على الأعراب
يسري وفاء جفانه ويمدّها
…
بكسور أثباج وفتق لباب
وذكر أنّ بني غفار بن حزام بن عوف بن معتمر البلويّ اقتتلوا هم وبنو عائذ الله الجذاميّون، فقتل رجل بين الصفّين من بني عائذ الله يقال له: جرهاش، لم يدر من أصابه، فتدافعه الفريقان كلّ واحد يقول للآخر: أنتم قتلتموه! - فاختصموا فيه إلى سلطان بعد سلطان فلم يمض فيه لأحد من السلاطين قضاء. ثمّ خرجوا إلى أمير المؤمنين في الموسم فألفوا عنده ابن شهاب، فقال لابن شهاب: يا أبا بكر، انظر في أمرهم، فقد رددت أمرهم إليك.
فلمّا رجع ابن شهاب إلى منزله أتوه فقال: يا بالعائذ، هلمّ البيّنة على قتيلكم؟ - فلم يجدوا بيّنة.
فقال: يا بني غفار، انفلوا أنفسكم! - فلم يجدوا من ينفلهم.
فقال: هلمّ يا بالعائذ قسامة تقسم على دم صاحبكم!
فأبوا، قال: هلمّ يا بني غفّار قسامة تقسم على براءتكم! (3)
فأبوا، قال: فأين وليّ هذا القتيل؟
قيل: هوذا.
قال: اذهب، فقد قضينا لك بدية مسلمة، وجعلنا نصفها على بلعائذ، ونصفها على بني غفار.
(1) في الورقة 130 ب إعادة لقسم من الترجمة مع إضافة البيتين الثالث والرابع، وتغيير العجز في البيت الأوّل:
يسير بأعلى الرقتين مشرّقا
والأبيات الأربعة في معجم الشعراء للمرزباني 345 مع تغيير طفيف. وفي الحاشية شرح لدودق ب:
الخراب، وهو عند المرزبانيّ أيضا. ولا نفهم المقصود بالقدير (أو العزيز أو الغزير) ولا بذي الخشب.
(2)
رجع المتن إلى الوراء على ورقة ملصقة معكوسة.
(3)
القضيّة ملتبسة من جهة اللغة أيضا: فنفله وأنفله تعني تكرّم عليه بالمال (هنا: تعطون الدية كفّارة عن أنفسكم).
فلمّا لم يجدوا عونا على الدية توجّه إلى الخصوم بالطلب نفسه: تتقاسمون الدية قسامة بالضمّ أو تقسمون (قسامة بالفتح) ببراءتكم من دم القتيل. فلمّا لم يجد موافقة من الخصمين، قسم الدية بينهما. وانظر مختصر ابن منظور 32/ 237، إلّا أنّ الرواية هناك ليست بأوضح.