الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: عصر التدوين
ومشاركة أبناء البلاد المفتوحة فيه بِهمّة إلى جانب العرب الخلص
يقسم العلماء تاريخ التشريع والفقه الإسلامي إلى أدوار، وهناك عدة تقسيمات، ومن أشهرها ذلك التقسيم الذي يعتبر أن هذا الأدوار ستة هي:
1-
الدور الفقهي الأول: عهد التشريع، من السنة الأولى للبعثة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 11هـ، ومدته 23عاما.
2-
الدور الفقهي الثاني: عصر الخلفاء الراشدين، 11-40هـ، ومدته 30 عاما.
3-
الدور الفقهي الثالث: الفقه في عهد صغار الصحابة وكبار التابعين إلى أوائل القرن الثاني الهجري، من 41هـ- 100هـ، ومدته 60عاما.
4-
الدور الفقهي الرابع: الفقه من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، من 101هـ- 350هـ، وهذا الدور يعرف بعصر التدوين، ومدته تقريبا: 250عاما.
5-
الدور الفقهي الخامس: الفقه من منتصف القرن الرابع إلى سقوط بغداد، من 350هـ- 656هـ، ومدته تقريبا: 306أعوام.
6-
الدور الفقهي السادس: من سقوط بغداد إلى الوقت الحاضر، من 656هـ- الآن، ومدته تقريبا: 767عاما.
ولكل دور منها ميزاته الخاصة، لكن الذي يهمنا الحديث عنه هنا هو الدور الفقهي الرابع وهو ما يعرف بعصر التدوين.
عصر التدوين: يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني الهجري ويمتد إلى منتصف القرن الرابع وقد نما الفقه في هذا الدور نموا عظيما وازدهر ازدهارا عجيبا
ونضج نضوجا كاملا وآتى ثمارا طيبة للناس، وزود الدولة الإسلامية بالأحكام القانونية لتنظيم مختلف أمورها وشئونها قرونا عديدة فسعد الناس بتلك الأحكام ما شاء الله لهم أن يسعدوا.
وفي هذا الدور ظهر نوابغ الفقهاء، فالمجتهدون العظام ظهروا في هذا الدور وأسسوا مذاهبهم الفقهية التي لا يزال أكثرهم قائما حتى الآن، وكل مذاهب مدرسة فقهية ترينا نمط التفكير الفقهي الدقيق لأصحابها ومناهجهم في فهم الشريعة واستنباط الأحكام من نصوصها وقواعدها، ولهذا فنحن نرى في تلك المدارس الخير الكثير، وكما ظهر مجتهدون فقهاء، ظهر أيضا علماء نوابغ في علم الحديث الشريف وفنونه ومصطلحاته وما يتعلق به.
وفي هذا الدور أيضا دُوِّن الفقه وضبطت قواعده وجمعت أشتاته وألفت الكتب في مسائلة وصار بناؤه شامخا وعلمه متميزا عن غيره قائما بنفسه، وكما دون الفقه دونت السنة أيضا تدوينا شاملا مع بيان الصحيح منها والضعيف.
ولهذه الظواهر كلها، سمي هذا الدور بأسماء مختلفة تنبئ عن مميزات هذا الدور وتكشف عن حالة الفقه، فسمي بعصر الفقه الذهبي، أو بعصر ازدهار الفقه، أو بعصر التدوين أو بعصر المجتهدين ونحو ذلك من التسميات، وفيما يلي عن بعض مظاهر هذا الدور:
1-
ازدهار الفقه، وأسبابه: لقد نما الفقه في هذا الدور وازدهر وكثرت مسائله على نحو لم يعهد مثله من قبل وهذه الظاهرة ترجع إلى أسباب كثيرة، منها:
أولا: عناية الخلفاء العباسيين بالفقه والفقهاء: وتظهر هذه العناية بتقريبهم الفقهاء، والرجوع إلى آرائهم، فالرشيد ت 139هـ، الخليفة المشهور، يطلب من أبي يوسف ت 183هـ، صاحب أبي حنيفة ت 150هـ، وضع قانون
إسلامي للأمور المالية تسير عليه الدولة، فيستجيب أبو يوسف لهذا الطلب ويلبي رغبة الخليفة ويضع له كتابه الشهير الخراج. والمنصور ت 158هـ، يحاول أن يجعل موطأ مالك قانونا للدولة يسير عليه القضاة والمفتون، فيأبى مالك ت 179هـ. ويكرر الطلب هارون الرشيد فيأبى مالك ويقول له: إن فقهاء الصحابة تفرقوا في الأمصار وكل عنده علم وفقه وكل على حق، ولا ضرر في اختلافهم. والمأمون ت 218هـ، يقرب الفقهاء ويسمع مناقشاتهم الفقهية في مجلسه ويشترك في بعضها مؤيدا أو معارضا أو مستفسرا وإن كان قد اشتط كثيرا وارتكب خطأ جسيما في إكراهه الفقهاء على القول بخلق القرآن.
وقد نتج عن عناية الخلفاء بالفقهاء وتوفير الحرية اللازمة لهم للبحث العلمي أن نشط الفقهاء ومضوا في إنتاجهم الفقهي وبحثهم العلمي فاجتهد كل فقيه كما أحب وأظهر مما أدى إليه اجتهاده في مسائل الفقه.
ثانيا: اتساع البلاد الإسلامية: فقد كانت من أسبانيا إلى الصين وفي هذه البلاد الواسعة عادات وتقاليد مختلفة متباينة، تجب مراعاتها ما دامت لا تخالف نصوص الشريعة، فاختلفت الاجتهادات بناء على اختلاف العادات والتقاليد، يضاف إلى ذلك أن المسلمين كانوا جد حريصين على معرفة حكم الشرع في جميع معاملاتهم وتصرفاتهم وهي كثيرة ومتنوعة، وكانوا يفزعون إلى الفقهاء ويستفتونهم ويسألونهم، وكان الفقهاء يجيبونهم مستبشرين، ويستنبطون الأحكام لمسائلهم، وفي هذا وذاك نمو للفقه واتساع لدائرته.
ثالثا: ظهور المجتهدين الكبار ذوي الملكات الفقهية الراسخة: فعملوا على تنمية الفقه وسد حاجات الدولة من التنظيمات والقوانين، وأنشئوا المدارس الفقهية التي ضمت نوابغ الفقهاء.
رابعا: تدوين السنة: فقد دونت السنة وعرف صحيحها وضعيفها، فكان في ذلك تسهيل لعمل الفقهاء وتوفير الجهد عليهم، فقد وجدوا السنة بين أيديهم يصلون إليها دون كبير عناء، والسنة هي مادة الفقه ومصدره الثاني.
وقد وجد بجانب المحدثين الذين اشتغلوا بجمع الأحاديث، فريق آخر من العلماء يعنى بنقد رواة الحديث والبحث عن أحوالهم وهؤلاء هم علماء الجرح والتعديل، وقد قاموا بتأسيس قواعد هذا العلم العظيم خدمه للسنة وكشفا عن أكاذيب الوضاعين صيانة لشريعة الله من التحريف والتبديل1.
2-
ظهور المذاهب الإسلامية: وفي هذه الدور ظهرت المذاهب الإسلامية وتميزت معالمها ووضحت اتجاهاتها وصار لكل مذهب أتباع كثيرون ينشرون آراءه وينهجون نهجه، وقد ألفت الكتب الفقهية في كل مذهب وكانت هذه الكتب الأساس لما بعدها من كتب الفقه كما أن الفقهاء من مختلف المذاهب أحسوا بالحاجة إلى ضبط أصول الاستنباط وقواعد استخراج الأحكام، فأسسوا قواعد علم أصول الفقه، فوضع الشافعي رسالته الأصولية المشهورة ثم تبعه الإمام أحمد بن حنبل بالكتابة في هذا العلم، ثم تتابع العلماء من بعدهما بالكتابة والتنظيم والزيادة في هذا العلم الجليل، علم أصول الفقه، ولا شك أن تدوين هذا العلم يساعد الفقهاء في عملهم ويبين مآخذ المذاهب الإسلامية المختلفة وأسباب اختلافها2.
1 من علماء هذا الفن يحيى بن سعيد القطان ت 189هـ، وعبد الرحمن بن مهدي ت 198هـ، ويحيى بن معين ت 233هـ، وأحمد بن حنبل ت 241هـ.
2 المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان:118.
مشاركة أبناء البلاد المفتوحة في عصر التدوين بِهمّة إلى جانب العرب الخلص:
تبين مما سبق أن الحركة العلمية في عصر التدوين نمت نموا عظيما وكان من أهم عوامل هذا النمو المسلمون من غير العرب، يقول الخضري في كتابه تاريخ التشريع: دخل في الإسلام عدد عظيم من الفرس والروم والمصريين منهم من أسروا صغارا وتربوا تحت كنف ساداتهم من المسلمين فورثوا عنهم ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة، فحملوا منهم شيئا كثيرا وكان منهم القراء الكبار والمحدثون العظام بجانب إخوانهم من العنصر العربي، ومنهم من دانوا بالإسلام وهم كبار، وهذا من شأنه تلاقح الأفكار وإنضاج العقول1.
ومن القصص الطريفة التي تؤكد المعنى السابق، ما جاء في العقد الفريد: أن ابن ليلى ت 148هـ، قال: قال عيسى بن موسى -وكان ديانا شديد العصبية-: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين، قال: فما هما؟ قلت: موليان، قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالٍ، قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالٍ، فتغير لونه ثم قال: فمن أفقه أهل قباء قلت: ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي، فاربدَّ وجهه، ثم قال: فمن فقيه اليمن؟ قلت: طاوس، وابنه، وابن منبه، قال: فمن هؤلاء؟ قلت: من الموالي، فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا، ثم قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن
1 الخضري: تاريخ التشريع: 176.
عبد الله الخراساني، قال فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى، فازداد تربدا واسود اسودادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول، فمن كان مكحول هذا؟ قلت: مولى، فتنفس الصعداء ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة، وحماد بن أبي سليمان، ولكني رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم النخعي، والشعبي، قال: فما كانا؟ قلت: عربيان، فقال: الله أكبر، وسكن جأشة1.
ولو استعرضنا الإنتاج العلمي في أي فن من الفنون العلمية لوجدنا أن أسماء العلماء المسلمين عربا وغير عرب تسير جنبا إلى جنب.
1 العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي: 416/3.