المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مبحث وجه الشبه: - المنهاج الواضح للبلاغة - جـ ٥

[حامد عونى]

الفصل: ‌مبحث وجه الشبه:

‌مبحث وجه الشبه:

الوجه هو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه "كالجمال" في قولك: "سعدي كالبدر" و"كالسرعة" في قولك "الجواد كالريح" -فكل من "الجمال والسرعة" وجه الشبه لأنه المعنى الذي اشترك فيه الطرفان في قصد المتكلم، فليس كل معنى مشترك بين الطرفين وجه الشبه مالم يقصد جعله موضع اشتراك، وإلا فإن الطرفين قد يشتركان في كثير من المعاني كالحيوانية والجسدية، والوجود، والحدوث وغيرها، وهي -مع ذلك- لا يعد واحد منها وجه شبه- اللهم إلا إذا قصد إليه المتكلم واعتبره وجها للشبه بين الطرفين لغرض ما "كالتقريع" مثلا، كأن ترى إنسانا يقسو على حيوان ضعيف، ويحمله مالا يطيق، فتقول له:"هذا مثلك فارحمه" تريدك مثلك في الحيوانية، أو الجسدية، فيكون لهذا الوجه حينئذ مزيد اختصاص، من حيث أنه قصد إليه بالذات لهذا الغرض.

والتشبيه باعتبار الوجه تقسيمات عدة:

القسم الأول:

ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين -تحقيقي، وتخييلي:

فالتحقيقي: ما يكون وجه الشبه فيه قائما بالطرفين حقيقة كقول الشاعر يصف فرسا أدهم بسرعة الجرى:

وأدهم كالغراب سواد لون

يطير مع الرياح ولا جناح

فوجه الشبه بين الطرفين "السواد" وهو قائم بالطرفين على وجه الحقيقة، والتخييلي: ما لا يكون الوجه فيه قائما بالطرفين، أو بأحدهما إلا تخيلا، بمعنى: أن يثبته الخيال، يجعله غير المحقق محققا- فمثال ما فيه الوجه

ص: 30

متخيل في أحد الطرفين قولك: له سيرة كنفح الطيب"، و"أخلاق كأريج المسك" فقد شاع وصف كل من السيرة والأخلاق بالطيب مبالغة، حتى تخيل أنهما من ذوات الرائحة الطيبة -فوجه الشبه، وهو "الرائحة الطيبة" متخيل في المشبه في المثالين- من هذا القبيل قول القاضي التنوخي:

رب ليل قطعته بصدود

وفراق ماكان فيه وداع

موحس كالثقيل تقذى به العين

وتأبى حديثه الأسماع

وكأن النجوم بين دجاه

سنن لاح بينهن ابتداع1

والشاهد في البيت الأخير. فإن وجه الشبه فيه بين النجوم والسنن هو: الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء بيض مشرقة، في جوانب شيء مظلم، وهذه الهيئة غير موجودة في المشبه به على وجه التحقيق- ضرورة أن "الإشراق" لكونه حسيا- لا تتصف به السنة لكونها أمرا عقليا- وأن الإظلام لكونه حسيا أيضا لا تتصف به البدعة لأنها أمر عقلي كذلك- فوجه الشبه إذن غير متحقق في المشبه به إلا على طريق التخيل والتوهم، بافتراض غير الحاصل حاصلا.

ومثل قول التنوخي قول الشاعر السابق:

وأرض كأخلاق الكريم قطعتها

وقد كحل الليل السماك فأبصرا

1 "الدجى" جمع دجية وهي القطعة من الليل، والضمير في "دجاه" الليل وروى:"بين دجاها" فيكون الضمير للنجوم، وإضافة لأدنى ملابسة، "والابتداع" البدعة، وهي الأمر الذي ادعى أنه مأمور شرعا، وهو ليس كذلك- غير أن في عبارة الشاعر قلبا لأنه جعل -في جانب المشبه- النجوم بين الدجى، فكان من الواجب أن يجعل -في جانب المشبه به- السنن بين الابتداع لتصح المقابلة، ولعل النكتة في هذا القلب: الإشارة إلى كثرة السنن في زمانه وأن البدع بالقياس إليها كانت قليلة.

ص: 31

فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة، أو الضيقة، تخيل أنها شيء له سعة فشبهت الأرض الرحبة بها كما في البيت، ومن هذا القبيل قول أبي طارق الرقى:

ولقد ذكرتك والظلام كأنه

يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1

يصف الشاعر نفسه بالوفاء، وأنه لا ينسى حبيبه، حتى في أحلك الأوقات، وأشد الأزمات، ووجه الشبه بين الطرفين هو السواد -غير أنه متخيل المشبه به كالذي قبله وذلك لشيوع وصف أوقات المكاره بالسواد توسعا: فقالوا أسود النهار في عيني، وأظلمت الدنيا في وجهي- حتى تخيل أن يوم النوى من الأشياء ذوات اللون الأسود، فشبه الظلام به، كما شبه بفؤاد من لم يعشق تظرفا، فإن الغزل يدعى قسوة من لم يعشق- ولهذا يقولون: ويل للشجى من الخلى، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. ومنه أيضا قول الشاعر:

يا من له شعر كحظئ أسود

جسمي نحيل من فراقك أصفر

فوجه الشبه بين الشعر والحظ هو السواد، وليس موجودا في المشبه به حقيقة بل تخيلا كما ترى- فإذا قيل في البيت المذكور:"يا من له حظ كحظي أسود" كان مثالا لما يكون فيه الوجه متخيلا في الطرفين.

هذا: وقد تقدم أن تشبيه المحسوس بالمعقول لا يجوز إلا إذا تخيلنا المعقول محسوسا، وافترضناه أصلا في وجه الشبه، يقاس به المشبه مبالغة، وإذن فلا بد هنا أن نتخيل غير المتلون أصلا للمتلون الحقيقي، فنتخيل "السنن" في بيت التنوخي أصلا في البياض، والبدع أصلا في السواد حتى يصح القياس- كما نتخيل في بيت أبي طارق كلا من "يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق، أصلا في السواد كذلك.

1 في هذا البيت تشبيه جمع لاتحاد المشبه، وتعدد المشبه به.

ص: 32

أثر وجوب اشتراك الطرفين في وجه الشبه:

مما تقدم في تعريف وجه الشبه، وتقسيمه إلى تحقيقي، وتخييلي: يتبين أن لابد من وجوده في الطرفين -تحقيقا، أو تخيلا- فإذا لم يوجد في الطرفين على إحدى هاتين الصفتين لم يصح جعله وجه شبه- وإذن لا يصح أن يكون وجه الشبه في قولهم:"النحو في الكلام كالملح في الطعام": كون القليل مصلحا، والكثير مفسدا، لأن "المشبه، وهو "النحو، لا يشترك مع المشبه به المذكور في هذا المعنى أصلا إذ لا يحتمل النحو قلة ولا كثرة بل هو عبارة عن أن تراعي قواعده وأحكامه: مع رفع الفاعل ونصب المفعول، وغير ذلك فإن تحقق ذلك في الكلام كان صالحا، وإلا كان فاسدا بخلاف المشبه به فإنه يحتمل القلة والكثرة، والقليل منه مصلح، والكثير مفسد -وحينئذ لا يصح جعل المعنى المذكور وجه شبه، لعدم وجوده في كلا الطرفين- لا تحقيقا، ولا تخيلا.

أما ما يصلح وجه شبه بينهم فهو: الصلاح إذا استعملا، والفساد إذا أهملا وهذا المعنى -لا شك- موجود في الطرفين على السواء.

تنبيه:

قد يكون وجه الشبه في أحد الطرفين حقيقيا، وفي الآخر ادعائيا كما يقال في الجبان:"هو أسد" وفي البخيل: "هو حاتم" -فوجه الشبه، بين الطرفين في الأول "الشجاعة"، وفي الثاني "الجود"، وليس من شك، أن الشجاعة في الجبان والجود في البخيل كلاهما إدعائي لا حقيقي، فمثل هذا الكلام -في ظاهره- غير صحيح لأن وجه الشبه -كما قلنا- لابد أن يكون معنى مشتركا بين الطرفين. والطرفان في المثال الأول لم يشتركا في معنى "الشجاعة" لانعدامه في الجبان- كما لم يشتركا في معنى "الجود" في المثال الثاني لانعدامه في البخيل، فلا مندوحة إذا من توجيه يصح به مثل هذا التشبيه.

ص: 33

وتوجيه ذلك: أن ينزل التضاد به الطرفين المتضادين منزلة التناسب بينهما، وأن يبرز الخسيس في صورة الشريف، فيجعل "الجبن" مثلا بمنزلة الشجاعة "والبخل" وبهذا التأويل صح أن يكون الوجه في الأول "الشجاعةط وفي الثاني "الجود" ووضح حينئذ اشتراك الطرفين في الوجه -ويسمى هذا النوع امن التشبيه:"تشبيه التضاد".

غير أنه: لابد -لتنزيل التضاد منزلة التناسب- من غرض صحيح يدعو إليه، وإلا كان الكلام ضربا من الهذيان، وذلك الغرض هو: التهكم والسخرية، أو التظرف والتمليح1 وبغير ذلك لا يتم التنزيل المذكور، ولا يعتبر.

أم ما قيل: من أن وجه الشبه في نحو هذين المثالين "هو التضاد" أي كون كل منهم مضادا للآخر، لأنه المعنى المشترك بين الطرفين، فهو قول لا يعدو صماخ الأذن، إذ من المعلوم بداهة: أن كلا من المتضادين مضاد للآخر ومقابل له -كما في قولنا: السواد كالبياض في التضاد، وكقولنا: العدم كالوجود في التقابل.. وهكذا، ومثل هذا التشبيه من لغو القول، ينبغي أن يبرأ منه كلام البليغ.

على أنه لو كان الأمر كذلك لم يكن للتهكم، أو للتظرف معنى إذ لا تهكم أو تظرف في أن يشبه أحد المتضادين بالآخر في معنى التضاد لأن هذا لا يعدو الواقع الملموس، وإنما يكون التهكم أو التظرف، حيث يدعى للجبان "شجاعة" والبخيل "جود" بعد تنزيل التضاد بين الطرفين منزلة التناسب -كما رأيت أهـ.

1 يفرق بينهما بحسب القرائن فإن كان المتكلم يهدف إلى السخرية والاستهزاء فتهكم. وإن كان متظرفا فتملح.

ص: 34