المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهو اللفظ المركب في غير ما وضع له لعلاقة غير - المنهاج الواضح للبلاغة - جـ ٥

[حامد عونى]

الفصل: وهو اللفظ المركب في غير ما وضع له لعلاقة غير

وهو اللفظ المركب في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة، كما في الجمل المستعملة في معان لم توضع لها، كالتحسر في قول الشاعر:

ذهب الصبا وتولت الأيام

فعلى الصبا وعلى الزمان سلام

فالبيت مستعمل في معنى التحسر على ذهاب الشباب، وتصرم أيامه العذاب، والعلاقة فيه اللزوم، إذ يلزم من الإخبار بفوات الشباب، وانقضاء أيامه النضرات: التحسر والأسى على فواته، بقرينة قوله فعلى الصبا

إلخ -هكذا قيل- وقيل: إن المعاني المقصودة مستفادة من طريق التلويح والإشارة، واللفظ مستعملا فيها، وهذا الرأي هو ما ارتاح له، وإذا فرغنا من بحث الاستعارة التحقيقية، فهاك:

ص: 140

‌الاستعارة المكنية

1:

تعريفها: اختلف فيه -فذهب الخطيب إلى أنها التشبيه المضمر في النفس، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه، فالتشبيه فيها غير مصرح بشيء من أركانه سوى المشبه- والدليل على التشبيه حينئذ إثبات ذلك اللازم المختص بالمشبه به للمشبه2 كما في قول الشاعر:

وإذا العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن أمان

يقول: إذا قدر لك أن تكون ملحوظا بعناية الله، فلن يمسك ضر، وكنت بمأمن من كل سوء، والشاهد في لفظ "العناية" فإن فيه استعارةبالكناية، يقال في إجرائها على هذا المذهب: شبهت العناية بإنسان تشبيها مضمرا في النفس، ثم تنوسي التشبيه، وادعي أن المشبه من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به وهو "العيون" للمشبه الذي هو "العناية" قصدا إلى المبالغة.

1 وتسمى الاستعارة بالكناية.

2 لأن إثبات لازم الشيء لغيره يدل على أن ذلك الغير مشبه بذلك الشيء ومنزل منزلته، وإلا ما صح أن يثبت له لازمه.

ص: 140

ومثله قول الحجاج في خطبته المشهورة: إني لأرى رءوسا قد أينعت. وحان قطافها إلخ، ففي "رءوسا" استعارة بالكنابة، شبه فيها الرءوس بالثمرات تشبيها مضمرا في النفس، ثم تنوسي التشبيه -على ما سبق- في البيت قبله، ثم ثبت لازم المشبه به، وهو قوله:"أينعت" للمشبه مبالغة، وقوله:"حان قطافها" ترشيح للاستعارة، وعلى هذا القياس.

وعلى هذا المذهب خرجت الاستعارة عن أن تكون من أفراد المجاز اللغوي؛ لأنه: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فهو من عوارض الألفاظ، والاستعارة المكنية على هذا المذهب: هي التشبيه المضمر في النفس، وهو فعل من أفعال المتكلم، وإذن فإطلاق الاستعارة عليها -في رأي الخطيب- مجرد تسمية خالية عن المناسبة1، وأما إطلاق لفظ المكنية عليها فواضح، إذ لم يصرح فيها بالتشبيه، وإنما كنى عنه بذكر لازم المشبه به، وإثباته للمشبه.

أما تعريفها -عند الجمهور- فهي لفظ المشبه به، المستعار في النفس للمشبه، والمحذوف المدلول عليه بشيء من لوازمه كما في قول الشاعر السابق، فقد استعير فيه بعد التشبيه لفظ "الإنسان" للعناية. ثم قدر في النفس حذف الشبه به، ودل عليه بذكر بعض خواصه، وهو "العيون" على سبيل الاستعارة بالكناية، ثم أثبت ذلك اللازم للمشبه.

وسميت مكنية -على هذا المذهب- لعدم التصريح فيها بالمشبه به، والكناية عنه بذكر بعض خواصه، أما تسميتها "استعارة"، على هذا الرأي فأمرها واضح؛ لأنها عندهم: اللفظ المستعار، فهي من أفراد المجاز اللغوي، بخلافها على رأي الخطيب على ما سبق.

1 التمس بعضهم وجها لهذه التسمية هو: أن هذا التشبيه المضمر أشبه الاستعارة من حيث إن فيه ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. ذلك أنه لما أثبت اللازم للمشبه دل ذلك على أن مريد التشبيه ادعي دخوله في جنس المشبه به حتى استحق خواصه والادعاء المذكور من شأن الاستعارة.

ص: 141

قرينة المكنية: هي عند الخطيب والجمهور: إثبات لازم المشبه به للمشبه كإثبات العيون للعناية في قول الشاعر السابق، وكإثبات الأظفار "للمنية" في قولهم:"أنشبت المنية أظفارها بفلان"، وهذا الإثبات يسمى عند الطرفين: استعارة تخييلية. أما أنه استعارة فلأن اللازم المذكور استعير للمشبه، وأثبت له، بمعنى أنه نقل عما يناسبه، واستعمل مع ما شبه بما يناسبه، وأما أنه "تخييلي" فلأن ذلك اللازم، لما نقل وأثبت: خيل للسامع أن المشبه من جنس المشبه به.

ومن هنا يعلم: أن الخطيب يخالف الجمهور في المكنية على ما سبق، ويتفق معهم في قرينتها، إذ هي -عند الطرفين- إثبات لازم المشبه به للمشبه.

ومما ذكرنا يتبين لك أمور ثلاثة:

الأول: أن قرينة المكنية استعارة تخييلية دائما، إذ هي -كما علمت- إثبات لازم المشبه به للمشبه، وهذا الإثبات يسمى عند الفريقين "تخييلا" وقد علمت وجهه.

الثاني: أن المكنية لا تنفك عن التخييلية؛ لأن التخييلية قرينتها، ولا بد للاستعارة من قرينة فهما إذن متلازمتان، لا توجد إحداهما بدون الأخرى.

الثالث: أن طرفي الاستعارة التخييلية مستعملان في معنييهما الحقيقيين "فالعيون والعناية" في البيت السابق، كلاهما مستعمل في المعنى الذي وضع له، والتجوز إنما هو في إثبات العيون للعناية، إذ إن العناية لا عيون لها، فهو إذن إثبات الشيء لغير ما هو له، كما في المجاز العقلي في نحو: أنبت الربيع الزرع، فإن كلا من "الإنبات والربيع" مستعمل في المعنى الذي وضع له، والتجوز إنما هو في إسناد الإنبات إلى الربيع، وإنباته له.

ثم إن اللازم المراد إثباته للمشبه -منه ما يكون به كما وجه المشبه في المشبه به- ومنه ما يكون به قوامه ووجوده فالأول كما في بيت الهذلي:

ص: 142