الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قرينة التبعية:
هي: في الفعل وسائر المشتقات مرجعها -غالبا- إلى:
1-
الفاعل: بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل: معنى يناسب الفاعل كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ونحو: "نطقت الحال بكذا" فالطغيان بمعناه الحقيقي يستحيل صدوره من الماء، كما أن النطق بمعناه الأصلي لا يتأتى صدوره من "الحال" إذ هما من شئون الإنسان، فدل ذلك على أن المراد "بالطغيان". معنى يصح إسناده إلى الماء، وهو الكثرة التي جاوزت الحد، وأن المراد:"بالنطق": ما يصح نسبته إلى "الحال"، وهو الدلالة الواضحة، ففي كل من "طغى ونطق" استعارة تبعية، قرينتها "الماء" في الأول و"الحال" في الثاني، وكلاهما فاعل:
2-
نائب الفاعل: بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل معنى يناسب نائب الفاعل كما في قوله تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فالضرب وهو نصب الشيء من شأن الخيام، لا من شأن الذلة والمسكنة: إذ هما أمران معنويان، فدل ذلك على أن المراد "بالضرب" معنى يناسبهما، وهو "الحكم" ويكون المعنى حينئذ: حكم عليهم بالذلة والمسكنة، ففي "ضرب" حينئذ استعارة تبعية، قرينتها لفظا "الذلة"، "والمسكنة"، وكلاهما نائب فاعل1.
3-
المفعول بأن يكون تسلط العامل عليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد منه: معنى يناسب المفعول. من ذلك قول ابن المعتز يمدح والده:
جمع الحق لنا في إمام
…
قتل البخل وأحيا السماحا
1 شبه الحكم على الشيء بنصب الخيام عليه بجامع الاشتمال في كل، ثم استعير ضرب الخيام للحكم، واشتق منه، "ضرب" بمعنى حكم على سبيل الاستعارة التبعية.
"فالقتل والإحياء" بمعناهما الحقيقي لا يقعان إلا على ذي روح، "والبخل والسماح" ليسا من ذوات الروح، فدل ذلك على أن المراد "بالقتل": معنى يناسب البخل، وهو الإزالة، وأن المراد "بالإحياء": معنى يناسب الجود، وهو "الإكثار"، وكأنه يقول: أزال البخل، وأكثر السماح1 ففي كل من "قتل" وأحيا" استعارة تبعية. قرينتها "البخل" في الأول و"السماح" في الثاني وكلاهما مفعول. وقد تكون القرينة المفعول الثاني، كما في قول القطامي من قصيدة:
نقريهمو لهذميات نقد بها
…
ما كان خاط عليهم كان زراد2
يقول: "نطعنهم طعنات نافذات، تقد الدروع، وتشق الضلوع، والشاهد: قوله: "نقريهمو" فهو استعارة تبعية تهكمية، قرينتها قوله: "لهذميات" وهو المفعول الثاني "لنقري"، ذلك أن "القرى" في الأصل: تقديم الطعام للضيف، فلا يصح إيقاعه بهذا المعنى على "اللهذميات" التي هي الطعنات النافذات، أو الأسنة الماضيات، فعلم: أن المراد "بالقرى" معنى يناسب هذه الطعنات أو الأسنة، وهذا المعنى هو تقديمها إلى الأعداء عند اللقا وكأنه يقول: نقدم إليهم لهذميات نقد بها
…
إلخ.
وقد تكون القرينة المفعولين معا، كما في قول الحريري:
1 شبه أولا إزالة البخل بالقتل بجامع ما يترتب على كل من العدم، ثم استعير القتل للإزالة واشتق منه قتل بمعنى أزال وشبه ثانيا الإكثار من الشيء بإحيائه بجامع شيوع المنفعة، ثم استعير "الإحياء" للإكثار، واشتق من "الإحياء" بمعنى الإكثار "أحيا" بمعنى أكثر على سبيل الاستعارة في الموضوعين.
2 "نقريهمو" من القرى على زنة "إلى"، وهو تقديم الطعام إلى الضيف، و"اللهذميات" جمع لهذمية وهي الطعنة الواسعة نسبة إلى لهذم وهو السنان القاطع. و"القد" القطع و"خاط" بمعنى قدر على التضمين ولهذا عدى "بعلي"، و"الزراد" صانع الزرد بفتح الراء وهو الدرع، شبه تقديم الطعنات أو الأسنة عند اللقاء بالقرى بجامع أن كلا تقديم ما يصل من خارج إلى داخل، ثم استعير القرى لتقديم الطعنات أو الأسنة على سبيل الاستعارة التبعية.
وأقرى المسامع أما نطقت
…
بيانا يقود الحرون الشموسا1
يصف نفسه بسحر البيان وعذوبة المنطق، فيقول: وأقدم إلى المسامع بيانا يكبح بسحره وعذوبته جماح النفوس الصوادف، والشاهد قوله:"وأقرى المسامع بيانا" فإن في "أقرى" استعارة تبعية، قرينتها تعلق القرى بكل من "المسامع والبيان" ذلك أن "القرى" كما قدمنا -تقديم الطعام إلى الضيف، فلا يصح إيقاعه بهذا المعنى على المسامع والبيان، فعلم من هذا: أن المراد به: معنى يناسبهما، وهو التقديم والإلقاء.
4-
المجرور بأن يكون تعلق الفعل بالمجرور غير مناسب، فيدل ذلك على أن المراد به: معنى يناسب ذلك المجرور- كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} فالتبشير إخبار بما يسر، فلا يناسب تعلقه "بالعذاب" فيعلم من هذا أن المراد بالتبشير: معنى يناسب العذاب، وهو الإنذار، أي: الإخبار بما يسيء، وإذن ففي قوله:"بشرهم" استعار تبعية تهكمية، قرينتها مجرور الحرف2، ومثهل قوله تعالى:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} فإن الهداية هي الدلالة بلطف، وهذا المعنى لا يناسب تعلقه "بالجحيم" فالمراد إذن معنى يناسبه: وهو الجر بعنف لا هوادة فيه، وإذن ففي قوله:"فاهدوهم" استعارة تبعية تهكمية كذلك، قرينتها مجرور الحرف كسابقتها.
وقد تكون القرينة غير ما ذكرنا كما في قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} على أن يكون "مرقد" اسم مكان، بمعنى القبر، ليكون استعارة تبعية، شبه الموت بالرقود: بجامع فقد الإحساس، ثم استعير لفظ "الرقود" لمعنى "الموت"، ثم اشتق منه "مرقد" اسم مكان، بمعنى مكان الموت أي: القبر، على سبيل الاستعارة
1 "أقرى" مضارع قرى، و"الحرون" من الخيل ما لا ينقاد لصاحبه والشموس مثله يقال: حرن الفرس وشمس إذ منع ظهره.
2 نزل التضاد بين التبشير والإنذار منزلة التناسب بينهما، على ما سبق في باب التشبيه، ثم شبه الإنذار بالتبشير في أن كلا إخبار بما يسر، ثم استعير التبشير للإنذار، واشتق منه "بشر" بمعنى أنذر على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية.
التبعية، والقرينة كون هذا الكلام صادرا من الموتى يوم البعث، مع ضميمة قوله:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وكما تقولون: قتلت عمرا "إذا ضربته ضربا موجعا" فإن القرينة فيه على أن المراد بالقتل: الضرب الأليم حالية.
تقسيم الاستعارة باعتبار الملائم:
تنقسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم لأحد الطرفين، وعدم ذكره إلى مرشحة، ومجردة، ومطلقة.
فالمرشحة: ما قرنت بما يلائم المستعار منه، وهو المشبه به، سواء كان ذلك الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو كان تفريعا1.
فمثال الترشيح بالصفة النحوية، قولك:"رأيت أسدا حاد الأظفار، متنقش اللبدة، رهب الزئير"، وقولك:"رأيت بحرا بعيد الغور، لا ساحل له"، فقد استعير في الأول "الأسد" للرجل الجريء، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه: من حدة الأظفار، وانتفاش اللبدة، ورهبة الزئير ترشيحا للاستعارة، واستعير في الثاني "البحر" للعالم الجليل، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه: من بعد الغور، وانتفاء الساحل ترشيحا للاستعارة كذلك- وكلا الترشيحين وصف نحوي- والقرينة في المثالين حالية.
ومثال الترشيح بالصفة المعنوية قول الشاعر:
ينازعني "ردائي" عبد عمرو
…
رويدك يا أخا عمر بن بكر
1 الفارق بين الصفة والتفريع أن: الملائم إن كان من بقية الكلام الذي فيه الاستعارة فهو صفة، وإن كان كلاما مستقلا جيء به بعد الكلام الذي فيه الاستعارة مبنيا عليه كان تفريعا، والعبرة بالاعتبار والقصد، فنحو قولك:"رأيت أسدا يرمي" يصح أن يكون صفة وأن يكون تفريعا.
لي الشطر الذي ملكت يميني
…
ودونك فاعتجر منه بشطر1
يقول: ينازعني عبد عمرو سيفي الذي أقي به نفسي وعرضي، ثم التفت قائلا: تمهل فسأقسم بيني وبينك، فأحتفظ لنفسي بقائمه الذي بيدي، وأعطيك أنت صدره، فهو يهدده بالقتل، والشاهد فيه: أنه استعار الرداء للسيف، تشبيه السيف به، في أن كلا وقاية حفظ. فالرداء يحفظ السوأة، والسيف يحفظ الحمى، ثم وصف الرداء الذي هو المستعار منه بما يلائمه من الاعتبار، إذ هو لف الرأس بنحو ثوب ترشيحا للاستعارة -والقرينة حالية كذلك.
ومثال الترشيح بالتفريع قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 2، استعير الاشتراء للاختيار والإيثار، ثم فرع عليه ما يلائم المستعار منه، وهو "نفي الربح في التجارة" ترشيحا للاستعارة، وقرينتها ثبوت الاشتراء بمعناه الحقيقي.
ويسمى هذا القسم "استعارة مرشحة" لأن الترشيح معناه: التقوية، وذكر ملائم المشبه به يبعدها عن الحقيقة، ويقوي فيها دعوى الاتحاد التي هي مبنى الاستعارة.
والمجردة: ما قرنت بما يلائم المستعار له، وهو المشبه، سواء كان الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو تفريعا.
فمثال التجريد بالصفة النحوية، قول أبي عبادة البحتري:
1 "رويدك" اسم فعل بمعنى أمهل، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، "ودونك" اسم فعل بمعنى خذ، والاعتجار لف الرأس بنحو ثوب، وأراد بالشطر الذي ملكت يمينه: قاتم سيفه، وبالشطر الآخر: صدر السيف.
2 شبه إيثار الباطل على الحق بالاشتراء بجامع استبدال شيء مرغوب عنه بشيء مرغوب فيه، ثم استعير الاشتراء للإيثار، ثم اشتق من الاشتراء بمعنى الإيثار اشتروا بمعنى "آثروه" واختاروا استعارة تبعية.
يؤدون التحية من بعيد
…
إلى قمر من الإيوان باد1
استعار القمر للإنسان الجميل، ثم وصف المستعار له بما يلائمه: من كونه مطلا من الإيوان تجريدا للاستعارة، وقرينتها قوله: يؤدون التحية من بعيد "والتجريد وصف نحوي، كما ترى.
ومثال التجريد بالصفة المعنوية قول كثير عزة:
غمر الرداء ذا تبسم ضاحكا
…
غلقت لضحكته رقاب المال2
يقول: إنه كثير العطاء واسع البذل، إذا ابتسم لطالبي معروفه تمكنت رقاب المال من أيديهم، وتعذر انفكاكها، كالرهن الحبيس في يد المرتهن، وقد عجز الراهن عن استرداده، والشاهد فيه: استعارة الرداء للعطاء بعد تشبيه العطاء به في أن كلا وقاية حفظ وصيانة، فالمال يصون العرض، والرداء يصون السوأة، ثم وصف المستعار له الذي هو "العطاء" بما يلائمه "وهو الغمر"3 تجريدا للاستعارة، وهو -كما ترى- وصف معنوي وقرينتها تتمة الكلام: من تبسم الممدوح، وحبس رقاب أمواله في أيدي العفاة.
ومثال التجريد بالتفريع قولهم: "رأيت غضنفرا في حومة الوغى، فلجأت إلى ظل رمحه" استعير الغضنفر للرجل المقدام بقرينة قوله: "في حومة الوغى" ثم فرع عليه بما يلائم المستعار له: من اللجوء إلى ظل رمحه تجريدا للاستعارة.
..
1 "الإيوان" اسم لبناء ضخم ومنه إيوان كسرى.
2 "الغمر" في الأصل الماء الكثير، واستعمل هنا بمعنى كثير العطاء مجازا، ومن هنا يعلم أن لا مائع من أن يكون الملائم متجوزا فيه. وفي قوله "تبسم ضاحكا" وصف للممدوح بالبشر والطلاقة وذلك
أمارة الارتياح للبذل، وقوله:"غلقت" من غلق الرهن في يد المرتهن إذا لم يقدر الراهن على فكه لعجزه عن أداء الدين. و"الضحكة" بفتح الضاد وسكون الحاء المرة من الضحك، ويريد برقاق المال: أصوله.
3 هذا إذا كان من غمر الماء إذا كثر، أما إذا كان من قولهم: ثوب غامر أي: واسع فضفاض فهو ترشيح.
وسمي هذ القسم: "استعارة مجردة" لتجردها عما يقوي فيها دعوى الاتحاد، ولا شك أن ذكر ما يلائم المستعار له يقربها من المعنى الحقيقي، ويضعف فيها دعوى الاتحاد بين الطرفين. وقد اجتمع الترشيح والتجريد في قول الشاعر:
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر
…
ظواهر جلدي وهو القلب جارح
استعار السهم للنظر بجامع شدة التأثير، وريشه، ترشيح لأنه من ملائمات المستعار منه ومن قولهم: راش السهم إذا ألصق عليه الريش، ليكون أحكم في الرماية "والكحل" تجريد لأنه من ملائمات المستعار له، وبهذا الاعتبار تكون قرينة الاستعارة حالية، فإذا اعتبر "الكحل" قرينة كان "ريشه" ترشيحا، واعتبرت الاستعارة حينئذ مرشحة.
ومما ينبغي أن يعلم: أن اعتبار الترشيح والتجريد، إنما يكون بعد تمام الاستعارة وهي إنما تتم باستيفاء قرينتها، فقولك مثلا:"رأيت سحابا يعطي" استعارة، لا ترشيح فيها ولا تجريد لعدم اقترانها بما يلائم أحد الطرفين، وأما قولك:"يعطي" فهو قرينة الاستعارة، فلا يعتبر تجريدا وإن كان من ملائمات المستعار له، ولو أن القرينة في هذا المثال حالية، لكان قولك:"يعطي" تجريدا للاستعارة لملاءمته للمستعار له.
والمطلقة: ما لم تقترن بشيء من ملائمات أحد الطرفين، كما تقول:"ظمئي إلى لقائك شديد"، استعير الظمأ للشوق، بقرينة قولك: إلى لقائك، فالاستعارة مطلقة لعدم اقترانها بشيء يلائم أحد الطرفين.
وسمي هذا القسم: "استعارة مطلقة" لإطلاقها عن التقييد بما يلائم أحد طرفي الاستعارة، كما رأيت.
قالوا: ومن قبيل المطلقة: ما اجتمع فيه ترشيح وتجريد وتساويا؛ لأنهما باجتماعهما يتعارضان فيتساقطان، وكأن لا ترشيح ولا تجريد، كما في قول الشاعر السابق:"رمتني بسهم ريشه" إلخ، على اعتبار أن القرينة فيه حالية، فإذا زاد أحدهما على الآخر رجح جانبه.
موازنة بين الاستعارات الثلاث:
الاستعارة المرشحة كما قلنا: ما ذكر فيها ما يلائم المستعار منه "أي: المشبه به"، وهذا مما يزيد الاستعارة قوة مبالغة، ذلك أن مبنى الاستعارة كما علمت على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه هو المشبه به عينه، لا شيء سواه، والترشيح الذي هو ذكر ملائم المشبه به: إمعان في هذا التناسي وغلو في دعوى الاتحاد، وكأن ليس هناك استعارة، بل ولا تشبيه، حتى إنك لتجد الشاعر أو الناثر، يمعن في إنكارهما، ويخيل للسامع: أن الأمر محمول على حقيقته، لا تجوز فيه. ألا ترى إلى قول أبي تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول1
…
بأن له حاجة في السماء
استعار لفظ "الصعود" الذي هو العلو الحسي المكاني: لعلو المرتبة، ثم بنى كلامه على أنه صعود حسي حقيقة، إمعانا منه في تناسي التشبيه، وفي إنكار أن هناك استعارة فذكر ما يلائم الصعود الحسي: من ظن الجهول بحقائق الأشياء: أن له حاجة ينشدها في السماء، ولولا أنه قصد أن يتناسى الاستعارة، ويصر على إنكارها إصرارا، وأنه جعل الممدوح صاعدا في السماء صعودا حسيا مشاهدا -ما كان لهذا الكلام وجه- ومثله قول أبي الطيب السابق:
ولم أر قبلي من مشى البحر نحوه
…
ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
فنفيه أن يرى "البحر" يمشي إلى إنسان "وأن يرى الأسود تعانق رجلا مبني على أنه أراد: المعنى الحقيقي لهما مبالغة، إذ لم يعهد أن يسعى البحر نحو إنسان، أو أن تعانقه الأسود، فكل ذلك بمني على الإمعان في تناسي التشبيه، والغلو في إنكار الاستعارة، يؤيد ذلك قول ابن العميد يصف غلاما قام يظلله من حر الشمس.
1 إن في التعبير "بالجهول" فضل مبالغة في المدح لما فيه من الإشارة إلى أن هذا الوصف إنما هو في ظن الجهول لنقصان عقله، أما العاقل فيعرف أن لا حاجة له في السماء لاتصافه بسائر الكمالات، فإفراطه في العلو إنما هو لمجرد التعالي على الأنداد.
قامت تظللني من الشمس
…
نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب
…
شمس تظللني من الشمس1
وقول الشاعر السابق2:
لا تعجبوا من بلى غلالته
…
قد زر أزراره على القمر3
ففي الأول: استعار "الشمس" للإنسان ذي الوجه المشرق، وفي الثاني استعار "القمر" لهذا الإنسان، ثم تناسى التشبيه، وتناسى الاستعارة، وبنى الكلام على أن الشمس والقمر حقيقيان، ولولا أن ابن العميد ادعى لغلامه معنى الشمس الحقيقية: لما كان للتعجب معنى، إذ ليس بدعا أن يظل إنسان حسن الوجه إنسانا آخر، ويقيه بشخصه وهج الشمس، كذلك لولا أن أبا الحسن جعل صاحبه قمرا حقيقيا: لما كان ثم وجه للنهي عن التعجب من الكتان إنما يسرع إليه البلى حين يلابس القمر الحقيقي -كما يقولون- لا حين يلابس إنسانا بلغ الغاية في الحسن.
وإذا كان هذا شأن المرشحة كانت جديرة أن تحتل المكان الأول بين أختيها.
ويلي المرشحة في القوة: الاستعارة "المطلقة": إذ هي التي لا يذكر فيها شيء يلائم أحد الطرفين -كما عرفت، فهي- وإن خلت مما يقوي تناسي التشبيه، ويدعم دعوى الاتحاد: من ذكر ما يلائم المشبه به ليس فيها ما ينافيهما: من
1 ضمن التظليل معنى المنع فعداه "بمن" أي: تمنعني من حر الشمس، وأنث الفعل مراعاة لتأنيث اللفظ.
2 هو الشريف أبو الحسن يتصل نسبه بعلي بن أبي طالب وهو شاعر مفلق.
3 البلى "الفناء" والغلالة بكسر الغين شعار يلبس تحت الثوب، و"زر" بمعنى شد.
ذكر ما يلائم المشبه -وإذا كان هذا حالها- كانت خليفة أن تحتل مكانا وسطا بين أختيها.
ومن هنا يبدو واضحا: أن الاستعارة المجردة في المرتبة الدنيا لاشتمالها على ما يلائم المشبه، إذ هو يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة: من تناسي التشبيه، ودعوى الاتحاد، قضاء لحق المبالغة.
اختبار:
1-
عرف كلا من الاستعارة الوفاقية والعنادية ومثل لكل، مع إجراء الاستعارة فيما تمثل به. ومن أي قبيل قولهم: كان ميتا فأحييناه.
2-
أجر الاستعارة في قولهم: قابلني اليوم قس بن ساعدة، يريدون:"رجلا عييا" وبم تسمي هذا النوع من الاستعارة؟
3-
عرف الجامع وافرق بينه وبين وجه الشبه في التشبيه. ثم قسم الاستعارة باعتباره، وعرف كل قسم، ثم أجر الاستعارة في الحديث الشريف:"خير الناس ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها" ومن أي القسمين هذه الاستعارة.
4-
عرف الاستعارة الخاصة، ومثل لها، مع بيان موضع الغرابة فيهما.
5-
ما وجه غرابة استعارة "سيلان الماء لسير الإبل" في قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح"، مع ما نراه من سذاجتها؟
6-
قسم الاستعارة باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما، ومثل لكل بمثال، ومن أي قبيل قوله تعالى:{فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ؟
7-
قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار، وعرف كل قسم، ومثل له، وكيف صحت الاستعارة في نحو: زارني اليوم بأقل، تريد رجلا عييا، مع اشتراط أن يكون المستعار منه كليا، ثم أجر الاستعارة في نحو:"قتل على خصمه". أي: أذله، مع بيان نوع الاستعارة في المثال.
8-
بين وجه كون الاستعارة في المشتقات تبعية، ووضح ذلك في مثال، ثم بين نوع الاستعارة، مع إجرائها في قولهم: فلان في بسطة من العيش، مع بيان علة تسميتها تبعية في الحرف.
9-
بين مناط قرينة التبعية، مع التمثيل، ومع بيان قرينة الاستعارة في قوله:{يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} .
10-
قسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم، وعرف كل قسم، ومثل له مع بيان علة التسمية في كل منها، وهل من التجريد لفظ "يتصدق" من نحو: رأيت بحرا يتصدق؟
11-
كيف كانت المرشحة أبلغ من أختيها، وأي الأختين أبلغ من الأخرى، وجه ما تقول مع التمثيل.
تمرينات منوعة:
1-
أجر الاستعارة وبين نوعها وقرينتها فيما يأتي: نزلت على حاتم، تريد: رجلا بخيلا، فبشرهم بعذاب أليم. اشتعل الرأس شيبا، يقول الشاعر يصف تشتيت المهزومين:
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة
…
كما نثرت فوق العروس الدراهم
2-
بين في الاستعارات الآتية: الطرفين والجامع بينهما:
تلك آية بينة تخرج متدبرها من العمى إلى الإبصار، دخلنا حديقة فرشقتنا ألحاظها، وابتسمت لقدومنا ثغورها، يابن القمرين أقبل: تعلمت الكرم من سحاب لا يكف، ومعين لا ينضب.
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
…
وردا وعضت على العناب بالبرد
3-
بين في التشبيهات الآتية وجه الشبه، ثم حولها إلى استعارات مبينا نوع كل استعارة وقرينتها: في هذه الخميلة أزهار كأنها الكواكب، وفوق الأغصان كروان
تحاكي القيان. سكبت دمعا كحبات الجمان:
قوم إذا نهضوا لنجدة صارخ
…
ركبوا الجياد كأنهم رياح
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
وكأن أجرام النجوم لوامعا
…
درر نثرن على بساط أزرق
له خال على صفحات خد
…
كنقطة عنبر في صحن مرمر
4-
مثل لما يأتي استعارة عنادية تهكمية، استعارة داخلية طرفاها عقليان. استعارة خاصية، مع بيان وجه الغرابة فيها، استعارة أحد طرفيها حسي والآخر عقلي، استعارة تبعية قرينتها المفعول. استعارة مجردة، وأخرى مرشحة بوصف معنوي.
5-
علام استشهد بما يأتي؟ فبشرهم بعذاب أليم.
نقريهم لهذميات نقد بها
ما كان خاط عليهم كل زراد
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
جمع الحق لنا في إمام
…
قتل البخل وأحيا السماحا
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا
…
علقت لضحكته رقاب المال