المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفي الثاني وصفا المشبه به كذلك، مع بيان نوع التشبيه - المنهاج الواضح للبلاغة - جـ ٥

[حامد عونى]

الفصل: وفي الثاني وصفا المشبه به كذلك، مع بيان نوع التشبيه

وفي الثاني وصفا المشبه به كذلك، مع بيان نوع التشبيه فيهما من حيث الإجمال والتفصيل.

ص: 60

‌التقسيم السادس:

ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين -قريب مبتذل، وبعيد غريب- ومعنى "قريب": أنه في متناول العامة وغيرهم، ومعنى "مبتذل". أنه متداول بين الناس، ومن هذا التفسير يعلم معنى البعيد الغريب الآتي.

فالقريب المبتذل: ما ينتقل فيه الدهن من المشبه إلى المشبه به، من غير تأمل ونظر، بسبب وضوح وجه الشبه فيهماكتشبيه حسناء الوجه بالقمر، وكتشبيه حسالصوت بالبلبل، وتشبيه الجرئ بالأسد، والكريم بالغيث -فكل واحد من هذه التشبيهات قريب: في متناول العامة، مبتدل: يكثر تداوله لسهولة انتقال الذهن فيه من المشبه إلى به، بسبب وضوح الوجه بين الطرفين: ذلك: أن المشبه به في كل ما ذكرنا أعرف الأشياء بالمعنى الذي عقد له التشبيه.

أسباب وضوح وجه الشبه ثلاثة:

أ- أن يكون الوجه شيئا واحدا، لا تعدد فيه، ولا تفصيل كالأمثلة السابقة، فإن وجه الشبه في كل منها واحد، وإدراك الشيء الواحد لا يحتاج لغير ملاحظة واحدة، لهذا كان التشبيه قريبا مبتذلا لانتقال الذهن فيه إلى المشبه به، دون تأمل.

ب- أن يكون في وجه الشبه شيء من التفصيلن يحتاج إلى تعدد الملاحظة -غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لما بين الصورتين من شدة التناسب- كأن تشبه العنب بالبرقوق في حجمه، وشكله، ولونه ففي الوجه تفصيل ما، إذ لوحظ فيه هذه الأمور الثلاثة: الحجم. والشكل. واللون. وهذا يقتضي شيئا من غرابة

ص: 60

التشبيه وبعده -لكن عارض ذلك ما يقتضي قربه وابتذاله، وهو سرعة حضور صورة "البرقوق" في الذهن عند استحضار صورة "العنب" لما بينهما من شدة التجانس المقتضى لسرعة الانتقال، فلا أثر للتفصيل في وجه الشبه مع قوة هذا التجاس.

جـ- أن يكون في الوجه شيء من التفصيل كسابقه، يحتاج إلى تعدد الملاحظة- غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا، أي لا يقيد استحضار صورة المشبه، وذلك لكثرة مشاهدة صورة المشبه به، وتكررها على الحس- فإن المشاهد كثيرا ما يكثر خطورة بالبال عادة. وبذلك يسهل الانتقال إليه عند إرادة التشبيه- ومن هنا كان التشبيه قريبا مبتدلا، كما في تشبيه إنسان جميل: بالقمر في الرفعة والهداية- وكتشبيه المرآة المجلوة: بالشمس في "الاستدارة والاستنارة-" ففي وجه الشبه- في المثالين- شيء من التفصيل، إذ لوحظ في كل منهما أمران- "الرفعة والهداية" في الأول، والاستدارة والاستنارة "في الثاني- وهذا يقتضي شيئا من غرابة التشبيه وبعده- لكن عارض ذلك ما جعله قريبا مبتذلا. وهو سرعة حضور صورة المشبه به في الذهن لكثرة النظر إليها ومشاهدتها وليس من شك: أن صورتي الشمس والقمر مما يتوارد على النظر كثيرا.

والبعيد الغريب: ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به إلا بعد إعمال فكر وطول تأمل، بسبب خفاء وجه الشبه فيهما.

وأسباب خفاء وجه الشبه ثلاثة أيضا:

أ- أن يكون في وجه الشبه تفصيل يحتاج إلى كثرة الملاحظات والاعتبارات كما في شبيه الهيئات بعضها ببعض.. كتشبيه هيئة الخال على الخد بالشقيق في قول الشاعر:

لا تعجبوا من خاله في خده

كل الشقيق بنقطة سوداء1

1 "الخال" شامة في البدن يضرب لونها إلى السواد، وقد توجد على صفحة الخد، والشقيق زهر معروف.

ص: 61

فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء، في وسط رقعة مبسوطة حمراء، وفيه من كثرة التفصيل والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد روية ونظر -وكغير ذلك مما تقدم في تشبيه هيئة بأخرى، مما لا يقوم بنفس المتكلم إلا بعد أن يتأمل ويتعمل.

ب- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لبعد التناسب بين الصورتين كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ 1 الْقَدِيمِ} فصورة العرجون في ذتها غير نادرة الحضور في الذهن- ولكنها تندر عند استحضار صورة القمر للبون الشاسع بين الصورتين- فإن القمر مسكنه في السماءن والعرجون في الأرض، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه لا يؤبه له، والقمر من قبيل الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، فشتان ما بين الصورتين، وناء ما بين الطرفين.

من ذلك تشبيه صورة أزهار البنفسج، وهي على سيقانها، بصورة النار في أطراف الكبريت أول شبوبها في قول الشاعر:

ولا زوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت2

1 هو سباطة البلح إذا يبست انحنت وتقوست أشبه شيء بتقوس الهلال.

2 "اللازوردية" بكسر الزاي وفتح الواو وسكون الراء وصف لأزهار النبفسج وهي نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد لكونها على لونه فهي نسبة تشبيهية. "وتزهر" من الزهو وهو الكبر، وفي نسبة الكبر إلى البنفسج تجوز "وحمر اليواقيت" من إضافة الصفة للموصوف أي اليواقيت الحمر "وفوق قامات" حال من اسم كأن، "وضعفن بها" انحنين بها لأن ساق البنفسج إذا طالت انحنت لدقتها فكأنها ضعفت عن حمل هذا الزهر، وأوائل النار أي بدء اشتعالها، وإنما قيدت بذلك لأن النار في هذه الحال يضرب لونها إلى الزرقة الشبيهة بلون البنفسج.

ص: 62

فكان المناسب للشاعر أن يشبه صورة أزهار البنفسج وهي على سيقانها، بما ينسابها من الأزهار، إذ هو الذي يتبارد إلى الذهن، عند استحضار صورة البنفسج، ولكنه شبهها بصورة النار المذكورة، وهي -في ذاتها- غير نادرة الحضور في الذهن، إذا أنها في متناول عامة الناس، واقعة بين أيديهم وأرجلهم- ولكنها تندر عند استحضار صورة النفسج المذكور، لما بين الصورتين من عدم التجاس، وبعد الموطن- فهذا زهر ندى لطيف، وذاك لهب حار عنيف. وهذا يسكن الخمائل، وذاك يستوطن المنازل، فبعد ما بين الطرفين.

جـ- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا، أي لا يقيد حضور صورة المشبه فيه -وذلك لأمور منها:

1-

أن يكون المشبه به وهميا، أي من اختراع الوهم، كما في اتشبيه النصال الزرق المسنونة، بأنياب الأعوال في قول الشاعر:"ومسنونو زرق كأنياب اإوال" فإن أنياب الغوال مما لاو وجود له في غغير الوهم.

2-

أن يكون المشبه به مركبا خياليان أي من نسج الخيال، كصورةأعلام من ياقوت، منشورة على رماح من زبرجد، في قو لاشاعر السابق، وماشاكله من الهيئات المركبة.

3-

أن يندر تكرار المشبة به على الحس، كصورة المرآة في كف الأشل، فقد ينقضي عمر الإنسا، ولا يتفق له أن يرى مرآة في سد شلاهن وفي هذا سبب آخر لغرابة الوجه، هو كثرة التفصي فيه.

معتى التفصيل في الوجه:

اعلم: أن المراد بالتفصيل في وجه الشبه: ما فيه من كثرة الاعتبارات والملاحظات: بأن ينظر فيه إلى أكثر من وصف لشيء واحد، أو لأكثر

ص: 63

متعددا كان ذلك الوجه، أو مركبا اعتباريا- وكملا كثر التفصيل في الوالمج كان التشبيه أدخل في باب الغراب، وأبعد عن الابتذال، وكان أدق نسجا وأجمل وقعا، كما تراه في قوله تعالى:"إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنا" الآية. فقد حوت من كمال الدقة، وكثرة التفصيل ما يبهر العقول.

أوجه التفصيل:

يقع التفصيل في وجه الشبه علىوجوه كثيرة، أحراها بالقبول وأولداها بالعتبار. صورتان.

الأولى: أني ؤخذ بعض الأوصافن ويترك بعضها: من كل تشبيه فيه دقة تحتاجغلى مزيد نظر، وفضل ملاحظة- كما في قول امرئ القيس:

حمتل درينيا كأن سنانه

سنا لهب لم يتصل بدخان1

شبه الشاعر سنان الرمح بهلهب ذي سنا، فاعتبر في كل منهماشكله المرخويط الدقيق الطرف، وزرقته السافية، وبريقه، ثم قصد أن ينفي الدخان عن السنا تحقيقا للتشبيه إذ ليس في رأس السنان ما يشبه الدخان- وتحقيق التشبيه على هذه الصورة لا يواتيك ببديهة النظر، بل تراك تحتال له، وتدبر أمره- ومثله قول الشاعر:

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب2

1 "الرديني" الرمح منسوبا إلى "ردينة" وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح "وسنا اللهبط ضوؤه- يشبه سنانه بضوء الهلب.

2 قال الأصمعي- الظبي والبقرة الوحشية إذا كانا حيين فعيونها كلها سوداء فإذا ماتا بدا بياضها فأشبهت الجزع، وهو خرز يماني فيه سواد وبياض تشبه به الأعين، والأرحل جمع رحل وهو مركب للبعير.

ص: 64

والشاهد فيه أن الشاعر: نفى التثقيب عن الجزع تحقيقا للتشبيه، وبيانا لتساوي الطرفين في وجه الشبه، لأن الجزع إذا كان مثقبا خالف العيون في الشكل بعض المخالفة، إذ لا ثقوب فيها.

والثانية: أن تؤخذ جميع الأطراف: بأن يعتبر وجودها جميعها في وجه الشبه كما مر نحو قول الشاعر:

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نورا

فقد اعتبر في كل من الطرفين: الشكل، والمقدار، واللون، والوضع الخاص- ومثله سائر التشبيهات السابقة.

ومن ابلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قوول ابن المعتز:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى

نطير غرابا ذا قوادم جون1

شبه هيئة ظلام الليل، يبدو في ثناياه ضوء الصبح: بهيئة غراب أسود اللون، ذي قوادمن بيض، وإنما روعي أن تكون قوادمه بيضاء لأن تلك القطع م الظلام تقع في حواشيها أطياف من نور، يتخيل منها في مرأى العين شكل قوادم بيض لطائر أسود قائتم السواد، وسر الروعة والجمال في هذه التشبيه: أنهجعل ضوء الصبح -لقوة ظهوره، ودفعه للظلام- كأنه يحفز الدجى، ويستعجلها، ولا يرضى منها أن تتمهل في حركتها، ولما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخر؟، حيث قال:"نطير غرابا" ليفيد معنى لاسرعة- لأن الطائر إذا كان حاطا في مكان، فأزعج وأطير منه كان ذلك -لا محالة- أسرع لطيرانه، وأدعى لأن يمعن في الطيران، إلى حيث لاتراه العيون- بخلاف ما إذا طار عن اختيار، فقد يجوز أن يبطئ في طيرانه، وليس هذا المعنى مرادا.

1 "القودام" أوائل ريش الطائر، "والجون" بالضم جمع جون بالفتح يطلق على الأبيض والأسود، والمراد هنا الأبيض.

ص: 65

تنبيهان:

الأول: اعلم أن التشبيه البليغ1 هو ما كان بعيدا غريبا2 كما في تشبيهات الهيئات المنتزعة من أمور متعددة على ما عرفت- سواء كان الوجه مركبا من أمور كثيرة أو لا، وسواء ذكرت الأداء أو لا. لما هو مركوز في الطباع: من أن الشيء إذا نيل بعد احتيال له ومعاناة التوسل إليه. كان نيله أحلى، وموقعه في النفس ألذ وأشهى- ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ودق موضعه ببرد الماء على الظمأ. قال القطامي:

وهن ينبذن من قول يصبن به

وقع الماء من ذي الغلة الصادي3

قالوا: وما أشبه هذا الضرب بالجوهر في الصدق، لا يبرز إليك إلا أن تشقه عنه، أو بالجيب المتحجب، لا يريك وجهه حتى تستأذن، وقديما قالوا:

وزاده كلفا4 في الحب أن منعت

رحب شيء غلى الإنسان ما منعا

أما إطلاق البليغ على التشبيه المحذوف منه الأداة إطلاقا شائعا، فهو اصطلاح لبعضهم، وإلا فهو يسمى "تشبيها مؤكدا" لما فيه من دعوى اتحاد الطرفين، مجمل أحدهما على الآخر. على ما سيأتي:

1 المراد بالبليغ هنا: ما يتخاطب به الخواص من البلغاء لما فيه من دقة التركيب ولطف المعنى.

2 قد يقال أن الغرابة منشؤها خفاء الوجه -كما علمت فكيف يكون خفاؤه سببا في بلاغة التشبيه مع أنهه تقدم أن عدم ظهور المعنى ضرب من التعقيد، وهو ينافي البلاغة،- ويجاب بأن الخفاء الموجب للتعقيد ما كان منشؤه سوء التركيب، أما هنا فمنشؤه لطف المعنى ودقته.

3 "ينبذن" يرمين" والغلة" حرارة العطش "والصادي" العطشانز

4 هو بالتحريك شدة الولع بالشيء.

ص: 66

الثاني: قد يتصرف الحاذق بصنعة الكلام في التشبيه المبتذل، بما يجعله غريبا ممتنعا، لا ترتقي إليه مدارك العامة- كما في قو لاملتنبي، من قصيدة يمدح بهاهارون ابن عبد العزيز الأدراجي:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس فيه حياء

يريد الشاعر: أن يشبه وجه الممدوح بالشمس في الإشراق. ومثل هذا التشبيه مطروق مبتذل، يستوي فيه العامة الخاصة لوضوح وجه الشبه، وعدم توقفه على نظر- غير أن حديث "الحياء"، وما فيه من الدقة والحسن: من حيث إفادته: المبالغة في وصف الممدوح بوضاءة الوجه، وأنه أعظم إشراقا من الشمس أخرج التشبيه عن ابتذاله، وكساه صورة رائعة، تستوقف النظر، وتستثير الإعجاب- ذلك: أنه نزل الشمس منزلة من يرى ويستحي، فادعى أنها حين تلقى وجه الممدوح لا تلقاه إلا بوجه منزوع منه الحياء، أي وكان ينبغي حين إذ تلقاه أن تتوارى منه خجلا، ومثل هذا التصرف يقتضي أن يكون وجه الممدوح أكمل وأتم إشراقا من الشمس- وشبيه بقول المتنبي قول الآخر:

إن السحاب إذا نظرت

إلى نداك فقاسته بما فيها1

لا شك أن تشبيه الندى بالسحاب في الفيض مبتذل، في متناول العامة، لكن حديث الاستحياء، وتنزيل السحاب منزلة من ينظر ويستحي خرج بهذا التشبيه عن ابتذاله إلى مستوى رفيع، على نحو ما قلنا في البيت السابق.

ومن ذلك قول رشيد الدين:

عزماته مثل النجوم ثواقبا

لو لم يكن للثاقبات أقول2

1 "قاسته بما فيها" أي شبهته، ويريد بما فيها: المطر.

2 "عزماته" جمع عزمة، وهي التصميم في الغرادةن و"ثواقبا" حال من النجوم وهي النوافذ في الظلمات بإشراقها، وسمي لمعان النجوم ثقوبا لظهورها من وراء الظلمة وكأنها ثقبتا "والأفول" الغروب: وجواب الشرط محذوف تقديره لكانت عزماته مثلها

ص: 67

ذلك: أن تشبيه العزم بالنجم في الثقوبن وهو النفوذ: قريب مبتذل لوضوح وجه الشبه، وعدم حاجته إلى توقف- لكن وصف الأفول، وعروضه للثاقبات، دون العزمات، وما في ذلك من الدلالة على أن المشبه أتم من المشبه بهن في وجه الشبه، أبرز التشبيه في صورة ممتنعة، وكساه خيالا رائعا- ويسمى هذا النوع:

التشبيه المشروط: أي المقيد بشرط. كأن تقول هذا الشيء كهذا الشيء لو كان على صفة كذا، أو لولا أنه على صفه كذا.

والتقييد: بالشرط إما أن يكون في المشبه به، أو في المشبه، أو في كليها- والشرط إما أن يكون وجوديا أو عدميا1.

فمثال تقييد المشبه به. ما سبق في تشبيه العزمات بالنجوم في قول الشاعر السابق، فقد قيد المشبه به بعدم الأقول، إذ لا يتم التشبيه بدونه، وكأنه يقول: عزماته مثل النجوم لولا ما يعرض لها من أفول -وكقولك: وجه فلان كالمش لولا ما يعتريها من كسوف، أوم ثل مالقمر لولا ما يعرض له من خسوف.

ومثال تقييد المشبه قول البديع السابق:

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت

والليث لو لم يصد2 والبحر لو عذبا

فالمشبه به هو الممدوح، وقد شبه به كل من صوب الغيث، والبرد والشمس والبحر مقرونا كل مها بقيد أولاه لتم التشبيه.

ومثال تقييد الطرفين معا قولك: عباس في علمه بالأمور- إذا كان يقظا كعلى في علمه بها- إذا كان غافلا.

1 المراد بالعدمي: ما دخل عليه حرف النفي.

2 بالبناء للمفعول.

ص: 68

ومن هذا النوع: ما يسمى: تشبيه التفضيل، وهو أن يشبه المتكلم شيئا بشيء ثم يرجع فيفضل المشبه على المشبه به كما في قول اشاعر:

حسبت جماله بدرا منيرا

وأين البدر من ذاك الجمال؟

وكقول الآخر:

من قاس جدواك بالغمام فما

أنصف في الحكم بين شكلين1

أنت إذ جدت ضاحك أبدا

وهو إذا جاد دامع العين

ومنه نوع: يطلقون عليه: تشبيه التشكيك كما في قول الشاعر:

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكن أم ليلى من البشر2

فقد وضع الشاعر نفسه موضع من أشكل عليه الأمر، فلم يدر من أي الجنسين ليلاهن مبالغة في دعوى المساواة- إلى غير ذلبك من أنواع التصرف في التشبيه المبتذل بما يخرجه عن ابتذاله، ويكسوه ثوبا من الجمال، ويبرزه في حالة رائعة من الحسن تستثير إعجابك.

ومن روائع التشبيه قول البحتري يصف امرأة:

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تثنيها2

يقول: إن ما نراه في طلعة البدر من روعة وجمال، وما نشاهده في الغصن من تكسر وانثناه- كلاهما بعض ما وهبته هذه المرأة، من آيات الحسن والبهاء ومنه قول ابن بابك.

1 "الجدوى" العطاء. "2 القاع" الأرض المستوية.

3 "القضيب" الغصن، "والتثمي"التميل.

ص: 69

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى

نسيمك مسروق وصفك منتحل

حكيت أبا سعد فنشرك نشره

ولكن له صدق الهوى ولك الملل1

ومن أبدع ما قيل في هذا الباب، قول ابن نبانة في وصف فرس أبلق أغر:

وكأنما لطم الصباح جبينه

فاقتص منه فخاض في أحشائه

شبه أولا جبين الفرس بالصبح في البيضا والإشراق، ثم شبه ثانيا قوائم الفرس بالصبح في هذا المعنى، وهما تشبيهان -كما ترى- من النوع الساذج المبتذل- غير أن حيث لطم الصبح للجبين اعتداء. ثم خوض الفرس في أحشاء الصبح انتقاما جعلهما من الممتنع، البعيد المنال -والتشبيه في كلهيما ضمني- ذلك: أن لطمة الصبح لجبين الفرس تركت فيه أثر البياض- كما علق هذا الأثر بقوائم الفرس، حينما خاض في أحشاء الصبح- وهذا يفيد تشبيه كل من جبين الفرس وقوائمه بالصبح في بياضه وإشراقه، ولكن في معرض ساحر خلاب.

اختبار:

1-

من أي أنواع التشبيه قول الشاعر:

وكأن النجوم بين دجاه

سنن لاح بينهن ابتداع

ثم بين وجه الشبه فيه، وكيف صح تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين

1 "الحزن" بفتح الحاء وسكون الزاء ما غلظ من الأرضن "والأبرق" مثله، مع مايقع فيه من حجارة، ورمل وطين، "منتحل" اسم مفعول من انتحل كذا، ادعاه لنفسه، وهو لغيره، و"النشر" الرائحة الطيبة، "والملل" السأم- يريد: أنه سريع الزوال.

ص: 70

الابتداع، مع أن تشبيه المحسوس بالمعقول قلب للأوضاع، وهل لذلك من نكتة؟

2-

شاع قولهم في الجبان: هو أسد، وفي العي هو سحبان، فما وجه الشبه بين الطرفين وجه ما تقول واشرحه شرحا وافيا- وهلا كان وجه الشبه هو "التضاد- علل لما تقول تعليلا واضحا:

3-

من أي أنواع التشبيه قول الشاعر:

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوه أقشعت وتجلت

وهلا صح انتزاع الوجه من الشطر الأول من البيت؟ وجه ما تقول.

4-

بين الفرق بين التشبيه القريب المبتذل، والبعيد الغريب، مع بيان سبب قرب الأول، وابتذاله÷ وسبب بعد الثاني وغرابته، مع التمثيل، ثم بين من أي الأنواع التشبيه البليغ وجه ما تقول.

5-

بين معنى التفصيل في الوجه، وأشهر أنواع التفصيل فيه، مع التمثيل، ومع بيان وجه التصرف البلاغي في قول الشاعر:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارها

إلا بوجه ليس فيه حياء

تمرينات منوعة:

1-

بين وجه الشبه: ونوع قيامه بكل من الطرفين من حيث تحققه، أو تخيله، أو ادعاؤهه فيمايأتي: قلب التقى كثوبه الناصع. باقل كسحبان. الحياة كسحابة صيف

- قال الشاعر:

فانهض بنار إلى فحم كأنهما

في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا

ص: 71

2-

أيت بتشبيهات أربعة فيها الوجه مركب -إما مع طرفين مركبين كذلك، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين.

3-

مثل لتشبيهين مبتذلين، تصرف فيهما بما أخرجهما إلى الغرابة، ثم بين نوع هذين التشبيهين من حيث التركيب والإفراد.

4-

مثل لما يأتي: تشبيه مركب الوجه انتزعت أجزاؤه من حركة الجسم دون وصفه. تشبيه تمثيل على رأي الجمهور، تشبيه بعيد، وآخر مبتذل، تشبيه مركب الوجه، انتزعت أجزاؤه من سكون الجسم وحده، تشبيه وجهه مركب خيالي في أحد طرفيه، تشبيه مشروط.

5-

بين نوع التشبيه في البيت الآتي من حيث تفصيله وإجماله:

كشفي مقص تجمعتما

على غير شيء سوى التفرقة

6-

كون من الألفاظ الآتية تشبيهات مفصلة، وأخرى مجملة: الماء الزلال نسيم الرياضن ضوء القمر. شباة الحسام. الزهرة الباسمة. السيل الدافق.

7-

بين طرفي التشبيه ووجه الشبه فيما يأتي من الأبيات:

وكأن الهلال نون لجين

رسمت في صحيفة زرقاء

وما الموت إلا سارق دق شخصه

يصول بلا كف ويسعى بلا رجل

كأن سواد الليل والفجر ضاحك

يلوح ويخفى أسود يتبسم

فسواد رأسك والبياض كأنه

ليل تدب نجومه وتسير

ص: 72