الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"المجد بين برديه" و"الكرم تحت ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم للممدوح، فإن المعنى الحقيقي لكل من العبارتين، وهو: حلول المجد بين البردين، وحلول الكرم تحت الرداء مستحيل الحصول، إذ إن الحلول الحسي بين الأشياء أو تحتها من شأن الأجسام، لا المعاني، وكما في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن الاستيلاء والسيطرة، فالمعنى الحقيقي للاستواء هو الجلوس. وهذا المعنى مستحيل على الله سبحانه.
ومن هذا البيان يتبين: أن الشرط في الكناية جواز إرادة المعنى الحقيقي، لا إرادته، لامتناع إرادته فيما ذكرنا.
أقسام الكناية:
تنقسم الكناية باعتبار المعنى المكني عنه إلى ثلاثة أقسام:
1-
كناية يطلب بها صفة1.
2-
كناية يطلب بها موصوف.
3-
كناية يطلب بها نسبة صفة إلى موصوف.
فالأولى: وهي المطلوب بها صفة، ضابطها: أن يصرح بالموصوف وبالنسبة إليه، ولا يصرح بالصفة المطلوب نسبتها وإثباتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كما في المثال السابق:"فلان طويل النجاد" كناية عن طول قامته، فقد صرح فيه بالموصوف، وهو "فلان" وصرح بالنسبة إليه، وهي "إسناد طويل النجاد إليه" ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي طول القامة، ولكن ذكر مكانها صفة أخرى تستلزمها، هي طول النجاد، ومثله قولنا السابق:"فلانة نئوم الضحى" كناية عن أنها مترفة من ذوات اليسار. فقد صرح بالموصوف، وهو "فلانة"، وصرح بالنسبة إليها وهي إسناد نوم الضحى إليها، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي كونها مترفة منعمة، لكن ذكر مكانها صفة تستلزمها، هي النوم إلى الضحى
1 المراد بالصفة: المعنى القائم بالغير كطول القامة، والكرم، لا خصوص النعت النحوي.
إذ يلزم من النوم إلى ضحوة النهار: أن يكون هناك من يتولى شئونها، فهي إذن من ذوات النعمة والترف. وهكذا.
وهذه الكناية ضربان: قريبة، وبعيدة.
فالقريبة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بلا واسطة بين المعنى المنتقل عنه، والمنتقل إليه كما في المثال السابق:"فلان طويل النجاد" فإن المطلوب بهذا القول، صفة هي طول القامة -كما بينا- وليس بين طول النجاد، وطول القامة واسطة- وسميت "قريبة" لقصر زمن إدراك المقصود منها، بسبب انتفاء الواسطة.
وهي نوعان: واضحة، وخفية.
فالواضحة: ما يفهم منها المقصود لأول وهلة لوضوح اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه كما تقدم في نحو: "فلان طويل النجاد" فإن طول القامة يفهم من طول النجاد، بلا حاجة إلى تأمل، لوضوح اللزوم بين المعنيين ومثله قول العرب:"فلانة بعيدة مهوى القرط" فمهوى القرط هو المسافة بين شحمة الأذن إلى الكتف، وطول هذه المسافة يفهم منه: أن العنق طويل، بلا حاجة إلى تأمل. لوضوح اللزوم بين طول المسافة المذكورة، وطول العنق يقول الشاعر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
…
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر1
يريد، طويلة الجيد، وهو من محاسن الصفات في المرأة، يدعو على نفسه بالتقاعس والعجز عن الأخذ بالثأر من المعتدين، وبأخذ الدية بدل الدم، إن لم يتزوج على امرأته بأخرى، موصوفة بهذه الصفات.
1 "راعه" أخافه وأفزعه و"الضرة" بفتح الضاد إحدى الزوجين أو الزوجات و"القرط" بضم القاف- ما يعلق في شحمتي الأذن، وقوله:"بعيدة مهوى القرط" كناية عن طول عنقها، و"النشر" الرائحة.
والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا بعد شيء من التأمل والتفكير لخفاء اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه، كما تراه في قولهم:"فلان عريض القفا، أو كبير الرأس" كناية عن أنه بليد أبله، فإن عرض القفا بإفراط، أو كبر الرأس كذلك مما يستدل به -في العادة- على البلادة والبلاهة، كما يقولون، وفي العكس دليل الذكاء والنباهة، ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
…
خشاش كرأس الحية المتوقد1
فالخشاش صغير الرأس، وقد جعله دليلا على توقد الذهن، إلا أن فهم ذلك منه، أو من عكسه، يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن اللزوم بين المعنيين، فيه نوع خفاء لا يدركه كل أحد.
والبعيدة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بواسطة، كما تراه في قولهم:"فلان كثير الرماد" كناية عن أنه سمح جواد: فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود" وبين كثرة الرماد، وصفة الجود وسائط عدة، لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة، فينتقل الذهن أولا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، إلى كثرة الطبخ، ثم إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الأضياف، ومنها إلى صفة الجود، ومثله قول الشاعر:
وما يك في من عيب فإني
…
جبان الكلب مهزول الفصيل2
فقد كنى عن جوده، وكثرة قراه للأضياف، بجبن الكلب، وهزال الفصيل، إذ ينتقل للذهن من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار صاحبه إلى استمرار ما يوجب نباحه، وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من
1 "الرجل الضرب" الخفيف اللحم.
2 "الفصيل" ولد الناقة.
هذا إلى كون صاحبه مقصد الداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومنه إلى صفة الجود، كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد أمه بنحرها1 ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها لكمال عناية العرب بالنوق، لا سيما المتليات2 منها، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم، ومن هذا النوع قول نصيب:
وكلبك آنس بالزائرين
…
من الأم بابنتها الزائرة3
وبيان الكناية فيه: أن استئناس الكلب بالزائرين عنوان معرفته بهم؛ لأن الكلب إنما يأنس بمن يعرف، ومعرفته بهم دليل اتصال مشاهدته إياهم ليل نهار، وهذا دليل على أن دار الممدوح محط الرحال، وملتقى الآمال، وهذا يدل على ما أراده الشاعر، من وفور إحسان الممدوح، وسعة جوده. وقد بعدت المسافة بين أنس الكلب بالزائرين، وكرم الممدوح -على ما رأيت- وكون الكلب آنس من الأم مبالغة في استثنائه بالزوار، وهو يستتبع المبالغة في وصف الممدوح بالكرم، ونظير ذلك مع زيادة لطف قول الآخر:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا
…
يكلمه من حبه وهو أعجم4
فإن حب الكلب للضيف حتى إنه ليكاد يكلمه دليل شدة معرفته به، وهذا دليل كثرة مشاهداته إياه لكثرة تردده على الدار، وذلك دليل وفرة الجود في المزور، ومثله قوله الشاعر:
لا أمتع العوذ بالفصال
…
ولا أبتاع إلا قريبة الأجل5
1 أو إلى أخذ اللبن منها، إلى تقديمه للضيفان.
2 "المتليات" هي التي تلاها ولدها أي: تبعها.
3 "آنس" اسم تفضيل سهلت همزته.
4 الضمير في "يكاد" عائد على الكلب.
5 "العوذ" بضم العين جمع عائذة، وهي الناقة الحديثة النتاج و"الفصال" جمع فصيل ولد الناقة.
ذلك: أن حرمان العوذ من أن ترى فصالها، وتمتع بها، دليل على أنه ينحر فصالها، ولا يبقيها، وهذا دليل كثرة القرى الدالة على وفرة الجود ابتياعه لما قرب أجلها، دليل أنها لا تبيت عنده حية، ومعنى هذا: أنه ينحرها، وهذا دليل كثرة القرى الدالة على الجود.
فكل هذه الأمثلة من الكنايات البعيدة، لوجود الواسطة بين المعنى المكني به والمكني عنه، المقتضي لبعد زمن إدراك المقصور منها.
والثانية: وهي الكناية المطلوب بها موصوف ضابطها: أن يصرح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن بذكر مكانه أو صفته أو أوصاف تختص به، وتدل عليه، كما في قولك "فلان صفا لي مجمع لبه" كناية عن قلبه، فقد صرح في هذه الكناية بالصفة وهي "مجمع اللب"، وبالنسبة وهي إسناد الصفاء إليها، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو القلب، لكن ذكر مكانه وصف خاص به، وهو كونه "مجمع اللب"، فإن القلب -كم يقولون- موضع العقل والتفكير.
وهذه الكناية أيضا نوعان:
الأول: ما تكون الكناية فيه معنى واحدا، كما في المثال السابق "صفا لي مجمع ليه"، فإن مجمع اللب المكني به عن القلب معنى واحد -كما ترى- وكما في قول الشاعر:
الضاربين بكل أبيض مخذم
…
والطاعنين مجامع الأضغان1
يصف الشاعر قومه بالبسالة، وحسن البلاء في الحروب، وأن سيوفهم لا تعرف
1 "الأبيض" السيف، و"المخذم" على زنة منبر القاطع، "والأضغان" جمع ضغن وهو الحقد وكل من الضاربين، والطاعنين منصوب على المدح بقدرتهم على النكاية والفتك بأعدائهم.
غير المقاتل جفا، كنى بمجامع الأضغان عن القلوب، وهي معنى واحد: إذ المراد بوحدة المعنى هنا: ألا يكون من أجناس مختلفة وإن كان مثنى أو جمعا، وكون القلب مجمع الضغن وصف خاص به، فلا يحل الضغن في غيره، وقد صرح في هذه الكناية بالصفة، وهي كون القلوب مجامع الأضغان، وبالنسبة الإيقاعية، وهي إيقاع الطعن على هذه المجامع، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة إيقاع الطعن عليه، وهو القلوب، ولكن ذكر مكانها وصف خاص بها هو كونها مجامع الأضغان. ومثله قول البحتري من قصيدة يذكر فيها فتكه بذئب:
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها
…
بحيث يكون اللب والرعب والحقد1
يقول: أتبعت طعنة بطعنة، أخفيت بها شباة السيف في القلب الذي هو موطن لكل من هذه الأمور الثلاثة، وذلك وصف خاص به، فصح أن تكون كناية، وإنما لم يكن هنا مجموع معان مختلفة؛ لأنها ثلاث كنايات، لا كناية واحدة لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود.
والثاني: ما تكون الكناية فيه مجموع معان مختلفة، ضم بعضها إلى بعض، فتكون جملتها مختصة بالموصوف، فيتوصل بذكرها إليه، كما يقال في الكناية عن الأسد: روعنا حي، منتفش اللبدة، رهيب الزئير، وكما يقال في الكناية عن الغراب: راعنا مخلوق حديد البصر، شديد الحذر، خفي السفاد، فالكناية في كل من هذين المثالين مجموع هذه الأوصاف، وهو في الأول وصف خاص بالأسد، لا يوجد في سواه، وفي الثاني وصف خاص بالغراب، ومنه قوله تعالى:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر} 2 فهو كناية يراد بها موصوف، هو "السفينة" لأن مجموع الأمرين، الألواح والدسر، مشدودا أحدهما إلى الآخر: وصف خاص بالسفينة.
1 "النصل" حديدة السيف.
2 جمع دسار بكسر الدال وهو خيط من ليف تشد به ألواح السفن.
الثالثة: وهي المطلوب بها نسبة -إثباتا أو نفيا- ضابطها أن يصرح بالموصوف وبالصفة ولا يصرح بالنسبة بينهما، ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها- مثالها- في الإثبات- قولهم:"المجد بين ثوبيه، والكرم ملء ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم له، فقد صرح في هاتين الكنايتين بالموصوف وهو مدلول الضمير وصرح بالصفة، وهي المجد أو الكرم، ولكن لم يصرح بنسبة المجد أو الكرم إليه، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى، هي نسبة المجد إلى ثوبيه، أو نسبة الكرم إلى ردائه إثباتا. وهي تستلزم نسبة المجد أو الكرم إلى الممدوح: من حيث وجود المجد بين ثوبيه المحيطين به. أو كون الكرم ملء ردائه الخاص به، مع استحالة قيام المجد أو الكرم بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح له، ومنه قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى
…
في قبة ضربت على ابن الحشرج1
كنى عن إثبات هذه الثلاثة للممدوح، بإثباتها لقبة ضربت عليه، فقد صرح بالموصوف وهو "ابن الحشرج" وصرح بالصفة وهي مجموع هذه الأمور المذكورة: من السماحة والمروءة والندى، ولكن لم يصرح بنسبتها إلى الممدوح، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها، هي نسبتها إلى قبة ضربت عليه؛ لأنه إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبت له، لما قلنا من استحالة قيام الوصف بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح له، ومثال الكناية المذكورة في النفي قول الشنفرى الأزدى، يصف امرأة بالعفة والنزاهة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوت بالملامة حلت
كنى بالمصراع الأول عن نفي اللوم عنها، فقد صرح بالموصوف، وهو مدلول
1 ابن الحشرج هو عبد الله بن الحشرج كان أميرا على نيسابور يدل على ذلك قوله: في قبة إذ يفهم منه أن الممدوح ممن تضرب لهم القباب وذلك عنوان السيادة.
الضمير في "بيتها" أي: المرأة، وصرح بالصفة، وهي اللوم المنفي في قوله: بمنجاة من اللوم، ولم يصرح بنسبة نفي اللوم عنها، ولكن ذكر مكانها نسبة أخرى، هي نفي اللوم عن بيت يحتويها. وهذا يستلزم نفي اللوم عنها، وعبر بلفظ "يبيت" دون "يظل" لمزيد اختصاص الليل بأفعال الفحش، وارتكاب المآثم. ومثله قولهم:"مثلك لا يبخل" كناية عن نفي البخل عن المخاطب على أبلغ وجه؛ لأنه إذا نفى البخل عمن هو على أخص صفاته، فقد نفى عنه بالطريق الأولى، وهو أبلغ من قولهم:"أنت لا تبخل""لأنها دعوى غير مدللة -بخلاف الأول- ونظيره قولهم: "العرب لا تخفر الذمم" فهو أبلغ من قولك" أنت لا تخفر الذمم".
خاتمة:
أطبق علماء هذا الفن على المجاز أبلغ1 من الحقيقة وأن الكناية أبلغ من التصريح وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، والمجاز المرسل والكناية.
أما وجه الأبلغية في المجاز والكناية؛ فلأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم2 فهو كدعوى الشيء ببينة3، ذلك أنك حين تقول متجوزا:"رأيت أسدا على المنبر" إنما تريد أن تقول: رأيت رجلا مقداما على المنبر، وهذه دعوى قام عليها دليلها، هو
1 المراد بالأبلغية هنا: الأفضلية في الحسن والقبول.
2 أي: فلا يفهم المعنى المراد منهما من اللفظ نفسه بل بواسطة الانتقال من الملزوم إلى اللازم، فلا يفهم معنى "الشجاع" من ذات قولك: رأيت أسدا على فرس، بل بواسطة الانتقال من معنى الحيوان المفترس إلى لازمه، وهو الجرأة، كذلك لا يفهم معنى "طول القامة" من ذات قولك: فلان طويل النجاد، بل بواسطة الانتقال من طول النجاد إلى لازمة الذي هو طول القامة.
3 وجه كونها كالدعوى المشفوعة ببينة. أن تقرر الملزوم يستلزم تقرر اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم فصار تقرر الملزوم مشعرا باللازم.
إثبات معنى الأسدية له، إذ يلزم من كونه أسدا: أن يكون مقداما جريئا، للزوم الإقدام والجرأة للأسد، وأنك حين تقول مكنيا:"محمد طويل النجاد" إنما تريد أن تقول: محمد طويل القامة، وهي أيضا دعوى قام عليها دليلها هو اتصافه بطول النجاد، إذ يلزم من كونه طويل النجاد: أن تكون قامته طويلة، وكأنك قلت في الأولى: رأيت مقداما على المنبر لأنه أسد، وقلت في الثاني: محمد طويل القامة؛ لأنه طويل النجاد.
أما الحقيقة في نحو: "رأيت رجلا مقداما على المنبر" والتصريح في نحو: "محمد طويل القامة" فدعويان لم يقم عليهما دليل، وما كان مؤيدا بدليل أبلغ وآكد مما لم يدعم بدليل، يثبت أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح.
ووجه أبلغية الاستعارة على التشبيه: هو أن الاستعارة نوع من المجاز، مبني على دعوى اتحاد المشبه والمشبه به، والتشبيه نوع من الحقيقة، وقد أثبتنا أن المجاز أبلغ من الحقيقة.
ووجه أبلغية الاستعارة على المجاز المرسل: ما فيها من دعوى الاتحاد لفظا ومعنى، أما لفظا فلإطلاق لفظ المشبه به على المشبه، وأما معنى فلإدخال المشبه في جنس المشبه به، واعتباره أحد أفراده، بخلاف المجاز المرسل نحو:"امطرت السماء نباتا" فإن فيه دعوى الاتحاد لفظا فقط: من حيث إطلاق اللفظ على المعنى، وأما الاتحاد في المعنى فغير موجود فيه. إذ ليس بين المعنيين "كالماء والنبات" في المثال المذكور تشابه ما، حتى يدعى اتحادهما.
ووجه أبلغية الاستعارة على الكناية من وجهين:
الأول: أن في الاستعارة جمعا بين كناية واستعارة: من حيث إن فيها انتقالا من الملزوم "كالأسد" إلى اللازم "كالشجاع"، كما ينتقل في الكناية من "طول
النجاد" مثلا إلى "طول القامة"، ومن حيث إن فيها استعمال اللفظ. في غير المعنى الموضوع له لعلاقة المشابهة.
الثاني: أن الاستعارة مجاز قطعا، بخلاف الكناية ففي مجازيتها خلاف بين علماء البلاغة مبسوط في محله.
تنبيه:
ليس معنى الأبلغية في هذه الثلاثة: أنها تفيد زيادة في أصل المعنى، لا يفيدها غيرها، إنما المراد: أنها تفيد تأكيدا لإثبات المعنى، لا يوجد في سواها، فليست فضيلة قولنا:"رأيت قمرا" على قولنا: "رأيت وجها لا يقل عن القمر في إشراقه وبهائه": من حيث إن الأول أفاد زيادة في مساواة الوجه المقمر في إشراقه لم يفدها الثاني، إذ إن التركيبين في إفادة هذا المعنى سواء، إنما ميزة الأول على الثاني: من حيث إن الأول أفاد تأكيدا وتقديرا لإثبات معنى المساواة، دون الثاني، لما في التركيب الأول من دعوى الاتحاد، والتعبير عن المشبه بلفظ المشبه به، ودلالة دعوى الاتحاد على معنى المساواة -كما في التركيب الأول- أبلغ من التنصيص على المساواة، كما في التركيب الثاني.
كذلك: ليست فضيلة قولنا: "محمد طويل النجاد" على قولنا: محمد طويل القامة: من حيث إن التركيب الأول أفاد زيادة في معنى الطول لم يفدها الثاني، فإن التركيبين في ذلك سواء، إنما فضل الأول على الثاني من ناحية أن الأول أفاد تأكيدا وتقريرا لإثبات معنى الطول، دون الثاني، لما في التركيب الأول من الدعوى المستندة إلى الدليل كما بينا سابقا، ودلالة دعوى الشيء مؤيدة بدليل، كما في التركيب الأول: أبلغ من التنصيص عليه غفلا عن الدليل كما في التركيب الثاني، يدرك ذلك ذو الذوق السليم.
هذا. والاستعارة التمثيلية أبلغ أنواع الاستعارة؛ لأنها إنما تكون في الهيئات
المنتزعة من أمور متعددة، فهي كثيرة الاعتبارات والملاحظات، لا يوفق فيها إلا من أوتي حسن روية، وبعد نظر، ويليها في الأبلغية، الاستعارة المكنية لاشتمالها على المجاز العقلي في قرينتها، أما التصريحية ففي المرتبة الثالثة.
اختبار:
1-
عرف الكناية لغة واصطلاحا، وبين ما احترز عنه في التعريف وهل هي من قبيل الحقيقة، أو من قبيل المجاز، بين ذلك بوضوح مع التمثيل.
2-
بين مناط الفرق بينها وبين المجاز وكيف صحت الكناية في قولهم: المجد بين برديه، والكرم تحت ردائه، مع استحالة حصول المعنى الحقيقي.
3-
اذكر أقسام الكناية باعتبار المكني عنه، وضابط كل منها، مع التمثيل لكل ما تذكر، ومع تقسيم الكناية المطلوب بها صفة، وتصريف كل قسم، والتمثيل له.
4-
إلام تنوع الكناية المطلوب بها موصوف؟ مثل لكل نوع، ثم بين نوع الكناية في البيت الآتي:
ودبت له في موضع الحلم علة
…
لها كالصلال الرقش شر دبيب1
تمرينات منوعة:
1-
ائت من مأثور الكلام بكنايات ثلاث مختلفة الأغراض، مع بيان المعنى الكنائي في كل منها.
1 "الصلال" جمع صل بكسر الصاد ضرب من الحيات لا نجاة من لدغه، و"الرقش" جمع رقشاء، وهي حية ذات نقط سود في بياض.
2-
روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد، فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسن ما روت عن حاجتها، املئوا بيتها خبزا، وسمنا.
ويروى: أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك، فقالت: يا أمير المؤمنين: مشت جرذان بيتي على العصى، فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم. لأردنها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حبا.
بين ما في هذين الخبرين: من المعنى الكنائي، مع بيان نوع الكناية فيهما، وهل هما من نوع واحد أو مختلفان.
قال الشاعر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
…
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
يريد أخذت دية: في هذا البيت مجاز وكناية، وضح كلا منهما وبين نوعه.
4-
ضع يدك على موضع الكناية، وبين نوعها، واشرحه شرحا وافيا فيما يأتي:
1-
لا يرفع الضيف عينا في منازلنا
…
إلا إلى ضاحك منا ومبتسم
2-
لا ينزل المجد إلا في منازلنا
…
كالنوم ليس له مأوى سوى المقل1
3-
وإذا الكريم أضاع مطلب أنفه2
…
أو عرسه لكريهة لم يغضب
1 "المقل" جمع مقلة، وهي حدقة العين.
2 "مطلب أنفه" يريد الفرج، ومعنى البيت أن الرجل الذي لا يغار على عرض أمه أو امرأته ولا يحمي حماه لا يغضب بعد ذلك من شيء؛ لأنهما محك الغيرة ومثارها.
4-
ولما شربناها ودب دبيبها
…
إلى مواطن الأسرار قلت لها قفي1
5-
فما جازه جود ولا حل دونه
…
ولكن يسير الجود حيث يسير
6-
فلان يفترش الثرى، ويتوسد الجنادل.
7-
فلان ملء إهابه الكرم، وحشر ردائه الفضيلة.
1 الضمير في شربناها للخمر.