الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث التشبيه
منزلة التشبيه من علم البيان
…
مبحث التشبيه:
منزلته من الاستعارة: اعلم أن اللفظ قد يستعمل في معنى لم يوضع له وهذا الاستعمال إن صحبته قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له كان اللفظ "مجازا" إذ قد تجوز به من المعنى الموضوع له إلى المعنى المراد -ولا بد- مع هذا- من وجود علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول إليه، فإذا كانت العلاقة المشابهة سمي اللفظ حينئذ استعارة" كما في نحو:"رأيت أسدا يخطب" فغن لفظ "أسد" مستعمل في الإنسان الجرئ، وهو معنى لم يوضع له لفظ "أسد"، والعلاقة بين المعنيين مشابهة الإنسان للأسد في وصف الجرأة.
فالتشبيه إذن سابق عن الاستعارةن ضرورة أنها مبنية على المبالغة في التشبيه، فهو إذن منها بمثابة الأساس من البناء، أو بمنزلة الأصل من الفرع -ومن هنا يعلم وجه تقديم بحثه على بحث المجاز.
منزلة التشبيه من علم البيان:
اعلم: أن التشبيه من فنون البلاغة، له شأنه وخطره، فهو يدني القصين ويذلل العصي، ويكشف الخفي، ويكسب المعاني رفعة وشرفا، ويكسوها روعة وفخامة، ويبرزها في معارض الحس والعيان -وهو- إلى ذلك- كثير المباحث، متشعب النواحي.
وإليك جملة من الشواهد في مزايا التشبيه، تريك إجمالا منزلته من علم البيان، قال البحتري1:
دان على أيد الغفاة وشاسع
…
عن كل ند في الندى وضريب
1 هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي الشاعر المطبوع أشهر من استحق لقب شاعر بعد أبي نواس، ومن أحسن قوله:
دنوت تواضعا وعلوت مجدا
…
فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تسامي
…
ويدنو الضوء منا والشعاع
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه
…
العصبة السارين جد قريب1
فقد ادعى الشاعر في البيت الأول: الجمع بين معنيين متدافعين، عما قوله: دان وشاسع، وهو أمر -في بادئ الرأي- لا يكاد يقره العقل، أو تؤمن به النفس، ثم ما لبث أن أراكهما بهذا التمثيل الرائع في البيت الثاني إلفين متعانقينن فإن البدر -مع شاسع بعده، وفرط علوه -ماثل بين أيدينا بضوئه، فهو بعيد قريب، لهذا لم يسع العقل إلا أن يقر، ولا النفس إلا أن تؤمن -وقال ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا
…
رأيت صورته من أقبح الصور
وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا
…
نفر منها إذا مالت إلى الضرر2
فأنت تراك في البيت الأول تقف موقف الحائر المتردد، وكيف ينقلب ذو الوسامة الصبيح مشوه الخلق، تتقزز لمرآه النفوس -حتى إذا ما جاوزته إلى البيت الثاني آمنت بالأمر إيمانا لا يرقى إليه شك -وقال ابن الرومي3:
1 "العفاة" جمع عاف، وهو الطالب المعروف، و"الشاسع" البعيد. "والند" المثل والنظير، ومثله الضريب، وقد عطف على الند عطف تفسير. و"العصبة""الطائفة من الناس، "السارين" جمع سار وهو السائر ليلا، و"جد قريب" على معنى. قريب جدا.
2 "السمج" على زنة كتف القبيح، "هبه" فعل أمر بمعنى: افرضه وقولهم: هب أنه كذا تعبير خاطئ، لعدم ورود السماع بذلك.
3 هو أبو الحسن على بن العباس مولى بني العباس الشاعر المكثر المطبوع صاحب النظام العجيب، والمعاني المخترعة، والأهاجي المقذعة -ومن معانيه البديعة قوله:
وإذا امرؤ مدح امرءا لنواله
…
وأطال فيه فقط أطال هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المتقى
…
عند الورود لما أطال رشاءه
بذل الوعد للأخلاء سمحا
…
وأبي بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين
…
ويأبى الإثمار كل الإباء1
يحدثنا الشاعر عن إنسان يبذل لك الوعد في سخاء، بينما تراه يتخلف عن ركب الأوفياء، ثم مالبث أن أراكه عيانا في شجرة الصفصاف، يبهرك رواؤها -بينما تراها عقيما لا تلد، ولا تثمر -وقال أبو تمام2:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب عرف العود3
يذكر لنا الشاعر: أن الفضيلة مثار حقد وحسد من فاقديها، فإذا قدر لفضيلة أن تنشر مطارفها على الناس، بعد أن طويت أجراها على لسان حسود حاقد، فهو كفيل أن يذيع أمرها، وينشر عبيرها، بما يبديه من غيظ وحنق، ثم وضع هذا المعنى في إطار بديع، فأرانا بالعين ذلك المعنى في كمين عرف الطيب، يثيره حر اللهيب -ثم انظر إلى قوله:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب يتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة
…
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد4
1 "السمح" الكريم. و"الخلاف" ككتاب شجر الصفصاف.
2 هو حبيب بن أوس الطائي أسبق الشعراء الثلاثة الذين سارت بذكرهم الركبان"، وخلد شعرهم الزمان: ثانيهم البحتري، وثالثهم المتنبي"، ومن أبياته السائرة قوله:
ولو صورت نفسك لم تردها
…
على ما فيك من كرم الطباع
3 نشر الفضيلة إذاعتها بين الناس، أتاح لها هيا لها، وعرف العود رائحته.
4 مخلق من أخلق الشيء أبلاه، "والديباجتان" صفحتا الخدين، والمراد: عامة الوجه ولذا أعاد الضمير عليهما مفردا في "يتجدد" و"السرمد" الدائم.
وقس حالك، وأنت في البيت الأول، ولم تنته إلى الثاني: بحالك، وقدانتهيت إليه، ووقفت ببصرك عليه، فإنك -لا ريب- مدرك مدى تمكن المعنى في نفسك.
كما تدرك الفرق بين أن يقول لك قائل: "الدنيا لا تدوم، ثم يسكت، وبين أن يذكر عقبيه قوله صلى الله عليه وسلم: من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، أو أن ينشد قول لبيد1:
وما المال والأهلون إلا ودائع
…
ولابد يوما أن ترد الودائع
كما ترى الفرق واضحا بين أن يقول قائل: أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر ويقطع الكلام، وبين أن يشفعه بنحو قول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل
…
له رواء وما له ثمر2
وهل تراك لو بالغ لك أحد في وصف أيام بالقصر فقال: أيام كأقصر ما يتصور، أكنت تجد لك من الأنس في نفسك ما تجده في نحو قولهم:"أيام كأباهيم القطا"، أو في نحو قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم
…
بيوم مثل سالفة الذباب3
فأنت في كل ذلك ترى المعنى في الحالة الثانية أسمى شرفا، وأشد وقعا، وأرسخ قدما منه في الحالة الأولى- ذلك لما يحصل للنفس من الإنس بإخراجها من خفي إلى جلي، ومن معقول إلى محسوس، ومما لم تألفه إلى ما ألفته، ومما لم تعلمه إلى ما هي به أعلم.
1 هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين، والقواد البواسل المعمرين. نشأ جوادا شجاعا فاتكا وهو القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
2 "السرو" نوع من الشجر ذو رونق ولكنه لا يثمر.
3 "سالفة الذباب" مقدم عنقه، يريد: أن اليوم يحكيها في القصر.