الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقسيم الثاني:
ينقسم التشبيه باعتبار وحدة الوجه، وتعدده ثلاثة أقسام:
الأول: ما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا، أي ما يعد في العرف واحدا، وهو مالا تركب فيه، ولا تعدد "كالحمرة" في قولك: خده كالورد "وكالخشونة" في قولك: له بشرة كجلد القنفذ، وكالهداية، في قولك: العلماء العاملون كالنجوم، فوجه الشبه في هذه المثل شيء واحد -كما رأيت.
الثاني: ما يكون الوجه فيه منزلا الواحد، وهو ما يكون مركبا من متعدد تركيبا اعتباريا: بأن يقصد إلى عدة أمور لشيئين، فتنزع منها هيئة تعمهما، بحيث لا يصلح واحد منها على انفراده وجه شبه، بحيث لو سقط أحدها لم يتم التشبيه -كما في جميع الهيئات المتخيلة على نحو ما في بيت بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فإن وجه الشبه فيه -مجموع الهيئة المتنزعة من تساقط أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم -ولا يصح في الذوق البلاغي جعل واحد من هذه الأشياء وجه شبه على حدة، لأن القصد- كما قلنا- إلى تشبيه الطرفين في الهيئة المجتمعة -كما لا يصح إسقاط واحد منها- في اعتبار المتكلم. لصيرورة الهيئة وحدة متضامة الأجزاء- ومثل بيت بشار قول الآخر:
ولاحت الشمس تحكى عند م طلعها
…
مرآة تبر بدت في كف مرتعش1
1 يريد أن يشبه الشمس عند البزوغ بمرآة من تبر وفي يدر عشاء ووجه الشبههو الهيئة الحاصلة من الاستدارة والحركة السريعة المتصلة مع تموج الإشراق غير أن الطرفين هنا مفردان: الشمس والمرآة" مع مراعاة القيود المذكورة إذ أن الهيئة المذكورة لا تتحقق بدون هذه القيود وتقييد الطرفين لا يخرجهما عن أفرادهما، بخلاف بيت بشار فإن الطرفين فيه مركبان فالمشبه مركب من النقع مثارا فوق الرءوس ومن السيوف المتلاحمة اللامعة في أثنائه- والمشبه به مركب من الليل ومن النجوم المتهاوية في رواية المختلف.
وإنما نزل هذا القسم منزلة الواحد، لأن الوجه فيه مركب من أشياء تضامت وتلاصقت حتى صارت كالشيءالواحد لا يقبل التجزئة، وإنما لم يكن واحدا حقيقة لتركبه من جملة أمور، ولا تركب في الواحد.
وإنما وصف يكون تركيبه اعتباريا ليخرج ما كان مركبا من متعدد تركيبا حقيقيا، كالحقيقة الإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية في مثل قولك: محمد كعلي في "الإنسانية" فإن هذا الوجه من قبيل الواحد، لا من قبيل المنزل منزلته، لأنه مركب من جزءين صارا بهذا التركيب شيئا واحدا في الخارج، قائما بذاته- بخلاف الوجه المركب تركيبا اعتباريا كما في نحو بيت "بشار" فإن الأشياء التي تكونت الوجه المركب تركيبا اعتباريا كما في نحو بيت "بشار" فإن الأشياء التي تكونت منها الهيئة السباقة لا يلتئم من مجموعها حقيقة واحدة قائمة بذاتها، وإنما هي امرأة اعتباري رعاه المتكلم من اجتماع أمور انتزعها العقل من الطرفين.
ولو أننا اعتبرن المركب الحقيقي في موضوع المسألة لكان أمثال قولك: "محمد كعلي" من كل تشبيه إنسان بآخر: من قبيل تشبيه مركب بمثله إذ أن كلا من الطرفين مركب من حيوانية، وناطقية، ولا قائل بذلك.
الثالث: ما يكون وجه الشبه فيه متعدد أي مكونا من عدة أمور، جعل كل منها وجه شبه على حدة، كما في قولك: هذه الفاكهة كالتي أكلناها أمس في الطعم، واللون والرائحة- وكما في قولك محمد كأخيه في الطول والرشاقة والوسامة- ومثله في الكرم والحلم والذكاء- فوجه الشبه في هذه المثل أمور متعددة، كل منها يصلح أن يكون وجه شبه على انفراده إذ ليس القصد إلى تشبيه الطرفين في الهيئة المركبة من هذه الأمور، فليس لهذه الأمور مجتمعة هيئة يقصد إليها، بل الغرض: التشبيه في كل واحد منها.
تنبيهان:
الأول: مما تقدم يعلم أن الفرق بين الوجه المركب من عدة أشياء، والمتعدد: هو أن المركب منظور فيه إلى مجموع الأشياء، والهيئة المركبة منها-
بحيث صارت وحدة لا تتجزأ -وبحيث لو حذف أحد هذه الأشياء اختل التشبيه- كما في بيت "بشار" فإن وجه الشبه -كما علمت- مجموع الأمور السابقة، وهي سقوط أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم، فلو حذف من هذه المجموعة واحد منها "كالأشراق" أو "الاستطالة" لم يتم التشبيه بني الطرفين -ذلك: أنالغرض: تشبيه الطرفين في هذه الهيئة التركيبة المتضامة الأجزاء.
أما الوجه المتعدد فإن المنظور فيه إلى أمور متعددة، بقصد جعل كل منها على انفراده وجه شبه -عكس الأول- بحيث لو حذف أحدها، أو قهم، أو أخر لم يختل التشبيه، ولم يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف أو قبل التقديم والتأخير- كما في المثال السابق: في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة واللون فإنك لو حذفت "اللون" مثلا أو الرائحة أو الطعم وقدمت أحدها على الآخر لم يختل التبشبيه إذ ليس الغرض: أن يجعل وجه الشبه مجموع هذه الأمور فليس لمجموعها -كما قلنا- هيئة خاصة، يقصد إليها- بل المراد: جعل كل واحد منها وجه شبه، من غير أن يتقيد أحدهما بالآخر.
ويتبين لك الفرق بينهما جليا في قول الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة
…
فلما رأوها أقشعت وتجلت1
شبه الشاعر حال من ظهر له شيء هو في غاية الحاجة إليه، وقد علق به رجاء÷ ثم ما لبث أن فوجئ بفقدانه، بذهابه غلى حيث لا عودة له، ولا رجاء منه -شبه ذلك بحال قوم عطاش. عرضت لهم غمامة، هم أشد ما يكونون حاجة إليها، وما أن رجوها أن تمطرهم حتى انقشعت عنهم، وذهبت، وتركتهم
1 "كما أبرقت" الكاف للتشبيه "وما" مصدرية، "وأبرقت بمعنى ظهرت وعرضت -وفي الأساس: أبرقت لي فلانة إذا تحسنت وازينت، فهو من باب الحذف والاتصال، والأصل: أبرقت لقوم، "وأقشعت" بمعنى أقلعت، وذهبت.
في حيرة اليائس- ووجه الشبه: الهيئة الحاصلة من الشيء يكون أوله مطمعا مغريا، متصلا بنهاية مخيبة مؤيسة.
فأنت ترى أن الوجه منتزع من أمرين متصلين: ابتداء مطمع، وانتهاء مؤيس والشطر الأول من البيت المذكور إنما تضمن الأمر الأول، إذ معناه: أن الغمامة ظهرت لقوم يرجون الماء لشدة حاجتهم إليه، فقد أطمعتهم أول الأمر حين عرضت لهم -أما الأمر الثاني، وهو الانتهاء المؤيس فقد تكفل به الشطر الثاني، إذ معناه: أن الغمامة خذلتهم، وتولت عنهم حين التمسوها، فكانت الحال نهاية مؤيسة.
إذا علمت هذا -علمت أنه لا يتأتى انتزاع وجه الشبه من الشطر الأول فقط لأن الوجه -كما عرفت- مركب من الأمرين معا، فلابد أن ينزع من الشطرين جميعا، ولو اقتصر فيه على الشطر الأول لاختل التشبيه لعدم وفاء هذا الشطر بالمعنى المراد.
وهذا بخلاف التشبيه المتعدد كما في المثال السابق في تشبيه فاكهة بأخرى فإن القصة فيه -كما عرفت- إلى الأشياء الثلاثة من الطعم، والرائحة، واللون، بحيث لو ترك أحدها لم يتغير حال الباقي في إفادة معناه.
الثاني: اعلم أنه إذا كان وجه الشبه مركبا وجب أن يكون الطرفان مركبين أو مقيدين، أو أحدهما مركبا، والآخر مقيدا، ولو تقريرا- ذلك أن وجه الشبه قائم بالطرفين، متنزع منهما. وليس معقولا أن تقوم هيئة مركبة من عدة أمور بشيء واحد، أو أن تنتزع منه، فوجه الشبه في بيت بشار مثلا هو الهيئة المركبة من الأمور السابق ذكرها. وتلك الهيئة لا يمكن أن تقوم بشيء واحد، ولا أن تنتزع منه -كذلك وجه الشبه في قول الشاعر:
إني وتزييني بمدحي معشرا
…
كمعلق درا على خنزير
هو صورة من يضع الشيء في موضع لا يصلح له، وليس له أهل، وهذا المعنى التركيبي لا يمكن أن يقوم بأحد الطرفين مجردا عما لوحظ فيه من قيد- كذلك وجه