الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقسيم الاستعارة:
للاستعارة تقسيمات شتى تختلف باختلاف الاعتبارات.
تقسيمها باعتبار الطرفين:
تنقسم الاستعارة باعتبار اجتماع طرفيها، وعدم اجتماعهما إلى وفاقية وعنادية.
فالوفاقية: ما يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد لما بين الطرفين من الوفاق كما في قولك: "فلان أحيته الموعظة" أي: هدته -شبهت الهداية بمعنى الدلالة على الطريق القويم "بالإحياء" بمعنى جعل الشيء حيا، بجامع ما يترتب على كل من الفوائد، ثم استعير- بعد تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، لفظ "الإحياء" للهداية، ثم اشتق من الإحياء:"أحيا" بمعنى "هدى" على ما سيأتي بيانه في الاستعارة التبعية. "والحياة والهداية" مما يتأتى اجتماعهما في شيء، وإذن فاستعارة "الإحياء للهداية" وفاقية.
والعنادية: ما لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد، لما بين الطرفين من التعاند كاستعارة اسم المعدوم للموجود عديم الفائدة، في نحو قولك:"رأيت ميتا يتحدث" تريد: جاهلا1؛ استعير لفظ "الميت" للجاهل، بعد التشبيه والادعاء، على ما ذكرنا في المثال قبله. "والجهل والموت" مما لا يجتمعان في شيء واحد إذ إن الميت لا يوصف بالجهل، فهي إذن استعارة عنادية، ومنه قول الشاعر:
فلم أر وجها ضاحكا قبل وجهها
…
ولم أر قبلي ميتا يتكلم
ومثله استعارة اسم الموجود للمعدوم ذي الآثار الخالدة2 إذ يمتنع بداهة اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد.
1 فهو مشارك للمعدوم في عدم الجدوى منه، ومثل الجاهل العاجز فالعجز والجهل يحط كلاهما من قدر الإنسان الحي.
2 فيكون مشاركا للموجود في ذلك.
وقد اجتمعت الوفاقية، والعنادية في قول الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ، على معنى: أو من كان ضالا فهديناه، فقد استعير في الأول:"الميت الضال"، وهما لا يجتمعان، إذ لا يوصف الميت بالضلال فالاستعارة عنادية، واستعير ثانيا "الإحياء للهداية" -كما سبق- "والحياة والهداية" مما يجتمعان، فالاستعارة وفائية، ومن العنادية تتفرع الاستعارتان:
التهكمية والتمليحية:
وهما ما نزل فيهما التضاد، أو التناقض منزلة التناسب، واستعمل اللفظ في ضد معناه، أو في نقيضه، إبرازا للخسيس في صورة الشريف، قصدا إلى الهزء والسخرية، أو التمليح والتظرف -على سبق بيانه في باب التشبيه- وذلك كأن يطلق لفظ "الكريم" على البخيل، وكإطلاق لفظ "أسد" على الجبان في نحو قولك:"زارني اليوم كريم" تريد رجلا بخيلا، ونحو قولك:"رأيت أسدا على فرس" تريد رجلا جبانا، فقد نزل أولا "البخل" منزلة الكرم، ونزل ثانيا "الجبن" منزلة الشجاعة -على ما سبق- في بحث التشبيه، ثم شبه البخيل بالكريم، والجبان بالأسد، ووجه الشبه في الأول:"الجود" وفي الثاني "الشجاعة" وإن كان الجود في البخيل، والشجاعة في الجبان تنزيليين ثم استعير لفظ الكريم للبخيل، واسم الأسد للجبان.
ثم إن كان الغرض الحامل على استعمال اللفظ في ضد معناه: التهكم والهزء بالمقول فيه كانت الاستعارة "تهكمية"، وإن كان القصد الحامل: بسط السامعين، وإزالة السآمة عنهم، بتصوير القبيح في صورة الحسن، كانت الاستعارة "تمليحية"، ولا يخفى عدم تأتي اجتماع "البخل والكرم" أو "الجبن والشجاعة" في شيء واحد، فكلتاهما إذن من قبل الاستعارة العنادية.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} نزل التضاد بين التبشير
والإنذار منزلة التناسب بينهما، ثم شبه الإنذار بالتبشير في إدخال السرور إلى النفس، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير اسم البشارة للإنذار بعد تناسي التشبيه والادعاء، ثم اشتق من البشارة بمعنى الإنذار "بشر" بمعنى "أنذر" على سبيل الاستعارة التهكمية؛ وهي عنادية لأن التبشير والإنذار مما لا يجتمعان في شيء واحد، ومثله كذلك قوله تعالى:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} نزل التضاد بين "الهداية" التي هي الدلالة بلطف، وبين الأخذ بمجامع الشيء بقهر وعنف منزلة التناسب، ثم شبه الأخذ العنيف بالهداية، بجامع ما يترتب على كل من الخير، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير لفظ "الهداية" للآخذ بالقسر والعنف، واشتق منه:"اهدوهم" بمعنى: جروهم بشدة وعنف على سبيل الاستعارة التهكمية، وهي عنادية لعدم تأتي اجتماع اللطف والعنف في شيء واحد، وهكذا.
تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع:
الجامع: هو ما قصد اجتماع الطرفين فيه، وهو ما يسمى في التشبيه: وجه شبه، وإنما سمي جامعا لأنه جمع المشبه مع أفراد المشبه به تحت مفهومه، وأدخله في جنسه ادعاء. وهو لا بد أن يكون في المستعار منه أقوى؛ لأن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه، والمبالغة فيه تستوجب إلحاق المشبه بما هو أكمل منه في وجه المشبه -بخلاف الحال في التشبيه- كما علمت.
وللاستعارة باعتبار الجامع تقسيمان:
التقسيم الأول:
تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار قسمين: داخلة، وغير داخلة.
فالداخلة: ما يكون الجامع فيها داخلا في مفهوم الطرفين، المستعار له والمستعار منه: بأن يكون جزءًا من مفهوميهما كما في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا}
أي: فرقناهم: شبه تفريق الجماعة: بالتقطيع، بجامع "إزالة الاجتماع في كل"، ثم استعير لفظ التقطيع للتفريق، ثم اشتق منه "قطع" بمعنى فرق، والجامع المذكور داخل في مفهوم التقطيع إذ إنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء المتماسكة، وداخل كذلك في مفهوم تفريق الجماعة؛ لأنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء غير المتماسكة. وبديهي أن إزالة الاجتماع في التقطيع أشد وأقوى كما هو الشرط في الجامع.
وغير الداخلة: ما يكون الجامع فيها غير داخل في مفهوم الطرفين، بأن كان خارجا عن مفهوم كل منهما، أو كان داخلا في مفهوم المستعار له دون المستعار منه، أو العكس.
فالأول: كما في قولك: "رأيت دررا في السماء"، و"أبصرت شمسا داخل غرفة، ووردت بحرا يعطي" فالجامع في الأول التألق واللمعان وفي الثاني الوضاءة والإشراق، وفي الثالث الإفاضة، وكلها عوارض غير داخلة في مفهومي الطرفين.
والثاني: كما في الحديث "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه: كلما سمع هيعة طار إليها" 1 شبه العدو الذي هو قطع المسافة بسرعة في الأرض. بالطيران الذي هو قطع المسافة في الهواء بالجناح، ثم استعير الطيران للعدو، ثم اشتق من الطيران "طار" بمعنى عدا -والجامع بينهما قطع المسافة بسرعة وهو داخل في مفهوم العدو، دون الطيران، فليست السرعة داخلة في مفهومه، إنما هي لازمة له في الأكثر. ومثله قول امرأة من بني الحرث ترثي قتيلا:
1 "العنان" بكسر العين اللجام، و"الهيعة" الصيحة يفزع منها من هاع يهيع إذ جبن يقول: خير الناس رجل مستعد للجهاد في سبيل الله كلما سمع صيحة الحب والدعوة لها أسرع إليها وخاض غمارها.
لو يشا طار بها ذو ميعة
…
لاحق الآطال نهد ذو خصل1
تقول: لو أنه أراد النجاة لفاز بها، فقد كان تحته فرس قوي، جلد، ولكنه آثر أن يموت كريما على أن يحيا هزيلا بتحمله عار الهزيمة. والشاهد في استعارة الطيران للعدو على نحو ما تقدم.
والثالث: كاستعارة العدو للطيران عكس ما قبله.
التقسيم الثاني:
تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع أيضا قسمين: عامية، خاصية.
فالعامية: وهي المبتذلة، ما وضح فيها الجامع، بحيث يدركه العامة كإطلاق "الأسد" على الرجل الجريء، فإن الجامع، وهو الجرأة، أمر واضح، في متناول مدارك عامة الناس لاشتهار الأسد بها. وسميت مبتذلة لكونها في طوق كل إنسان.
والخاصية: وهي الغريبة: ما لا يدرك الجامع فيها إلا من ارتفع عن طبقة العامة، كما في قول يزيد بن مسلمة يصف فرسا له، بأنه مؤدب إذا نزل عنه. وألقى عنانه في قربوس سرجه، لا يبرح مكانه حتى يعود:
وإذا احتبى قربوسه بعنانه
…
علك الشكيم إلى انصراف الزائر2
1 الميعة نشاط الشباب، و"الآطال" جمع أطل بكسرة أو بكسرتين الخاصرة، ولاحق الآطال ضامرها وهو من دواعي النشاط وخفة الحركة، و"النهد" بفتح النون الفرس الجميل الجسم و"الخصل" جمع خصلة، وهي اللفيقة من الشعر، أي: ذوي شعر متدل.
2 "احتبى" من الاحتباء وهو أن يشد الرجل ركبتيه إلى بطنه بنحو ثوب يمتد من جانبيه إلى ظهره، و"القربوس" بفتح القاف والراء مقدم السرج، و"العنان" بكسر العين اللجام، و"الشكيم" الحديدة المعترضة في فم الفرس، و"علكها" لاكها ومضغها، وقد أراد بالزائر نفسه.
فقد شبه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج. بهيئة الثوب في موقعه من ركبتي المحتبي ثم استعار لفظ "الاحتباء" لهذه الهيئة1، فهذه الاستعارة غريبة لما في الجامع من كثرة الاعتبارات الموجبة لصعوبة إدراكه، وبعده عن الأذهان، فضلا عن كونها على نمط غير مألوف. لا يقع في كلامهم إلا نادرا، ذلك أن الانتقال إلى معنى "الاحتباء" وهو ألا يجمع الرجل ركبتيه منضمتين إلى بطنه بنحو ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر عند استحضار إلقاء العنان على القربوس، في غاية الندرة، لما بين المعنيين من البعد2.
وقد يكون منشأ الغرابة: ما فيها من طرافة، ولطف مأخذ كما في قول طفيل الغنوي:
وجعلت كوري فوق ناجبة
…
يقتات شحم سنامها الرحل3
يقول: إن شحم سنام الناقة تضاءل وضمر لطول عهد الرحل به، وكأن الرحل كان يقتات منه. يصف نفسه بكسرة الأسفار. والشاهد فيه: أنه استعار "الاقتيات" لإذابة شحم السنام -ولا شك أن في التعبير بالاقتيات في جانب الشحم- وهو مما يقتات به نوع لطف وطرافة، يشعر به صاحب الذوق البلاغي، ومما زاده طرافة ولطفا إسناده إلى "الرحل" إسنادا مجازيا، من إسناد الفعل إلى سببه.
وقد يتصرف في الاستعارة العامية بما يخرجها من الابتذال إلى الغرابة: بأن يضم إليها تجوز لطيف، اقتضته الحال، كما في قول كثير عزة:
1 لأن جمع القربوس مضموما إلى فم الفرس، بالعنان ممتدا من القربوس إلى جانبي الفم يشبه هيئة الاحتباء، وهو جمع ركبتي المحتبي منضمتين إلى بطنه بنحو ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر.
2 إذ إن أحدهما من وادي الركوب، والآخر من وادي العقود.
3 "الكور" بضم الكاف رحل البعير، والناجبة الناقة السريعة، والاقتيات اتخاذ القوت، والسنام الجزء المرتفع من ظهر الناقة.
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا
…
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح1
يقول: لما فرغنا من أداء النسك، وقضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وشددنا الرحال، ومضى الناس، لا ينظر الغادي منهم الرائح، شوقا للعودة إلى أوطانهم، ابتدأنا في الحديث آخذين بأطرافه وفنونه، شأن الرفاق في السفر، قد شملتهم الغبطة، لما وفقوا إليه من أداء الفريضة، بينما سارت المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة، أشبه الأشياء بسيلان الماء.
وهذه الأبيات الثلاثة، مع ما فيها من روعة المطلع، وعذوبة الجرس، لا ترى فيها معنى دقيقا، ولا تصويرا أنيقا، سوى ما تراه في الشطر الثاني من البيت الأخير، حيث شبه سير المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة: بسيلان الماء فيها، ثم استعير سيلان الماء للسير اللين السلس، واشتق منه:"سالت" بمعنى: سارت حثيثا في لين وسلاسة -والجامع بين الطرفين سرعة السير مع سلاسة فهذه الاستعارة- كما ترى، عامية يدركها الخاصة والعامة. غير أنه تصرف فيها بما جعلها غريبة، لا يدركها إلا الخواص.
ذلك أنه: بعد أن استعير فعل السيلان لسير الإبل الحثيث السلس، حتى أفاد كأن سيولا جرت في تلك الأباطح. أسند بعد ذلك الفعل المستعار، وهو "سالت"
1 الشاهد في البيت الأخير "والأطراف" جمع طرف بكسر الطاء بمعى الكريم، والمراد كرائم الأحاديث أو جمع طرف بالتحريك بمعنى الناحية، والمراد فنون الأحاديث و"الأباطح" وهو مسيل الماء فبه دقائق الحصا.
إلى الأباطح، دون المطي الذي كان حقه أن يسند الفعل إليه، فأفاد هذا الإسناد، أن الأباطح امتلأت بالإبل إلى حد يخيل للناظر. أن الأباطح هي التي تسيل، إذ إن نسبة فعل الحال إلى المحال، تشعر بشيوع الحال في المحل، وكأن كل مكان من هذه الأباطح سائر. ومما زاد الاستعارة دقة وغرابة: أنه أدخل الأعناق في السير، إذ جرها بباء الملابسة، المقتضية لملابسة الفعل لها؛ لأن السرعة والبطء يظهران -غالبا- في أعناق الإبل: وإذن فقد أضاف الشاعر إلى الاستعارة المذكورة مجازا عقليا آخر، فالأول مصرح به وهو إسناد الفعل إلى الأباطح، والثاني مقدر، وهو إسناده إلى الأعناق؛ لأن الواقع: أن الدابة تستعين في سيرها بهز الأعناق، فكأن الأعناق أيضا تسير. ومثل بيت كثير تماما، قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب1 الحي حين دعا
…
أنصاره بوجوه كالدنانير
يقول: تسارع إليه أنصاره ملبين بوجوه مشرقة متهللة، حين دعاهم إليه. يريد أنه مطاع في حبه، لا يدعوهم لخطب جلل إلا أتوا إليه مسرعين متزاحمين حتى كأنهم السيل ينحدر من كل جانب، فيطفح به الوادي. وقد تصرف في البيت على غرار ما قبله، مما جعل الاستعارة تمتنع بعد ابتذال، وتعتز بعد ضعة.
تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع:
تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار ستة أقسام -ذلك: أن المستعار منه، والمستعار له، إما حسيان، أو عقليان. أو المستعار منه حسي. والمستعار له عقلي أو العكس. والجامع في الثلاثة الأخيرة عقلي لا غير، لما سبق في مبحث التشبيه:
1 جمع شعب بكسر الشين، وهو الطريق في الجبل.
من أن وجه الشبه وهو المسمى هنا بالجامع، لا بد أن يقوم بالطرفين، فإذا كان كلاهما، أو أحدهما عقليا، وجب أن يكون الجامع عقليا؛ لأن الحسي لا يقوم بغير حسي -كما علمت- أما القسم الأول، وهو ما كان الطرفان فيه حسيين فصوره ثلاث؛ لأن الجامع حينئذ- إما حسي أو عقلي، أو مختلف، وبذلك تكون الأقسام ستة، وهاكها:
1-
استعارة محسوس لمحسوس، والجامع حسي كما في قوله تعالى:{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا 1 لَهُ خُوَارٌ} فالمستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان المخلوق من حلي القبط التي سبكتها نار السامري2 عندما ألقى فيها التربة التي أخذها من موطئ فرس جبريل عليه السلام3، والطرفان حسيان -كما ترى- والجامع حسي كذلك، وهو الشكل والخوار، فإن ذلك الحيوان كان على شكل ولد البقرة، وله صوت كصوته.
ومثله قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} . فالمستعار منه حركة الماء على الوجه الخاص، والمستعار له الحركة والاختلاط الناشئان عن الحيرة والارتباك، والجامع بينهما ما يشاهد في كل: من الحركة الشديدة والاضطراب، والجميع حسي4، كما ترى.
1 أي: بدنا ذا لحم ودم، وقد نصب بدلا من عجل، و"له خوار" أي: له صوت البقر، شبه الصورة التي سبكتها نار السامري بابن البقرة بجامع الشكل والصورة ثم استعير: لفظ المشبه به وهو العجل للمشبه الذي هو الصورة المسبوكة من النار، وقرينة الاستعارة قوله:{جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} إذ لا يقال للبقر الحقيقي. أنه جسد له صوت البقر.
2 هو موسى السامري وكان رجلا حدادا في زمن موسى عليه السلام.
3 لهذه المسألة قصة ليس هنا محلها.
4 شبه تزاحمهم وتدافعهم بتلاطم الأمواج بجامع ما يشاهد، في كل من الاضطراب ثم استعير لفظ المشبه به وهو تلاطم الأمواج للمشبه الذي هو التزاحم والتدافع، ثم اشتق منه "يموج"، بمعنى يتزاحم ويتدافع.
من ذلك قول الشاعر:
بكت لؤلؤًا رطبا ففاضت مدامعي
…
عقيقا فصار الكل في نحرها عقدا
فقد استعار اللؤلؤ للدمع، بجامع الصفاء والتألق، والجميع حسي كذلك.
2-
استعارة محسوس لمحسوس والجامع عقلي كما في قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} والشاهد في "نسلخ" فالمستعار منه كشط الجلد، وسلخه عن الشاة ونحوها، والمستعار له إزالة ضوء النهار وانتزاعه عن مكان الليل، كلاهما حسي1، والجامع بينهما عقلي وهو ترتب أمر على آخر، ففي المستعار منه ترتب ظهور اللحم على سلخ الجلد، وفي المستعار له ترتب على ظهور ظلمة الليل على محو ضوء النهار2، ولهذا صح قوله بعد:{فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} لأن الواقع عقيب إزالة الضوء هو الإظلام.
3-
استعارة محسوس لمحسوس، والجامع مختلف، بعضه حسي، وبعضه عقلي كما في قولك:"رأيت بدرا يتحدث" تريد إنسانا كالبدر في حسن الطلعة، ونباهة الشأن. فالأول حسي، والآخر عقلي.
4-
استعارة معقول لمعقول كما تقول: "أحيتني الموعظة" على معنى: هدتني، فالمستعار منه "الإحياء" والمستعار له الهداية، وكلاهما عقلي، والجامع بينهما: ما يترتب على كل من الفوائد، وهو عقلي كذلك.
5-
استعارة محسوس لمعقول كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ
1 أي: باعتبار متعلقيهما، "الجلد والضوء" وإلا فإن كلا من كشط الجلد، وإزالة الضوء أمر عقلي لأنهما معنيان مصدريان، والمعنى المصدر لا وجود له خارجا، فلا يكون محسوسا.
2 بيان ذلك أن الظلمة هي الأصل والنور طارئ عليها يسيرها بضوئه، فإذا غربت الشمس فقد سلخ النهار عن الليل، كما يسلخ الجلد عن الشاة، فظهور الظلمة بعد ذهاب ضوء النهار بمثابة ظهور المسلوخ بعد سلخ إهابه عنه.
النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالمستعار منه "الظلمات والنور، وهما حسيان، والمستعار له "الضلال والهدى" وهما عقليان، والجامع في الأول عدم الاهتداء، وفي الثاني الاهتداء، وهما عقليان أيضا، والاستعارة فيهما لا تحتاج إلى بيان.
6-
استعارة معقول لمحسوس كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي: لما كثر الماء، فالمستعار منه التكبر والتعالي، وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء، وهو حسي والجامع بينهما الخروج عن حد الاعتدال1، وهو عقلي، ومثله قوله تعالى:{فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} أي: شديدة، حتى جاوزت الحد، استعار "العتو" وهو عقلي لشدة الريح المفسدة، وهي حسية باعتبار متعلقها2، والجامع عقلي، وهو مجاوزة الحد.
تقسيم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار:
تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار إلى قسمين: أصلية وتبعية.
فالأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس غير مشتق والمراد به: ما يصدق على كثيرين، سواء كان صدقه على الكثيرين حقيقة، أو تأويلا، وسواء كان اسم عين، أو ذات كالأسد، أو اسم معنى كالضرب والقتل.
فمثال اسم الجنس الحقيقي، وهو اسم عين لفظ "بحر" من نحو قولك:"رأيت بحرا يتحدث" تريد: رجلا عالما فحلا، فقد استعير لفظ "بحر" للرجل
1 شبه كثرة الماء كثرة جاوزت الحد بالتكبر المعبر عنه بالطغيان، ثم استعير اسم المشبه به وهو الطغيان للمشبه الذي هو كثرة الماء، ثم اشتق من الطغيان "طغى" بمعنى كثر كثرة جاوزت الحد وهكذا يقال في أشباه ذلك من كل ما كان فيه لفظ المشبه به مشتقا كما سيأتي بيانه بعد.
2 أي: لا باعتبار ذاتها إذ هي معنى مصدري والمعاني المصدرية كما قلنا لا وجود لها خارجا، وإجراء الاستعارة فيها أن يقال: شبه الريح في هبوبها بالعتو والقسوة، ثم استعيد "العتو" لشدة هبوب الريح، ثم اشتق منه "عاتية" بمعنى شديدة
العالم استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس حقيقة.
ومثال اسم الجنس التأويلي، وهو اسم عين أيضا لفظ "سحبان" ونحوه: من كل علم اشتهر مدلوله بنوع من الوصف، كما تقول:"رأيت سحبان يخطب" تريد رجلا فصيحا مفوها، استعير فيه كذلك لفظ "سحبان للرجل الفصيح استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس تأويلا1.
ومثال اسم الجنس: وهو اسم معنى قولك: "آلمني قتل علي أخاه"، تريد: إذلاله. فقد استعير فيه "القتل" للإذلال استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار، وهو "القتل" اسم جنس معنى، وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإذلال بالقتل بجامع شدة الألم، ثم استعير لفظ "القتل" لمعنى الإذلال. وهكذا يقال في أمثال ذلك.
وسمي هذا القسم: استعارة أصلية، نسبة إلى الأصل، بمعنى الكثير الغالب -ولا شك أنها أكثر وجودا في الكلام من التبعية الآتية بعد- أو نسبة إلى الأصل بمعنى ما أنبني عليه غيره، ولا ريب أنها أصل للتبعية لبنائها عليه، على ما سيأتي بيانه قريبا.
والتبعية: ما كان اللفظ المستعار فيها فعلا، أو اسما مشتقا، أو حرفا.
وإليك بيان كل.
الاستعارة في الفعل:
الفعل له "مادة" هي حروفه الدالة على الحدث، وله "صيغة" وهي الهيئة الدالة على الزمان، كما في صيغتي الماضي والمضارع، والاستعارة في الفعل، باعتبار مادته: غيرها باعتبار صيغته.
1 تقدم معنى التأويل فيه.
فمثالها في الفعل، باعتبار مادته قولك:"نطقت حالك بكذا"، أي: دلت- فالنطق- كما هو معلوم- وصف للإنسان لا للحال، وإنما توصف الحال بالدلالة.
وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم ادعى "مبالغة" أن الدلالة داخلة في نطاق النطق. وفرد من أفراده، ثم استعير النطق للدلالة الواضحة، فصار النطق بمعنى الدلالة الواضحة1، ثم اشتق من النطق بهذا المعنى:"نطقت" بمعنى "دلت" على سبيل الاستعارة التبعية.. وقس على هذا.
ومثالها في الفعل، باعتبار صيغته قوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فمن المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد، وإنما سيأتي بدليل قوله:"فلا تستعجلوه، فكان سياق الكلام أن يقال: "يأتي أمر الله" بصيغة المضارع، لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا.
وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقق الوقوع، ثم ادعى أن الإتيان في المستقبل داخل في جنس الإتيان في الماضي، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" للإتيان في المستقبل، فصار الإتيان في الماضي، بمعنى الإتيان في المستقبل، ثم اشتق من الإتيان بهذا المعنى، "أتى" بمعنى "يأتي" على سبيل الاستعارة التبعية، وهكذا يقال في أمثال ما ذكر.
وكما تستعمل: صيغة الماضي في المستقبل -كما مثلنا- تستعمل صيغة المضارع في الماضي كما في قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم عليه السلام لولده إسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . فالرؤيا المذكورة وقعت -لا محالة- فكان سياق الكلام أن يقال: إني رأيت في المنام.
1 وإن أطلق النطق على الدلالة لا باعتبار التشبيه بل باعتبار أن الدلالة لازمة له كان مجازا مرسلا وقد عرفت فيما سبق: أنه لا امتناع في أن يكون اللفظ الواحد بالنسبة للمعنى الواحد استعارة ومجازا مرسلا باعتبار العلاقتين كما تقدم في المشفر والمرسن.
لكنه عبر بصيغة المضارع تجوزا، قصدا إلى استحضار تلك الصورة العجيبة، هي صورة أب، يهم بذبح ابنه، دون ذنب جناه.
الاستعارة في المشتقات:
مثالها في اسم الفاعل قولك: "جليل أعمالك ناطق بكمالك" أي: دال عليه ففي "ناطق" استعارة تبعية. وإجراؤها أن يقال فيها على غرار ما قيل في نطقت الحال بكذا، غير أن المشتق من النطق هنا:"ناطق" بمعنى دال، ومثله قولك:"حكم على قاتلك بالسجن" أي: ضاربك ضربا أليما، وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شب الضرب الأليم، بالقتل: بجامع الألم الأليم، ثم استعير بعد التشبيه والادعاء لفظ "القتل" للضرب الأليم، فصار "القتل" بمعنى الضرب الأليم، ثم اشتق من القتل بهذا المعنى، "قاتل" بمعنى ضارب ضربا مبرحا، على سبيل الاستعارة التبعية.
ومثالها في اسم المفعول قولك: "رفع مقتولك أمره إلى الحاكم": تريد مضروبك ضربا أليما، وإجراء الاستعارة فيه على نحو ما تقدم، غير أن المشتق هنا اسم مفعول.
ومثالها في أفعل التفضيل قول الشاعر العربي:
ولئن نطقت بشكر برك مفصحا
…
فلسان حالي بالشكاية أنطق
شبهت الدلالة بالنطق، على نحو ما سبق ثم اشتق من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" اسم تفضيل بمعنى "أدل" على سبيل الاستعارة التبعية، وهكذا يقال في سائر المشتقات، فليس يعوزك القياس.
وإنما كانت الاستعارة في الفعل وفي سائر المشتقات "تبعية" لجريانها فيها تبعا لجريانها في مصادرها كما رأيت، فتشبيه الدلالة بالنطق مثلا يتبعه تشبيه "دل""بنطق" واستعارة النطق للدلالة، يتبعه استعارة "نطق لدل"، ذلك أن الفعل
مشتق من المصدر، فكل تصرف يجري في المصدر يجري نظيره في الفعل، وفي سائر المشتقات.
وإنما اعتبر التشبيه والاستعارة في المصدر قبل اعتبارهما في الفعل، وفي سائر المشتقات؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات، فهو المقصود الجدير بأن يعتبر فيه التشبيه والاستعارة أولا هذا هو التحقيق.
الاستعارة في الحرف:
مثالها قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
اعلم أن لام العلة موضوعة لترتيب ما بعدها على ما قبلها: ترتب العلة على المعلول كما تقول "جئت إلى مصر لأرتشف العلم من مناهلها" فإن ارتشاف العلم مترتب على المجيء، وعلة باعثة عليه.
إذا علمت هذا علمت أن "اللام" في الآية المذكورة مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها -وإن كان مترتبا على ما قبلها- ليس علة باعثة، ذلك أن آل فرعون لم يلتقطوا موسى ليكون لهم عدوا وحزنا، وإنما التقطوه ليكون لهم حبيبا، يملأ رحباهم بهجة وسرورا.
ومذهب الجمهور في إجراء الاستعارة في مثل هذا: أنهم يعقدون التشبيه في متعلق معنى الحرف1، فيقولون في الآية المذكورة: شبه مطلق ترتب علة واقعية "كالعداوة والحزن" على الالتقاط، بمطلق ترتب علة حقيقية عليه "كالمحبة والسرور" بجامع مطلق ترتب شيء على شيء، فسرى التشبيه من الكليين إلى جزئياتهما، ثم استعيرت
1 المراد بمتعلق معنى الحرف: المعنى الكلي الذي يستلزمه المعنى الجزئي للحرف فلفظ "في" مثلا موضوع لمعنى جزئي هو الظرفية الخاصة في قولك الماء في الكوز، وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ظرفية شيء في شيء، ومعنى تعلقه به: استلزامه له إذ الخاص يستلزم العام، ولام العلة كذلك موضوعة لمعنى جزئي هو ترتيب علة خاصة على معلول خاص كما في نحو جئت لأتلقى العلم. وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ترتيب شيء على شيء وهكذا.
-بناء على التشبيه الحاصل بالسراية- "اللام" الموضوعة لجزئي من جزئيات المشبه به1 لجزئي من جزئيات المشبه2 على سبيل الاستعارة التبعية.
ومثل الآية المذكورة قولهم: "محمود في غبطة" فإن لفظ "في" موضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين كما تقول: "الماء في الجرة" فالحرف المذكور إذن مستعمل في غير ما وضع له؛ لأن مجروره لا يصلح للظرفية الحقيقية وإجراء الاستعارة فيه على مذهبهم أن يقال: شبه مطلق تلبس شيء لا يصلح للظرفية "كالغبطة" في المثال المذكور بشيء آخر، فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، ثم استعير لفظ "في" من أحد جزئيات المشبه به لأحد جزئيات المشبه، على سبيل الاستعارة التبعية
…
وهكذا.
وصفوة القول: في الاستعارة التبعية: أن يقال: إن كانت الاستعارة في الفعل أو شبهه، بقدر التشبيه أولا في معنى المصدر. ثم ينقل المصدر إلى غير معناه الأصلي، ثم يشتق منه ما وقعت الاستعارة فيه: من فعل أو وصف، فتكون الاستعارة فيهما حينئذ تابعة للاستعارة في المصدر بلا خلاف.
وإن كانت الاستعارة في الحرف، فعلى مذهب الجمهور، في الرأي الراجح منه، يقدر التشبيه، "أولا" في متعلق معنى الحرف، ثم يقدر "ثانيا" من طريق السراية، في جزئية، ثم يستعار الحرف للمعنى المراد، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لتشبيهين: أحدهما في متعلق معنى الحرف، والثاني في جزئيه، ولا يعوزك بعد هذا تطبيق الاستعارة على ما يعرض عليك من أمثلة في المشتقات أو الحروف.
1 هو ترتب المحبة والسرور المتعلقين بموسى عليه السلام على الالتقاط.
2 هو ترتب العداوة والحزن المتعلقين أيضا بموسى عليه السلام على الالتقاط.