المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: في سنن دخول مكة - المهمات في شرح الروضة والرافعي - جـ ٤

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌ زكاة الفطر

- ‌الطرف الثاني: في صفات المؤدي

- ‌الطرف الثالث: في صفات المخرج

- ‌كتاب الصيام

- ‌الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات

- ‌القول في شرائط الصوم:

- ‌القول في السنن

- ‌القسم الثاني في مبيحات الإفطار وموجباته

- ‌كتاب الاعتكاف

- ‌كتاب الحج

- ‌الباب الأول: في وجوه أداء النسكين:

- ‌الباب الثاني: في أعمال الحج

- ‌الفصل الأول: في الإحرام

- ‌الفصل الثاني: في سنن الإحرام

- ‌الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

- ‌الفصل الرابع: في الطواف

- ‌الفصل الخامس: في السعي

- ‌الفصل السادس: في الوقوف

- ‌الفصل السابع: في أسباب التحلل

- ‌الفصل الثامن: في المبيت

- ‌الفصل التاسع: في الرمي

- ‌الفصل العاشر: في طواف الوداع

- ‌الفصل الحادي عشر: في حكم الصبى

- ‌الباب الثالث في محظورات الحج والعمرة

- ‌النوع الأول: اللبس

- ‌النوع الثاني: الطيب

- ‌النوع الثالث دهن شعر الرأس واللحية

- ‌النوع الرابع: الحلق والقلم:

- ‌النوع الخامس: الجماع

- ‌النوع السادس: مقدمات الجماع

- ‌الباب [الرابع] (*) في الدماء

- ‌الفصل الأول في أبدالها

- ‌الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها

الفصل: ‌الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

‌الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

قوله في أصل "الروضة": السنة أن يدخل المحرم بالحج مكة قبل الوقوف، ولدخوله سنن منها: الغسل بذي طوي. . . . إلى آخره.

ومقتضاه أن استحباب الغسل بذي طوي وما ذكر بعده من الدخول من الثنية العليا خاص بالحاج، وليس كذلك بل يستحب ذلك للمعتمر أيضًا كما صرح به في "شرح المهذب".

والعجب أن الرافعي ذكر المسألة على الصواب ولكن غيرها النووي إلى هذه العبارة الغير مستقيمة؛ فإنه قال -أعني الرافعي: ولدخول مكة سنن منها: أن يغتسل بذي طوي وهو من سواد مكة قريب منها. هذا لفظه، وهو يتناول الحاج والمعتمر، بل قد ذكرنا في باب الإحرام أن هذا الغسل يستحب للحلال أيضًا.

والدخول من الثنية كذلك أيضًا كما ستعرفه.

وقول الرافعي: من سواد مكة: أي: قراها، وهو اليوم خراب.

وسُمِّيت بذلك لأنه كان بها بئر مطوية بالحجارة، أي: مبنية لها.

قوله: ومنها أن يدخل مكة من ثنية كداء -بفتح الكاف والمد- وهي من أعلى مكة، وإذا خرج فيخرج من ثنية كداء -بضم الكاف.

ثم قال: وهو عام يشعر به كلام الأكثرين بالمد أيضًا؛ ويدل عليه أنهم كتبوها بالألف. ومنهم من قال: إنها بالياء، وروى فيه شعرًا، روي أنه عليه السلام كان يدخل مكة من الثنية العلياء ويخرج من الثنية السفلى (1).

(1) أخرجه البخاري (1500) ومسلم (1257) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 298

انتهى. فيه أمور:

أحدها: أن استدلاله بالكتابة عجيب فإن الكتابة بالألف لا تستلزم أن يكون ممدودًا، بل كل مقصور لا يمال كالعصا ونحوه يكتب بالألف، وكذلك بالليل أيضًا.

وكلامه في "الشرح الصغير" ظاهر في ترجيح القصر:

قال النووي: وهو الصواب الذي قطع به المحققون.

الأمر الثاني: أن كديا الذي هو بضم الكاف، والياء على التصغير: جبل مرتفع قريب من مكة في صوب اليمن، وفيه أيضًا ثنية ضيقة وقد سلكتها في ذهابي إلى جبلي ثور، وليس بلغة كما توهمه بعضهم. فتلخص أن الألفاظ الثلاث لثلاث جبال في كل منها ثنية.

الأمر الثالث: أن الحكمة في هذه المغايرة أنه قاصد عبادة فاستحب الدخول من طريق والرجوع من أخرى لتشهد له الطرقات كما قلنا في العبد. وهذا المعنى حسن صحيح نبه عليه النووي في رياض الصالحين وقال إن سائر العبادات كالجمعة وعيادة المرضى وغيرهما يستحب الذهاب إليها في طريق والرجوع في أخرى. ذكر ذلك في طريق والرجوع في أخرى. في ترجمة من تراجم الأبواب.

فإن قيل: فلم اختصت العليا بالدخول والسفلى بالخروج فهذه حاصل مغايرة الذهاب لذهاب كيف اتفق؟

فالجواب: أن الداخل يقصد موضعًا على المقدار فناسب الدخول من العليا والخارج عكسه.

وأيضًا فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (1) كان على كداء

(1) سورة إبراهيم: 37.

ص: 299

الممدود؛ فلذلك استحب الدخول منه. قاله السهيلي. وهذا المعنى الذي ذكرناه يقتضي مغايرة الدخول للخروج الآتي من غير المدينة أيضًا وسيأتي ما فيه، ويقتضي استحباب الدخول من العليا والخروج من السفلى وإن لم يكن حاجًا ولا معتمرًا كاستحباب تقديم اليمنى لداخل المسجد واليسار للخارج منه. وإن لم يقصد عبادة فينبغي القول به إلا أن يرد نقل يدفعه. والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وابن عمر.

قوله: قال الأصحاب: وهذه السنة في حق من جاء من طريق المدينة والشام، فأما الجاؤون من سائر الأقطار فلا يؤمرون أن يدوروا حول مكة ليدخلوا من ثنية كداء.

وكذلك القول في إيقاع الغسل بذي طوي.

وقالوا: إنما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الثنية اتفاقًا فالأفضل لأنها على طريق المدينة، وهاهنا سيأتي.

ثم قال: والثاني: أن الشيخ أبا محمد نازع في ما ذكروه من موضع الثنية وقال: ليست هي على طريق المدينة بل هي في جملة المعلى، وهو في أعلى مكة والمرور فيه يفضي إلى رأس الردم وباب بني شيبة، وطريق المدينة يفضي إلى باب إبراهيم عليه السلام.

ثم ذهب الشيخ إلى استحباب الدخول منها لكل جائى تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم والإمام هنا عَدّ الجمهور في الحكم الذي ذكروه شهد للشيخ بأن الحق في موضع التنبيه ما ذكره. انتهى كلامه.

فيه أمور:

أحدها: أن ما نقله رحمه الله عن الإمام من موافقة الجمهور على استحباب الدخول للآتي من طريق المدينة والشام، وقد تبعه عليه أيضًا في

ص: 300

"الروضة"، وهو سهو عجيب؛ فإن الذي ذهب إليه إنما هو عدم الاستحباب مطلقًا على عكس ما نقله عنه فقد قال في "النهاية" بعد ذكر نزاع والده في "التنبيه" ما نصه: والحق ما ذكره الشيخ -يعني: والده- ولكن الوجه عندي أن لا يرى الدخول من هذه الثنية نسكًا فإن الممر والمسلك قبل الانتهاء إلى المسجد لا يتضح تعلق النسك به، ويمكن أن يحمل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم على غرض أو سبب متعلق بالعادة لم يسع الرواة نقله. هذا لفظه بحروفه.

ثم ذكر بعد ذلك أيضًا ما يؤكده فقال ما قاله شيخي في موضع التنبيه صحيح، وما ذكره من تعلق النسك بالدخول من هذه الثنية لا أرى له وجهًا.

الأمر الثاني: لم يبين موضع اغتسال الداخل من غير الثنية، وقد بينه في "شرح المهذب" فقال: يغتسل من نحو مسافة الثنية.

الأمر الثالث: أن مقتضى ما ذكروه استدلالًا وتعليلًا جريان الأوجه الثلاثة أيضًا في طلب الغسل من ذي طوي، لكن جزم النووي بأنه يختص بالآتي من طريق المدينة مع تصحيحه استحباب الدخول من الثنية العليا لكل أحد كما قاله الشيخ أبو محمد.

ولعل الفرق أن ما ذكرناه في الثنية العليا في المناسبة لا يحصل سلوك غيرها، ومناسبة الغسل وهي التنظيف حاصلة بفعله في كل موضع، إلا أن في التفريق نظرًا من وجه آخر وهو أنا إذا كلفناه الدوران ليدخل فينتهي في دورانه إلى الطريق الذي يدخل منه الآتي من المدينة، وربما يمر أيضًا في أثناء دورانه بذي طوي أو يحاذيه بحيث يبقى قريبًا منه جدًا كالآتي من

ص: 301

اليمن، فإذا كنا نأمر الآتي من طريق المدينة بالذهاب إلى قِبل وجهه حتى يغتسل بذى طوي ثم يعود إلى خلف فأمر اليمنى وقد مر أو قارب بطريق الأولى.

قوله: ويسن إذا وقع بصره على البيت أن يقول ما روي في الخبر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه ثم قال: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَه تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا (1).

ثم قال بعد ذلك في الكلام على لفظ "الوجيز": وضم صاحب "الكتاب" في الدعاء للبيت لفظة البر إلى المهابة ولا ذكر له في الخبر وهو الدعاء المحض

المهابة دون البر، والثابت في الخبر إنما هو الاقتصار على البر، ولم يثبت الأئمة ما نقله المزني. انتهى ملخصًا.

فيه أمور:

أحدها: أن التعبير بوقوع البصر على البيت قد ذكر مثله في "الروضة"

(1) قال الحافظ: (أخرجه) البيهقي من حديث سفيان الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول به مرسلًا وسياقه أتم وأبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب كذاب.

ورواه الأزرقى في تاريخ مكة من حديث مكحول أيضًا، وفيه مهابة وبرا في الموضعين، وهو ما ذكره الغزالى في الوسيط، وتعقبه الرافعي بأن البر لا يتصور من البيت.

وأجاب النووي بأن معناه أكثره بر، ورواه سعيد بن منصور في السنن له من طريق برد بن سنان سمعت بن قسامة يقول: إذا رأيت البيت فقل: اللهم زده، فذكره سواء.

ورواه الطبراني في مرسل حذيفة بن أسيد مرفوعًا وفي إسناده عاصم الكوزى وهو كذاب.

وأصل هذا الباب ما رواه الشافعى عن سعيد بن سالم عن بن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان فذكره مثل ما أورده الرافعي إلا أنه قال وكرمه بدل وعظمه وهو معضل فيما بين بن جريج والنبى صلى الله عليه وسلم.

قال الشافعي بعد أن أورده ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أكرهه ولا أستحبه قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه.

ص: 302

وهو يشعر بأن هذا الدعاء لا يستحب للأعمى ولا لمن دخل في ظلمه.

والذي أشعر به كلامهما محتمل متجه، ويحتمل أن يقال أيضًا: يستحب لهما الدعاء به في الموضع الذي يراه منه غيرهما، ويستحب ولكن عند دخول المسجد لأنهما صارا كالحاضرين بين يديه أو عند ملامسة البيت قبل مشروعيتهما في الطواف في أذكاره.

الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من إنكار ورود البر وإنكار صحة معناه هو المراد كما أوضحه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" في الكلام على لفظ البر فقال بعد نقله لكلام الرافعي: قلت: وإطلاق البر على البيت له وجه صحيح وهو أن بره زيارته كما أن من جملة بر الوالدين والأقارب زيارتهم؛ وحينئذ فمعنى الدعاء بزيادة بره هو الدعاء بكثرة زائريه كأنه قال: اللهم كثرهم.

قال: قد روى الأزرقي صاحب "تاريخ مكة" هذا الحديث عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ البر والمهابة في البيت. رواه الغزالي في "الوجيز" إلا أنه مرسل وفي إسناده مجهول وضعيف. انتهى كلامه.

الأمر الثالث: أن قول الرافعي في آخر كلامه أن الثابت في الخبر كذا وكذا عجيب؛ فإن المذكور أيضًا ليس بثابت بل رواه الشافعي عن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مرسل ومعضل كما قاله في "شرح المهذب".

قوله: ومنها أن يدخل المسجد من باب بني شيبة وقد أطبقوا على استحبابه لكل قادم لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد منه قصدًا لا اتفاقًا فإنه لم يكن على طريقه وإنما كان على طريقه باب إبراهيم، والدوران حول المسجد لا يشق بخلاف الدوران حول البلد وكأن المعنى فيه أن ذلك الباب في جهة باب الكعبة. انتهى.

ص: 303

فإن طباق الأصحاب هنا على استحباب الدخول من باب بني شيبة وتعليلهم بأنه لم يكن على طريقه إلا باب إبراهيم ينافي كلامهم في المسألة السابقة فإنهم قالوا: إن الثنية العليا على طريق المدينة ويلزم من كونها على طريقها أن يكون باب بني شيبة على طريقه أيضًا لأن الداخل من الثنية يمر على باب المعلى، وأول ما يلقى من الأبواب باب بنيشيبة، وهذا معلوم بالمشاهدة لا مكابرة فيه، وقد تقدم أيضًا في أثناء كلام الشيخ أبي محمد.

وحديث الدخول من باب بني شيبة رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس.

والمعنى فيه ما أشار إليه الرافعي وإيضاحه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضًا فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع كما قاله ابن عبد السلام في "القواعد" فكأن الدخول من الباب الذي يشاهد منه تلك الجهة أولى. وسكت الرافعي عن الباب الذي يخرج منه عند إرادته الرجوع إلى بلده، ويستحب أن يكون ذلك هو باب بني سهم ففي "النوادر" عن ابن حبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة وخرج إلى الصفا من باب بني مخزوم وإلى المدينة من باب بني سهم -بالسين- ويسمى اليوم بباب العمرة.

قوله: ويبتدئ كما دخل بطواف القدوم لأنه عليه السلام أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت (1)، وسمي أيضًا طواف التحية. لأنه تحية للبقعة يأتي به من دخلها سواء كان تاجرًا أو حاجًا أو دخلها لأمر آخر. انتهى.

والمراد بالبقعة الذي هذا تحيتها هو البيت؛ فإن الطواف تحية له كما

(1) أخرجه البخاري (1536) ومسلم (1235) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 304

صرح به كثيرون وليس بتحية للمسجد بل إذا فرغ من الطواف فأمرناه بتحيته -أعني المسجد؛ ولهذا قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل: هلا أمرتموه بأن يصلي التحية بعد الطواف؟

فالجواب: أنا نأمره بأن يصلي في المقام ركعتين وتلك الصلاة تجزئه عن تحية المسجد. هذا كلامه، وجزم به أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" فقال: فإن قيل: لم قدم الطواف على تحية المسجد؟

قيل: لأن القصد من إتيان المسجد البيت وتحيته الطواف، ولأنها تحصل بركعتي الطواف. هذه عبارته فتفطن له، وعلم منه أنه لو أخر الركعتين لوقت آخر فقد فوت هذه التحية، وأنه لو اشتغل قبل الطواف بصلاة لغرض من الأغراض لخوف الفوات ونحوه لم يخاطب بتحية المسجد.

ويدل على ما قلناه أيضًا: أن المقيمين إذا دخلوا المطاف فيخاطبون بركعتي التحية.

والحديث رواه الشيخان عن عائشة.

قوله: ولو كان معتمرًا فطاف للعمرة أجزأه على طواف القدوم كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد. انتهى.

ذكر مثله أيضًا في الكلام على الطواف الذي يسن فيه الرمل.

تابعة في "الروضة" على ذلك وهو مشعر بأن المعتمر مخاطب بطواف القدوم، وليس كذلك وإنما لم يخاطب به لأنه مأمور بطواف الفرض؛ ولهذا ذكر الرافعي قبيل هذا الكلام بقليل أن الحاج إذا دخل مكة بعد الوقوف لا يخاطب به، وعلله بما قلناه.

ولا فرق في ذلك بين المعتمر والحاج إذ لا أثر لكون الطواف الذي عليه

ص: 305

من حج أو عمرة.

وذكر النووي في "المنهاج" لفظًا جامعًا للمسألتين فقال: ويختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف. والتقييد بالحاج لم يصرح به في المحرر إلا أنه مشعر به.

وإذا علمت ذلك فينبغي أن يحمل كلامه أولًا على حصول الفوات، وكلامه ثانيًا على أنه لا يؤمر بطواف يخص القدوم.

ووجه حصول الثواب هنا أنه إذا أثيب مصلي الفرض على التحية مع إمكان فعلها لما فيه من شغل البقعة بالعبادة فبالأولى هذه.

قوله: واختلفوا في الأولى دخول مكة راكبًا أم ماشيًا؛ فإن دخلها ماشيًا فقد قيل: الأولى أن يكون حافيًا؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد حج هذا البيت سبعون نبيًا كلهم خلعوا نعالهم من ذي طوي تعظيمًا للحرم (1). انتهى. فأما المسألة الأولى فالأصح فيها تفضيل المشي. كذا صححه النووي في

(1) قال الحافظ: (أخرجه) الطبراني والعقيلى من طريق يزيد بن أبان الرقاشى عن أبيه عن أبي موسى رفعه لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيًا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت العتيق فيهم موسى. قال العقيلي: أبان لم يصح حديثه.

ولابن ماجه من طريق عطاء عن ابن عباس قال: كانت الأنبياء يدخلون الحرم مشاة حفاة ويطوفون بالبيت ويقضون المناسك حفاة مشاة.

وقال ابن أبى حاتم في العلل: سألت أبي عن حديث بن عمر وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعسفان.

فقال: لقد مر بهذه القرية سبعون نبيًا ثيابهم العباء ونعالهم الخوص.

فقال أبي: هذا موضوع بهذا الإسناد.

وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: لما مر النبي بوادى عسفان.

قال: يا أبا بكر لقد مر هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف وأزرهم العباء أرديتهم النمار يلبون نحو البيت العتيق.

وفي إسناده ربيعة بن صالح وهو ضعيف.

وأورده الفاكهي في أوائل أخبار مكة من طرق كثيرة.

ص: 306

"شرح المهذب"، ومناسك الحج، و"زيادات الروضة".

وأما الثانية وهي دخوله حافيًا فقد جزم به في "شرح المهذب" ولم يتوقف فيه قال: إلا أن تلحقه مشقة أو يخاف نجاسة رجليه.

وعبر في "الروضة" و"المناسك" بقوله: "قيل"، كما عبر به الرافعي قوله: ومن قصد دخول مكة لا النسك فإن كان لا يتكرر دخوله ففيه طريقان: أصحهما أنه على قولين: أظهرهما عند الغزالي أنه لا يلزم وبه قال الشيخ أبو محمد، وإليه ميل الشيخ أبي حامد ومن تابعه، ورجحه المسعودي وصاحب "التهذيب" في آخرين أنه يلزم وبه أجاب صاحب "التلخيص" لما روي عن ابن عباس: لا يدخل مكة أحد إلا محرمًا (1).

والطريق الثاني: القطع بالاستحباب، ويحكى عن صاحب "التقريب" ملخصًا.

فيه أمران:

أحدهما: أن الصحيح في هذه المسألة هو عدم الوجوب.

كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" والنووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما من كتبه المشهورة ونقله في "الشرح" المذكور عن الأكثرين وعن نص الشافعي في أكثر كتبه، وصحح في "النكت" التي له على "التنبيه" أنه يجب، وقال في "البيان": أنه أشهر القولين.

الثاني: أن ما نقلوه عن صاحب "التقريب" ليس له ذكر في كتاب الحج من كتابه فاعلمه.

(1) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني"(3865).

ص: 307

قوله: وإن كان ممن يتكرر دخوله كالحطابين والصيادين ونحوهم فإن قطعنا بنفي الوجوب في الحالة الأولى فهاهنا أولى. وإن سلكنا طريقة القولين فهاهنا طريقان:

أحدهما: طرد القولين.

وأصحهما: القطع بنفي الوجوب، وبه أجاب "التلخيص" لما فيه من المشقة. ثم قال: وفي وجه ضعيف أنه يلزمهم الإحرام في كل سنة مرة.

انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما عزاه إلى "التلخيص" من القطع بعدم الوجوب غلط؛ فإن في "التلخيص" الجزم بطريقة القولين، وزاد على ذلك فصحح الوجوب فقال في أول كتاب الحج ما نصه: ويجب على كل من أراد دخول مكة الإحرام بحج أو عمرة إلا على واحد وهو الملوك.

وفيه قوله: أنه رخص للحطابين ومن دخله لمنافع أهلها. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلت.

الأمر الثاني: أن حكاية الإيجاب في كل سنة وجهًا، واستضعافه إياه ليس هو كما قال فيه، بل هو قول للشافعي منصوص عليه في الجديد، وله توجيه ظاهر. فأما الأول فإن الشيخ أبا حامد في "تعليقه" والمحاملي في "مجموعه". وغيرهما نقلوه عن نصه في "الإملاء".

وأما الثاني فإن الجزم يقتضي إيجاب الإحرام إذ التفريع عليه وإيجاب هذا في كل مرة يشق عليهم فأوجبناه في السنة مرة لأنه المقدار الذي عهد وجوبه إحياء الكعبة فيه تعظيمًا لها بالحج أو العمرة.

قوله: التفريع إن قلنا بالوجوب فله شروط:

ص: 308

أحدها: إن دخل من خارج الحرم، فأما أهل الحرم فلا يلزمهم بلا خلاف.

الثاني: أن لا يدخلها لقتال باغ أو قاطع طريق أو غيرهما أو خائفًا من ظالم.

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح غير محرم (1)، لأنه كان مترصدًا للقتال خائفًا غدر الكفار.

الثالث: أن يكون حرًا؛ أما العبيد فلا إحرام عليهم بحال لأن منافعهم مستحقة للسادة.

فإن دخلوا بإذن لم يجب أيضًا بالاتفاق لأن الإذن في الدخول لا يتضمن الإحرام. كذا قاله الإمام.

ومن يلزمه الإحرام بالدخول لا يبعد منه المنازعة في هذا التوجيه.

فإن أذن له السيد في الدخول محرمًا لم يلتحق بالإحرام في أقيس الوجهين. انتهى ملخصًا.

فيه أمور:

أحدها: أن الاستدلال على عدم الوجوب بدخوله عليه الصلاة والسلام غير محرم ذهول ومناقض لما ذكر هو وغيره في كتاب النكاح أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دخول مكة بغير إحرام على القول بالوجوب على غيره.

الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أن مكة وغيرها من أرض الحرم كسائر البلاد في جواز القتال بسبب البغاة أو الكفار، وهو كما قاله النووي في "شرح المهذب" ونص عليه الشافعي في "اختلاف الحديث" وفي "سنن الواقدي" من "الأم" فقال: معنى الحديث الناهي عن القتال فيها أن ينصب

(1) أخرجه مسلم (1358) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 309

القتال عليهم ويقاتلهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء.

الأمر الثالث: أن تعليل العبد باستحقاق السيد يقتضي استثناء المرأة المزوجة إذا كان سفرها بإذن الزوج ويحتمل خلافه.

الرابع: حيث أوجبنا على العبد فكذلك على هذه المرأة؛ فالمتجه تجويز العمرة فقط لأن زمنها أقصر والإذن فيه محقق وما زاد شكوك فيه والحديث المذكور رواه مسلم من رواية جابر ولفظه: دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.

قوله: وإذا اجتمعت شرائط الوجوب ودخلها غير محرم فهل عليه القضاء؟ قال الإمام: فيه قولان، وقال غيره: وجهان: أصحهما -وهو الذي أورده الأكثرون: لا يجب. انتهى.

والصحيح أن الخلاف وجهان. كذا صححه النووي في أصل "الروضة" و"شرح المهذب".

قوله: وذكر القاضي ابن كج تفريعًا على وجوب الإحرام على الداخل أنه إذا انتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة لزمه أن يحرم من الميقات، فلو أحرم بعد مجاوزته فعليه دم بخلاف ما لو ترك الإحرام من أصله. انتهى.

وهذا الذي نقله عن ابن كج خاصة وأقره عليه وهو عدم وجوب الدم إذا لم يحرم بالكلية قد تابعه عليه في "الروضة".

والمسألة فيها قولان للشافعي حكاهما ابن القاص في "التلخيص" فقال: وقد اختلف قول الشافعي في إيجاب الكفارة على من دخلها بغير إحرام فله فيها قولان: أحدهما: لا شيء عليه.

ص: 310

والآخر: عليه دم شاة.

هذا لفظه.

وعدم الوجوب فيه نظر ظاهر لكن صرح به أيضًا الخوارزمي في "الكافي" والماوردي في "الحاوي" وعلّله بأن الكفارة إنما تجب جبرًا لنقص دخل على نسك فإذا لم يأت بالنسك لم يلزمه جبران عدم أصله.

قوله: وهل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة مما في ما ذكرناه؟

قال بعض الشارحين: نعم.

ولا يبعد تخريجه على خلاف ما سبق في نظائره. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن تنزيل الحرم منزلة مكة في ذلك نقله المزني في كتاب له لطيف غريب سماه نهاية الاختصار من قول الشافعي فقال: ولا يدخل الحرم إلا محرم. هذه عبارته. والنسخة التي نقلت منها تاريخ فراغها سنة ثمان وأربعمائة، ونقله أيضًا ابن الصباغ عن نصه في القديم.

وقد صرح أيضًا بذلك شيوخ المذهب منهم القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين والمحاملي والبندنيجي والماوردي وابن الصباغ وخلائق آخرون، والعجب من اقتصار الرافعي على نقلها عن شارح "الوجيز" غير مشهور مع تنصيص مشاهير أن المذهب عليها ولكن السبب فيه أن أكثر هذه الأصول لم يطالعها على كتابه، وقد استدرك عليه في "الروضة" أيضًا ذلك فقال: الصواب القطع بأن الحرم كمكة في هذا، وقد اتفق عليه الأصحاب. هذا لفظه.

وقال في "شرح المهذب": إنه لا خلاف فيه. وليس كما قال من

ص: 311

الاتفاق؛ ففيه خلاف حكاه هو في مناسك الحج فقال: الصحيح أن حكم الحرم كحكم مكة بل كلامه في المنهاج يشعر باختيار ذلك الوجه فإنه قيد محل الخلاف بدخول مكة.

الأمر الثاني: في المراد من قول الرافعي ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره وقد تفقه فيه النووي وابن الرفعة؛ فقال النووي في "شرح المهذب" كأنه يشير إلى إباحة الصلاة في أوقات النهي فإن الحرم كمكة على الصحيح.

وقال ابن الرفعة في "شرح التنبيه": كأنه يشير إلى أن المكي إذا أحرم بالحج في الحل ثم عاد إلى الحرم هل يسقط عنه الدم كما يسقط عنه إذا عاد إلى مكة. وكذا لو حرم المكي من الحرم. انتهى.

وما قاله ابن الرفعة أظهر؛ فإنه نظير في الباب فإرادته أظهر من إرادة باب آخر لاسيما أن العادة التصريح به عند إرادته لبعد استحضاره.

ومن نظائر المسألة أيضًا ما إذا ترك طواف الوداع ولم ينته إلى مسافة القصر فإن في لزوم العود خلافًا.

وهل تعتبر المسافة من مكة أو من الحرم؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي أيضًا.

ص: 312