الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها
قوله: وأما دم الفوات فهل يجوز إراقته في سنة الفوات؟ فيه قولان:
أحدهما -وهو نصه في الإملاء أنه يجوز كدم الإفساد يراق في الحجة الفاسدة.
وأصحهما أنه لا يجوز ويجب تأخيره إلى سنة القضاء؛ لظاهر خبر عمر.
فإن قلنا بالأول فوقت وجوبه سنة الفوات، وإن قلنا بالثاني ففي وقت الوجوب وجهان: أصحهما أن الوجوب منوط بالتحريم بالقضاء كما أن دم التمتع منوط بالتحريم.
ووجه التشبيه أن من فاته الحج يتحلل من نسك ويحرم بآخر كالمتمتع، إلا أن نسكى المتمتع في سنة واحدة والقضاء يقع في سنة أخرى. ولما بينهما من الشبه نقول: لو ذبح قبل التحلل عن الفائت لم يجزئه في الأصح كما لو ذبح المتمتع قبل الفراغ من العمرة.
انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن ما ذكره أولًا من جعل الخلاف قولين قد ذكر مثله في "الروضة"، وجزم في المنهاج بجعله وجهين؛ فإنه عبر بالأصح، وقد صرح الشيخ في "المهذب" بذلك، وهو مقتضى كلام "التنبيه" فإنه عبر بقوله: وقيل، واصطلاحه أن ذلك للوجه.
وحكى النووي في "شرح المهذب" هنا خلافا من غير ترجيح في أنه قولان أو وجهان، وصحح في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام أنه قولان.
الأمر الثاني: أن ما ذكره من وجوب تأخيره إلى سنة القضاء قد تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وهو غلط حصل من ذهول وسوء تعبير؛ فإن كلامه صريح في أن هذا الدم قد وجب بشيئين وهما الفوات والإحرام بالقضاء، وإذا وجب المال بشيئين جاز تقديمه على أحدهما، بل قد صرح في آخر كلامه الذي نقله عنه بأنه كالمتمتع؛ وحينئذ فيجوز ذبحه بعد التحلل من الحجة التي فاتت، وقيل: الإحرام بالقضاء في أصح الوجهين كما في نظيره من المتمتع، وقد صرح بذلك القاضي الحسين في التعليق وإمام الحرمين في النهاية؛ فخرجا الذبح قبل سنة القضاء وبعد تحلله على الوجهين في التمتع.
الأمر الثالث: أن الوجهين اللذين حكاهما في وقت الوجوب لم يبين الوجه الآخر وهر المقابل للأصح منهما، وكذلك فعل أيضًا في "الشرح الصغير" وتابعه النووي في "الروضة"، وكذلك في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام من "شرح المهذب"، وبينه في هذا الباب من الشرح المذكور فقال: وفي وقت وجوبه وجهان حكاهما البندنيجي وغيره:
أحدهما: يجب في سنة الفوات وإن وجب تأخيره كما يجب فيها القضاء.
وأصحهما أن الوجوب في سنة القضاء. هذا لفظه.
قوله من "زياداته": قال -يعني: صاحب "البحر"-: فإن فرق الطعام
فهل يتعين لكل مسكين مد كالكفارة أم لا؟
وجهان: الأصح: لا يتقيد، بل تجوز الزيادة على مد والنقص منه.
والثاني: لا يجوز أقل منه ولا أكثر. انتهى كلامه.
واعلم أن محل هذا الخلاف إنما هو في دم التمتع ونحوه، أما الاستمتاعات كالطيب واللباس والمباشرة بشهوة والادهان والحلق والقلم؛ فإنه إذا اختار فيها الإطعام وجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع كما ذكره قبل ذلك على خلاف فيه غير هذا، وكلام النووي هنا في هذا الباب يوهم خلاف إيهاما كبيرًا؛ فإنه قد ذكر قبل هذا بأسطر أنواع الأشياء التي تجب فيها الدماء، ثم ذكر أنه إذا أطعم بدلًا من الدم وجب تخصيصه بمساكين الحرم. ثم ذكر هذا الفرع، فراجعه.
قوله: والدم الواجب على المحرم يجب تخصيصه لحمه بمساكين الحرم. انتهى.
والتقييد باللحم تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهي زيادة موهمة مضرة؛ فإن الجلد كذلك بلا شك.
قوله: يختص ذبحه بالحرم في أصح القولين. ثم قال: وفي القديم قول أن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفريقه في الحل كدم الإحصار.
ثم قال أيضًا بعد ذلك بأسطر: وذكر الإمام أن صاحب "التقريب" حكى وجهًا أن ما لزم بسبب مباح لا يختص ذبحه ولا تفرقة لحمه بمكان، وأن شيخه حكى وجهًا أنه لو حلق قبل الانتهاء إلى الحرم ذبح وفرق حيث حلق، وهما ضعيفان. انتهى كلامه.
وهو يوهم أن الوجهين مغايران للقول المحكي أولًا عن القديم. وليس كذلك فإن القديم قائل بالجواز في كل ما أنشئ سببه في الحل ومن جملته
الحلق فلا يكون الثاني من الوجهين مغايران للقول، وإنما يكون كذلك أن لو كان هذا القائل يقول بانتفاء ذلك عن ما عدا الحلق، وليس في كلامه ما يدل عليه بل غايته التمثيل فقط، ولا يصح أيضًا التخصيص من جهة المعنى؛ إذ لا فرق بين الحلق وبين غيره كالقلم، وقيل: الصيد، ونحوهما.
قوله من "زياداته": قال القاضي الحسين في "الفتاوى": لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجب نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا؛ لأنه وجب لمساكين الحرم كمن نذر التصدق على فقراء بلد فلم يجدهم يصبر إلى أن يجدهم ولا يجوز نقلها.
ويخالف الزكاة على قول؛ لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها.
انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما نقله عن القاضي من الصبر في البلد قد جزم في نظيره من الوصية أنه لا يصبر بل تبطل الوصية. ذكر ذلك قبيل المسائل الحسابية، وذكر نحوه الرافعي في الباب الثاني من قسم الصدقات وحذفه من "الروضة"، وسأذكر لفظه في موضعه فراجعه وقد رأيت المسألة -أعني: فقدان المساكين من الحرم في "فتاوى القفال" وأجاب بما ذكره القاضي الحسين من امتناع النقل ومن قياسها على النذر ومن التفرقة بينها وبين الزكاة، كما ذكره تلميذه القاضي المذكور إلا أنه تردد فيما يفعل بالمنذور بين النقلين المتقدمين فقال: فإما أن يبطل وإما أن يصبر حتى يجد القصر.
هذه عبارته، وزاد فيه فائدة أخرى وهي: أنه لو نذر لأصناف فقدم
بعضها جاز النقل كنظيره من الزكاة.
الأمر الثاني: أن ما نقله عن القاضي صريح في حكاية قولين في نقل الزكاة عند فقدان الأصناف.
وهو غلط لا ذكر له في كلام القاضي ولا في كلام غيره؛ فإن الذي في "فتاويه" بعد ذكر جوابه بعدم النقل ما نصه: قيل له على القول الذي يقول لا يجوز نقل الصدقة فإذا عدم المستحق له النقل كذا هاهنا، أجاب: ليس في الكتاب ولا في السنة أن الصدقة يجب صرفها إلى أهل ناحية بعينها؛ فلهذا جاز النقل، وهذا منصوص على أنه مصروف إلى فقراء الحرم.
هذا لفظه. فعبر عنه النووي بعبارة أفسدت المعنى فاعلمه.
قوله: والهدايا التي يسقها المحرم هل يختص ذبحها بوقت الأضحية؟ فيه وجهان: أظهرهما وهو ما أورده الغزالي والعراقيون أنها تختص كالأضحية.
ثم قال بعد ذلك: إن سوق الهدي مستحب لكل من قصد مكة بحج أو عمرة. . . . إلى آخر ما قاله.
تابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمران.
أحدهما: أن هذا الكلام كالصريح، وأن ما يسوقه المعتمر يختص أيضًا بوقت الأضحية على الصحيح.
ولا يمكن القول بذلك؛ فإنا لا نشك أنه عليه الصلاة والسلام لما أحرم بالعمرة عام الحديبية وساق الهدي إنما قصد به ذبحه عقب تحلله وأنه لا يتركه بمكة حيًا ويرجع إلى المدينة، وقد أشار الرافعي قبل هذا بقليل إلى ما يعضد ما ذكرناه، فإنه قال في دماء الجبرانات: إن الأفضل للحاج ذبحها
بمنى وللمعتمر ذبحها بالمروة.
ثم قال: وكذا حكم ما يسوقانه من الهدي.
الأمر الثاني: أن الهدي كما يطلق على ما يسوقه المحرم يطلق أيضًا على ما يلزمه من دماء الجبرانات.
وهذا الثاني لا يختص بوقت الأضحية كما سبق في أعمال يوم النحر مبسوطًا، وسبق أيضًا هناك الرد على النووي في توهمه اختلاف كلام الرافعي، فراجعه.
قوله: ويستحب أن يشعر الهدي.
ثم قال: والإشعار: الإعلام.
والمراد هاهنا أن يضرب صفحة سنامها اليمنى بحديدة وهي مستقبلة القبلة فيدميها ويلطخها بدمها ليعلم من رآها أنها هدي فلا يستجيز التعرض لها. انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" على إطلاق استحباب الإشعار في الصفحة اليمنى، ويستثنى من ذلك ما إذا أهدى بدنتين أو بقرتين مقرونتين في حبل واحد؛ فإنه يستحب إشعار الأخرى في الصفحة اليسرى لأنها هي التي تشاهد.
كذا قاله الروياني في "البحر"، ونقله عنه في "الروضة"، ثم قال: وفيه احتمال.
قوله: وإذا عطب الواجب في الطريق فعليه ذبحه، وإذا ذبحه غمس النصل الذي قلده به في دمه وضرب بها صفحة سنامه وتركه ليعلم من يمر به أنه هدي ليأكل منه.
وهل تتوقف الإباحة على أن يقول: أبحته لمن يأكل منه؟ قولان:
أصحهما عند صاحب "التهذيب" أنه لا حاجة إليه؛ لأنه بالنذر زال ملكه.
انتهى. فيه أمور:
أحدها: لم يذكر رحمه الله هو ولا النووي تعليل القول الثاني وذكرا تعليل الأول مع وضوحه فنقول: إنما احتيج التفرقة وتخصيصها بمن أراد.
ثانيها: أن كلام الرافعي يوهم أنه يكفي وجود الإباحة في نفس الأمر وإن لم يسمع الآكل حتى تكون فائدته دفع الضمان.
وليس كذلك؛ بل القولان في أن الإباحة هل تتوقف على سماعه أم لا؟
وفي كلام الرافعي في الباب الذي بعد هذا في الكلام على المعاطاة ما يدل عليه لمن تأمله.
ثالثها: أن له إباحة الأكل لا يسوغ الحمل ولا التصرف فكيف اقتصروا هنا عليه مع أن الواجب في أمثال هذا تمليك الفقراء إياه ليتصرفوا فيه بما شاؤوا؟ !
ورابعها: أن الأصح في هذه المسألة هو ما صححه البغوي كذا صححه النووي في أصل "الروضة" و"شرح المهذب".
قوله: ولا يجوز للمهدي ولا لأغنياء الرفقة الأكل منه، وفي فقرائها وجهان:
أصحهما أنه لا يجوز أيضًا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "لا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك"(1). انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن هذا الاستدلال ضعيف لا حجة فيه؛ لأنه لم يرد النهي عن أكل الرفقة مطلقًا حتى نقول: إنه يعم الأغنياء والفقراء، بل إنما ورد النهي
(1) أخرجه مسلم (1326) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
عن أكل بعضه؛ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن رفقة هذا الرجل أغنياء فنهاهم. والحاصل أنها واقعة معين لا عموم فيها.
الأمر الثاني: أنه لم يبين المراد بالرفقة هنا، وفيه خلاف تعرض له في الروضة فقال: إن الأصح الذي يقتضيه ظاهر الحديث وقول الأصحاب أن المراد بالرفقة الحديث، وقول الأصحاب: أن المراد بالرفقة جميع القافلة، وحكى الروياني في "البحر" وجهًا استحسنه أنهم الذين يخالطونه في الأكل وغيره دون باقي القافلة.
الأمر الثالث: حيث وقع الأكل الممتنع في هذه الحالة فهل يغرم لفقراء الموضع أم لفقراء الحرم؟
سكت عنه رحمه الله، وقد ذكره صاحب "التقريب" فقال: يغرم قيمته لمساكين الحرم؛ لأنه لهم بطريق الأصالة وإنما أكله فقراء الموضع لتعذر الاتصال.
وقال بعضهم: القياس أن يغرمه لفقراء هذا الموضع. هذا كلامه.
الأمر الرابع: أن ما جزموا به هاهنا من منع الأكل وادعى في "الروضة" أنه لا خلاف فيه يختص بما فرضوا فيه الكلام وهو ما إذا عطب، فأما إذا وصل إلى موضعه وذبحه ففي الأكل وجوه مشهورة؛ والراجح أنه يجوز في المعين ابتداء دون الواجب عما في الذمة على اضطراب فيه ستعرفه في باب الأضحية.
قوله من زياداته: قلت: إذا عطب هديه المتطوع به قال صاحب "الشامل" وغيره: لا يصير مباحًا للفقراء إلا بلفظ؛ وهو أن يقول: أبحته للفقراء وللمساكين.
قال: ويجوز لمن سمعه الأكل، وفي غيره قولان: قال في "الإملاء": لا يحل حتى يعلم الإذن، وقال في القديم، والأم: يحل. وهو الأظهر والله
أعلم. انتهى كلامه.
وهذا النقل الذي ذكره رحمه الله عن صاحب "الشامل" غلط؛ فإن صاحب "الشامل" إنما ذكره في الهدي الواجب فقال: فإن كان تطوعًا فله ذبحه وأكله وإطعام الأغنياء والفقراء.
هذا لفظه. ولم يذكر في التطوع غير ذلك.
ثم قال: وإن كان واجبًا .. إلى أن قال ما نصه: إذا ثبت هذا فالهدي لا يصير مباحًا للفقراء إلا باللفظ وهو أن يقول: أبحته للفقراء والمساكين؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنًا له ثم قال: "ليقطع من شاء منكم"؛ فدل على أن ذلك لا يصير مباحًا إلا بالقول، وإنما لم يصر مباحًا بالنحر والإعلام؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، وهذا كما قلنا في الزكاة: ليس للفقراء أن يأخذوها إلا بإذن صاحب المال؛ كذلك هذا.
إذا ثبت هذا فمن سمع الإذن جاز له أن يأخذ، وأما من لم يسمع إذنه وإباحته فهل يجوز له أن يأكل منه؟ ففيه قولان: قال في "الإملاء": لا يحل له الأكل إذا رأى هديًا مذبوحًا حتى يعلم الإذن فيه، وقال في "القديم" و"الأم": لهم الأكل. هذا كله إذا نحره.
فأما إذا تركه ولم ينحره حتى هلك وجب عليه ضمانه.
هذا كلام "الشامل"، وقد حكاه عنه الخوارزمي في "كافيه" على الصواب.
تم الجزء الرابع بحمد الله وعونه، يتلوه في أول الخامس كتاب البيع.