الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: في المبيت
قوله: وفي الحد المعتبر للمبيت بمزدلفة ومنى قولان: أظهرهما: معظم الليل. انتهى.
استدرك عليه النووي فقال ما نصه: المذهب ما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في "الأم" وغيره أن الواجب في مبيت مزدلفة ومنى ساعة في النصف الثاني من الليل. انتهى كلامه.
وهذا الاعتراض يؤخذ منه موافقة الرافعي على اشتراطه معظم الليل في المبيت بمنى، وهو كذلك. وقد صرح باشتراطه في "الروضة" أيضًا من "زيادته" في أواخر تعليق الطلاق، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن مخالفته في مزدلفة يقتضي مخالفته في منى لاتفاقهما في المعنى وأنه إنما أفرد مزدلفة بالذكر لأن نص الشافعي وقع فيها بخصوصها، وقد سبق الكلام في مبيت مزدلفة على هذه المسألة مبسوطًا.
قوله في أصل "الروضة": ثم هذا المبيت مجبور بالدم وهل هو واجب أو مستحب أما ليلة المزدلفة فقد سبق حكمها، وأما ليالي التشريق ففيها قولان: أظهرهما الاستحباب، وقيل: يستحب قطعًا.
قلت: الأظهر: الإيجاب، والله أعلم. انتهى كلام "الروضة".
وهو غير مطابق لكلام الرافعي -فإنه أعني الرافعي- قد عبر بقوله وبسببه ترجيح قول الاستحباب ثم قال عقبة: ولكن كلام الأكثرين يميل إلى ترجيح الإيجاب هذه عبارته فاقتصر النووي على هذا الترجيح الضعيف وعبر عنه بصيغة صريحة، ثم استدرك عليه.
وكلا الرافعي في "المحرر" ظاهر في الإيجاب أيضًا؛ فإنه عبر بلفظ (على) فقال: فعليه المبيت، ذكر ذلك في الكلام على جواز النفر؛ ولهذا عبر عنه في "المنهاج" بلفظ الوجوب.
قوله: إذا ترك مبيت ليلة النحر وحدها أراق دمًا، وإن ترك مبيت ليالي التشريق فكذلك على المشهور كان فتتوزع عليها توزيع الرمي على الجمرات الثلاث.
وعن صاحب "التقريب" رواية قول أن في كل ليلة دمًا كما أن في رمي كل يوم دمًا.
وإن ترك ليلة أو ليلتين فعلى الأقوال في حلق الشعرة والشعرتين.
وإن ترك الأربع فدمان: دم لليلة مزدلفة ودم الثاني التشريق لاختلافهما في الموضع وفي الأحكام وفي قول: دم واحد. انتهى. فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره هاهنا في الدليل للقول المروي عن "التقريب" أن في رمى كل يوم دمًا مناقض لما سيأتي بعد هذا في الكلام على ترك الرمي؛ فإن الصحيح المذكور هناك وهو المشهور إيجاب دم واحد لرمي الأيام الثلاث.
نعم: يجب في رمي كل يوم دم إذا تركه على انفراده إلا أن الكلام الآن ليس في ذلك بل في ترك المجموع.
وينبغي أن يستحضر أن حكم المبيت مخالف لحكم المرمى؛ فسيأتيك أنه إذا ترك رمي الأيام الأربعة لزمه دم واحد عند الجمهور.
الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" عبر بقوله: وإن ترك الليالي الثلاث لزمه دم على المذهب. هذه عبارته.
فاقتضى أن الرافعي حكى في المسألة طريقين. وليس كذلك.
قوله: وأما ترك مبيت مزدلفة أو منى لعذر فلا دم عليه. وهم أصناف: منهم رعاء الإبل، وأهل سقاية العباس؛ فلهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت هنا ليالي التشريق؛ لما روي عن ابن عمر "أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية فأذن له"(1). وهم عاصم بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم "رخص للرعاة أن يتركوا المبيت بمنى ويرموا يوم النحر جمرة العقبة ثم يرموا يوم النفر الأول"(2). انتهى.
ذكر مثله في "الروضة". وليس فيه تصريح بجواز ترك مبيت مزدلفة لأهل السقاية والرعاة بخصوصهم؛ فتأمله من أوله إلى أخره، بل كلامه يوهم المنع، والمنقول الجواز؛ فقد حكاه الطبري شارح "التنبيه" عن صاحب "الفروع"، وجزم به في "الكفاية".
والحديث الأول رواه البخاري ومسلم.
والحديث الثاني رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: حديث حسن.
قوله صحيح لو أحدث سقاية للحاج فللمقيم لسقايتها ترك المبيت قاله في التهذيب
والحديث الثاني رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1) أخرجه البخاري (1553) ومسلم (1315) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أبو داود (1976) والترمذي (955) والنسائي (3068) وابن ماجة (3036) وأحمد (23825) والدارمي (1897) وابن خزيمة (2976) وابن حبان (3888) والحاكم (5773) والطبراني في "الكبير"(17/ 173) حديث (455) وابن أبي شيبة (3/ 271) والبيهقي في "الكبرى"(9456) وابن الجارود في "المنتقى"(478) من حديث أبي البراح بن عدي عن أبيه قال الترمذي: حسن صحيح.
قوله: ولو أحدث سقاية للحاج فللمقيم لسقايتها ترك المبيت. قاله في "التهذيب".
وقال ابن كج وغيره: ليس له. انتهى.
والصحيح المنع؛ فقد نقله صاحب "الحاوي" و"البحر" وغيرهما عن نص الشافعي وهو المشهور كما أشعر به لفظ الرافعي أيضًا، وصحح النووي في "الروضة" وغيرها من كتبه الجواز، وليس كذلك فاعلمه.
قوله: ومن المعذورين الذين ينتهون إلى عرفة لئلا يضطر إلى ترك المبيت فخلاف المقيض إلى عليه. انتهى.
وهذه المسألة الأخيرة فيها نظر ظاهر، والذي أجاب به القفال فيها قد سبقه إليه صاحب "التقريب"، وقد نقله عنه الإمام من جملة ما نقل ولكن لم يذكره الرافعي.
قوله: ومنهم -أي: من المعذورين- من له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو مريض يحتاج إلى تعهده أو كان يطلب عبدًا آبقًا أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته؛ ففي هؤلاء وجهان: أصحهما -ويحكي عن نصه: أنه لا شيء عليهم كالرعاء وأهل السقاية.
والثاني: لا يلحقون بهم لأن شغلهم ينفع الحجيج عامة وأعذار هؤلاء تخصهم. انتهى.
وفيه أمور:
أحدها: أن الماوردي نقل في "الحاوي" عن الشافعي أنه نص على منع لحاق هؤلاء بالمعذورين على خلاف هذا النص المذكور هنا؛ فصار الخلاف في المسألة قولين لا وجهين.
الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي في تعليل الوجه الثاني مقتضاه أن المراد بالإبل هي إبل الحجيج لا إبل غيرهم؛ فتفطن له. ولم يذكر النووي في "الروضة" هذا التعليل.
الثالث: أن هذا الخلاف هل هو في جواز ترك المبيت أو في وجوب الدم خاصة مع القطع بجواز الترك؟ كلام الرافعي يحتمل كلام الأمرين، والصواب الذي لا شك فيه هو الثاني فكيف يجب عليه أن يبيت ويترك المريض ضائعًا أو المال تالفًا أو يمكث لمن يقتله ونحو ذلك، وكلام الأصحاب يوهم الأول فاحذره.
واعلم أن الثعالبي قد قال في كتاب "سر اللغة" في آخر الفصل الثالث من الباب الثالث أنه لا يقال للعبد آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد في العمل، وإلا فهو هارب.