الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الاعتكاف
قوله: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من اعتكف فواق ناقة فكأنما أعتق نسمة"(1). انتهى.
قال الجوهري: الفواق والفواق بالضم والكسر: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة ترضعها الفصيل لتدر ثم تحلب.
فيقال: ما أقام عنده إلا فواقًا.
وفي الحديث: "العيادة قدر فواق ناقة"(2). هذا كلامه.
قوله: وعلامة ليلة القدر أنها طلقة لا حارة ولا باردة. انتهى.
الطلقة: بفتح الطاء وسكون اللام وتفسيرها ما ذكره الرافعي، ويجوز فيها إثبات التاء وحذفها، قاله ابن الأثير في غريبه، ولم يذكر الجوهري إلا الحذف فقال: يقول: يوم طلق وليلة طلق.
قوله: وقول الغزالي: وقيل: إن ليلة القدر في جميع الشهر.
وكذلك لو قال لزوجته في منتصف رمضان: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق إلا إذا مضت سنة: قال الرافعي: ولا تكاد تجد رواية احتمالها في جميع ليالي الشهر عن الأصحاب في شئ من كتب المذهب.
قال: وأما مسألة الطلاق فإنه نقلها في "الوسيط" عن الشافعي كذلك
(1) قال ابن الملقن: هذا حديث غريب لا أعرفه بعد البحث الشديد عنه. وقال الحافظ: منكر.
(2)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(9222) وابن أبي الدنيا في "المرضى والكفارات"(176) من حديث أنس رضي الله عنه.
قال الحافظ الطرافي: فيه جهالة.
أيضًا وهو مخالف لنقل الأئمة فإنهم قالوا: إن قال ذلك قبل مضى شئ من ليالي العشر طلقت بانقضاء ليالي العشر، وإن قاله بعد مضى بعض لياليها لم تطلق إلى مضى سنة. انتهى ملخصًا.
فيه أمور:
أحدها: أن ما ادعاه من أنك لا تكاد تجد احتمال ذلك في شئ من الكتب غريب؛ ففي "التنبيه" أنه يطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان، وذلك يدل على أنها في جميع الشهر.
وذكر مثله المحاملي في "المقنع"، وبالغ في كتابه المسمى "التجريد" فنسبه إلى الشافعي فقال: مذهب الشافعي أن ليلة القدر تلتمس في جميع شهر رمضان وآكده العشر الأواخر، وآكده ليالي الوتر من العشر الأواخر. هذا لفظه، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" إلا أنه جزم في "المجموع" بأنها في العشر الأواخر كما قاله غيره.
وقال الإمام: ذكر صاحب "التقريب" في كتابه ترددًا في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان، وهذا متروك عليه ولا نعرف له متعلقًا. انتهى.
قلت: وقد روى أبو داود: هي في جميع رمضان (1)، وروي أيضًا: اطلبوها ليلة سبع عشر.
وهما يدلان للمقالتين السابقتين؛ وبذلك يصير في المسألة ثلاثة أوجه.
الأمر الثاني: أن ما أنكره على "الوسيط" في نقله عن الشافعي قد علمت صحته بما نقلناه عن المحاملي.
(1) أخرجه أبو داود (1387) مرفوعًا بسند ضعيف، والصحيح موقوفًا.
الثالث: أن ما ادعاه من توقف طلاقها على انقضاء العشر ممنوع؛ لأن العشر إنما تنقضي بانقضاء اليوم الأخير، والطلاق يقع بالطعن في الليلة الأخيرة لا بانتفائها حصول ليلة القدر.
وأما قوله: بعد سنة فليس كذلك أيضًا؛ لأنه مثلًا إذا قال ذلك في أواخر اليوم الحادي والعشرين فلا يتوقف وقوعه على سنة كاملة بل يقع في أول ليلة الحادي والعشرين لما قلناه، وإن قاله في اليوم الثلاثين فيقع في أول ليلة الثلاثين، وكذلك حكم ما بينهما.
وهذا كله واضح، وقد صرح به على الصواب في الموضع القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والنووي في "شرح المهذب" ونبه عليه في "الروضة".
قوله في "الروضة": أركان الاعتكاف أربعة: اللبث في المسجد، والنية، والمعتكف، والمعتكف فيه. انتهى.
وتقييده اللبث بكونه في المسجد لا حاجة معه إلى ذكر المعتكف فيه؛ لأنه هو بعينه؛ فالصواب حذف التقييد بذلك؛ ولهذا لم يذكره الرافعي.
قوله: وفي اعتبار اللبث وجهان: أظهرهما: أنه لابد منه. انتهى.
فيه كلام مذكور في كتاب النذر في أوائل الكلام على أحكامه؛ فليراجع.
قوله: ولو نذر اعتكافًا مطلقًا خرج عن عهدة النذر بأن يعتكف لحظة، واستحب الشافعي رضي الله عنه أن يعتكف يومًا وذلك للخروج من الخلاف. انتهى.
واعلم أن الشيخ أبا حامد قد نص في تعليقه على استحباب ضم الليلة إليه، ونقله عن نص الشافعي في "الإملاء" فقال: المستحب أن لا ينقص
عن يوم وليلة، وذكر مثله في "البحر"، وكذلك القاضي الحسين في تعليقه أيضًا إلا أنه لم ينقله عن النص.
قوله: فلا يجوز للمعتكف الجماع ولا سائر المباشرات بالشهوة؛ فلو جامع بطل اعتكافه سواء جامع في المسجد أو حين خرج لقضاء الحاجة إذا كان ذاكرًا للاعتكاف عالمًا بالتحريم. انتهى.
وهذا الكلام بمجموعه إنما ينتظم في الاعتكاف الواجب، أما التطوع به فلا يتجه تحريم هذه الأشياء فيه خارج المسجد؛ فإن غاية ذلك أن يكون قد خرج من العبادة وهو جائز له.
وأما فعلها في المسجد فإن كان جماعًا فتحريمه واضح؛ أما في الاعتكاف فلقطعه ولإقامته في المسجد، وأما في التطوع فلإقامته فقط.
وإن كان مباشرة فالمتجه أن يفصل في إباحته بين الواجب والتطوع.
قوله: فأما إذا جامع ناسيًا للاعتكاف أو جاهلًا بالتحريم فهو كنظيره في الصوم. انتهى.
تابعه في "الروضة" و"المنهاج" عليه، وخالف في "شرح المهذب" فصحح أنه لا يتخرج على خلاف الصوم فقال: لم يبطل على المذهب وبه قطع العراقيون وجماعات من الخراسانيين، وقال أكثر الخراسانيين: فيه الخلاف السابق في نظيره في الصوم. هذا لفظه.
وحكى القاضي الحسين في "تعليقه" طريقة قاطعة بالبطلان هاهنا بخلاف الصوم؛ فيتلخص في المسألة ثلاث طرق.
قوله: ولو لمس أو قبل بشهوة أو باشر فيما دون الفرج متعمدًا فهل يفسد اعتكافه؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين، ثم قال: والثاني: القطع بأنها تفسده؛ حكاه الشيخان: أبو محمد، والمسعودي. انتهى.
واعلم أن النسخ قد اختلفت في حكاية هذه الطريقة؛ ففي عدة من النسخ المشهور بالصحة أنها تبطل كما تقدم، وفي بعضها لا تبطل وهذه النسخة هي الصواب؛ فقد ذكر في "الشرح الصغير" ما يوافقها، وعبر بلفظ هو أوضح من لفظ "الكبير"، والكلام يبين بعضه بعضًا.
ولم يتعرض النووي في "الروضة" لحكاية الطرق في هذه المسألة، بل حكى ما يتلخص منها من الأقوال فقال: ففيه نصوص وطرق مختلفة مختصرها ثلاثة أقوال أو أوجه: أصحها عند الجمهور: إن أنزل بطل وإلا فلا.
وتعبيره بنصوص يقتضي أن الرافعي حكى في ثلاثة نصوص فصاعدًا، والرافعي لم يحك إلا نصان فقط؛ فاعلمه.
قوله: والاستمناء باليد يرتب على ما إذا لمس فأنزل؛ إن قلنا: إنه يبطل الاعتكاف فهذا أولى، وإن قلنا: لا يبطله ففيه وجهان.
والفرق أن كمال الاستمتاع والالتذاذ تمت باصطكاك البشرتين. انتهى.
لم يصحح أيضًا في "الروضة" شيئًا، وصحح في "شرح المهذب" البطلان وعبر بالأصح، وصحح أن القاضي الحسين في تعليقه عدم الإبطال، وعبر أيضًا بالأصح، وقد نقل البغوي من شيخه هذا الخلاف إلا أنه حكاه بلا ترجيح، ووقف النووي على كلامه خاصة؛ فإنه لما نقل الوجهين حكاهما عن البغوي والرافعي فقط؛ فدل على ما قلناه.
قوله: للمعتكف أن يبيع ويشتري ويخيط ويكتب، وما أشبه ذلك، ولا يكره شئ من هذه الأعمال إذا لم يكثر؛ فإن أكثر أو قعد يحترف بالخياطة ونحوها كره ولم يبطل اعتكافه. انتهى.
استدرك في "الروضة" فقال: قلت: الأظهر كراهة البيع والشراء في
المسجد وإن قل للمعتكف وغيره إلا لحاجة، وهو نصه في "البويطي"، وفيه حديث صحيح في النهى، والله أعلم.
وما أطلقه الرافعي في الكتابة وتبعه عليه في "الروضة" يستثني منه نسخ كتب العلم، فإنه لا يكره سواء قل أم كثر، كذا ذكره في آخر باب ما يوجب الغسل من "شرح المهذب"، وذكر في كتاب البيع من "المطلب" أنه لم ير لأصحابنا كلامًا في كراهة البيع والشراء في المسجد، والذي ذكره غريب.
قوله في "الروضة": ونقل عن القديم أنه إذا اشتغل بحرفة بطل اعتكافه، وقيل: بطل اعتكافه المنذور. انتهى.
واعلم أن الرافعي حكى عن مالك أن الاشتغال بالحرفة يبطله.
ثم قال: وعن القديم قول مثله في الاعتكاف المنذور، ورواه بعضهم في مطلق الاعتكاف. هذا لفظه.
فالحاصل أنهما قولان يعزيان إلى القديم، وكلام "الروضة" قد يوهم أن الثاني وجه ولكن مراده أن بعضهم قال: إن القول القديم ليس هو الإبطال مطلقًا بل في إبطال المنذور خاصة؛ ولهذا عبر في الثاني بالفعل الماضي كما عبر به في الأول فقال: وقيل: بطل، وذلك للإشارة إلى تفريعه على القديم.
نعم كلام "الروضة" يقتضي أن المشهور عدم التقييد بالمنذور، وكلام الكبير يقتضي عكسه، إلا أن الرافعي في "الشرح الصغير" ذكر كما في "الروضة".
قوله: ولهذا قال في "التهذيب": لا يجوز نضح المسجد بالماء المستعمل لأن النفس قد تعافه.
وهذا الذي نقله هو والنووي عن "التهذيب" وأقراه ليس هو المذهب وقد
سبق الكلام عليه قبل سجود السهو.
قوله: ويجوز الفصد والحجامة في المسجد بشرط أن يأمن التلويث، والأولى الاحتراز عنه. انتهى.
تابعه في "الروضة" على هذه العبارة وفيه إشعار بعدم الكراهة، لكن صرح في "شرح المهذب" هنا وفي آخر باب ما يوجب الغسل بكراهة ذلك وهو واضح، بل جزم البندنيجي في كتابه المترجم في خطبته بـ"تذهيب المذهب" -وهو الذي ينقل عنه ابن الرفعة- بتحريمه فقال في باب الخروج للشهادة ما نصه: فأما الفصد والحجامة فلا يجوز في المسجد كالبول في الطست. هذا لفظه ومنه نقلت.
قوله: وفي البول في الطست احتمالان ذكرهما ابن الصباغ، والأظهر المنع، وهو الذي أورده في "التتمة".
تابعه في "الروضة" هنا على جعلهما احتمالين، وكذلك في "شرح المهذب" في باب الاستئجار.
وقال في آخر باب ما يوجب الغسل: إنهما وجهان، وكذلك ابن الرفعة، قال في "شرح المهذب" هنا وفي الاستنجاء من "الروضة": إنه حرام على الأصح ولم يبين هل هما وجهان أو احتمالان؟ ، وقد سبق عن البندينجي تحريمه أيضًا.
والطست بسين مهملة.
قوله: لأن الشيخ أبا محمد وغيره نقلوا عن القديم قولًا أن الصوم شرط في الاعتكاف حتى لا يصح في الليلة المجردة. انتهى.
هذا الكلام يوهم أنه يصح فيها بطريق التبعية للنهار، لكن قال إمام
الحرمين في "النهاية": قال الأئمة: إذا فرعنا على القول القديم لم يصح الاعتكاف في الليل لا تبعًا ولا مفردًا. هذا لفظه.
قوله: فلو نذر أن يعتكف يومًا هو فيه صائم لزمه أن يعتكف في رمضان أو غيره من أيام صومه، ولا يلزمه بهذا النذر صوم لأنه نذر الاعتكاف على صفة وقد وجدت.
ثم قال: ولو نذر أن يعتكف صائمًا أو يعتكف بصوم لزمه الاعتكاف والصوم جميعًا بهذا النذر.
وهل يلزمه الجمع بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما وبه قال أبو علي الطبري: لا، لأنهما عبادتان مختلفتان كما إذا نذر أن يصلي صائمًا. وأصحهما: نعم. انتهى.
وإسناد عدم الوجوب إلى أبي على الطبري أخذه الرافعي من "المهذب" أو "الشامل" لابن الصباغ فإنهما عزياه إلى "الإفصاح" لأبي على المذكور فقلدهما فيه من بعدهما، وليس كذلك فإن المذكور فيه إنما هو احتمال من احتمالين على السواء فإنه قال: قال الشافعي إنه إن نذر اعتكافًا بصوم فأفطر استأنف.
وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يستأنف الصوم والاعتكاف جميعًا لأنه لم يأت به على حسب شرطه.
والثاني: بالصيام دون الاعتكاف؛ لأن الصيام ينفرد عن الاعتكاف.
فينفرد الاعتكاف عنه وكأنه نذر لشيئين يصح انفراد أحدهما عن الآخر فإن جاء بهما مجتمعين جاز، وإن جاء بهما منفردين لم يبطل. هذا لفظه ومن "الإفصاح" نقلت.
واعلم أن الفرق بين المسألة الأولى وبين مسألتنا مشكل جدًا فإنه التزم في الموضعين الصوم بلفظ يدل على الصفة فإن كلامهما حال إما مفرد أو جملة، والحال وصف في المعنى.
قوله: ولو شرع في الاعتكاف صائمًا ثم أفطر لزمه استئناف الصوم والاعتكاف على الوجه الثاني -أي: القائل بالجمع- ويكفيه استئناف الصوم على الأول.
ثم قال: ولو نذر اعتكاف؛ أيام وليال متتابعة صائمًا وجامع ليلًا ففيه هذان الوجهان. انتهى لفظه.
ذكر مثله في "الروضة"، والوجهين السابقين، أحدهما: لزوم استئنافهما ومجيئه هاهنا واضح.
والثاني: لزوم استئناف الصوم وهو لا يمكن إتيانه هنا إنما يأتي عكسه وهو استئناف الاعتكاف؛ لأن الصوم لا يفسد بالوطء ليلًا، وقد اغتر النووي في "شرح المهذب"، والقمولي في "الجواهر" بهذه العبارة فصرحا بأنه يستأنف الصوم على الوجه الثاني، إلا أن النووي ذكر تعليلًا يتفطن معه إلى الوهم.
وهذه المسألة لم أرها إلا في كلام الرافعي فمن بعده إلا أن تصويرها واضح وحكمها يؤخذ مما تقدم.
قوله: ولو نذر أن يعتكف مصليًا أو يصلي معتكفًا لزمه الصلاة والاعتكاف، وفي لزوم الجمع طريقان: أحدهما: طرد الوجهين.
وأصحهما: القطع بأنه لا يجب، والفرق أن الصوم والاعتكاف متقاربان؛ فإن كل واحد منهما كف وإمساك.
والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف.
ويخرج على هذين الطريقين ما إذا نذر أن يعتكف محرمًا.
فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة فالقدر الذي يلزمه من الصلاة هو القدر الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر، وإن أوجبنا الجمع لزمه ذلك القدر في يوم اعتكافه ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة. انتهى كلامه.
واعلم أن المفهوم من الإحرام في قول الرافعي ما إذا نذر أن يعتكف محرما إنما هو الإحرام بالحج، وهي مسألة حسنة استفدناها من كلامه إلا أنه بعد إجراء الخلاف فيها أخذ في التفريع على المسألة الأصلية التي ذكرها الغزالي وهي مسألة الصلاة، والرافعي أخذ المسألة من "التتمة" فإنه ذكر -أعني النووي- مسألة الصلاة والتفريع عليها ثم قال: ولو نذر أن يعتكف عشرة أيام محرمًا فالحكم فيه كالحكم في مسألة الصلاة. هذا لفظه، وهو صريح في إرادة الحج أو العمرة لا الإحرام بالصلاة.
وذكر القاضي الحسين في "تعليقه" أيضًا هذه المسألة إلا أنه خالف فلم يوجب عليه الإحرام فقال في استدلاله على أنه لا يجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة: فلا يصير شرطًا في عبادة أخرى كما لو نذر أن يعتكف محرمًا لا يلزمه الإحرام، فأما إذا نذر أن يصلي معتكفًا لزمه أن يصلي ركعتين. هذا لفظه.
وظاهره أنه لا يجب الإحرام بالكلية لا منفردًا ولا مجموعًا.
إذا علمت ذلك كله فاعلم أن النووي قد توهم أن المراد بالإحرام هو الإحرام بالصلاة، فقيده به في "أصل الروضة" فقال: والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف.
ولو نذر أن يعتكف محرمًا بالصلاة، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة فالذي يلزمه من الصلاة هو الذي يلزمه لو أفرد الصلاة إلى آخر التفريع السابق، فانظر كيف قيده به وجعل التفريع الذي قاله الرافعي عائدًا إليه خاصة؛ فلزم منه الخلل من وجوه:
أحدها: إسقاط هذه المسألة المهمة.
ثانيها: عدم الاحتياج إلى ما ذكره؛ فإن مسألة الصلاة قد سبقت متصلة بهذا الكلام فيكون تكرارًا عجيبًا.
ثالثها: أن قول الرافعي فإن لم نوجب الجمع .. إلى آخره تفريع على ما إذا نذر أن يعتكف مصليًا أو يصلي معتكفًا، وعلى ما قاله النووي لا يستفاد منه إلا التفريع على ما إذا نذر أن يعتكف مصليًا، ولا يعرف منه التفريع على عكسه، وقد ذكره في "شرح المهذب" على الصواب فإنه عبر كما عبر الرافعي.
قوله: ولو نذر أن يصلي صلاة يقرأ فيها سورة كذا، فعن القفال: أن وجوب الجمع على الخلاف في وجوب الجمع بين الصوم والاعتكاف، ووجهه لائح. انتهى.
ذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، واعلم أنه قد تقدم أنه إذا نذر أن يعتكف صائمًا أن في الجمع وجهين: أصحهما: لزومه، وإذا نذر أن يصوم معتكفًا، ففي الجمع طريقين: أصحهما: إجراء الوجهين، والثانية: القطع بعدمه.
ولقائل أن يقول: ما هو الخلاف الذي أراده القفال بقوله على الخلاف في وجوب الجمع بين الصوم والاعتكاف؛ هل هو الصورة التي فيها الوجهان أو الصورة ذات الطريقين؟ .
والجواب: أنه محمول على ذات الوجهين وهو ما إذا قال: أعتكف صائمًا؛ وذلك لأن الذاهب إلى تلك الطريقة القاطعة فرق بأنه إذا قال أعتكف صائمًا فقد التزم الاعتكاف بصفة وهي الصوم، وتلك الصفة مستحبة فيه بخلاف العكس وهو ما إذا نذر أن يصوم معتكفًا، فإنه التزم
الصوم بصفة وهي الاعتكاف مع أن الاعتكاف ليس من مستحبات الصوم فلذلك لم نوجب الجمع.
فإذا علم هذا فالناذر في مسألتنا التزم الصلاة بصفة وهي القراءة وتلك الصفة مستحبة فصار نظير أعتكف صائمًا.
وأما أصوم معتكفًا فإن نظيره في القرآن أن يقول أقرأ مصليًا.
وقد صرح الغزالي في "البسيط" والنووي في "شرح المهذب" بأن مسألة القفال على وجهين، إلا أن النووي نقله عن الإمام والإمام لم يذكر إلا كما ذكر الرافعي.
قوله: الركن الثاني: فلابد منها ويجب التعرض في المنذور منه للفرضية. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أنهم قد جزموا باشتراط نية الفرض، ولم يذكروا فيه الوجهين في الصلوات الخمس وصوم رمضان، وسببه أن تعرض البالغ في صلاته لكونها ظهرًا أو عصرًا يرشد إلى كونها فرضًا بخلاف الاعتكاف.
وأما رمضان فكونه لا يقبل غيره بخلاف الزمان بالنسبة إلى الاعتكاف.
الثاني: أنهم لم يشترطوا فيه أيضًا تعيين سبب وجوبه -وهو النذر- بخلاف الصلاة والصوم؛ لأن وجوب الاعتكاف لا يكون إلا بالنذر بخلاف ذينك.
واعلم أن الوجهين في الإضافة إلى الله تعالى لابد من مجيئهما هاهنا كما أشار إليه الرافعي في الصلاة وغيرها.
قوله: وإن نوى الاعتكاف وأطلق وخرج من المسجد ثم عاد احتاج إلى
تجديد النية؛ فإن ما مضى عبادة تامة والثاني اعتكاف جديد.
ثم قال عقبه: قال في "التتمة": فلو أنه عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ويعود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية. ولك أن تقول: اقتران النية، بأول العبادة شرط فكيف يحصل الاكتفاء بالعزيمة السابقة على العود؟ انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" أيضًا على نقله عن "التتمة" فقط وعلى استشكال كلامه، وعبر بقوله وفيه نظر فإن اقتران النية .. إلى آخره.
وخالف الأمرين في "شرح المهذب"؛ فإنه حكاه عن المتولي وغيره، ثم قال: قلت: وما قالوه هو الصواب، ووجهه أنه لما أحدث النية عند إرادة الخروج صار كمن نوى المدتين بنية واحدة كما قال أصحابنا فيمن نوى صلاة النفل ركعتين ثم نوى في آخرها جعلها أربعًا أو أكثر فإنه يصح. هذا كلامه.
وقد وجه غيره أيضًا كلام هؤلاء بأن النية الأولى] (1) شاملة بدليل ما إذا لم يخرج، وخروجه بهذه العزيمة قاطع لزمن الخروج فقط فيبقى عوده على النية الأولى.
قوله: فإن عين زمانًا كما إذا نوى اعتكاف يوم أو شهر فهل يحتاج إلى تجديد النية إذا خرج وعاد؟ نقل في "الكتاب" فيه ثلاثة أقوال، وسماها في "الوسيط" وجوهًا، وهو الموافق لإيراد الأئمة رحمهم الله وهي حاصل ما ذكروه في الطرق. انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن ما نقله عن "الوسيط" من جعلها وجوهًا غلط؛ فإن الموجود
(1) نهاية سقط كبير من ج.
في نسخ "الوسيط" إنما هو تسميتها أقوالًا كما ذكر في "الوجيز"، فقال: فأما إذا نوى اعتكاف يوم أو شهر وخرج وعاد ففي التجديد للنية ثلاثة أقوال. هذا لفظ "الوسيط"، وهذه النسخة حاضرة فراجع ما شئت منها. وذكر في "البسيط" نحوه أيضًا.
الثاني: أن كلامه يقتضي انفراد الغزالي بذلك، وهو غريب أيضًا؛ فإن الإمام في "النهاية" جعلها أيضًا أقوالًا ومنه أخذ الغزالي ذلك.
الثالث: أن دعواه أن الثلاثة هي حاصل ما ذكروه في الطرق يخالفه ما سيأتي عن صاحب "التهذيب" فإنه يقتضي أن الحاصل أربعة أوجه لا ثلاثة، وقد صرح في "الروضة" بحكايتها أربعة وستعرف ذلك إلا أن فيه شيئًا سأذكره بعد هذه المسألة.
قوله في المسألة: [أحدها: أنه](1) لا حاجة إلى التجديد.
والثاني: أنه إن لم تطل مدة الخروج فلا حاجة إلى التجديد، وإن طالت فلابد منه لتعذر البناء.
ولا فرق على هذا بين أن يكون الخروج لقضاء الحاجة أو لغيره.
والثالث: إن خرج لقضاء الحاجة لم يجب التجديد، لأنه لابد منه فهو كالمستثني عند النية، وإن خرج لغرض آخر فلابد من التجديد لقطعه الاعتكاف.
ولا فرق على هذا بين أن يطول الزمان أو لا يطول.
وهذا الثالث أظهر الوجوه.
وزاد صاحب "التهذيب" في التفصيل فقال: إن خرج لأمر يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع فلابد من تجديد النية.
(1) سقط من ج.
وإن خرج لأمر لا يقطعه، نظر إن لم يكن منه بد كقضاء الحاجة والاغتسال عند الاحتلام فلا حاجة إلى التجديد.
وإن كان منه بد أو طال الزمان ففى التجديد وجهان. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن تعبيره في آخر كلامه فيما نقله عن صاحب "التهذيب" بقوله: "أو طال الزمان" بصيغة "أو" ليس كذلك، بل المذكور في "التهذيب" إنما هو بواو العطف حتى يشترط المجموع فقال: وإن كان لأمر له منه بد وطال الزمان ففيه وجهان.
ويمكن بناء الوجهين على أنه إذا فرق الوضوء وطال الفصل فعند البناء هل يحتاج إلى تجديد النية؟ فيه وجهان. هذا كلامه، والبناء المذكور مما يؤيد أيضًا أنه بالواو؛ لأن الوضوء كذلك أيضًا، وكلام الخوارزمي في "الكافي" موافق لما نقله [في] (1) "التهذيب" وهو تلميذه يسلك فيه طريقه فقال: ولو نوى مدة فخرج قبل قضائها ثم عاد هل يجب عليه تجديد النية؟ إن خرج لأمر لابد له منه كالبول والغائط وغسل الجنابة فلا، وإن خرج لأمر له منه بد، نظر إن كان مما يقطع الاعتكاف على ما سنبينه، قبل، وإن كان مما لا يقطع؛ فإن قصر الفصل فلا، وإن طال فهل يجوز البناء على الأول؟ فعلى قولي تفريق الوضوء، فإن قلنا يجوز ففي تجديد النية وجهان. هذا لفظه.
الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" وغيرها قد صرح بجعل ما قاله في "التهذيب" وجهًا رابعًا، وصحح التفصيل بين قضاء الحاجة [وغيرها فيكون حاصل الأصح عنده أنه لا يجب التجديد في قضاء الحاجة](2)
(1) في ج: عن.
(2)
سقط من أ.
خاصة ويجب في الغسل وفي غيره مما لابد منه أيضًا كما صرح به في أثناء الأوجه، لكنه ذكر في آخر الباب في الكلام على الاعتكاف المنذور أن ما لابد منه كالاغتسال ملحق بقضاء الحاجة في عدم وجوب تجديد النية وكذلك الخروج للأذان.
وكلام الرافعي فيما عدا قضاء الحاجة مما لابد منه ليس صريحًا في تصحيح عدم لحاقه بقضاء الحاجة لإمكان أن يكون كلام "التهذيب" تقييدًا لما سبق، وهذا هو المتعين لأمرين:
أحدهما: لتوافق كلامه هنا مع المذكور في آخر الباب والكلام يفسر بعضه بعضًا.
الثاني: أن ما نقلناه عنه قبل ذلك من أن الحاصل في الطرق ثلاثة أوجه لا أربعة.
قوله: ولو ارتد في أثناء اعتكافه فالمنقول عن نصه في "الأم" أنه لا يبطل اعتكافه بل يبني إذا عاد إلى الإسلام، ونص أنه لو سكر في اعتكافه ثم أفاق أنه يستأنف وهذا حكم ببطلان الاعتكاف.
وللأصحاب فيهما طريقان:
أحدهما: تفريق اللفظين.
وأصحهما: التسوية بينهما.
وعلى هذا فقيل فيهما قولان وأصحهما الجزم في الصورتين وفي كيفيته طرق:
إحداها: أنه لا يبطل بواحد منهما.
وثانيها: أن السكر مبطل وكذلك الردة إن طال زمانها.
وثالثها: عكس النص.
ورابعها -وهو الأصح- أنهما يبطلان. انتهى ملخصًا.
ولما ذكر الطريقة الثانية من هذه الأربعة عبر بقوله: وثانيها أن السكر يبطله لامتداد زمانه، والردة كذلك إن طال زمانها وإلا فيبني.
وكلامه في الردة محمول على حالة طول الزمان. هذا كلامه بحروفه. والذي ذكره من حمل النص الوارد في الردة على حالة طول الزمان سهو، والصواب أن يقول: على حالة قصر الزمان؛ لأن النص الوارد في الردة وهو عدم بطلان الاعتكاف، وحينئذ فيتعين على صاحب هذه الطريقة الذي يراعى الطول وعدمه أن يحمل النص على ما إذا قصر الزمان كما قلناه، وهذا هو السهو الذي وقع للرافعي هنا قد وقع له أيضًا في "الشرح الصغير"، وحذف النووي هذا الحمل من "الروضة" فسلم من الاعتراض.
قوله في "أصل الروضة": وهذا الاختلاف في الردة والسكر هو في قطعه الاعتكاف الماضي إذا شرط فيه التتابع، وأما زمن الردة والسكر فغير معتد به قطعًا، وفي وجه شاذ يعتد بزمن السكر، وأشار إمام الحرمين إلى أن الخلاف في الاعتداد بزمن الردة والسكر معًا. انتهى كلامه.
وما ذكره من الاتفاق على عدم حسبان زمن الردة، وصرح به الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: لا خلاف فيه، وهو مقتضى كلام "الكبير"، لكن صرح البندنيجي في "الذخيرة" بالخلاف في احتساب زمنها كما قاله الغزالي والإمام.
قوله: ولو جن أو أغمي عليه في أثناء اعتكافه فإن لم يخرج من المسجد لم يبطل لأنه معذور. انتهى.
والتعليل بالعذر يقتضي أنه لو حصل ذلك بسبب لا بعذر بطل.
وقد صرح بنقله في "الكفاية" عن البندنيجي فقال: إنه كالسكران.
قوله: فإن شق حفظه في المسجد فأخرج ففي بطلان اعتكافه الخلاف الذي نذكره في المريض. انتهى.
تابعه في "الروضة" على الجزم بهذا التخريج، وحكى في "شرح المهذب" فيه طريقين:
إحداهما: هذه.
والثانية: القطع بعدم الإبطال.
ثم صحح هذه الطريقة فقال: هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور.
وقال المتولي وآخرون: هو كالمريض ففيه القولان: أصحهما: لا يبطل. هذا كلامه.
قوله: ثم المحتلم ونحوه إن لم يمكنه الغسل في المسجد فهو يضطر إلى الخروج، وإن أمكنه فيعذر في الخروج أيضًا ولا يكلف الغسل في المسجد؛ فإن الخروج أقرب إلى المروءة وصيانة المسجد. انتهى.
ذكر مثله في "الروضة"، وهو يقتضي جواز الاغتسال في المسجد سواء كان الماء في إناء أو في بئر وآلة الاستقاء حاضرة.
قوله: وقول الغزالي: ويستوي فيه جميع المساجد، يجوز أن يعلم بالواو ولأن صاحب "المعتمد" ذكر أن الشيخ أبا حامد حكى أن الشافعي أومأ في القديم إلى مثل مذهب الزهري وهو اختصاص الاعتكاف بالمسجد الجامع. انتهى كلامه.
وهذه الحكاية عن الشيخ أبي حامد غلط عليه حصل فيها التباس فإنه قال في "تعليقه" الذي علقه عنه البندنيجي ما نصه: روي عن الزهري أنه قال: لا يصح الاعتكاف إلا في الجوامع، وأومأ الشافعي في القديم إلى أن الاعتكاف متي زاد على أسبوع فإنه يعتكف في الجامع حتى لا يحتاج لقطع الاعتكاف بصلاة الجمعة.
هذا لفظه، وهو صريح في صحة الاعتكاف على القديم في غير الجامع.
وهذه الحكاية لم يقع الغلط فيها من صاحب "المعتمد" بل الأصل فيها
صاحب "الشامل"، فانه نقله عن الشيخ أبي حامد فتبعه على نقله عنه من صنف بعده كالشاشي وصاحب "البيان" وصاحب "الذخائر" ولا يوجد ذلك في كلام أحد منهم إلا ناقلًا له عن الشيخ أبي حامد، وعبر بعض المتأخرين بقوله رواه الشيخ أبو حامد وأصحابنا. وهو غلط.
قوله: والجامع أولى بالاعتكاف للخروج من الخلاف، ولكثرة الجماعة فيه، وكيلا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة.
وهذا أظهر المعاني عند الشافعي إذ لابد منه في ثبوت الأولوية، لأنه نص على أن العبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاؤا من المساجد لأنه لا جمعة عليهم. انتهى كلامه.
وما ذكره الرافعي من المعاني [بالأولوية](1) ومن ترجيح الراجح وما ينبني عليها حذفه جميعه من "الروضة"، وقال ابن الرفعة في التفريع على هذه المعاني: إن الكلام يقع في صور:
إحداها: إذا كان في جواره مسجد ليس فيه جماعة وكانت تحصل بصلاته فيه أن يكون اعتكافه فيه أفضل نظرًا إلى معنى الجماعة لما تقدم أن الصلاة في مسجد الجوار إذا كان بالصفة المذكورة أفضل.
الثانية: إذا كان قصده أن يعتكف دون أسبوع استوى الاعتكاف في مسجد الجامع وفي غيره نظرًا إلى معنى الجمعة، وقد قاله القاضي الحسين.
الثالثة: أن اعتكاف المرأة في الجامع وغيره سواء نظرًا للمعنيين فإن صلاتها في بيتها أفضل في حقها، وهذا ينطبق على ما نقله المزني.
قوله في "الروضة": لو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها وهو المعتزل المهيأ للصلاة لم يصح على الجديد، ويصح على القديم.
قلت: قد أنكر القاضي أبو الطيب وجماعة هذا القديم وقالوا: لا يجوز
(1) في ج: في الأولوية.
في مسجد بيتها قولًا واحدًا، وغلطوا من قال فيه قولان، والله أعلم. انتهى كلام "الروضة".
فيه أمور:
أحدها: أن كلامه محتمل لتصحيح طريقة القطع ولطريقة القولين، وقد جزم في "المنهاج" بطريقة القولين، وصحح في "شرح المهذب" طريقة القطع فقال: لا يصح في مسجد بيت المرأة ولا مسجد بيت الرجل وهو المعتزل المهيأ للصلاة، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين.
وحكى الخراسانيون وبعض العراقيين قولين: أصحهما -وهو الجديد- هذا.
ثم قال: وقد أنكر القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وجماعة هذا القول وقالوا: لا يصح في مسجد بيتها قولًا واحدًا وغلطوا من نقل فيه قولين. هذا لفظه.
الأمر الثاني: أن ما نقله عن القاضي أبي الطيب من إنكار هذا القول قد تبين في "شرح المهذب" محله، فقال: إنه ذكره في "تعليقه"، وهذا النقل غلط على القاضي فقد صرح في "تعليقه" بإثبات القولين فقال: وأما المرأة فالذي نص في عامة كتبه أن اعتكافها لا يصح إلا في المسجد كالرجل سواء.
وقال في القديم: يصح اعتكافها في مسجد بيتها. هذا لفظه، ونقله عنه ابن الرفعة أيضًا.
الأمر الثالث: أن الجماعة الذين نقل عنهم في "الروضة" إنكار القديم قد بينهم في "شرح المهذب" فقال: إنهم جمهور العراقيين، وما نسبه إليهم ليس بصحيح، ففي "تعليق" الشيخ أبي حامد الذي علقه عنه البندنيجي ما نصه: حكى الشيخ -يعني: أبا حامد- عن القديم أن المرأة يكره لها أن تعتكف إلا في مسجد بيتها. انتهى.
وهذا شيخ العراقيين وقد وافقه أكثر تلامذته، وقال المحاملي في "المجموع": قال أبو حنيفة: يصح منها في مسجد بيتها وبيتها أفضل، ونص الشافعي على هذا في القديم. انتهى.
وقال سليم الرازي في "مجرده": قال في القديم: أكره اعتكاف المرأة إلا في مسجد بيتها. انتهى.
ونقله أيضًا القاضي أبو الطيب في "تعليقه" كما سبق ذكره، وكذلك ابن الصباغ في "الشامل" والشاشي في "المعتمد" و"الحلية" عن رواية الشيخ أبي حامد وأقراه، ونقله العمراني عن حكاية ابن الصباغ وأقره عليه أيضًا وهو معدود من العراقيين كما قاله في "الروضة" في بيع الفضولى؛ فهؤلاء هم كبار العراقيين وجمهورهم، ولا أعلم أن أحدًا من العراقيين ولا من غيرهم صح عنه أنه نفاه، وهذه الكتب موجودة بحمد الله بين أيدينا، بل لا أعلم أن أحدًا من المشهورين منهم تركه إلا صاحب "المهذب" كما ترك كثيرًا من المسائل والأبواب؛ لأن كتابه ليس من المطولات، والذي أغلط النووي رحمه الله أنه رآه متروكًا من كتابه الذي يشرح فيه، ووقع في ذهنه عن أبي الطيب ما نبهنا عليه من الغلط ولم يستوعب باقي كتبهم فأطلق لسانه وقلمه -غفر الله لنا وله-، بل بالغ البندنيجي فقال في تعليقه المسمى "بالجامع": أن الصحيح هو الجديد والقديم عدم صحته، كذا رأيته فيها، ونقله أيضًا عنه في "الكفاية"، ولكن نقلى ونقله من نسخة واحدة.
قوله: وعلى هذا -أي: جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها- ففي جواز الاعتكاف للرجل فيه وجهان، وهو أولى بالمنع. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن النووي لم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا منهما، والأصح عدم الصحة فقد صححه في "شرح المهذب" فقال: إذا قلنا بالقديم أنه يصح اعتكافها في مسجد بيتها ففي صحة اعتكاف الرجل في مسجد بيته
وجهان: أصحهما: لا يصح.
الثاني: أن الوجهين في اعتكاف الرجل هل هما خاصان بمسجد بيته أو جاريان في مسجد بيت المرأة؟ كلام الرافعي و"الروضة" لا يؤخذ منه شئ بل ربما يوهم جريانهما في بيتها، وقد استفدنا من كلامه في "شرح المهذب" أن المراد الأول، وذكر مثله القاضي الحسين في تعليقه وهو ظاهر.
قوله: وإن عين لنذر الاعتكاف غير المساجد الثلاثة ففي التعيين وجهان، وقال الكرخي: قولان عن ابن سريج: أظهرهما: أنه لا يتعين كما لو عينه للصلاة.
والثاني: أنه يتعين، لأن الاعتكاف يختص بالمسجد بخلاف الصلاة لا تختص بالمسجد فلا يتعين لها المسجد، ومنهم من قطع بالأول. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تبع الرافعي على تصحيح طريقة الوجهين، ثم خالف ذلك في "شرح المهذب" فصحح طريقة القطع بعدم التعيين.
الأمر الثاني: أن هذا الفرق الذي ذكره الرافعي نقله الشاشي في "المعتمد" عن القاضي حسين ثم نقضه -أعني: الشاشي- فقال: قلت: وهذا الفرق ليس بصحيح، لأنه يبطل بالمساجد الثلاث؛ فإن الصلاة يتعين فيها بالنذر كما يتعين الاعتكاف؛ فإن كانت الصلاة لا يتعين لها المسجد الحرام.
قوله: ومتى حكمنا بالتعيين فإذا عين المسجد الحرام لم يقم غيره مقامه. انتهى كلامه.
وليس فيه تصريح بحكم الكعبة في أنه هل يتعين الفعل فيها على من نذره أو يغني عنها المطاف، ولا في أن الكعبة متعينة على من عبر بالمسجد
الحرام أولا؟ .
وهذه المسألة قد ذكرها صاحب "البيان" في استقبال القبلة فقال: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا"(1).
فسألت الشريف محمد بن أحمد العثماني ما المراد بالمسجد الحرام من هذا الخبر؟ فقال: المراد به الكعبة والمسجد حولها وسائر بقاع الحرم؛ لأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2)، ومعلوم أنه أسرى به من بيت خديجة وكل موضع أطلق فيه المسجد الحرام فالمراد به جميع الحرام.
والذي يتبين لي أن المراد بهذا الخبر الكعبة وما في الحجر من البيت، وهو ظاهر كلام صاحب "المهذب"؛ لأنه قال: الأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت، لأنه يكثر فيه الجمع والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي"(3).
والدليل على ما ذكرته: ما روي عن عائشة قالت: يارسول الله، إني نذرت أن أصلي في البيت فقال صلى الله عليه وسلم:"صلى في الحجر فإنه من البيت"(4)
(1) أخرجه البخاري (1133) ومسلم (1394) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سورة الإسراء (1).
(3)
تقدم.
(4)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(6251).
وقال: لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمرو بن الحارث.
قلت: عمرو ثقة.
فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم تساوي الكعبة بذلك لم يكن لتخصيصها البيت بالنذر معنى، ولأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي في سائر بقاع الحرم.
ولا فرق بين أن يقول عليه لله أن يصلي في المسجد الحرام أو في البيت الحرام، إذا ثبت أن البيت الحرام إنما هو الكعبة فكذلك المسجد الحرام.
وأما الآية فإنما سمى بيت خديجة بالمسجد الحرام على سبيل المجاز.
انتهى كلام صاحب "البيان". وحاصله الجزم بأن الكعبة لا يقوم غيرها مقامها سواء عبر الناذر بلفظ الكعبة أو بالبيت الحرام، وأن الظاهر عنده أن التعبير بالمسجد الحرام كالتعبير بهما حتى تتعين الكعبة أو ما في الحجر منها، فأما التعبير بالكعبة أو بالبيت فالمتجه فيه ما قاله من التعبير؛ وحينئذ تكون المراتب أربعة: الكعبة ونحوها كالبيت، ثم المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم الأقصى.
وأما ما قاله في المسجد الحرام من إلحاقه فيدل له ما سبق قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1)، لكن ذكر في "شرح المهذب" في تفسير الحديث ما يخالفه فقال في باب استقبال القبلة: إن المسجد الحرام قد يطلق ويراد به الكعبة والمسجد حولها، ثم جعل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"(2) فالذي ذكره هو الظاهر، فتلخص في المسجد الحرام المشهود له بالفضيلة ثلاث مقالات:
أحدها: ما قاله النووي وهو الكعبة والمسجد حولها.
والثاني: هذا وسائر بقاع الحرم، وهو مقام الشريف العثماني؛ ويشهد له ما نقله النووي في مناسكه عن الماوردي ولم يخالفه أن الحرم كله في المضاعفة كالمسجد.
(1) سورة البقرة (144).
(2)
تقدم.
والثالث: أنه الكعبة وما في الحجر من البيت، وهو اختيار صاحب "البيان".
قوله في "الروضة": وإن حكمنا بعدم التعيين فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة جاز على الأصح. انتهى.
لم يتعرض رحمه الله لما إذا كانت المسافة دون ذلك هل يكون فيها الخلاف أو يقطع فيها بالصحة، وقد ذكرها الرافعي رحمه الله وحكى فيها الوجهين في المساوي فقال: أى مثل تلك المسافة أو أقرب كان له ذلك في أصح الوجهين. هذا لفظه.
فنسيه النووي حالة الاختصار ثم إنه لم يذكره في "شرح المهذب" أيضًا لما ذكرته لك غير مرة أنه يلخص الأحكام غالبًا من "الروضة".
قوله: وأما الزمان ففي تعين الاعتكاف فيه بالتعيين وجهان: المذهب: أنه يتعين.
ثم قال: والثاني: لا يتعين كما لا يتعين في نذر الصلاة والصدقة. انتهى. فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره من عدم تعين الوقت في الصلاة قد ذكر ما يخالفه في كتاب النذر وستقف عليه إن شاء الله تعالى هناك مبسوطًا.
ونقل أيضًا في "الروضة" من زياداته في باب صدقة التطوع عن صاحب "المعاياة" مثله، فإنه نقل عنه أنه لا يجوز تقديمها -أعني الصلاة عن الوقت المعين- وأقره، وقياسه امتناع التأخير.
الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي جواز تقديم الصدقة وتأخيرها فقياس
المذهب امتناعه لأنها عبادة مالية فيجوز تقديمها لا تأخيرها بالزكاة وكلامه في تارك النذر يدل عليه، فإنه قال في الكلام على النوع المعقود لالتزام الصوم ولو عين للصدقة وقت قال الصيدلاني: يجوز تقديمها عليه بلا خلاف. هذه عبارته؛ فاقتضى كلامه أن التأخير لا يجوز، وسيأتي في باب الأضحية في الكلام على الأضحية المنذورة فرع متعلق بالمسألة فراجعه.
قول في "الروضة" في المسألة: ويجري الوجهان في تعيين زمن الصوم. انتهى.
وما جزم به رحمه الله من طريقة الوجهين قد خالفه في كتاب النذر ورجح طريقة القطع، وستعرف لفظه هناك، ورجحهما أيضًا هناك في "شرح المهذب".
قوله: وإذا قال: لله على أن أعتكف شهرًا لم يلزمه التتابع إلا إذا شرطه.
ثم قال: فلو لم يتعرض له لفظًا ولكن نواه بقلبه فهل يلزمه؟ فيه وجهان، قال صاحب "التهذيب" وغيره: أصحهما: أنه لا يلزمه كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه. انتهى كلامه.
وقد أطلق الرافعي ترجيح هذا في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، وكذلك النووي في "الروضة".
واعلم أن هذه المسألة قد وقع فيها تعارض، والصواب اللزوم، وستعرف ذلك بعد هذا بقليل في الكلام على استتباع الأيام بالليالي.
قوله في "الروضة": ولو شرط تفريقه -أى: الاعتكاف- فهل يجزئه المتتابع؟ وجهان: أصحهما: يجزئه لأنه أفضل. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما جزم به من طريقة الوجهين قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: وهل يجوز متتابعًا؟ فيه طريقان:
أصحهما: القطع بجوازه، وبه قطع المصنف والأكثرون لأنه أفضل.
والثاني: فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، أصحهما هذا.
انتهى لفظه.
الأمر الثاني: أن الغزالي في "الخلاصة" قيد الجواز بما إذا لم يقصد أيامًا معينة.
وكذا قال شارح "مختصر الجويني" وهو تقييد، لأنه إذا نذر يومًا بعينه امتنع عليه التقديم والتأخير على الصحيح كما تقدم قريبًا.
قوله: ولو نذر اعتكاف يوم فلا تكفي ساعات من أيام في أصح الوجهين لأن المفهوم من اليوم -وهو المحكي عن الخليل- إنما هو المتصل.
ولو قال في أثناء النهار: لله تعالى على أن أعتكف يومًا من هذا الوقت فقد أطبق حملة المذهب على أنه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني.
ولا يجوز أن يخرج بالليل ليتحقق التتابع، وفيه توقف، لأن البعضين يوم والليلة المتخللة ليست منه، والقياس أن يجعل فائدة التقييد القطع بجواز التفريق. انتهى.
وما ذكره من إطباق حملة المذهب قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، وليس كذلك؛ فقد نقل القاضي الحسين في "تعليقه" عن ابن سريج تخريج
هذه المسألة على الخلاف في وجوب التتابع وأن الشافعي إنما قال هذا تفريعًا على ذلك القول فقال -أعني القاضي- بعد تصويره للمسألة ما نصه: ثم إن الشافعي أوجب عليه الليلة التي تخللت نصفي اليوم فاختلف أصحابنا فيه، فذهب ابن سريج إلى أن مطلق النذر يوجب التتابع ولهذه النكتة وجهًا للشافعي على هذا القول، ومنهم من قال: إنما لزم الليلة إلى أخره. هذا لفظ القاضي.
وقال الماوردي في "الحاوي": تكون الليلة المتوسطة بين اليومين داخلة في الاعتكاف إلا أن تكون له نية النهار دون الليل. هذا لفظه.
قوله: ثم حكى الإمام تفريعًا على جواز تفريق الساعات عن الأصحاب أنه تكفيه ساعات أقصر الأيام؛ لأنه لو اعتكف أقصر الأيام جاز، ثم قال: إن فرق على ساعات أقصر الأيام في سنين فالأمر كذلك، وإن اعتكف في أيام متباينة في الطول والقصر فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه، إن كان ثلثا فقد خرج عن ثلث ما عليه، وعلى هذا القياس نظرًا إلى اليوم الذي يوقع فيه الاعتكاف؛ ولهذا لو اعتكف بقدر ساعات أقصر الأيام من يوم طويل لم يكفه، وهذا الذي ذكره مستدرك حسن وقد أجاب عنه بما لا يشفي. انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" عليه، وفيه أمران:
أحدهما: أن الغزالي في "البسيط" بعد أن ذكر هذا البحث الذي قاله الإمام وعزاه إليه قال ما نصه: ولكن المذهب ما قاله الأصحاب.
الأمر الثاني: أن محل الخلاف فيما إذا غاير بين الساعات، أما لو أتى بساعة معينة من يوم أتى بها بعينها من آخر إلى أن استكمل ساعات اليوم فإنه لا يجزئ جزمًا.
كذا قاله القاضي الحسين في "تعليقه" فقال: منهم من قال: لا يجوز تفريق اليوم الواحد بخلاف الأيام، والفرق أن كل يوم مستقل بنفسه فله التفريق بخلاف الساعات؛ ألا ترى أنه لو عين ذلك في ساعة واحدة فاعتكف كل يوم تلك الساعة حتى تم العدد لم يجز. هذا كلامه.
قوله: إحداها: لو نذر اعتكاف شهر لزمته الأيام والليالي لأن الشهر عبارة عن الجميع إلا أن يقول أيام شهر أو نهار هذا الشهر فلا تلزمه الليالي، ولو لم يتلفظ بتقييد ولا استثناء ولكن نواه بقلبه ففيه وجهان: أصحهما: لا يؤثر، ذكره في "التهذيب". انتهى كلامه.
والذي صححه في "التهذيب" هو الصحيح؛ فقد صححه أيضًا الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" والنووي في "أصل الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" وغلط فنقله فيه عن الرافعي أيضًا فقال: صححه البغوي والرافعي، وقد أعلمتك مرات سبب غلطه.
قوله: الثانية: لو نذر اعتكاف يوم لم يلزمه ضم الليلة إليه، وحكى الحناطي فيه قولان.
ولو نذر اعتكاف يومين ففي لزوم الليلة التي بينهما ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تلزمه إلا إذا نواها.
والثاني: تلزم، ثم قال ما نصه: والثالث: إن نوى التتابع أو قيد به لفظ الزمن ليحصل التواصل وإلا فلا، وهذا أرجح عند الأكثرين بل لم يحكوا خلافًا في لزومها إذا قيد بالتتابع.
وذكر صاحب "المهذب" وآخرون أن الأول أظهر، والوجه التوسط. فإن كان المراد من التتابع توالى اليومين فالحق ما ذكره صاحب "المهذب"،
وإن كان المراد تواصل الاعتكاف فالحق ما ذكره الأكثرون. انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن هذا الكلام صريح في وجوب التتابع إذا نواه ولم يتلفظ به لأنه نقل عن الأكثرين إيجاب الليلة عند نية التتابع وجعل مستندهم وجوب التواصل فاقتضى هذا الجزم بوجوب التتابع.
وهذه المسألة -أعني وجوب التتابع بالنية- موضعها قبل هذا بدون ورقتين، وقد أجاب فيها في ذلك الموضع بعدم اللزوم، وقد ذكرت هناك لفظه فراجعه.
ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" وفي "الروضة" و"شرح المهذب"، والصواب نقلًا ومعنًا هو الوجوب.
أما الأول فقد قال الإمام في "النهاية": لو نوى التتابع بقلبه فمضمون الطرق أنه يلزم فإن مطلق اللفظ يحتمله وهذا كثير، بل النيات مع الكنايات بمنزلة الصريح، وجزم به أيضًا سليم الرازي في "المجرد"، والغزالي في "البسيط" وكلام الرافعي هنا في نقله عن الأكثرين لا يستقيم إلا بإيجابه.
وأما معنًا فلما أشار إليه الإمام.
ولأنه إذا كان الراجح إيجاب الليالي بالنية مع أن فيه وقت زائدًا فوجوب التتابع أولى لأنه مجرد وصف.
الأمر الثاني: أن هذا التفصيل الذي ذكره الرافعي بحثا قد نقل النووي في "شرح المهذب" عن الدارمي التصريح به.
الثالث: أن النووي في "الروضة" قد جزم بهذه الأوجه الثلاثة ولم يذكر مع ذلك ما يشير إلى طريقة أخرى بالكلية، ثم إنه في "شرح المهذب" حكى
في المسألة ثلاث طرق وضعف المذكورة هنا وصحح غيرها فقال: والطريق الثاني طريقة الشيخ أبي حامد وابن الصباغ والمتولي وأكثر أصحابنا المصنفين أنه إن صرح بالتتابع في اليومين أو نواه لزمته الليلة المتخللة وجهًا واحدًا وإلا فوجهان، والطريق الثالث طريقة المصنف وقليليين أن في المسألة ثلاثة أوجه. هذا لفظه.
قوله: ولو نذر ثلاثة أيام أو [عشرة](1) أو ثلاثين يومًا ففي لزوم الليالي المتخللة الوجوه الثلاثة، وأشار الشيخ أبو محمد وطائفة إلى طريقة قاطعة، فإن نذر اليومين لا يستتبع شيئًا من الليالى، والخلاف في الثلاثة فصاعدًا، وحكى عن القفال في توجيهه .. إلى آخره.
واعلم أن هذه الطريقة قد أسقطها النووي من "الروضة" لكنه ذكرها في "شرح المهذب" نقلًا عن الإمام.
قوله: وإنما قال الغزالي: ففي الليالي المتخللة تنبيهًا على أن الخلاف مخصوص بما بين الأيام المنذورة من الليالي وهي تنقص عن عدد الأيام بواحد أبدًا، ولا خلاف في أن الليالي لا تلزم بعدد الأيام، فإذا نذر يومين لم يلزمه ليلتان، وقال أبو حنيفة: يلزمه، وقياس ما نقله الحناطي في اليوم الواحد مثله فاعرفه. انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله الرافعي من جريان القول لا شك فيه، وقد حذفه النووي من "الروضة"، ثم إنه في "شرح المهذب" نقل عن الرافعي مما لخصه في "الروضة" ظنًا منه أنه لم يغير كلامه فأسند نفى الخلاف إليه ثم استدرك عليه فقال: وكذا صرح بنفي الخلاف فيه الرافعي وكان ينبغي أن يجئ فيه القول الذي قدمناه عن حكاية الرافعي أن من نذر يومًا لزمته ليلته.
قوله: فرع: إذا نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم نهارًا لم يلزمه قضاء ما مضى في أصح القولين. انتهى.
(1) في ج: عشرين.
وهذا الذي قاله من عدم اللزوم قد ذكر ما يخالفه في كتاب النذر وستعرف ذلك هناك مبسوطًا إن شاء الله تعالى.
قوله: ولو كان الناذر وقت القدوم مريضًا أو مجنونًا قضى عند زوال العذر، وعن القاضي أبي حامد وصاحب "الإفصاح" أنه لا شئ عليه لعجزه وقت الوجوب. انتهى كلامه.
وقد عبر عنه في "الروضة" بقوله وفيه وجه لا شئ عليه، وهذا الذي حكاه الرافعي واختصره في "الروضة" على ما تراه قد تبع فيه صاحب "الشامل" فإنه قال: حكى أبو حامد في "الجامع" وأبو علي في "الإفصاح" أن فيه وجهًا آخر أنه لا يقضى، وهذا خلاف نص الشافعي. هذا لفظه.
إلا أن مدلول كلام الرافعي أنه وجه وأن أبا حامد وصاحب "الإفصاح" ذهبا إليه، وليس الأمر في صاحب "الإفصاح" كما نقله فإنه قال: فإن كان مريضًا أو مجنونًا يوم يقدم كان عليه القضاء إذا قدر، وفيه قول أنه لا يلزمه القضاء. هذا لفظ "الإفصاح" ومنه نقلت، وقد تلخص لك أنه قول لا وجه وأن صاحب "الإفصاح" مصحح لخلافه؛ فاعلم الأمرين، وأما "جامع" أبي حامد فإننا لم نقف عليه.
قوله: ولو نذر اعتكافًا متتابعًا وشرط الخروج إن عرض عارض صح شرطه، وفيه قول أنه لا يصح كما لو شرط الخروج للجماع.
ثم قال: ولو قال: إن عرض عارض قطعنا الاعتكاف فالحكم كما لو شرط الخروج، إلا أن في شرط الخروج يلزمه العود عند قضاء الحاجة، وفيما إذا شرط القطع لا يلزمه. انتهى.
ومقتضى هذا الكلام أنه إذا شرط القطع بالجماع لا يصح؛ لأن اشتراط الخروج له لا يصح كما سبق، وهو مشكل؛ لأن الغرض أن اشتراط قطعه
جائز من حيث الجملة فينبغي جوازه أيضًا بالجماع كما ذكروا أن للمسافر أن يجامع بقصد الترخص، والجماع كما ينافي الاعتكاف ينافى الصوم.
قوله: ولو نذر صلاة وشرط الخروج منها إن عرض عارض، أو صومًا وشرط الخروج منه إن جاع أو أضيف فالأكثرون على صحة الشرط كالاعتكاف، وقيل لا يصح النذر لأن نقض الصلاة والصوم ليس يعتاده بخلاف الاعتكاف. انتهى ملخصًا.
وظاهر ما ذكره في تعليل الوجه الثاني يقتضي أنه لا يثاب على ما مضى، لكن صرح الشاشي في "المعتمد" بالثواب فقال: ويكون مثابًا على ما مضى ولا يكون لغوًا كما لو مرض في أثناء الصوم فأفطر أو سافر وهو صائم فأجهده الصوم فأفطر فإنه يجوز له ذلك لمكان العذر ويثاب على ما مضى من الإمساك. هذا لفظه بحروفه.
قوله: فلو قال: إلا أن يبدو لى، لم يصح في أظهر الوجهين.
ثم قال: وإذا لم يصح الشرط فهل يبطل الالتزام من أصله أو يصح ويلغون الشرط؟ حكم صاحب "التهذيب" بالأول، وحكى الإمام فيه وجهين. انتهى.
ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا، والراجح بطلان الالتزام من أصله؛ فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أشبه الوجهين.
قوله: ولو أخرج رأسه أو يده فلا يبطل اعتكافه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله (1).
ولو أخرج إحدى رجليه أو كليهما وهو قاعد مادًا لهما فكذلك وإن اعتمد عليهما فهو خارج. انتهى.
(1) أخرجه البخاري (1924) ومسلم (297) من حديث عائشة رضي الله عنها.
أهمل ما إذا أخرج أكثر من رأسه أو أكثر من رجليه وهو مضطجع، أو أخرج إحدى رجليه وهو قائم، وستعرف حكم ذلك في الأيمان.
والترجيل: هو التسريح.
والحديث رواه الشيخان.
قوله: ولو خرج ليؤذن في المنارة الخارجة من المسجد ففيه أوجه: أصحها عند صاحب "التهذيب" وغيره: التفصيل بين الراتب وغيره .. إلى آخر ما قال.
اعترض عليه في "الروضة" فقال: قلت: لكن شرطوا كونها مبنية للمسجد احترازًا من البعيدة. والله أعلم.
فيه أمران:
أحدهما: أن هذا الكلام قد شاهدته كذلك في "الروضة" التي هي بخط النووي، وهو غير منتظم؛ لأن البعيدة ليست نقيض المبنية للمسجد فكيف يحترز بها عنها.
وقد وقع في "شرح المهذب" على الصواب فإنه قال: واعلم أن صورة المسألة في منارة قريبة من المسجد مبنية له، فأما غيرها فيبطل اعتكافه بالذهاب إليها بلا خلاف سواء الراتب وغيره. هذا لفظه.
وهو جيد واستفدنا منه أنه يشترط شرطان:
أحدهما: كونها مبنية للمسجد فلو بنيت لغيره لم يخرج لها قريبة كانت أو بعيدة.
والثاني: أن تكون قريبة فلو كانت بعيدة لم يخرج لها سواء بنيت للمسجد أم لا.
الأمر الثاني: أن اشتراط البناء للمسجد قد ذكره الرافعي رحمه الله في التعليل فإنه لما حكى الخلاف قال ما نصه: والثاني لا يبطل لمعنيين: أحدهما: أنها مبنية للمسجد معدودة من توابعه، هذا لفظه فحذفه النووي حالة الاختصار ظنًا منه أنه تعليل لا تقييد للمسألة، ثم رأى بعد ذلك أنه لابد منه فاستدركه على الرافعي ظنًا منه أنه لم يذكره.
قوله في "الروضة": فلو خرج لقضاء الحاجة فعاد في طريقه مريضًا نظر إن لم يقف ولا عدل عن الطريق بل اقتصر على السؤال والسلام فلا بأس، وإن وقف فأطال بطل اعتكافه، وإن لم يطل لم يبطل على الصحيح. انتهى.
وما ذكره في المسألة الأخيرة -وهي عدم الطول- من جزمه بحكاية وجهين قد خالفه في "شرح المهذب" فحكى طريقة قاطعة بأنه لا يضر، وصححه فقال: فإن لم يطل فطريقان:
أصحهما: لا يبطل اعتكافه وجهًا واحدًا وبه قطع البغوي والأكثرون.
والثاني: وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يبطل، وبهذا الطريق قطع المتولي. هذا لفظه.
وحكى الشاشي في "المعتمد" طريقة ثالثة وهي القطع بالبطلان وصححها.
قوله: ولو صلى في الطريق على جنازة -يعني الخارج لقضاء الحاجة- فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا أزور عن الطريق.
وحكى صاحب "التتمة" فيه الوجهين، وقال في "التهذيب": إن كانت متعينة فلا بأس وإلا فوجهان. انتهى كلامه.
وهذه الطريق التي حكاها الرافعي رحمه الله عن "التهذيب" غلط من الرافعي عليه؛ فإن المذكور في "التهذيب" عكس ذلك فإنه قال ما نصه: ولو صلى على جنازة في الطريق بطل اعتكافه إن لم تتعين، فإن تعينت ففيه وجهان. هذا لفظ البغوي بحروفه.
وذكر الخوارزمي في "الكافي" هذه الطريق كذلك أيضًا، وهو تلميذ البغوي ويسلك طريقه غالبًا فانعكس على الرافعي حال الكتابة، ثم إن الطريق المذكورة لا ثبوت لها في نفسها فإني لم أظفر بها في شئ من كتب الأصحاب بعد البحث الشافى، وقد ذكر في "الروضة" هذه الطريقة إلا أنه لم يعزها إلى أحد.
قوله: لكن لو جامع في مروره بأن كان في هودج، أو فرض ذلك في وقفة يسيرة بطل اعتكافه في الأصح.
أما إذا قلنا باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء الحاجة فظاهر، وأما إذا لم نقل به فلأن الجماع عظيم الوقع.
والثاني: أنه لا يبطل؛ لأنه غير معتكف في تلك الحالة.
انتهى موضع الحاجة من كلامه. واعلم أن في الحكم باعتكافه حالة الخروج لقضاء الحاجة وجهين حكاهما في "شرح المهذب" عن جماعة، وكلام الرافعي هذا ظاهر الثاني؛ لأن كلامه في تعليل الوجه الأول يشير إلى الخلاف من غير ترجيح، وفي تعليل الثاني، جازم بأنه غير معتكف، وقد اقتصر في "الروضة" على تعليل الثاني ولم يذكر ما ذكره الرافعي من الإشارة إلى الخلاف في ذلك فسلم من الاعتراض المتوجه على الرافعي لكنه قبل هذا بدون صفحة في الكلام على أن أوقات الحاجة لا يجب تداركها، ذكر أنه معتكف في تلك الحالة؛ فوقع في التناقض، وقال في "شرح
المهذب" في تعليل الثاني لأنه غير معتكف في أحد الوجهين فسلم من الاعتراض، فلو عبر هو بذلك في "الروضة" وكذلك الرافعي لسلمنا أيضًا.
قوله في "أصل الروضة": بخلاف ما إذا احتاج إلى الوضوء من غير قضاء حاجة فإنه لا يجوز الخروج له على الأصح إذا أمكن الوضوء في المسجد. انتهى.
واعلم أن محل هذا الخلاف في الوضوء الواجب، فأما تجديد الوضوء فلا يجوز الخروج له قطعًا، فإنه قد جزم بذلك ابن الصباغ في "الشامل" والبغوي في "التهذيب" والخوارزمي في "الكافي" والعمراني في "البيان"، وقال في "شرح المهذب" إنه لا شك فيه.
وهذه الصورة وإن كانت قد تؤخذ من عبارة "الروضة" إلا أنها ليست صريحة في ذلك، وعبارة الرافعي أوضح منها، وقد سبق أن المحتلم يجوز له الخروج للاغتسال وإن أمكنه فعله في المسجد، والفرق بينه وبين الوضوء لائح.
قوله أيضًا في "الروضة": فرع: لو خرج ناسيًا أو مكرهًا لم ينقطع تتابعه على المذهب.
وقيل: قولان. انتهى كلامه.
وهو مشتمل على مسألتين:
إحداهما: الخروج ناسيًا، وقد اقتضى كلامه أن فيها طريقين: أصحهما: القطع بعدم البطلان.
والثانية: حاكية بخلاف، وأن ذلك الخلاف عند من حكاه قولان لا وجهان، وما دل عليه من تصحيح طريقة القطع، ومن جعل الخلاف عند مثبته قولين؛ فعكس ما قاله الرافعي في الأمرين جميعًا، فإنه صحح
طريقة الخلاف وأن ذلك الخلاف وجهان لا قولان فقال: لو خرج ناسيًا هل يبطل تتابعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم: لأن اللبث مأمور به والنسيان ليس بعذر في ترك المأمورات.
وأصحهما: لا.
ثم قال: واقتصر كثير من الأئمة على إيراد هذا الثاني، ومن أورد خلافًا عبر عنه بالوجهين، ولفظ القولين في الكتاب في هذه الصورة محمول على أن الخلاف مخرج. هذا لفظ الرافعي.
وذكر نحوه في "الشرح الصغير" فقال: ولو خرج ناسيًا للاعتكاف فوجهان، ويقال: قولان، هذه عبارته فجزم بطريقة الخلاف، ثم صحح أنه وجهان.
وصحح في "شرح المهذب" كما صحح في "الروضة" فقال مشيرًا إلى عدم البطلان ما نصه: هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور.
قال الرافعي: وقيل في بطلانه قولان. هذا لفظه، وهو غلط، وقد علمت سبب الغلط في مثل ذلك.
واعلم أن الصائم لا يفطر بالأكل يسيرًا ناسيًا بلا خلاف، والفرق بينه وبين خروج المعتكف ناسيًا أن مشاهدة المعتكف للمسجد مذكرة لاعتكافه فبعد وقوع النسيان معه فلم نعذره على وجه بخلاف الصائم.
وأما المسألة الثانية وهي مسألة الإكراه فقد اقتضى أيضًا كلام "الروضة" أن فيها طريقين وأن أصحهما القطع بعدم البطلان.
والثانية على قولين، وفيه أمران:
أحدهما: أنه مخالف لما ذكره الرافعي؛ فإن المذكور فيه إنما هو طريقة القولين فقال: لو أكره حتى خرج ففيه قولان كالقولين فيما لو أكره وهو صائم.
والذي أجاب به الجمهور أنه لا ينقطع به التتابع. هذا لفظه.
الأمر الثاني: أنه مناقض لما صححه في "شرح المهذب"؛ فإنه صحح فيه طريقة القولين أيضًا فقال: فطريقان: أصحهما: فيه قولان كالإكراه على الأكل في الصوم.
والطريق الثاني: لا يبطل قولًا واحدًا.
قوله فيها أيضًا: ومن أخرجه السلطان ظلمًا لمصادرة أو غيرها أو خاف من ظالم فخرج واستتر فكالمكره. انتهى كلامه.
وما ذكره رحمه الله من التسوية بين الإخراج والخروج خلاف ما صححه في "شرح المهذب" فإنه سلم أن الخارج خوفًا مخرج على القولين في المكره، ولم يحك فيه غير ذلك.
وأما من أخرج ظلمًا فصحح فيه طريقة القطع بعدم البطلان فقال فيه لم يبطل اعتكافه على المذهب، وبه قطع الشيخ أبو حامد والماوردي في "الحاوي" وابن الصباغ والجمهور، وقيل: هو كالمكره فيكون فيه القولان وبهذا جزم البغوي والمتولي والرافعي. هذا لفظه.
قوله: وإذا دعى لأداء شهادة فإن لم يتعين عليه أداؤها انقطع بتابعه، وإن تعين نظر إن لم يتعين عليه التحمل فطريقان:
إحداهما: على قولين، والثانية: يبطل قطعًا، وظاهر المذهب هو البطلان.
ثم قال: وإن تعين التحمل فإن قلنا إذا لم يتعين -أي: التحمل- لا ينقطع اعتكافه فهنا اعتكافه أولى، وإلا فوجهان انتهى. فيه أمور:
أحدها: أن النووي في "أصل الروضة" قد صحح من الطريقين الأولين طريقة القطع.
الثاني: أن الأصح في المسألة الأخيرة عدم البطلان.
كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة".
الثالث: أن حاصل ما ذكره الرافعي فيها طريقان:
إحداهما: القطع بعدم البطلان.
والثانية -وهى الصحيحة-: أن فيها وجهين.
وقد تابعه في "الروضة" على ذلك، ثم خالف في "شرح المهذب" فصحح طريقة القطع بأنه لا يبطل ونقله عن الجمهور.
قوله في "الروضة": ولو خرجت المعتكفة للعدة لم ينقطع على المذهب، وقيل قولان. انتهى.
هذه المسألة لا حاجة إليها لأنه قد ذكرها بعد هذا بنحو سطرين مستوفاة، وسبب وقوعه في هذا التكرار العجيب أن الرافعي ذكرها في هذا الموضع استطرادًا فظن أنه موضعها، ثم ذكرها الرافعي بعد هذا في موضعها فتابعه عليه ناسيًا لما سبق قريبًا.
ولقائل أن يقول: لم لا فصلوا بين أن تجب العدة باختيارها لفعلها ما علق عليه الطلاق أو لا تكون كذلك؟ والظاهر أن هذا التفصيل لابد منه.
قوله: فإذا خرج لصلاة الجمعة فهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان -ويقال: وجهان- أصحهما: نعم.
ثم قال: وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقل من أسبوع ابتدأ من أول أسبوع، أين شاء من المساجد وفي الجامع متى شاء، وإن كان أكثر من أسبوع فيجب أن يبتدئ به في الجامع. انتهى.
والضابط الذي ذكره لما يجب الابتداء به في الجامع وما لا يجب ليس صحيحًا، لأنه إذا نذر اعتكاف ستة أيام وثلثى يوم وربع يوم مثلًا فقد نذر أقل من أسبوع ولا ينفعه الابتداء به من أول الأسبوع في غير الجامع، وهذا على قولنا أول الأسبوع السبت.
فإن قلنا: إنه الأحد، فيصير الاعتراض أفحش، وأما تقييده وجوب الابتداء في الجامع بأكثر من أسبوع فلا يستقيم أيضًا بل ينبغي أن يقول: وإن كان أسبوعًا فصاعدًا بل ما دون الأسبوع، وقد يكون حكمه كذلك على ما تقدم.
قوله: فإن عين غير الجامع وقلنا بالتعيين لم يخرج عن نذره إلا بأن يمرض وتسقط عنه الجمعة، أو بأن يتركها عاصيًا ويدوم على اعتكافه. انتهى كلامه.
وما ذكره الرافعي من أنه لا يخرج عن نذره إلا بأحد هذين الشيئين ذكره البغوي في "الروضة" فقلده فيه الرافعي ثم النووي في "الروضة" و"شرح المهذب". وهو غريب؛ بل يخرج عن نذره بكل ما يسقط الجمعة من الخوف والوحل والمطر والتمريض، وكذلك بالنوم والنسيان.
وليت شعري كيف ذهل البغوي عن هذا حتى وقع من بعده فيه.
قوله: ولابد من قضاء الأوقات المصروفة إلى ما عدا قضاء الحاجة [إلا](1) من الأعذار فإنه غير معتكف فيها. انتهى.
(1) سقط من ج.
تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على هذا الإطلاق ولم [أراه في كلام أحد من الأصحاب بل](1) لابد من استثناء أوقات الأكل والوضوء ونحوهما، فقد قال الشيخ أبو علي السنجي في "شرح التلخيص": زمان الغائط والبول محسوب حتى لا يقضى لأنه يسير.
وكذلك المؤذن يخرج للأذان والجنب يخرج للغسل.
ثم قال: فأما إذا خرج للمرض أو المرأة للعدة والحيض والنفاس أو لانهدام المسجد أن يبنى أو للجهاد فلا يحسب ويقضيه؛ لأن هذه الأشياء تحتاج إلى زمان طويل. هذا لفظه.
وقال القاضي حسين في "تعليقه" عند الكلام في الخروج لقضاء الحاجة: لو أجنب في المسجد له الخروج ليغتسل لأنه لا يمكنه أن يتجرد في المسجد ويكون مستثنى من أصل نذره، وقال في "النهاية" في الرد على من قال: إن للجنب أن يغتسل في المسجد: إن الخروج إذا أمر به فهو في معنى الخروج لقضاء الحاجة ثم نفس الخروج مع أنه مباينة للمسجد غير مؤثر فليكن الخروج لأجل الإنزال الواقع من غير قصد بهذه المثابة.
وقال الغزالي في "البسيط": فإن قيل حيث يجوز الخروج فهل يجب تدارك أوقات الخروج أم تحسب من الاعتكاف؟ قلنا: لا يحسب شئ من ذلك من مدة الاعتكاف إلا أوقات الخروج لقضاء الحاجة.
وفي معناه الأكل والوضوء إن جوزنا الخروج لهما.
وقد اختلف الأصحاب في طريقه؛ منهم من قال: هو معتكف في حركاته وحكمه مستمر عليه.
(1) سقط من ج.
ثم قال: منهم من قال: ليس بمعتكف، وهو الصحيح، ولكن معناه أنه جعل مستثنى فهو كما لو قال أعتكف شهرًا إلا في أوقات قضاء الحاجة.
وقال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" بعد أن ذكر أن الخروج لقضاء الحاجة لا يجب تداركه ما نصه: وفي معناه الخروج للأكل والوضوء إن جوزناه، والموقع للرافعي فيما وقع فيه أن الغزالي في "الوجيز" قال: فعليه قضاء الأوقات المصروفة إلى هذه الأعذار، وأشار بالأعذار إلى أمور عددها ليس فيها شئ مما قلنا يجب استثناؤه كما تعرف بمراجعة لفظه، فحمل الرافعي هذا اللفظ على العموم لا على العهد وتصرف فيه فاعلمه.
قوله: وأما ما منه بد ففي وجوب تجديد النية له عند العود وجهان:
أظهرهما: لا يجب؛ لشمول النية جميع المدة.
ثم قال: وأجرى الشيخ أبو عليّ الخلاف فيما إذا خرج لغرض استثناه ثم عاد. انتهى كلامه.
وما نقله الرافعي عن الشيخ أبي علىّ تبع فيه الإمام وتبعه عليه النووي من بعده، والشيخ أبو عليّ لم يطلق ذلك بل شرط فيه أن يطول زمن الخروج فقال في "شرح التلخيص": لو عين عشرة أيام ونوى اعتكاف جميعها إذا دخل، فإذا خرج لعارض استثناه ثم رجع لا يحتاج إلى تجديد النية؛ لأنه نوى الكل دفعة واحدة في الابتداء.
قلنا: ويحتمل أن ينوي إذا طال الخروج كما أنه يحتاج أن ينوي كل ليلة من رمضان إن كان الزمان متعينا، هذا لفظه بحروفه ومن "شرح التلخيص" نقلت.
قوله: ولو عين مدة ولم يتعرض للتتابع ثم جامع أو خرج من غير عذر ففسد اعتكافه ثم عاد ليتم الباقي فقد أجرى الخلاف في وجوب التجديد.
قال الإمام: لكن المذهب هاهنا وجوبه. انتهى:
تابعه في "الروضة" على نقل ذلك عن الإمام فقط، وقد صحح في "شرح المهذب" ما صححه الإمام فقال: هو كما قال، والصحيح وجوب تجديد النية هنا للخلل المنافي القاطع للاعتكاف.
قوله من زوائده: لو قال لله علىّ اعتكاف شهر نهارًا صح فيعتكف النهار دون الليالي، نص عليه في "الأم". انتهى.
هذه المسألة. ذكرها الرافعي قبل هذا الموضع بدون ثلاثة أوراق.
قوله أيضًا من زوائده: قال الروياني: قال أصحابنا: لو نذر اعتكافًا وقال: إن اخترت جامعت، أو إن اتفق لي جماع جامعت لم ينعقد نذره، والله أعلم.
هذه المسألة قد سبق معناها في كلام الرافعي قبل هذه الموضع بنحو ورقتين وهي أول في فصل.