المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: في الطواف - المهمات في شرح الروضة والرافعي - جـ ٤

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌ زكاة الفطر

- ‌الطرف الثاني: في صفات المؤدي

- ‌الطرف الثالث: في صفات المخرج

- ‌كتاب الصيام

- ‌الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات

- ‌القول في شرائط الصوم:

- ‌القول في السنن

- ‌القسم الثاني في مبيحات الإفطار وموجباته

- ‌كتاب الاعتكاف

- ‌كتاب الحج

- ‌الباب الأول: في وجوه أداء النسكين:

- ‌الباب الثاني: في أعمال الحج

- ‌الفصل الأول: في الإحرام

- ‌الفصل الثاني: في سنن الإحرام

- ‌الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

- ‌الفصل الرابع: في الطواف

- ‌الفصل الخامس: في السعي

- ‌الفصل السادس: في الوقوف

- ‌الفصل السابع: في أسباب التحلل

- ‌الفصل الثامن: في المبيت

- ‌الفصل التاسع: في الرمي

- ‌الفصل العاشر: في طواف الوداع

- ‌الفصل الحادي عشر: في حكم الصبى

- ‌الباب الثالث في محظورات الحج والعمرة

- ‌النوع الأول: اللبس

- ‌النوع الثاني: الطيب

- ‌النوع الثالث دهن شعر الرأس واللحية

- ‌النوع الرابع: الحلق والقلم:

- ‌النوع الخامس: الجماع

- ‌النوع السادس: مقدمات الجماع

- ‌الباب [الرابع] (*) في الدماء

- ‌الفصل الأول في أبدالها

- ‌الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها

الفصل: ‌الفصل الرابع: في الطواف

‌الفصل الرابع: في الطواف

قوله: وتجب فيه الطهارة عن الحدث والخبث وستر العورة؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير". (1) انتهى.

وما ذكره من اشتراط الطهارة والستارة واضح عن القدرة، فإن عجز فإن كان الطواف نفلًا أو للوداع فلا شك في جوازه فعله بدونهما، وإن كان طواف الركن فيجوز للغازي لأنه لا إعادة عليه على المشهور.

وأما المتيمم والمتنجس فالقياس منعهما منه؛ لأنهما لو صليا لوجب عليهما القضاء، والطواف ملحق بالصلاة فيما يتعلق بالطهارة؛ وحينئذ فتكون إعادته واجبة عليها أيضًا، وإذا وجبت الإعادة فلا يكون في فعله -والحالة هذه- فائدة؛ لأن التحلل لا يحصل ما دام الطواف في ذمته.

والعنى الذي لأجله أوجبنا فعل الصلاة وهو حرمة الوقت مفقود هنا لأن الطواف لا آخر لوقته؛ ويؤيده أن فائدة الطهورين إذا صلى ثم قدر على التيمم بعد الوقت لا يعيد الصلاة في الحضر لما قلناه من عدم الفائدة.

وقد تعرض في "البحر" للمسألة فحكى وجهين في وجوب الإعادة ولم يزد على ذلك وهو يقتضي الجزم بالجواز ولا سبيل إلى القول به، وسيأتي

(1) أخرجه الترمذي (960) وأبو يعلى (2599) والدارمي (1847) وابن حبان (3836) والحاكم (1686) و (3058) والطبراني في "الكبير"(10955) والبيهقى في "الكبرى"(9074) والطحاوي في "شرح المعاني"(3545) وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 128) وابن الجارود في "المنتقى"(461) وابن عدي في "الكامل"(5/ 364) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا بسند صحيح.

ص: 313

في الكلام على فساد الحج ما يدفعه من جهه النقل. وبتقدير الجواز لا سبيل إلى قضائه لما تقدم.

والحديث المذكور رواه البيهقي وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عباس.

قوله: لبيت الله تعالى أربعة أركان: ركنان يمانيان وركنان شاميان، وكانت أرضية مساوية لأرض المسجد، وكان له بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم ولم يجدوا من الأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت فأخروا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ووضعوا عرض الجدار الذي بين الركن الأسود والشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعًا وهو الذي يسمى الشاذروان، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم وألصقته بالأرض وجعلت له بابان شرقيًا وغربيًا (1).

ثم إن ابن الزبير هدمه في أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم، فلما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليه اليوم وهو بناء قريش. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما ذكره من اختصاص المتروك من عرض الجدار وهو المسمى بالشاذروان بالجدار الذي فيه الباب دون ما عداه.

أخذه من كلام الإمام، وليس كذلك بل هو عام في الجدر الثلاث كما ذكره الأزرقي في "تاريخ مكة"، وهو ظاهر محسوس.

(1) أخرجه البخاري (1506) ومسلم (1333) واللفظ لمسلم.

ص: 314

الأمر الثاني: أن كلامه يوهم أن الحجاج هدم جميع البيت.

وليس كذلك ففي التاريخ المذكور أن الحجاج لما استولى على مكة، وقتل ابن الزبير هدم الحائط الذي من جهة الحجر وبناها على أساس قريش وأخرج الحجر من البيت وردم بطن الكعبة بما هدم منها لم يغير منه شيئًا.

قال: فكل شيء فيها بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر وما سد به الباب الغربي وما تحت عتبة الشرقي فإنه بناء الحجاج.

واعلم أن الدكان في اللغة هي المصطبة، وكذلك الدكة أيضًا.

والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة.

قوله: ويعتبر في الطواف شيئان:

أحدهما: أن يجعل البيت على يساره. . . . إلى آخر ما قال.

اعلم أن هذه المسألة تنقسم إلى اثنين وثلاثين قسمًا ويغلب وقوعها في المحمول لمرض أو غيره خصوصًا الأطفال فتأمل ذلك.

وجميع هذه الأقسام داخل في كلام الرافعي؛ لأن كلامه يدل بالمنطوق على جعل البيت على يساره. ومفهومه على أنه لا يجعل على غير اليسار؛ وحينئذ فإما أن يجعله على يمينه أو تلقاء وجهه أو وراء ظهره؛ فحصل من منطوقه ومفهومه أربعة أقسام:

القسم الأول: وهو ما إذا جعله على اليسار له حالان:

أحدهما: أن يذهب إلى جهة الباب، وحينئذ فإما أن يذهب على العادة وإما منكسًا -أي: رأسه- إلى أسفل ورجلاه إلى فوق، وإما مستلقيًا على ظهره، وإما على وجهه. فهذه أربع صور.

والأولى هي التي ينبغي فعلها.

ص: 315

وأما الثلاثة الأخيرة فلم يصرح الرافعي ولا المصنف ولا ابن الرفعة فحكمها لا في هذا القسم ولا في باقي الأقسام الآتية إطلاق الرافعي يقتضي جوازها والمتجه خلافه فإنه منابز للشرع كما سيأتي التعليل به.

الحال الثاني: أن يقهقر إلى جهتي الركن اليماني، وفيه أيضًا هذه الصور الأربع لأنه إما أن يرجع منتصبًا أو منكسًا أو على الظهر أو الوجه، ولم يصرح من ذكرناه بحكم هذه الأربعة، وإطلاق الرافعي يوهم جوازها لأنه يصدق أن يقال جعل البيت على يساره وطاف، وليس كذلك بل المتجه القطع بعدم الصحة في الكل، ويحتمل تخريج الصورة الأولى منها على الوجهين الآتيين في من طاف معترضًا أو مستدبرًا فكان الصواب أن يزيد قيدًا فيقول: وأن يجعل البيت على يساره ويطوف تلقاء وجهه، وقد تحصلنا الآن على ثمان صور:

القسم الثاني: أن يجعل البيت على يمينه فله أيضًا حالان:

أحدهما: أن يذهب إلى جهة الركن اليماني ففيه أيضًا الصور الأربع وهي أن يذهب منتصبًا على العادة أو منكسًا أو مستلقيًا على قفاه أو على وجهه، وقد جزم الرافعي بالمنع في المسألة الأولى ويلزم منه المنع في الثلاثة الأخيرة بطريق الأولى. ويؤخذ منع الجميع من عبارته أيضًا.

الحال الثاني: أن يرجع القهقري إلى جهة الباب ففيه الأربعة المذكورة أيضًا؛ فأما الأولى وهو أن يذهب منتصبًا ففيه وجهان:

أصحهما: البطلان لأنه لم يول الكعبة شقه الأيسر وهذا هو الذي يقتضيه إطلاق الرافعي.

والثاني: الجواز لحصول الطواف في يسار البيت وهو من الحجر إلى جهة الباب. هكذا عللهما الرافعي، وقد ظهر من تعليله أن الواجب

ص: 316

حصول الطواف على يسار الكعبة في وجه، وأن يولي الكعبة شقه الأيسر على وجه آخر. وأما الثلاثة الأخيرة فهي ممتنعة من حيث الجملة؛ ويؤخذ أيضًا منعها من إطلاق الرافعي.

لكن هل يجزم ببطلانها أو يخرج على هذا الخلاف؟ فيه نظر.

فتحصلنا على ثمان صور أخرى تصير مع قبلها ستة عشر.

القسم الثالث: أن يجعله تلقاء وجهه فله أيضًا حالان:

أحدهما: أن يوالي جهة الباب فيأتي فيه أيضًا أربع صور:

أولها: الاعتدال.

وثانيها: التنكيس.

وثالثها: أن يكون على الجنب الأيمن.

ورابعها: على الأيسر.

فإن كان منتصبًا ففيه الوجهان السابقان -كما قاله الرافعي- أصحهما: عدم الصحة، وقد سبق تعليلهما.

وأما الثلاثة الباقية فيحتمل الجزم ببطلانها ويحتمل تخريجها على الوجهين. وعبارة الرافعي مقتضية الأربعة.

الحال الثاني: أن يذهب إلى جهة الركن اليماني ففيه أيضًا هذه الأربعة ومقتضى التعليلين اللذين ذكرهما الرافعي القطع بأن شيئًا منهما لا يجزئ كما هو مقتضى عبارة الرافعي فإنه لم يوقع طوافه في يسار البيت ولا ولي الكعبة بشقه الأيسر.

فتحصلنا بهذه الثمانية على أربعة وعشرين.

القسم الرابع: أن يستدبر الكعبة وفيه الحالان السابقان:

ص: 317

الأول: أن يمر إلى جهة الباب، وفيه الأربعة المتقدمة؛ فأما الأولى منها: فهو أن يمر على العادة منتصيًا فقال الرافعي: القياس أن يجرى فيه الوجهان السابقان فيما إذا جعله تلقاء وجهه، وما قاله الرافعي قد نقل الإمام عن شيخه ما يوافقه، ولكن ذكر المصنف في "الروضة" وغيرها أن الصواب القطع بأنه لا يصح لكونه منابذًا للشرع.

وأما الثلاثة الباقية فلم يصرحوا بحكمها، وقد تقدم نظائر أنها محتملة بجريان هذا الخلاف والقطع بالبطلان، وعبارة الرافعي شاملة لمنع الأربعة.

الحال الثاني: أن يمر إلى جهة الركن اليماني فمقتضى ما سبق أن لا يعتد بشيء من صوره الأربعة جزمًا لما تقدم من أنه يولى الكعبة شقه الأيسر ولا طاف في يسار البيت.

وقد تكمل لك بهذه الصور الثمانية الداخلة في القسم الرابع اثنتان وثلاثون مسألة.

واعلم أن اشتراط جعل البيت على اليسار يستثنى منه مروره على الحجر الأسود؛ فقد قال في "شرح المهذب" في الكلام على المحاذاة وصفة المحاذاة أن يمر بجميع الحجر، وذلك بأن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر إلى جهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن [يساره](1) ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ينوي الطواف لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر مادًا إلى جهة يمينه حتى يتجاوز الحجر، فإذا جاوز انتقل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج.

ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز ولكن فاتته الفضيلة ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفًا حول البيت كله.

(1) سقط من أ.

ص: 318

قال في المناسك الكبرى: وليس شئ من الطواف يجوز مع استقبال البيت إلا ما ذكرنا من مروره في ابتداء الطواف على الحجر الأسود مستقبلًا له وذلك مستحب في الطوفة الأولى لا غير.

قوله: وعن المزني أنه سمى الشاذروان تأزيزًا من الإزاز وتأزيز أيضًا بزاءين وهو التأسيس. انتهى ملخصًا.

قال الجوهري: أززت الشئ الإزاز أي: بزاءين معجمتين إذا ضممت بعضه إلى بعض؛ فكأن لفظ الرافعي مأخوذ منه.

قوله: والثاني: أن يبتدئ بالحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه في مروره. انتهى.

فيه أمران:

أحدهما: أن هذه المسألة لها أقسام منها: أن يحاذي ببعض البدن بعض الحجر كما لو استقبله وجعل منكبه الأيسر في وسطه ومنكبه الأيمن خارجًا عنه.

وهذا القسم قد ذكره الرافعي وقال فيه: إن الجديد لا يجزئ، ولم يصرح به في "الروضة" فاعلمه.

الأمر الثاني: أن ما ذكره من الابتداء بالحجر الأسود أرادوا به موضعه حتى لو نقل عن موضعه والعياذ بالله فيجب على الطائف محاذاة الموضع كما نقله في "الكفاية" عن القاضي أبي الطيب.

قوله: وكره الشافعي إطلاق الشوط على الطوفة الواحدة. انتهى.

وهذه المسألة حذفها النووي من "الروضة"، وقال في "شرح المهذب": كره الشافعي والأصحاب تسميتها بالشوط والدور لأن الله تعالى إنما سماها

ص: 319

بالطواف لا بهما.

ثم قال: والمختار له أنه لا يكره؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: "أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط"(1)، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

قوله: فإن جعل سقف المسجد أعلى فقد ذكر في العدة أنه لا يجوز الطواف على سطحه.

ولو صح هذا لزم أن يقال إذا انهدمت الكعبة -والعياذ بالله تعالى- لا يصح الطواف حول عرصتها، وهو بعيد. انتهى كلامه.

تابعه عليه في "الروضة".

فيه أمران:

أحدهما: أن كلامهما يدل على أنهما لم يقفا على حكم الطواف حول العرصة، وقد ذكرها الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" وجزما بالبطلان على عكس ما مال إليه الرافعي بحثا واستبعد خلافه فقال الماوردي: وهكذا لو طاف على سطح المسجد الحرام أجزأه لأن معلومًا أن سقف المسجد اليوم دون سقف الكعبة وكان طائفًا بالبيت.

فإن قيل لو استقبلها في الصلاة على ما هو أعلى منها فإن مستقبلًا لها فهلا كان الطائف أعلى منها كالطائف فيها؟

قيل: لأن المقصود في الصلاة جهة بنائها، فإذا علا عليها كان مستقبلًا لجهة بنائها فأجزأه، والمقصود في الطواف نفس بنائها فإذا علا عليها لم يكن طائفًا بنفس بنائها فلم يجزئ هذا لفظه، وموضع الحاجة هو آخر

(1) أخرجه البخاري (687) ومسلم (1253).

ص: 320

كلامه، وذكر في البحر مثله أيضًا.

الأمر الثاني: أن مسألة السقف إذا كان أعلى قد جزم القاضي الحسين فيها بالصحة على وفق ما يشير إليه كلام الرافعي، وقال في "شرح المهذب": إن الجواز هو الصواب، ويلزم من تصحيحه في هذه المسألة تصحيحه في المسألة السابقة بطريق الأولى، لكن قد ظهر لك مما نقلته عن الماوردي والروياني أنهما مصرحان بالمنع.

قوله: ولو اتسعت حائط المسجد اتسع المطاف. انتهى.

هذا الكلام يدخل في عمومه مسألة تذكر على سبيل الامتحان والفرض وإن كانت لا تقع عادة؛ وهي أن المسجد لو وسع حتى انتهي إلى الحل فطاف في الحاشية التي من الحل صح. وفيه نظر، والقياس عدم الصحة.

وقد ذكر الرافعي قبل هذا كلامًا حذفه من "الروضة" لكن مكة والحرم، هذه عبارته، إلا أن المتبادر منها إلى الفهم إنما هو حالة الخروج من المسجد.

قوله: وقد جعلته العباسية أوسع مما كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.

وهذه العبارة ناقصة موهمة إيهامًا شديدًا أن العباسية هم الذين زادوا المسجد على المقدار الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام، وليس كذلك فإنه قد وسع أربع مرات فبل خلافتهم كما نقله جماعة منهم الأزرقي في "تاريخ مكة"، ونبه عليه النووي في كثير من كتبه فقال: أول من وسع المسجد الحرام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ اشترى دورًا فزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد.

ثم وسعه عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- كذلك واتخذ له الأزقة؛

ص: 321

فكان أول من اتخذها.

ثم وسعه الوليد بن عبد الملك.

ثم لما انتقلت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين وسعه المنصور، ثم المهدي وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا.

قوله: ويستحب أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام، فإن لم يفعل ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن هذا الترتيب أخذه الرافعي من البغوي، ولكن الصلاة في الحرم أفضل منها في غيره؛ فالصواب أن يقول: ثم في الحرم ثم فيما شاء من غيره، وهكذا صرح به الجرجاني في "التحرير".

الأمر الثاني: أنا قد استفدنا من كلام الرافعي أن فعل هذه الصلاة في المسجد أولى من المنزل وإن كانت نافلة اتباعًا للحديث.

وأشعر كلامه أيضًا بتفضيل فعلها خلف المقام على فعلها في الكعبة. وفيه نظر يحتاج إلى نقل، وقد خرج المصنف وغيره في أبواب الصلاة بأن فعل النافلة في الكعبة أولى من فعلها في المسجد الحرام، ثم إن الصلاة عند البيت إلى وجهة أفضل من سائر الجهات كما قاله ابن عبد السلام في "القواعد"، وذلك محتمل لسائر الأقطار؛ فينبغي أن يراعى ما قاله بحيث لا يخرج عن ما قدمناه.

الثالث: إذا حاضت المرأة عقب طوافها فهل تخاطب بهاتين الركعتين أم لا؟

ص: 322

توقف فيه الشيخ محي الدين في الحيض من "شرح المهذب"، ثم قال: بتقدير ثبوتهما ووجوبهما يجب عليها قضاؤهما؛ لأن ذلك لا يتكرر.

وهذا الذي ذكره من التعبير بالقضاء والتعليل المذكر كيف يستقيم مع أنه لا آخر لوقت هذه الصلاة كما ذكره هو وغيره في هذا الباب.

قوله: ويجهر بالقراءة فيهما ليلًا -يعني: ركعتي الطواف- ويسر بهما نهارًا. انتهى.

وما ذكره من الجهر فيهما ليلًا فبكلام سبق ذكره تفي صفة الصلاة في الكلام على الجهر.

واعلم أن من طلوع الفجر طلوع الشمس من النهار لا من الليل، ومع ذلك يجهر فيه في الصلوات فلابد من استثنائه.

قوله: وإذا لم نحكم بوجوبهما فلا صلى فريضة بعد الطواف حسبت عن ركعتي الطواف اعتبارًا بتحية المسجد. حكى ذلك عن نصه في القديم، والإمام حكاه عن الصيدلاني نفسه واستبعده.

انتهى. تابعه في الروضة على نقل هذه العبارة عن الإمام.

قال الصيدلاني: لو صلى الفارغ من الطواف فريضة الوقت وقضى فائتة وقع الاكتفاء بما جاء به اعتبارًا بتحية المسجد. وهذا مما انفرد به، والأصحاب على مخالفته؛ فإن الطواف يقتضي صلاة مخصوصة والمسجد حقه أن لا يجلس الداخل فيه حتى يصلي الركعتين، وقال في "شرح المهذب": أن الجماهير على الإجزاء.

قوله: والأجير يؤدي ركعتي الطواف عن المستأجر. زاد في "الروضة" فقال: قلت: اختلف أصحابنا فيه؛ فقيل يقع عنه، وقيل: عن المستأجر،

ص: 323

وهو الأشهر.

انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن هذا الخلاف الذي ذكره من زوائده قد ذكره الرافعي في باب الوصية فائدة حسنة فقال: وقال بعضهم: يقع عن الأجير وتبرأ ذمة المحجوج عنه بما فعل.

هذا كلامه. وهو يقتضي أيضًا أنه يجب فعلهما على الأجير إن قلنا يقعان عنه، وبه صرح القاضي الحسين في "شرح التلخيص" في باب الحيض، وعلله بأنه التزم الطواف.

الثاني: ستعرف في باب حج الصبي أن الولي يصليهما أيضًا عن الصبي إن كان غير مميز فيصليهما بنفسه على الصحيح، وإن كان الصحيح جواز إحرام الولي عنه، وقيل: لا يصليهما أيضًا إلا الولي. كذا ذكره الرافعي وتبعه عليه في "الروضة".

وإذا علمت ما ذكروه في المميز ظهر لك أن ما أطلقوه في الأجير محله إذا لم يصليهما في بلده لاسيما إن كان بمكة لأن هذه الصلاة لا يشترط فيها الفورية بل لا تفوت ما دام حيًا، وقد صرح الطبري شارح "التنبيه" بما ذكرته، وحكى في "المطلب" عن القاضي الحسين كلامًا حاصله أنها إذا تأخرت فهل يفعل أداء أو قضاء، أو لا يفعل بالكلية؟ فيه أوجه.

واعلم أن القياس في غير المميز أن يأتي فيه الوجهان المذكوران في الأجير، وبه صرح في "البيان".

قوله في "الروضة": فرع: ركعتا الطواف وإن أوجبناهما فليستا بشرط في صحته ولا ركنًا، بل يصح بدونهما، وفي تعليل جماعة من الأصحاب ما يقتضي اشتراطهما. انتهى.

ص: 324

واعلم أن الرافعي لم يجعل المستفاد من التعليل هو الشرطية لا غير بل ردده بين الشرطية والركنية.

قوله: فيها أيضًا: وقال الإمام: لو مات قبل الصلاة لم يمتنع جبرها بالدم. انتهى.

واقتصار المصنف على الإمام غريب؛ فإن الرافعي لم يقتصر عليه بل عبر بقوله قاله الإمام وغيره.

قوله: وأما السنن فخمس. . إلى آخره.

فيه أمور:

منها: أنه يستحب أن يكون قائمًا، فإن زحف مع قدرته على المشي كان مكروهًا كما قاله في "شرح المهذب".

وأن يكون حافيًا كما نبه عليه بعضهم ولا شك فيه.

قال في "الإملاء": وأحب لو كان يطوف بالبيت خاليًا أن يقصد في المشي لكثرة خطاه رجاء لكثرة الأجر له. هذا لفظ "الإملاء" بحروفه ومنه نقلت. وهي مسألة نفيسة.

والقصد في كلام الشافعي هو المشار إليه بقوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (1) وأصله الرفق.

قوله: الأولى أن يطوف ماشيًا لأنه الأكثر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما طاف في حجة الوداع راكبًا ليراه الناس فيستفتوه. ولو ركب من غير عذر أجزأه ولا كراهة هكذا قال الأصحاب.

قال الإمام: وفي القلب من إدخال البهائم المسجد ولابد من تلويثها

(1) سورة لقمان (19).

ص: 325

شئ. فإن أمكن الاستئناف فذاك وإلا فإدخال البهائم المسجد مكروه. انتهى بلفظه.

تابعه عليه في "الروضة" وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وفيه أمور:

أحدها: أن كلامه في "شرح مسند الإمام الشافعي" جازم بالكراهة؛ فإنه قال: نص الشافعي في "الأم" على كراهته، قال: وأما طوافه عليه الصلاة والسلام راكبًا فروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان لمرض. انتهى.

ولم يذكر الرافعي في "الكتاب" ما أشار إليه غير ذلك؛ فدل على ما قلناه.

الثاني: أن نقل الرافعي عن الأصحاب عدم الكراهة؛ فقد جزم بها صاحب "التقريب" وهو الإمام الجليل القاسم ابن القفال الشاشي فقال: قال الشافعي: إنما طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مرض؛ لأنه أحب أن يشرف للناس ليسألوه، وليس لأحد من الناس هذا الموضع.

قال: ولا أكره ركوب المرأة ولا حمل الناس إياها في الطواف من غير علة، وأكره ذلك للرجل.

هذا لفظه، ومن "التقريب" نقلت. وجزم به أيضًا القاضي الحسين والبندنيجي والقاضي أبو الطيب في تعاليقهم، والماوردي في "الحاوي"، وسليم الرازي في "المجرد"، والعبيدي في "الكفاية"، وكذلك الدارمي في "الاستذكار" وسوى في ذلك بين الرجل والمرأة.

ولم يذكر ابن الرفعة في "الكفاية" غير الكراهة؛ فإنه هنا راجع أصول المذهب ولم يراجع الرافعي وجزم بالكراهة أيضًا النووي في "شرح المهذب"

ص: 326

في الفصل المعقود لأحكام المساجد، وأجاب عن طواف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان لبيان الجواز.

قوله: إن إدخال الصبيان في المسجد حرام إن غلب تنجيسهم له، وإن لم يغلب ذلك فهو مكروه.

كذا قاله النووي من "زياداته" في كتاب الشهادات، وادعى أن ذلك مشهور بين الأصحاب.

وأقل مراتب البهائم أن تكون كالصبيان في ذلك فيكون إدخالها محرمًا أو مكروهًا؛ فثبت ما ذكرناه نقلًا ومعنى كراهة الطواف راكبًا بغير عذر، وأن ما نقله الرافعي هنا عن الأصحاب من عدم الكراهة غير مقبول فإنه مخالف لما في كتبهم المشهورة والمهجورة ومخالف أيضًا لنص الشافعي.

ومما يؤيد الكراهة أن الفعل في هذه العبارة لم يؤخذ حقيقة من الراكب بل من الدابة؛ فصار نظير ما إذا استعان في الوضوء بمن يغسل الأعضاء وهو مكروه قطعًا كما قاله في "الروضة" من "زياداته".

وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا فقد تقدم الجواب عنه من أوجه، وما أجاب به الشافعي من كونه فعله لمرض فقد نص عليه أبو داود في سننه، وأشار إليه البخاري بقوله: باب المريض يطرف راكبًا، والحديث الذي ذكره الرافعي رواه مسلم (1) منه رواية جابر.

قوله: الثانية: أن يستلم الحجر الأسود بيده في ابتداء الطواف ويقبله ويضع جبهته عليه.

فإن منعته الزحمة من التقبيل اقتصر على الاستلام، فإن لم يكن اقتصر على الإشارة باليد. انتهى.

(1) تقدم.

ص: 327

تابعه عليه في "الروضة": فيه أمور:

أحدها: أن المراد بالحجر الأسود إنما هو الموضع حتى لو نحى الحجر من موضعه -والعياذ بالله تعالى- استلم الركن الذي كان فيه وقبله وسجد عليه. كذا نقله في "شرح المهذب" عن الداركي ولم يخالفه.

وهو نظير ما سبق في البداءة بالطواف إلا أنه هناك إذا صح وأما الاستلام فمشكل.

الثاني: أن النووي في المناسك وغيره قد نبه على شئ يغفل عنه كثيرًا فقال: فيحترز عند الاستلام أو التقبيل أن يمر شئ من يديه في الشاذروان عند أخذه في الطواف بل يرجع إلى مكانه قبل الاستلام ثم يطوف.

الثالث: أن تعبير الرافعي يقتضي أنه إذا أمكنه الاستلام يأتي به سواء آذى غيره بالزحام أم لا، وليس كما أطلقه بل فيه تفصيل ذكره الشافعي في "الأم" كما نقله عنه البندنيجي؛ فقد قال في الأم: أحب الاستلام ما لم يؤذ غيره بالزحام إلا في ابتداء الطواف ويستحب له الاستلام وإن كان بالزحام أو في آخر الطواف.

وذكر في "شرح المهذب" أن الأصحاب أطلقوا أنه لا يأتي به. ثم نقل هذا النص.

قوله: ولا يقبل الركنين الشاميين ولا يستلمهما ويستلم الركن اليماني ولا يقبله. انتهى.

تابعه عليه في "الروضة". فيه أمران:

أحدهما: أن المراد بعدم تقبيل الأركان الثلاثة إنما هو نفي كونه سنة، فإن قبلهن أو قبل غيرهن من البيت لم يكن مكروهًا ولا خلاف الأولى،

ص: 328

بل يكون حسنًا. كذا نقله في الاستقصاء عن نص الشافعي فقد قال الشافعي: وأي البيت قبل فحسن غير أنا أمرنا بالاتباع. هذا لفظه فتفطن له فإنه من الأمور المهمة.

الأمر الثاني: أن تعبيره يشعر بأنه إذا عجز عن استلام الركن الثاني لا يشير إليه. وبه صرح ابن أبي الصيف اليمني في نكته على "التنبيه" وفي "مناسكه".

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "مناسكه" أنه يشير إليه.

قال الطبري في "شرح التنبيه": وهو أوجه قياسًا على الأسود.

قوله: ولو لم يستلم بيده ووضع عليه خشبة ثم قبل طرفها جاز.

وروي عن أبي الطفيل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على بعير ويستلم الركن بمحجن ويقبل الحجر (1). انتهى.

وهذه العبارة قصيرة، بل يستحب فعل ذلك إذا لم يتمكن من الاستلام باليد كما نبه عليه في الروضة.

والمحجن: بميم مكسورة ثم حاء مهملة ثم جيم مفتوحة بعدها نون: عصا محنية الرأس كالصولجان. جمعها: محاجن.

والحديث ثبت معناه في البخاري.

قوله: ويستحب تقبيل الحجر واستلامه واستلام الركن اليماني عند محاذاتهما في كل طوفة، وهو في الأوتار آكد لأنها أفضل. انتهى.

ذكر مثله في "الروضة"، وهو يوهم أنه لا يستحب في جميعها كما دل

(1) أخرجه البخاري (1530) ومسلم (1272) من حديث ابن عباس. وأخرجه مسلم (1275) من حديث أبي الطفيل.

ص: 329

عليه كلام "المحرر" و"المنهاج"، وصرح به غيره، وكلام أبي حامد في "الرونق" يقتضي أنه لا يستحب إلا في الأوتار خاصة فإنه قال: من السنن تقبيل الحجر في كل وتر، ولم يذكر غير ذلك.

قوله في أصل "الروضة": ويقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. انتهى.

واعلم أن هذا الدعاء رواه أبو داود (1) بإسناد لم يضعفه عن عبد الله بن السائب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تضعيفه يدل على أنه حسن عنده كما تقدم مرات، ولفظه: ربنا آتنا. أعني: بلفظ الرب لا بلفظ اللهم.

وهكذا ذكره الرافعي في كتبه كلها حتى هذا الكتاب الذي اختصر منه النووي هذه المسألة وهو "الشرح الكبير".

ولا شك أنه إنما وقع له ذلك سهو؛ ولهذا ذكره في "شرح المهذب" على الصواب.

نعم: وقع له في "المنهاج" لأجل وقوعه في "الروضة" لأنه يأخذ منها ما اصطلح عليه فيه من تخريج الوجهين والقولين ومراتب الخلاف قوة وضعفًا، وغير ذلك.

قوله: والرمل هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطي يقال له: الخبب، وهو مسنون في الأشواط الثلاثة الأول.

ثم قال: وهل يستوعب الثلاثة بالرمل؟ فيه قولان: أصحهما -وهو المشهور: نعم؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رمل من الحجر إلى الحجر ثلاثًا ومشى أربعًا (2).

والثاني: لا، بل يتركه بين الركنين اليمانيين؛ لما روى أن أصحاب رسول

(1) أخرجه أبو داود (1892) وسكت عنه وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري (1606) ومسلم (1227) من حديث ابن عمر.

ص: 330

الله- صلى الله عليه وسلم كانوا يبازون بينهما؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد شرط عام الصد أن يتخلوا عن بطحاء مكة إذا عادوا لقضاء العمرة، فلما عادوا وفوه بالشرط ورقوا جبل قعيقعان وهو جبل في مقابلة الحجر والميزاب، وكانوا يظهرون القسوة والجلادة حيث تقع أبصارهم عليهم، فإذا صاروا بين الركنين اليمانيين كان البيت حائلًا بينهم وبين أبصار الكفار. انتهى كلامه.

فيه أمران:

أحدهما: أن ما ذكره من الجزم بطريقة القولين قد تبعه عليه النووي في "الروضة" ثم خالفه في "شرح المهذب" فحكى طريقتين: إحداهما: هذه، والثانية: القطع باستحباب التعميم.

ثم قال: وهذا الطريق هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور.

الأمر الثاني: أن العمرة التي اعتمرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ست من الهجرة وصده المشركون عنها تسمى عمرة الحديبية، والعمرة التي تليها تسمى عمرة القضاء -أي: الشرط- لأنهم قاضوه -أي: شارطوه- في عام الحديبية على أن يتحلل ويعود في العام القابل، ووقع مع ذلك شروط أخرى.

وتسمى أيضًا عمرة القضية كذلك. هكذا قاله العلماء.

قالوا: وليس تسميتها هذا الاسم من القضاء بمعنى استدراك العبادة. ومما يؤيده أن القضاء لا يجب على المحصر.

إذا علمت ذلك فتعبير الرافعي في الاستدلال بقوله إذا عادوا لقضاء العمرة يعتبر مردود. وصوابه: بعمرة القضاء.

والحديثان المذكوران في الرافعي رواهما مسلم في "صحيحه".

وإنما أخذ الأصحاب برواية التعميم لأنها واردة في حجة الوداع فوجب

ص: 331

الأخذ بها لتأخرها.

واعلم أن البزا بباء موحدة مفتوحة وزاي معجمة بعدها ألف؛ نقول: يبازي فلان في مشيه أي: حرك عجيزته. ويقال أيضًا: بالراء المهملة من المباراة وهي المسابقة والمجاراة، وهذا الثاني مناسب في المعنى لا الدليل فهو لفظ الحديث.

قوله: وفيم يسن الرمل؟ فيه قولان: أحدهما: في طواف القدوم لأنه أول العهد بالبيت فيليق به النشاط والاهتزاز.

والثاني: أنه إنما يسن في طواف يستعقب السعي لانتهائه إلى مواضع الحركات بين الجبلين. وهذا أظهر عند الأكثرين، ولم يتعرضوا لتاريخ القولين.

وقال في التهذيب إن الأصح الجديد هو الأول. انتهى.

وهذا الكلام يقتضي أن المنقول عن الجديد هذا هو المنقول عن الجديد لا غير وأن الفتوى على القديم ليس كذلك؛ فقد نقل البيهقي في "السنن" أن الجديد هو القول الآخر وهو استحبابه في كل طواف يستعقبه السعى، و"البيهقي" أعرف بنصوص الشافعي من البغوي وغيره، وقد راجعت أصل "التهذيب" وهو تعليق القاضي الحسين فلم أر فيه نقل ذلك عن الجديد فلا أدري من أين أخذه.

قوله في التفريع على المسألة: وهل يرمل المكي المنشئ حجه من مكة في طوافه أي: الإفاضة؟ إن قلنا بالقول الأول فلا؛ إذ ليس له طواف قدوم. وإن قلنا بالثاني فنعم. انتهى.

وما ذكره مسلم فيما إذا لم يسافر ثم يقدم فإن فعل ففي "شرح التنبيه" للطبري أنه يستحب له ذلك بلا شك لتحققه بالقدوم، ولأن طواف القدوم تحية البيت؛ فاستوى فيه كل قادم سواء أحرم من مكة أو من غيرها.

ص: 332

قوله: ليكن من دعائه في الرمل: اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبا مغفورًا وسعيًا مشكورًا. روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (1). انتهى.

ذكر نحوه في "الروضة". وفيه أمور:

أحدها: أن هذا الدعاء محله عند محاذاة الحجر الأسود، وأما فيما عداه فيدعو بما أحب. كذا ذكره الشيخ في "التنبيه"، وأقره عليه النووي في "تصحيحه".

الثاني: أنهما أيضًا أهملا التكبير في أول هذا الدعاء مع أنه مستحب، وقد ذكره الشيخ أيضًا في "التنبيه".

الثالث: أن هذا الدعاء واضح للحاج. أما المعتمر فالمناسب أن يقول: اللهم اجعلها عمرة مبرورة، ويحتمل أيضًا استحباب التعبير بالحج مراعاة للحديث ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد.

الرابع: أنهما سكتا عما يقوله في الأربعة الأخيرة وقد ذكره الشافعي والأصحاب حتى صاحب "التنبيه" فقالوا: يستحب أن يقول: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ولم [. .](2) على "المهذب" والحديث المذكور غريب.

وقوله فيه: "وذنبًا" هما منصوبان بإضمار فعل؛ أي: واجعل ذنبي دنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا.

(1) أخرجه أحمد (4061) وأبو يعلي (5185) وابن أبي شبية (3/ 260) والبيهقي في "الكبرى"(9332) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه، أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء في رمي الجمرات وسنده ضعيف.

أما بالسياق المذكور هنا فقد قال الحافظ: لم أجده.

(2)

بياض في أ.

ص: 333

قوله: وليس في حق النساء رمل ولا اضطباع حتى لا ينكشفن ولا تبدو أعضاؤهن. انتهى.

فيه أمران:

أحدهما: أن الخنثى في ذلك كالمرأة قاله في "شرح المهذب".

والثاني: أن هذه العبارة ليس فيها تصريح بتحريم ذلك ولا كراهته، والمعنى المقتضى للمشروعية وهو كونه دأب أهل الشطارة يقتضي التحريم فيهن لأن ذلك يؤدي إلى تشبههن بالرجال بل بأهل الشطارة منهم، والتشبه حرام.

وعبارة "المحرر" تشعر بذلك فإنه قال: وليس للنساء رمل ولا اضطباع.

وقد عدل في "المنهاج" عن عبارة "الشرح" و"المحرر" إلى عبارة "التنبيه" فقال: ولا ترمل المرأة ولا تضبطع.

وذكر مثلها في "الروضة" أيضًا وعبر في "شرح المهذب" بقوله: لا يشرع لهن.

قوله: ولا تجب نية الطواف في أصح الوجهين لأنه في الحج والعمرة أحد الأعمال فتكفي نية النسك في الابتداء؛ على هذا يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر من طلب غريم ونحوه في أظهر الوجهين.

انتهى ملخصًا. فيه أمور:

أحدها: أن الصرف قد ذكره في مسائل من الحج فقال في الكلام على الوقوف: الخامسة لو حصر بعرفة في طلب غريم له أو دابة نادة كفاه.

قال الإمام: ولم يذكروا هنا الخلاف الذي سبق في صرف الطواف.

ويعد الفرق أن الطواف قربة برأسها بخلاف الوقوف قال: ولا يمتنع

ص: 334

طرد الخلاف فيه والمراد أن الطواف يتقرب به وحده: بدون الحج والعمرة.

وقال في الكلام على ما لو ترك الرمي في أيام التشريق، وزاد الإمام فقال: لو صرف الرمي في قصده إلى غير النسك كما لو رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف. انتهى.

وهذا الذي ذكره في صرف الرمي قد ذكر النووي مثله في "شرح المهذب" وغيره، ولا شك أنه كالوقوف، وما نقله عن الإمام فيه هو عين ما تقدم نقله عنه في الوقوف فيكون الصحيح خلافه؛ فاعلمه.

وقال في الكلام على صفة الرمي ما نصه: ويشترط قصد الرمي؛ فلو رمي في الهوى فوقع في المرمي لم يعتد به. انتهى.

وهو مخالف للمذكور في الوقوف.

وقد سكت الرافعي عن السعى؛ قال الطبري شارح "التنبيه" إنه كالوقوف.

الثاني: أن الإمام لما ذكر في صرف الوقوف أنه لا يمتنع تخريجه على صرف الطواف زاد بعده زيادة لابد من معرفتها فقال: ولكن الظاهر أنه لا يجزئ. هذه عبارته.

الثالث: أنا قد استفدنا من تعليل الرافعي أن الطواف المنذور وما يتنفل به الحلال والمحرم وما يأتي به الكي عند مفارقته مكة لابد فيه من النية وهو واضح.

وكلامه وكلام النووي في "شرح المهذب" يقتضي جريان الخلاف في طواف القدوم لأنه من سنن الحج، وتوقف فيه ابن الرفعة. قال: وأما طواف الوداع المفعول عقب الحج والعمرة فقال أعني ابن الرفعة: تجب فيه النية بلا شك لوقوعه بعد التحلل التام. وفيما قاله نظر، والقياس تخريجه

ص: 335

على الخلاف الآتي في أنه من المناسك أم لا؟ ، والصحيح أنه منها كما ستعرفه.

قوله: فلو أن الرجل حمل محرمًا من صبي أم مريض أو غيرهما وطاف به نظر إن كان الحامل حلالًا أو محرمًا ولكن طاف عن نفسه حسب الطواف للمحمول بشرطه وإن كان محرمًا ولم يطف به عن نفسه نظر إن قصد الطواف للمحمول فثلاثة أوجه: أظهرها: يقع له دون الحامل وينزل الحامل منزلة الدابة، وهو تخريج على قولنا يشترط أن لا يصرف الطواف إلى غرض آخر.

والثاني: يقع عن الحامل فقط تخريجًا على قولنا لا يشترط ذلك.

والثالث: تحسب لهما جميعًا؛ لأن أحدهما قد دار والآخر قد دير به وأن قصده الطواف عن نفسه وقع عنه. وهل يقع عن المحمول أيضًا؟ قال الإمام: لا يقع.

وحكى وفاق الأصحاب عليه، وبمثله أجاب فيما إذا قصد الطواف لهما معًا.

وصاحب "التهذيب" حكى وجهين في الحصول لهما.

ولو طاف ولم يقصد واحدًا من الأقسام فهو كما لو قصد نفسه أو كليهما. انتهى كلامه.

وهو مشتمل على خمسة أقسام فلنتكلم على الترتيب المذكور في الكتاب:

القسم الأول: أن يكون الحامل حلالًا أو محرمًا ولكن طاف عن نفسه.

وقد أجاب فيه بأن الطواف يقع للمحمول بشرطه، وفيما ذكره في هذا

ص: 336

القسم أمور:

أحدها: أن ما قاله من حصول للمحمول صحيح إذا لم ينو الحامل شيئًا أو نوى الطواف عن المحمول.

فأما إذا نواه لنفسه فلا؛ لأن الطواف يصح من غير المحرم.

وإذا كان يصح منه ونواه فكيف يتصور عنه بكونه قد حمل المحرم، بل ينبغي تخريجه على الخلاف الآتي في أنه هل يقع عن الحامل فقط لكونه الفاعل له وهو الصحيح أو يقع لهما.

وهذا الإشكال ذكره ابن الرفعة في "الكفاية"، وهو إشكال صحيح، وكلام المصنف كالصريح في خلافة لأنه ذكر هذا التفصيل فيما سيأتي ولم يذكره في هذه المسألة فاقتضى ذلك إرادة التعميم هنا. وكذا فعل الرافعي والمصنف في كتابهما.

ثانيها: أنه إذا أحرم بالحج من مكة ثم حمل قبل انتصاف ليلة النحر محرمًا بالعمرة كان حكم هذا المحرم الحامل حكم الحلال بلا شك فكان ينبغي أن يقول: قد طاف عن نفسه أو لم يدخل وقت طوافه.

ثالثها: أن المراد بالحسبان هنا عن المحمول إنما هو الحسبان قد طاف عن نفسه كما كان لو حمل حلال حلالًا بلا شك. وتعليلهم يدل عليه.

وهذا الكلام يأتي أيضًا في قول الرافعي ولكن قد طاف عن نفسه؛ أي: الطواف الذي يضمنه إحرامه.

وما ذكرناه من أن طواف القدوم فيما يجب فيه ملحق بالفرض لم يصرحوا به هنا ولكنه قياس ما سبق من التحاقه به من عدم الاحتياج إلى النية.

رابعها: أن قوله يشترطه يتناول الطهارة والستر والنية أو عدم العارف

ص: 337

على الخلاف المتقدم.

فإن فقد شئ من هذه الشروط وقع عن الحامل.

وكذلك أيضًا يتناول دخول وقت الطواف كما لو كان محرمًا بالعمرة أو بالحج أو انتصف ليلة النحر، وإنما ذكر المصنف هذا الشرط في أول القسم ليعلم منه إحالة ما بعد عليه؛ فاعلمه.

القسم الثاني: أن يكون الحامل محرمًا ولم يطف عن نفسه وقصد الطواف للمحمول، وقد أجاب فيه الرافعي بأنه قطع الطواف للمحمول في أصح الأوجه، وهو واضح.

القسم الثالث: كالثاني إلا أنه قصد الطواف لنفسه. وكلام الرافعي يقتضي أن المشهور فيه وقوعه عن نفسه فقد جزم في "الشرح الصغير"، وذكر نحوه في "المحرر"، وكذلك النووي في "المنهاج" وغيره من كتبه.

وكلام الرافعي يقتضي أنه لا فرق في هذا القسم بين أن ينوي المحمول أيضًا الطواف عن نفسه أم لا، وهو كذلك كما صرح به في "شرح المهذب" وغيره.

القسم الرابع: كالثاني أيضًا، إلا أنه قصد الطواف لهما معًا.

وليس في الرافعي هنا ولا في "الروضة" تصريح بتصحيح إلا أنه صحح في "الشرح الصغير"، "المحرر" وقوعه عن نفسه كالقسم الذي قبله، وتبعه عليه النووي في "المنهاج" وغيره، ولكن نص الشافعي في "الأم" و"الإملاء" على وقوعه عنهما على خلاف ما قالاه إلا أنه نص في "الأم" على وقوعه عن المحمول في الإملاء على وقوعه عنهما كذا نقله الروياني عن "البحر"؛ فالنصان متفقان على نفي ما صححاه، وهو هاهنا بخصوصه أظهر من نصه في الإملاء فيجب الأخذ به.

ص: 338

ولا شك أن الرافعي لم يمعن النظر في كتاب الحج خصوصًا في هذه المسألة.

وإنما ظفر فيها بكلام بعض المتأخرين وهو الإمام والبغوى؛ فتفطن لذلك وما نقله عن البغوي هنا عائدًا إلى القسم الثالث والرابع فاعلمه فقد صرح البغوي به، وكلام الرافعي موهم أو محتمل.

القسم الخامس: أن لا يقصد شيئًا، وقد أجاب فيه الرافعي بأنه قد يكون كما لو قصد نفسه أو كليهما.

وهذا الجواب بناه على ما قدره هو من أنه لا فرق بين القسمين، وأما على ما نقلناه من افتراقهما فلا يلحق لها معًا، بل كما إذا قصد نفسه خاصة لأن الشرط عدم الصارف ولم يوجد.

قوله: وقول الغزالي: ولو طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه، الأولى فيه قرأه أحرم على المجهول لأنه لا فرق بين أن يكون وليه الذي أحرم به أو غيره. انتهى.

فيه أمران:

أحدهما: أن التعبير بالمجهول قد رأيته كذلك في عدة من نسخ الرافعي وهو تحريف، وصوابه: على المفعول؛ أي: بضم همزة أحرم على البناء للمفعول للعلة التي ذكرها.

الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على أنه لا فرق في الحامل بين الولي وغيره لكن المنقول فيما إذا طاف الصغير راكبًا أنه لا يجزئه إلا إذا كان الولي سابقًا أو قائدًا. كذا قاله صاحب "البحر" وغيره، وهو هاهنا أولى؛ فتقييد الغزالي بالولي للاحتراز عن غيره فإن فيه هذا التفصيل.

ص: 339

قوله من زوائده: ولو نذر أن يطوف فطاف عن غيره، قال الروياني: إن كان زمن النذر معينًا لم يجز أن يطوف فيه عن غيره، وإن طاف في غيره أو كان زمنه غير معين فهل يصح أن يطوف عن غيره والنذر في ذمته؟

وجهان: أصحهما: لا، كالإفاضة. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من كونه لا يصح في غير الوقت المعين قد ذكر أعني الروياني أيضًا ما يخالفه في الكلام على تقديم حجة الإسلام على غيرها، وقد ذكرته هناك فراجعه.

والمتجه الماشي على القواعد أنه يصح.

الأمر الثاني: أنهما لم يصرحا بحكم انصرافه إلى النذر. وقياسه على الإفاضة يوهم الانصراف مطلقًا.

وليس كذلك بل القياس انصرافه إذا طاف في وقت النذر المعين أو كان النذر مطلقًا دون ما إذا عينه وطاف قبله.

ص: 340