المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الحج قوله: فمن حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام - المهمات في شرح الروضة والرافعي - جـ ٤

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌ زكاة الفطر

- ‌الطرف الثاني: في صفات المؤدي

- ‌الطرف الثالث: في صفات المخرج

- ‌كتاب الصيام

- ‌الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات

- ‌القول في شرائط الصوم:

- ‌القول في السنن

- ‌القسم الثاني في مبيحات الإفطار وموجباته

- ‌كتاب الاعتكاف

- ‌كتاب الحج

- ‌الباب الأول: في وجوه أداء النسكين:

- ‌الباب الثاني: في أعمال الحج

- ‌الفصل الأول: في الإحرام

- ‌الفصل الثاني: في سنن الإحرام

- ‌الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

- ‌الفصل الرابع: في الطواف

- ‌الفصل الخامس: في السعي

- ‌الفصل السادس: في الوقوف

- ‌الفصل السابع: في أسباب التحلل

- ‌الفصل الثامن: في المبيت

- ‌الفصل التاسع: في الرمي

- ‌الفصل العاشر: في طواف الوداع

- ‌الفصل الحادي عشر: في حكم الصبى

- ‌الباب الثالث في محظورات الحج والعمرة

- ‌النوع الأول: اللبس

- ‌النوع الثاني: الطيب

- ‌النوع الثالث دهن شعر الرأس واللحية

- ‌النوع الرابع: الحلق والقلم:

- ‌النوع الخامس: الجماع

- ‌النوع السادس: مقدمات الجماع

- ‌الباب [الرابع] (*) في الدماء

- ‌الفصل الأول في أبدالها

- ‌الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها

الفصل: ‌ ‌كتاب الحج قوله: فمن حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام

‌كتاب الحج

قوله: فمن حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يلزمه الحج خلافًا لأبي حنيفه.

ومأخذ الخلاف أن الردة عنده تحبط العمل، وعندنا إنما تحبط بشرط أن يموت عليها قال الله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1).

انتهى ما قاله رحمه الله، والكلام معه متوقف على إيضاح ما ذكره فلنوضحه فنقول: كلامه فيه أمران:

أحدهما: أن أبا حنيفة قد استدل على الإحباط بمجرد الردة لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2)، ونحو ذلك كقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وأجاب الأصحاب بما ذكره الرافعي؛ وهو أنه قد ورد تقييد ذلك في الآية المتقدمة بالموت على الكفر حيث قال تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (4)، والمطلق محمول على المقيد.

إذا تقرر ذلك فلك أن تقول: كيف يصح حمل المطلق على المقيد هنا مع اختلاف المحكوم به؛ لأن المحكوم به في تلك الآية من جملته الخلود في النار وذلك خاص بمن مات على الكفر -والعياذ بالله تعالى- بخلاف

(1) سورة البقرة: 217.

(2)

سورة المائدة: 5.

(3)

سورة الزمر: 65.

(4)

سورة البقرة: 217.

ص: 202

الآيات المُطْلقة؛ فإن الخلود لم يرد فيها وحينئذ فتكون تلك الآيات دالة على أن الردة وحدها مقتضية للإحباط فقط وتكون الآية الأولى دالة على الردة مع الموت عليها يقتضيان الإحباط والخلود وهو ما تقوله الحنفية، وقد يجيب الأصحاب بأن الخسران من جملة المحكوم به في الآيات المطلقة فقد ورد بعد ذلك في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1)، ولا شك أن ذلك خاص بمن مات على الكفر فلزم التقييد به كما سبق، إلا أن يقال: لما كان ذلك أسوأ الخاسرين حصر الخسران فيه مبالغة كقوله عليه الصلاة والسلام: " أتدرون من المفلس؟ . . . ."(2) الحديث، وبالجملة فهذا كله ذهول عن مذهب الشافعي رحمه الله؛ فقد نص على حبوط ثواب الأعمال بمجرد الردة كذا نص عليه في "الأم".

وهي مسألة نفيسة مهمة غفل عنها الأصحاب.

قوله: أما الصحة المطلقة فلها شرط واحد وهو الإسلام. انتهى.

وهذا الكلام يؤخذ منه أن ولد المسلم يصح حجه مع اعتقاده الكفر، لأنه محكوم ببقائه على الإسلام، وقد سبق الكلام على المسألة في أوائل الوضوء.

قوله: ويجوز للولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز وعن المجنون. . . . إلى آخره.

وسكت رحمه الله عن العبد وقد تعرض له الإمام فقال: إن كان بالغًا فليس للسيد أن يحرم عنه. ومفهوم كلامه يقتضي الجواز في الصغير.

قال ابن الرفعة: والقياس أن يكون كتزويجه.

(1) سورة الزمر: 15.

(2)

أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 203

قلت: وقد رأيت في "الأم" الجزم بالصحة من غير تقييد بالكبير فقال في أول كتاب الحج: وإذا أذن للمملوك بالحج أو أحجه سيده كان حجه تطوعًا. هذا لفظه.

وأحجه بالهمز معناه: صيره حاجًا، والتخريج على التزويج كما قاله ابن الرفعة مردود؛ فإن الوصي والقاضي يحرمان عن الصبي وإن لم يزوجاه؛ وذلك لما فيه من حصول الثواب والتمرين له من غير لزوم مال.

قوله: وأما وجوب حجة الإسلام فتعتبر فيه هذه الشرائط؛ فلا يخاطب بالحج كافر أصلي في كفره ولا عبد ولا صبي ولا مجنون. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن إطلاق هذه العبارة بالنسبة إلى الكافر ليس بجيد فقد ذكر في الصلاة أن الكفار مأمورون بالصلاة وغيرها، وعبر باللفظ الذي نفاه هاهنا وهو لفظ الخطاب، والمذكور هناك هو الموافق لقواعد الشافعي رحمه الله.

نعم: لا يلزم في كفره بإيقاع الفعل، وهو المراد.

الأمر الثاني: أن الرافعي رحمه الله قد احترز بالأصلي عن المرتد فإنه مخاطب بالحج كما صرح به الشيخ في "التنبيه" فقال: إنه يجب عليه ولا يصح منه، بعد أن ذكر أن الكافر الأصلي لا يجب عليه.

فإن قيل: فما فائدة تكليف المرتد بذلك؟ لأنه إن قتل أو مات على الردة فلا يمكن القول بالقضاء عنه لاستحالة وقوع الحج لكافر.

وأما النائم فلا فرق فيه عندنا بين المرتد والكافر الأصلي كما تقدم.

وإن عاد إلى الإسلام نظر إن لم يكن ماله باقيًا فلا سبيل أيضًا إلى تكليفه بإيقاعه لعدم قدرته عليه، وإن كان باقيًا لم يكن الوجوب عليه بعد

ص: 204

الإسلام من خواصه، بل الكافر الأصلي إذا أسلم كذلك أيضًا.

والجواب: أن نقول فائدته فيما إذا استمر بقاء ملكه في حال الردة مدة لو كان مسلمًا لاستقر عليه الفرض ثم أسلم ومات قبل أن يتمكن بعد إسلامه من الحج زمان الردة، والردة لا تسقط الواجبات كما تقدم في الصلاة والزكاة والصوم.

وكذلك إذا حصل استمراره في المدة المذكورة ولكن تلف في الردة أو بعد إسلامه وقبل التمكن ثم استفاد مالًا آخر ومات بعد استفادته لكن قبل أن يتمكن. وقد اقتصر النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية" على الجواب الثاني، واقتضى كلام النووي أنه لا فائدة له إلا ذلك، وصرح به ابن الرفعة أيضًا.

واعلم أن شرط الوجوب ملك المال، وفي ملك المرتد أقوال، ولابد من تخريج هذه المسألة عليها، وقد صرح بذلك الروياني في "البحر".

الأمر الثالث: أن النووي قد حذف من "الروضة" التقييد بالأصلي وأطلق عدم الوجوب على الكافر، وهو غفلة بلا شك مخالف لما قاله في "شرح المهذب".

قوله: لكن القادر على المشي يستحب له أن لا يترك الحج.

فيه أمران:

أحدهما: أن شرط الاستحباب والحالة هذه أن يكون واجدًا للزاد ويكون كسوبا. كذا نص عليه الشافعي في "الأم" و"الإملاء"، ونقله عنه الشيخ أبو حامد، وأصحابه ومنهم المحاملي فقال: قال الشافعي: فإذا لم يجد الزاد ولا كان كسوبًا وإن أراد أن يخرج ويسأل الناس في طريقه فأحب أن لا يفعل؛ لأن كراهة المسألة أبلغ من كراهة ترك الحج.

ص: 205

هذا لفظ الشافعي. . وذكر الشيخ في "المهذب" نحوه.

وقال النووي في شرحه له: إنه متفق عليه.

الأمر الثاني: أن يقتضي إطلاقه أنه لا فرق في استحباب المشي من الرجل والمرأة، وهو كذلك فقد صرح به جماعة منهم سليم في "المجرد" قال: إلا أن الاستحباب للرجل آكد. نعم رأيت في "التقريب" أن للولي في هذه الحالة منعها، والذي قاله من المنع متجه لا ينافي ما سبق، والظاهر أن الولي في كلامه هو العصبة، ويتجه إلحاق الوحي والحاكم به أيضًا.

قوله: ولو لحقه مشقة شديدة في ركوب الراحلة فلابد من وجود المحمل. انتهى:

والضابط في ذلك كما نقله في "الكفاية" عن الشيخ أبي محمد أن يلحقه من المشقة بين المحمل والراحلة ما يلحقه بين المشي والركوب.

قوله: قال في "الشامل" وعلى هذا لو كان تلحقه مشقة شديدة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة. انتهى.

والكنيسة: بكاف مفتوحة ونون مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت بعدها سين مهملة، وهى مأخوذة من الكنس وهو السير، ومنه قوله تعالى:{الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} (1) أي: المحجوبات.

وأما المحمل فهو: الخشبة التي يكون الركوب عليها.

قوله: ويشترط شريك يجلس في الشق الآخر وإن قدر على مؤنة المحمل بتمامه؛ وعلله في "الوسيط" بأنه بذل الزيادة وخسران لا مقابل له -أي: فتعسر إحمالها- انتهى.

(1) سورة التكوير: 16.

ص: 206

وهذا التعليل مقتضاه أن ما يحتاج إليه في سفره من الزاد وغيره يقوم مقام الشريك، وكذا الأمتعة المستأجر على حملها .. فتفطن لذلك فإن كلام كثير من المختصرات يقتضي تعين الشريك وليس توجيهه ببعيد.

وقد حذف من "الروضة" هذا التعليل ففاتته هذه المسألة وأوقع في الإلباس.

قوله: وحيث اعتبرنا وجدان الراحلة والمحمل فالمراد منه أن يملكهما أو يتمكن من تحصيلهما ملكًا أو استئجارًا بثمن المثل أو أجرة المثل. انتهى.

ذكر نحوه في "الروضة"، وهو يقتضي أن الوقوف على هذه الجهة والموصى بمنفعته لها أيضًا لا يوجبان الحج، والقياس خلافه بخلاف الموهوب ولو وقف ذلك عليه بخصوصه وقبله أو لم يقبله وصححناه فلا شك في الوجوب مع أنه خارج من كلامه.

نعم: لو حمله الإمام من بيت المال كأهل وظائف الركب من القضاة وغيرهم، ففي الوجوب نظر.

قوله: ولو لم يكن أهل ولا عشيرة ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان.

ثم قال: وهل يختص الوجهان بما إذا لم يملك ببلدته مسكنًا أم لا؟ أبدى الإمام فيه احتمالين؛ ورأى الأظهر التخصيص. انتهى.

واعلم أن الراجح على ما قد تحرر من كلام الرافعي في الوقف والوصية أن الأهل هو كل من تلزمه نفقته كالزوجة والقريب، وأن العشيرة هم الأقارب سواء كانوا من قبل الأب أو الأم؛ وحينئذ فيكون الجميع هنا سواء في جريان الوجهين، واتفقوا -كما قاله في "شرح المهذب" واقتضاه كلام الرافعي- على اشتراط نفقة الإياب عند وجود أحدهما على خلاف ما يدل عليه كلام "المحرر" و"المنهاج". ولا شك أن الشخص الواحد من أحد

ص: 207

النوعين كاف، وقد أفهم كلام الرافعي وغيره أن الوالي من أعلى ومن أسفل لا يلحقون بذلك، وفيه نظر.

وما قاله في المسكن قد صرح به في "البسيط" أيضًا فقال: ولا شك أنه لو كان له مسكن مملوك اعتبر نفقة الإياب ولا يكلف بيعه. قال: وفيه احتمال.

قوله: ويشترط -أي: لوجوب الحج- أن يكون الزاد والراحلة فاضلًا عن نفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهاب ورجوعه. انتهى.

فيه أمران:

أحدهما: أن كلامه يوهم جواز الحج والحالة هذه، وليس كذلك بل لا يجوز حتى يترك لهم نفقة الذهاب والإياب وإلا فيكون مضيعًا لهم، وقد رأيته مصرحًا به في "الاستذكار" للدارمي وغيره، ويأتي في الدين الحال نحوه، وقد أوضحوه في بابه.

الأمر الثاني: أن التعبير بالنفقة تبعه عليه في "الروضة"، والصواب التعبير بالمؤنة في الموضعين؛ لأنها تشمل النفقة والكسوة والخدمة والمسكن وإعفاف الأب، وكذلك أجرة الطبيب وثمن الأدوية حيث احتاج إليهما القريب والمملوك، وكذلك الأجنبي إذا تعين الصرف إليه.

وقد عبر في "المنهاج" بالمؤنة في الموضع الأول فقط ولابد منهما معًا لأنه قد يقدر على النفقة دون المؤنة فتسقط الأولى عن القريب دون الثانية.

قوله: وأظهر الوجهين عند الأكثرين اشتراط كون ذلك فاضلًا عن مسكنه وعبد يحتاج إليه يخدمه لزمانته ومنصبه، لكن لو كان العبد والدار نفيسين لا يليقان بمثله ولو أبدلهما لو في التفاوت بمؤنة الحج فإنه يلزمه

ص: 208

ذلك، هكذا أطلقوه هاهنا لكن في لزوم بيعهما في الكفارة إذا كانا مألوفين وجهان ولابد من عودهما هاهنا. انتهى ملخصًا.

فيه أمور:

أحدها: أن ما ذكره من لزوم جريانهما ليس بلازم فقد فرق بينهما في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" بأن الكفارة لها بدل بخلاف الحج إلا أن ما قالاه من الفرق ينتقض بالمرتبة الأخيرة من الكفارة فإنه لا بدل لها وأيضًا فالفطرة لا بدل لها مع أنها كالحج على ما نقله هو عن الإمام.

الأمر الثاني: أن تمثيل الرافعي بالعبد للاحتراز على الجارية النفسية المألوفة فإنها إن كانت للخدمة فهي كالعبد في جريان الوجهين، وإن كانت للاستمتاع لم يكلف بيعها حفظًا لما يؤدي إليه تعلقه بها من الضرر الظاهر. وهذا التفصيل لم أره ولكن لابد منه.

الأمر الثالث: أن مقتضى إطلاق الرافعي وغيره أنه لا فرق في اعتبار المسكن والخادم بين المرأة المكلفة بإسكان الزوج وإخدامه وبين غيرها، وهو متجه؛ لأن الزوجية قد تنقطع فيحتاج إليهما وكذلك اعتبار المسكن بالنسبة إلى المتفقهة الذين يسكنون بيوت المدارس والصوفية المعتادين الربط والحوانك.

الأمر الرابع: أن كلامه يقتضي عدم اعتبار الكتب في الفقه المحتاج إليها، وليس كذلك بل الصواب كما قاله في "شرح المهذب" أنها تبقى له.

قوله: والأصحاب منقسمون -أي: في ركوب البحر- إلى مثبتين للخلاف وإلى نافين، وللمثبتين طرق: أظهرها أنه إن كان الغالب فيه الهلاك لم يلزمه الركوب، وإن كان الغالب السلامة قولان: أظهرهما اللزوم.

ص: 209

والطريق الثاني قولان مطلقًا، والثالث لا يجب على الجبان، وفي غيره قولان، والرابع يجب على غير الجبان، قولان.

وأما النافون للخلاف فلهم طرق أيضًا:

أحدها: القطع بعدم اللزوم، وثانيها: القطع باللزوم، والثالث: إن غلب الهلاك لم يلزم وإن غلبت السلامة لزم، والرابع: إن كان جبانًا لم يلزم وإلا لزم. انتهى ملخصًا.

والحاصل أن في المسألة ثمانية طرق، فإن الرافعي رحمه الله لم يصحح شيئًا في هذه المسألة؛ لأنه وإن صحح التفصيل بين أن تغلب السلامة أو يغلب الخوف فهو إنما صححه على طريقة المثبتين للخلاف ولم يبين هل الأصح طريقة المثبتين أو طريقة النافين.

وإذا علمت ما ذكره ففيه أمور:

أحدها: أن الأصح من حيث الجملة هو التفصيل المذكور. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، وذكر في "المحرر" نحوه فقال: والأظهر أنه يلزمه ركوب البحر إن كان الغالب السلامة. هذا لفظه.

الأمر الثاني: أن النووي رحمه الله قد صحح أيضًا في "الروضة" هذا التفصيل وصحح مع ذلك طريقة القطع به لا طريقة إثبات الخلاف، ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي؛ فتفطن له.

ثم إنه لم يذكر من طرق مجئ الخلاف سوى الطريقة الثانية وحذف الثلاثة الباقية؛ فتوجه على "الروضة" اعتراضان؛ وهما إسقاط هذه الطرق وزيادة تصحيحين.

الأمر الثالث: ذكر في "الروضة" من زوائده في باب الحجر أنه لا يجوز

ص: 210

المسافرة بمال الطفل في البحر على المذهب وإن أوجبنا ركوبه في الحج.

وعلى قياس ما قاله يحرم إركاب الطفل وركوب الحامل بطريق الأولى؛ لأن حرمة النفس أبلغ من حرمة المال؛ فاعلم ذلك فإنه يقع كثيرًا.

وحينئذ فيكون من شروط الوجوب وضع الحامل وسقيها الولد اللبان، وكذلك فطام الولد إن تعينت للإرضاع.

فإن لم يتعين ففيه نظر.

وعلى قياس ما قاله النووي أيضًا يحرم إركاب البهائم، وكذلك الزوجة والأرقاء البالغون إذا لم يكن برضاهم.

نعم: إن كان إلى دار الإسلام فيجوز بلا شك.

قوله: ولو استوى الهلاك والسلامة فقد تردد كلام الأئمة في وجوب ركوبه فإن لم نوجبه ففي التحريم تردد لهم أيضًا. انتهى ملخصًا.

والأصح عدم الوجوب وأنه يحرم؛ كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". وكلام "المحرر" يدل لما صححه في المسألة الأولى، وقد تقدم لفظه فراجعه.

قوله: وإذا لم يوجب الركوب فلو توسط البحر هل له الانصراف أم عليه التمادي؟ فيه وجهان، وقيل: قولان، وهما مبنيان عند الأئمة على القولين في المحصر إذا أحاط العدو به من الجوانب هل له التحلل؛ إن قلنا له التحلل فله الانصراف وإن قلنا لا؛ لأنه لا يستفيد به الخلاص فليس له الانصراف.

قال في "التتمة": وهو المذهب. انتهى.

ثم ذكر أن الخلاف محله فيما إذا استوى ما قطعه مع ما بقي وكان له في الرجوع طريق آخر غير البحر، فإن لم يكن له طريق غيره فلا يجب جزمًا.

ص: 211

فإن تفاوت؛ فإن كان الباقي أقل لزمه جزمًا وإن كان أكثر لم يجب جزمًا.

إذا علمت ذلك ففيه أمور:

أحدها: أن ما جزم به من كون الخلاف في المحصور قولين قد صحح خلافه في باب الإحصار من "الشرحين الكبير" و"الصغير"، وحكى جعله قولين عن الإمام، والغزالي فقط.

الثاني: أن الصحيح في "الشرحين" و"الروضة" في مسألة الحصر هو جواز التحلل، ومقتضاه جواز الانصراف هنا، إلا أن نقله عن صاحب "التتمة" تصحيح المنع وسكوته عليه يوهم موافقته عليه؛ ولهذا أشار إلى ترجيحه في "الشرح الصغير" فإنه عبر بقوله رجح على البناء للمفعول وسكت عليه. وقد اغتر النووي بالمذكور هنا فصرح بتصحيحه في "أصل الروضة" ذهولًا عما يأتي في الإحصار غير أنه سلم من الاعتراض الأول لكونه لم يتعرض هنا للبناء المذكور، وكذلك لم يتعرض له أيضًا صاحب "التتمة" ولا الرافعي في "الشرح الصغير".

الثالث: أن هذه المسألة محتاجة إلى بيان حقيقتها؛ وذلك لأن الحج ليس على الفور فكيف يصح القول بوجوب الذهاب ومنعه من الانصراف؟

وقد يجاب بأمور:

منها: أن نقول. صورة المسألة إذا صدر ذلك ممن خشى الغصب فإن الراحج أن الحج يتضيق عليه.

ومنها: إذا أحرم بالحج وضاق وقته.

ومنها: إذا نذر من لم يحج أن يحج في تلك السنة.

ص: 212

إلا أنه قد تقدم أن محل الوجهين فيما إذا كان له في البر طريق يرجع فيه وحينئذ فلابد أن يزاد في التصوير أن تلك الطريق التي في البر قام بها من يمنع الذهاب دون الإياب أو لو رجع إليها المتوسط وسلكها لم يدرك الحج.

ومنها: أن يقال المسألة مفروضة حيث لم يتضيق الحج.

ومرادهم بوجوب الذهاب وعدم وجوبه إنما هو استقرار الوجوب وعدم استقراره.

قوله: فإن خرج مع المرأة من تأمن معه على نفسها من زوج أو محرم إما بنسب أو غيره فذاك، وإلا فإن وجدت نسوة ثقات فعليها أن تخرج معهن. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن العبد حكمه في النظر إلى سيدته والخلوة بها كحكم المحرم على الأصح عند الإذن وإن لم يكن محرمًا بدليل انتقاض الوضوء بمسه، وإذا كان حكمه حكم المحرم لزم أن يكتفي به هاهنا، وقد رأيته مصرحًا به في "ترتيب الأقسام" للمرعشي وفي "النكت" لابن أبي الضيف؛ وحينئذ فيرد على اشتراط الزوج أو المحرم.

الأمر الثاني: أن تعبيره يقتضي اشتراط ثلاث نسوة غيرها، وهذا بعيد لا معنى له، بل المتجه الاكتفاء باجتماع أقل الجمع وهو ثلاث، وأي معنى لاشتراط الأربعة بخصوصها، وأي دليل يدل عليه.

الثالث: أن ما شرطه في النسوة من كونهن ثقات يقتضي اشتراط بلوغهن؛ لأن الصبي ليس بثقة كما صرحوا به في مواضع. وهذا الذي اقتضاه كلامه يحتمل أن يكون الأمر فيه كذلك، وهو الظاهر لخطر السفر،

ص: 213

ويحتمل تخريجه على الخلاف المعروف في العدة.

ثم إنه لم يشترط ذلك في المحرم وغيره ممن يخرج مع المرأة وفيه نظر سببه أن الوازع الطبيعي أقوى من الوازع الشرعي.

الرابع: أنه يشترط في حق الخنثى أيضًا من المحرم ما يشترط في المرأة؛ لاحتمال الأنوثة؛ فإن كان معه نسوة من محارمه جاز، وإن كن أجنبيات فلا؛ لأنه يحرم عليه الخلوة بهن. كذا نقله في "شرح المهذب" عن القاضي أبي الفتوح، وصاحب "البيان"، وغيرهما، واقتصر عليه. وما قاله في الأجنبيات مبني على منع خلوة رجل بنسوة، والمشهور جوازه.

واعلم أن مراد الرافعي وغيره هنا بالأمن هو الأمن من خديعة المرأة واستمالتها إلى الفاحشة.

قوله: فإن لم تجد نسوة ثقات فأقوال؛ ظاهر المذهب منها أنه لا يلزمها.

والثاني: عليها أن تخرج مع المرأة الواحدة.

والثالث: واختاره جماعة -أن عليها أن تخرج وحدها؛ لما روي عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عدي، إن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله" قال عدي: فرأيت ذلك. (1) انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن هذا الذي صححه من كون الواحدة غير كافية إنما هو بالنسبة إلى الاستطاعة وعدمها، وأما جواز الخروج في أداء حجة الإسلام معها -أي: مع المرأة الواحدة- فجائز على الصحيح.

(1) أخرجه البخاري (3400) من حديث عدي رضي الله عنه.

ص: 214

كذا صرح به في "شرح المهذب" في ثلاثة مواضع من آخر باب الإحصار، وذكره أيضًا في "شرح مسلم" بعبارة أوضح من ذلك فقال ما نصه: فلو وجدت امرأة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها، هذا هو الصحيح.

ثم قال: واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر التجارة والزيارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة، فقال بعضهم: يجوز لها الخروج مع نسوة ثقات، وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم.

هذا كلامه، وحاصله أنهما مسألتان:

إحداهما: شرط وجوب حجة الإسلام.

والثانية: شرط جواز الخروج لأدائها فتفطن لذلك فإنه مهم التبس على كثيرين.

الأمر الثاني: ما نَبّه عليه الشيخ أبو حامد فقال: ونحن لا نشترط في سفر المرأة مع المرأة ملازمتها إياها بل لو مشت قدام القافلة أو بعدها فإنه يكفي. كذا نقله عنه في "شرح المهذب" وأقره.

الثالث: ذكره النووي في "شرح مسلم" في الكلام على حديث الخثعميه التي سألت عن أداء الفرض عن أبيها أن فيه فوائد منها جواز حج المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها وهو مذهبنا. انتهى.

وهذه المرأة لا يجب عليها مباشرة هذا الحج، لأن الشخص لا يجب عليه الحج عن غيره فيكون الذي قاله النووي فيها إما مناقض لما تقدم لكونه لم يشترط المحرم، وإن كان سألنا عن النسوة أو جوز ذلك لأنها مؤدية فرضًا فأشبه فرضها.

ص: 215

واعلم أن الظعينة الواردة في الحديث بظاء معجمة مفتوحة ثم عين مهملة مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ثم نون: هي المرأة تكون في الهودج، فإن لم تكن فيه فليست بظعينة. قاله الجوهري.

والحيرة: بكسر الحاء المهملة بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم راء مهملة: مدينة بقرب الكوفة.

والحديث المذكور رواه مسلم (1).

قوله: هذا حكم الفرض، وهل لها الخروج إلى سائر الأسفار مع النساء الخلص؟ فيه وجهان لأنه لا ضرورة إليها، والأصح عند القاضي الروياني المنع. انتهى كلامه.

فيه أمران:

أحدهما: أن الروياني قد صحح في "البحر" الجواز فقال إنه الأصح والأقيس، إلا أن ما نقله عنه الرافعي صحيح أيضًا فإنه صحح في "الحلية" وعبر بالأصح أيضًا، والماوردي وغيرهما، ونص عليه الشافعي في كتاب العدد من "الأم" كما نقله أبو حامد والماوردي وصححه النووي في كتبه، وحكى في "شرح المهذب" اتفاق الأصحاب على تصحيحه (2).

قوله: وفي كون المحرم أو الزوج شرط الوجوب أو التمكن اختلاف رواية عنهما -يعني أبا حنيفة وأحمد.

قال الموفق ابن طاهر: ولأصحابنا مثل هذا التردد في النسوة الثقات. انتهى كلامه.

وقد أسقط النووي في "الروضة" هذا الخلاف وجزم بأنه شرط للوجوب.

وفائدة الخلاف فيما إذا استطاعت المرأة ولم تجد النسوة، فإن جعلناهن

(1) لم يورده مسلم فلعله سبق قلم منه.

(2)

الأمر الثاني سقط من أوبياض في ج.

ص: 216

شرطًا للتمكن استقر الوجوب عليها حتى يقضى عنها لو ماتت، فإن جعلناهن شرطًا للوجوب فلا.

وهذه الفائدة ذكرها الرافعي بعد ذلك في نظير المسألة. وما نقله ابن طاهر في النسوة يطرد كما قاله ابن الرفعة في المحرم والزوج.

قوله: أما المال فلو خاف على ماله في الطريق من عدو أو رصدي لم يجب الحج، فإن كان الرصدي يرضى بشيء يسير، لكن إذا كانوا كفارًا فأطاقوا مقاومتهم فيستحب لهم أن يخرجوا ويقاتلوا لينالوا ثواب الحج والجهاد جميعًا، وإن كانوا مسلمين لم يستحب الخروج والقتال، ويكره بذل المال للرصديين لأنهم يحرضون بذلك على التعرض للناس. انتهى كلامه.

فيه أمران:

أحدهما: أن عدم الوجوب محله إذا كان الحاج هو الباذل، فإن بذل الإمام أو نائبه وجب الحج. كذا نقله الطبري شارح "التنبيه" عن "التجربة النظامية" لإمام الحرمين وسكت عن الأجنبي.

والقياس وهو مقتضى تخصيص الإمام بالإمام ونائبه: عدم الوجوب، لما فيه من المنة.

الثاني: أن مقتضى كلامه تعميمًا وتعليلًا وسياقًا: كراهة البذل للمسلم والكافر معًا، ودلالة لفظه على المسلم أظهر من دلالته على الكافر؛ فإن الكراهة مذكورة عقب ذكره للمسلمين لكنه ذكر في باب الإحصار أن الكراهة مختصة بالكفار، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى، ووقع الموضعات كذلك في "الروضة".

قوله: ولو وجدوا من يبدرقهم بأجرة فوجهان: أظهرهما عند الإمام وجوب الحج.

ص: 217

انتهى ملخصًا. فيه أمور:

أحدها: أن الرافعي في "المحرر" قد أطلق ترجيح الوجوب تقليدًا للإمام، ثم تبعه في "المنهاج" و"شرح المهذب" على ذلك، والفتوى على عدم الوجوب فقد أجاب به العراقيون وكذلك القاضي الحسين وجزم به صاحب "التنبيه" وأقره عليه النووي فلم يستدركه عليه، ونص عليه الشافعي، وممن نقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" فثبت أن الفتوى عليه؛ ولهذا لم ينقله في "الروضة" و"الشرح الصغير" إلا عن الإمام.

الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تبع الرافعي في حكاية الخلاف وجهين ثم خالف في "المنهاج" فجعله قولين، وهو ذهول سببه تقليد "المحرر" في تعبيره بالأظهر.

الثالث: أن هذا الخلاف فائدته في العصيان بعد الموت ووجوب الحج عنه لا في تعجيل الإعطاء في حال الحياة فإن الحج على التراخي.

نعم إن خشي الغصب أو نذر الحج في سنة معينة فواضح.

وما ذكرناه في هذه المسألة يأتي مثله في المسألة الآتية أيضًا.

واعلم أن البدر بفتح الباء وإسكان الدال مهملة ومعجمة هي الخفارة، وهي عجمية معربة. قاله ابن الصلاح.

قوله: وإذا لم يخرج المحرم إلا بأجرة فقد رتب الإمام وجوب استئجاره على وجوب البدرقة، وجعل اللزوم هاهنا أظهر. انتهى.

ذكره مثله في "الروضة". وتخصيصهما بالمحرم يشعر بأن الزوج والنسوة ليسوا كذلك، والمتجه إلحاقهم به، كذلك قوام السفينة أيضًا.

قوله: ويشترط وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة بحمل

ص: 218

الزاد والماء منها، فإن كان العام عام جدب وخلا بعض تلك المنازل عن أهلها انقطعت المياه لم يلزمه الحج وإن قدر على الحمل؛ لما فيه من المؤنة العظيمة.

ثم قال: ويحتمل حملها قدر ما جرت العادة به في طريق مكة كحمل الزاد من الكوفة إلى مكة وحمل الماء مرحلتين أو ثلاثة. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما ذكره أخيرًا في الماء تبعه عليه في "الروضة".

ولقائل أن يقول: إن كانت صورته عند انقطاع بعض المياه مما كان في هذه المسافة فهو مخالف لما تقدم من عدم الوجوب وإن كانت عند عدم الانقطاع فاقتصاره على المرحلتين والثلاث يدل على عدم الوجوب من الزيادة لأجل نقل مؤنته فهل هو كذلك؟

والجواب: أن كلامهم يشعر باغتفارها مطلقًا لحق مؤنته، وألحق به سيلم وغيره علف الدابة في اعتبار هذه المسافة وهو متعين لا شك فيه؛ فقد أشار النووي في "شرح المهذب" لذلك فقال بعد نقل اشتراطه في كل منزلة عن البغوي والمتولي ما نصه: وينبغي أن تعتبر فيه العادة كالماء. هذه عبارته. وقد ظهر أن الذي ذكره بحثًا مصرح به إلا أنه لم يطلع عليه.

الأمر الثاني: أن إطلاقه يقتضي أنه لا فرق بين أن يمكنه سلوك طريق آخر أم لا، وقياس ما ذكره في الإحصار خلافه كما ستعرفه.

قوله: وذكر في "التهذيب" أنه إذا شرع السفيه في حج الفرض أو في حج نذره قبل الحجر بغير إذن الولي، أو في حج تطوع ثم حجر عليه لم يكن للولي تحليله، وإن شرع في التطوع بعد الحجر كان له التحليل إن كان ما يحتاج إليه للحج يزيد على نفقته المعهودة ولم يكن له كسب. انتهى.

ص: 219

ذكر في الروضة مثله. وقوله فيه بغير إذن الولي هو متعلق بقوله (شرع) لا بقوله (نذره) فاعلمه وتفطن له.

إذا علمت ذلك فقد بقي من أقسام المسألة قسم لم يذكراه وهو: ما إذا شرع فيما نذره بعد الحجر، والكلام فيه متوقف على أن هذا النذر هل يصح أم لا؟ وستعرف حكمه في أول النذر إن شاء الله تعالى.

قوله: ومن شروط الحج ما ذكره البغوي وغيره أن يجد رفقة يخرج معهم في الوقت التي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه، فإن خرجوا قبله لم يلزمه الخروج معهم، وكذا إن أخروا بحيث لا يبلغوا إلا بقطع أكثر من مرحلة في اليوم، هذا الإطلاق محمول على غالب الحال، فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها فلا حاجة إلى الرفقة، وبه صرح في التتمة. انتهى كلامه.

وما ذكره من كون الإطلاق محمولًا على ما قاله في "التتمة" تبعه عليه في "الروضة" وهو ممنوع؛ فقد صححوا في كتاب التيمم وغيره أن الإنقطاع عن الرفقة عذر وإن كان الطريق آمنًا؛ لما فيه من الوحشة.

قوله: ويجب الحج على التراخي، وقال مالك وأحمد والمزني: إنه على الفور، ويروي مثله عن أبي حنيفة. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن العزم شرط في جواز التأخير كما سبق إيضاحه في الصلاة.

الأمر الثاني: أنه متى اجتمع عليه مع حجة الإسلام حجة القضاء وجب عليه المبادرة إلى فرض الإسلام وذلك لازم؛ لأنهم صححوا أن القضاء يجب على الفور، وقالوا أيضًا: إن حجة الإسلام يجب تقديمها على حجة القضاء؛ فلزم من هاتين القاعدتين وجوب المبادرة كما قلناه، وهكذا القول

ص: 220

في العمرة أيضًا.

ويجب أن يكون الحكم كذلك فيما لو قال وهو في أوائل ستين مثلًا: لله عليّ أن أحج في سنة إحدي وستين حجة ليست حجة الإسلام.

الأمر الثالث: أن ما نقله عن أبي حنيفة قد تابعه عليه في "الروضة" وعبر بقوله: وقال مالك وأبو حنيفة، لكن قال المحاملي في "المجموع": قال المزني: ليس لأبي حنيفة في المسألة نص ولكن اختلف صاحباه؛ فقال محمد بن الحسن كقولنا، وقال أبو يوسف: إنه على الفور، فأخذ أصحابه بقوله؛ فاستفدنا منه أنه قول الحنفية لا قول أبي حنيفة، وعبارة الرافعي أبعد عن الاعتراض من عبارة "الروضة".

قوله: لنا أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخّره النبي صلى الله عليه وسلم من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج، وفتح مكة سنة ثمان، وبعث أبا بكر أميرًا على الحج سنة تسع، وحج هو سنة عشر، وعاش بعدها ثمانين يومًا ثم قبض إلى -رحمة الله تعالى-. انتهى.

وهذا الذي جزم به من نزول الفرض سنة خمس قد صحح ما يخالفه في أوائل السير فقال: وفرض الحج سنة ست، وقيل: سنة خمس. هذا لفظه، وتبعه في "الروضة" على الموضعين، وصحح ابن الرفعة أيضًا أنه في ست، ونقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب، وقيل: إنه فرض سنة ثمان قاله الماوردي في "الأحكام السلطانية"، وقيل سنة تسع حكاه في "النهاية".

وقوله: (وعاش بعدها) أي: بعد عوده من الحج لا بعد الحج نفسه، فاعلمه؛ فإن الحج انقضى ثالث عشر وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول.

ص: 221

وهذه الأمور التي نقلها الرافعي هنا عنه عليه الصلاة والسلام كلها صحيحة مشهورة.

قوله: وإن تخلف من وجب عليه الحج ومات قبل حج الناس تبين عدم الوجوب، وإن مات بعدما حج الناس استقر الوجوب عليه ولزم الإحجاج من تركته.

ثم قال ما نصه: قال في "التهذيب": ورجوع القافلة ليس بشرط حتى لو مات بعد انتصاف ليلة النحر ومضى بعد السير إلى مني والرمي بها وإلى مكة والطواف بها استقر الفرض عليه.

فإن مات أو جن قبل انتصاف ليلة النحر لم يستقر.

انتهى كلامه، وفيه أمور:

أحدها: أن ما نقله عن "التهذيب" من اشتراط المضى إلى منى والرمي بها وأقره عليه وهو كذلك فيه، وقد ذكره أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" وجزم به ولم يعزه إلى أحد، واشتراطه غلط فإن المشروط في استقرار الفرض إنما هو مضى زمن يمكن فيه فعل الأركان دون ما عداها من الواجبات؛ بدليل عدم اشتراط الرمي في أيام منى والمبيت في لياليها وغير ذلك، حينئذ فلا يشترط مضى زمن يسع الذهاب إلى منى ويسع الرمى بها. وهذه المسألة لم يذكرها في "الروضة" بل ذكرها قبيل المواقيت، وعبر عن قول الرافعي، فإن مات أو جن قبل انتصاف ليلة النحر بقوله قبل ذلك مشيرًا إلى أن الطواف والرمى وغيرهما مما ذكر هو تعبير مؤكد للاعتراض ماض على الاشتراط دافع التأويل فإن عبارة الرافعي ربما تقبل التأويل.

الأمر الثاني: أنه أهمل الحلق وما يقوم مقامه وهو التقصير، ولابد من

ص: 222

مضى زمن يسعه إذا جعلناه ركنًا.

الثالث: أنه لم يذكر السعى ولابد منه.

نعم إذا دخل مكة قبل الوقوف فطاف القدوم جاز الإتيان بالسعى عقبة؛ حينئذ فإذا كان دخول الناس قبل الوقوف لم يشترط للسعى زمان بعد الانتصاف.

الأمر الرابع: أن المبيت بمزدلفة عند الرافعي لا يجب؛ وحينئذ فيكفي في زمن الطواف وغيره مما شرطناه كالسعي والحلق أن يكون واقعًا عقبة انتصاف الليل، ويشترط مع ذلك أن يكون السير بهذه الأمور واقعًا بعد الانتصاف لإمكان سيره من عرفة إلى مكة خصوصًا إذا لم يشترط الجمع بين الليل والنهار بعرفة.

قوله: ولو لم يخرج بحج بعد الوجوب حتى مات فقيل: لا يعصي لأنا جوزنا له التأخير، وأظهرهما: نعم، وإلا ارتفع الحكم بالوجوب والمجوز هو التأخير دون التفويت، وقيل: يعصي الشاب دون الشيخ. انتهى كلامه.

فيه أمور مهمة سبق بعضها في أوائل كتاب الصلاة، والذي يخص ما نحن فيه أن اسم الشيخ يطلق عند الفقهاء واللغويين على من جاوز الأربعين والقائل هنا بتعصية الشيخ دون غيره قيده بالشيخ الهرم، كذا نقله القاضي الحسين وغيره، وذكره أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" ولابد منه.

قوله: يبدأ بحجة الإسلام ثم بالقضاء. . إلى آخره.

اعلم أن هذا الكلام يستثنى منه مسألة ذكرها الروياني في "البحر"

ص: 223

حاصلها تقديم التطوع على النذر فقال: لو حج الفرض ثم نذر الحج في العام الثالث جاز أن يتطوع بالحج في العام الثاني.

قال: وفي حجه عن غيره وجهان. هذا كلامه.

والسبب في جواز التقديم هاهنا أَنَّا إن أوقعنا المفعول في السنة الثانية عن المنذور لزم تقديم العبادة البدنية على وقتها وهو ممتنع، وإن منعناه بالكلية لزم انسداد في "الروضة" من "زياداته" قبل الكلام على السعي نقلًا عن الروياني أيضًا من غير مخالفة أنه لو نذر طوافًا من زمن معين فطاف في غيره والنذر في ذمته لا يصح على الأصح، وسنذكر لفظه هناك.

قوله: ومن عليه فرض ليس له أن يحج عن غيره؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من شبرمة"؟ قال: أخي أو قريب لي.

قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال:"حج عن نفسك، ثم عن شبرمة"(1).

وفي رواية: "هذه عنك ثم حج عن شبرمة". انتهى. شبرمة: بشين معجمة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة ثم راء مضمومة، ذكره ابن منده وأبو نعيم في "الصحابة" وتوفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) أخرجه أبو داود (1811) وابن ماجه (2903) وابن خزيمة (3039) وابن حبان (3988) والدارقطني (2/ 267) والطبراني في "الكبير"(12419) وفي "الأوسط"(1440) وفي "الصغير"(630) وأبو يعلي (2330) والبيهقي في "الكبرى"(8458).

وابن الجارود في "المنتقى"(499) وتمام في "الفوائد"(1340) من حديث ابن عباس.

قال البيهقي: إسناده صحيح، وليس في هذا الباب أصح منه.

وقال الألباني: صحيح.

ص: 224

والرواية الأولى من هذا الحديث رواها أبو داود بإسناد على شرط مسلم، وأما الرواية الثانية فرواها البيهقي وقال: إسنادها صحيح، ولفظه:"قال: فاجعل هذه عنك ثم حج عن شبرمة".

قوله: وقول "الوجيز" بالقضاء ثم بالنذر يعلم بالواو؛ لأن الإمام أشار إلى تردد في تقديم القضاء على النذر، والصحيح العكس. انتهى.

أعلم أن هذا التردد الذي ذكره الإمام ليس هو خلافًا للأصحاب؛ فإن القول بتقديم النذر احتمال لنفسه، كذا قاله النووي في "شرح المهذب" قال: وقد اتفقوا على تقديم القضاء.

والذي قاله النووي أولًا من أن تقديم النذر احتمال له مسلم وإن كان الرافعي قد أقامه في "شرح الصغير" أيضًا وجهًا كما دل عليه كلامه هنا حيث ذكر أنه يعلم بالواو.

وأما دعواه الاتفاق على تقديم القضاء فمردود ففي تعليق القاضي أبي الطيب الجزم بوجوب الأسبق منهما لأنهما جميعًا من جهته.

قوله: ولو استؤجر من لم يحج للحج في الذمة جاز وطريقه أن الحج عن نفسه ثم عن المستأجر في سنة بعدها. انتهى.

وهذا الكلام قد تابعه عليه في "الروضة" وهو يشعر بأن الأجير يمتنع عليه استئجار من يقوم بهذا الحج الذي استؤجر عليه وذلك يحتاج إلى نقل صريح، والذي يظهر جوازه كاستئجار الوارث عن مورثه وإن كان لم يحج.

قوله: ولو استأجر المغصوب رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة إحداهما حجة الإسلام والأخرى حجة قضاء أو نذر فوجهان: أحدهما، لا يجوز؛ لأن حجة الإسلام لا تتقدم على غيرها.

ص: 225

وأظهرهما -ويحكي عن نصه في الأم: يجوز؛ لأن غيرها لا يتقدم عليها، وهذا القدر هو المرعي؛ فعلى الأول إن أحرم الأجيران معًا صرف إحرامهما إلى نفسهما، وإن سبق أحدهما وقع إحرامه عن المغصوب وانصرف إحرام الآخر إلى نفسه. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: في إيضاح تعليل الوجهين؛ فأما الأول فقد وقع فيه اضطراب في نسخ الرافعي؛ ففي بعضها ما ذكرناه وهو الصواب ومعناه أن حجة الإسلام في مثالنا لا تتقدم على غيرها وتقدمها لابد منه.

وأما تعليل الثاني فوجه ما قاله فيه أنه إن أحرم بهما معًا أو بفرض الإسلام أولًا فواضح عدم تقدم غير فرض الإسلام على فرض الإسلام، وأن تقدم إحرام غير الفرض وقع عن الفرض كما تقدم.

فإذا أحرم الآخر به -أي بالفرض- وليس هو عليه انصرف إلى ما بقي عليه وهو القضاء أو النذر.

الثاني: قد تقرر من كلامه أن الاعتبار بالإحرام مع أن الذي أحرم أولًا قد يتأخر تحلله وأداؤه الأركان عن المتأخر فيؤدي أيضًا إلى المحذور المذكور، بل التقدم حقيقة إنما وجد في مثالنا في الحجة التي تأخر إحرامها؛ لأن الحجة عبارة عن مجموع الأفعال والمجموع قد تأخر عن تلك.

ولو قيل بالتعارض ووقوعهما عن الأخير لم يبعد.

وفائدة هذا كله فيما إذا فاوت في الجعل فقال: من حج عنى حجة الإسلام فله ألف مثلًا ومن حج القضاء فله خمسمائة، سواء صدر ذلك من مغصوب أو موص.

ص: 226

ولو أحرم أحدهما بالقضاء أو النذر وتحلل منه التحللين ثم شرع الآخر في حجة الإسلام انعكس الحال كما لو فعل المستأجر ذلك، ويحتمل أن يقال: إنه يقع عن الأخير حيث حكمنا بالانعكاس؛ لأنه لم يأت بالمأذون فيه، إلا أن قول الرافعي وإن سبق أحدهما رفع إحرامه عن المغصوب ينفيه.

الثالث: أن كلامه في التقدم يحتمل معنيين:

أحدهما: مفهومه المطلق وجميع ما سبق إنما هو تفريع عليه.

والثاني: أن يريد به بالنسبة إلى سنتين فيكون مراده بقوله في تعليل الأول لأن حجة الإسلام لا تتقدم على غيرها أنها لم تقع في سنة متقدمة على سنة القضاء والنذر، وهكذا أيضًا مراده في تعليل الثاني، وهذا الاحتمال الثاني هو ظاهر كلامه؛ لأنه قد جزم في تعليل الأول بأن حجة الإسلام لم تتقدم على غيرها، وهو صحيح بالنسبة إلى السنة لا إلى التقدم الحقيقي؛ فإن فرض الإسلام قد يقدم على غيره وقد يتقدم غيره عليه وقد يقفان معًا، والرافعي قد سَلّم هذا في تعليل الوجه الثاني ولكن انتقل إلى شئ آخر.

قوله: وأما حجة التطوع فهل يجوز الاستنابة من المغصوب فيها واستنابة الوارث للميت؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لبعد العبادات البدنية عن قبول النيابة وإنما جوزنا في الفرض للضرورة، وأصحهما -وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد: نعم؛ لأنه عبادة تدخل النيابة في فرضها فتدخل في نفلها كأداء الزكاة. انتهى كلامه.

وما أطلقه هنا من جواز ذلك للوارث محله إذا كان الميت قد أوصى به، أما إذا لم يوص فلا يجوز على المعروف.

ص: 227

هذا حاصل ما ذكره في كتاب الوصية فإنه نقل عن "أمالي السرخسي" خاصة ما يدل على الجواز، ثم قال: لكن العراقيين أطلقوا أنه إن لم يوص بحج التطوع لم يحج عنه. هذا لفظه، وتبعه عليه في "الروضة" على ذلك بعد أن أطلق أيضًا المسألة هنا.

نعم؛ صرح هنا بالمنع في "شرح المهذب" وزاد على ذلك فصرح بأنه لا خلاف فيه، ذكر في الكلام على قول "المهذب" وتجوز النيابة في حج الفرض.

قوله في المسألة: وإن لم نجوز الاستئجار للتطوع فاستأجر وقع الحج عن الأخير، وفي استحقاق أجرة المثل قولان مرويان عن الأم:

أحدهما: أنه لا يستحق لوقوع الحج عنه.

وأظهرهما عند المحاملي وغيره أنه يستحقها لأنه دخل في العقد طامعًا في الأجرة وتلفت منفعته عليه وإن لم ينتفع بها المستأجر فصار كما لو استأجر بحمل طعام مغصوب. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن تعليل الرافعي بقوله لأنه دخل في العقد طامعًا في الأجرة يؤخذ منه أن محل الخلاف فيما إذا جعل الأجير فساد الإجارة، فإن علم فسادها لم يستحق شيئًا بلا خلاف، وقد صرح صاحب التتمة بما اقتضاه كلامه.

وحذف النووي هذا التعليل من "الروضة" ثم استدرك ذلك فيها وفي "شرح المهذب" ناقلًا له عن التتمة فقط.

الأمر الثاني: وقد استدركه أيضًا النووي في الكتابين المذكورين ناقلًا له عن "التتمة" أيضًا أن القولين إنما هما في المعضوب خاصة، فإن أوصى الميت بحجة تطوع وقلنا: لا تدخله النيابة فحج الأجير وقع عن نفسه ولا أجرة له بلا خلاف لا على الوصي ولا على الوارث ولا في التركة على خلاف ما يوهمه كلام الرافعي من جريانها في الميت أيضًا.

ص: 228

الأمر الثالث: أن ما ذكره الرافعي في آخر كلامه وهو الاستئجار على حمل المعضوب قد حذفه النووي من "الروضة" ففاتته هذه المسألة المهمة، والقياس فيها استحقاق أجرة المثل لا المسمى، وفي كلام الرافعي أيضًا إشعار به.

الأمر الرابع: أن مقتضى نقل الرافعي رجحان الاستحقاق، ولهذا أطلق النووي تصحيحه في أصل "الروضة"، والصواب خلافه؛ لأن أصح القولين تقديم المباشرة على الغرور كما أوضحوه في باب الغصب وغيره بل سيأتي بعد هذا بقليل من كلامهما ما يوضحه.

قوله: والعليل الذي يرجى زوال علته ليس له أن يحج عن نفسه كما مر، فإن أحج وشفي لم يجزئه ذلك قولًا واحدًا، وإن مات ففيه قولان:

أحدهما: يجزئه لأنه تبين أنها كانت غير مرجوة الزوال.

وأظهرهما عند الأئمة: لا؛ لأن الاستنابة لم تكن جائزة له؛ وعلى هذا فيكون نفلًا ويقع للأجير.

وقيل للعليل:

ولو استناب من لا يرجو زوالها؛ ثم شفى فعلى القولين، وقيل: لا يقع عن العليل قطعًا. انتهى ملخصًا.

واعلم أن قول الرافعي: (يحج) هو بضم الياء، وقوله:(أحج) هو بالهمزة في أوله ومعناهما استنابة غيره في ذلك، ولهذا عدل عنهما في "الروضة" وعبر بنحو ما ذكرناه.

إذا علمت ذلك ففيما ذكره في الصورة الأولى أمور:

الأول: أن الخلاف المذكور فيها محله في ما إذا حج النائب في حياة

ص: 229

المريض، فإن حج بعد موته أجزأه بلا خلاف؛ كذا قاله الماوردي في "الحاوي"، ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره.

الأمر الثاني: أن تعليل الرافعي قول الإجزاء بأنا تبينا أن العلة غير مرجوة الزوال يقتضي أن محل الخلاف فيما إذا مات بذلك المرض، فلو مات بسبب عارض بأن قتل أو لسعته حية ونحوه أو وقع عليه سقف لم يجزئه قولًا واحدًا؛ لأنا لم نتبين كون المرض غير مرجو الزوال، وهذا التعليل قد أسقطه من "الروضة" ثم اغتر هو في "شرح المهذب" بما ذكره في "الروضة" فقال: وقد أطلق الأصحاب "المسألة"، والظاهر أن مرادهم ما دامت بذلك المرض، ثم ذكر ما تقدم ذكره.

الثالث: أن القولين في الإجزاء لا يخصان بحال الموت، بل يجريان أيضًا فيما إذا تفاحش ذلك المرض فصار ميئوسًا منه كما صرح به خلائق كثيرون، وجزم به في "شرح المهذب" أيضًا، وهو واضح.

الرابع: أن المرض مانع من تعلق الوجوب بالعليل لأنه لا يمكنه الحج بنفسه ولا بغيره وحينئذ فإذا كان غير مرجو فاستنابه ثم برئ ثم مات منه فلا يجب القضاء من تركته إلا إذا كان قد تمكن قبل ذلك المرض أو بعده، وهكذا قياس عليه، وقد نبه على ذلك الدارمي في الاستذكار ناقلًا له عن النص فتفطن له.

قوله في المسألة: فإذا قلنا لا يقع عن المستأجر، فلا يستحق أجره في أصح القولين؛ لأن المستأجر لم ينتفع به. انتهى.

وتصحيحهم عدم الاستحقاق هنا مخالف لما سبق قريبًا من تصحيحهم الاستحقاق في الاستئجار للتطوع، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الاختلاف فهل هو أجرة المثل أو المسمى؟ فيه وجهان. فأحدهما أنا هل نتبين فساد

ص: 230

الاستئجار أم لا؟ انتهى.

تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح، والأصح أنه أجرة المثل، كذا صححه في "شرح المهذب".

قوله: وإن قلنا بوقوعه عن التطوع المستأجر فعن الشيخ أبي محمد أنه لا يمتنع تخرج ما يستحقه الأجير على هذين الوجهين؛ لأن الحاصل غير ما ابتغاه. انتهى.

والأصح هنا استحقاق المسمى؛ كذا صححه في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" واقتضى كلامه في "الشرح" المذكور تصحيح طريقة القطع فإنه قال بعد تصحيح ما نصه: وهذا هو ظاهر كلام البغوي والأكثرين، وقال الشيخ أبو محمد: لا يبعد تخريجه على الوجهين.

قوله: وأما المعضوب فيلزمه الاستنابة في الجملة سواء طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوبًا.

ثم قال بعد ذلك: ولو امتنع من الاستئجار فهل يستأجر عنه الحاكم؟ فيه وجهان أشبههما: لا. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن شرط الاستنابة أن يكون بين المعضوب وبين مكة مسافة القصر، فإن كان أقل فلا، بل يكلف الحج بنفسه. قاله في "التتمة" ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره عليه وعلله بأن المشقة لا تكثر عليه.

الثاني: أن هذا الخلاف الذي ذكره لا يأتي في القسمين المذكورين وهما: من بلغ معضوبًا، ومن طرأ عليه العضب بعد وجوب الحج، بل إنما يأتي في القسم الثاني خاصة؛ وذلك لأن من بلغ معضوبًا لا تلزمه الاستنابة على

ص: 231

الفور بخلاف من طرأ عليه العضب بعد وجوب الحج فإنه تلزمه المبادرة إلى الاستنابة في أظهر الوجهين عند الإمام وغيره كما أوضحه الرافعي في الكلام على أن الحج لا يجب على الفور، وإذا علمت ما ذكرناه علمت أن الخلاف المتقدم لا يمكن إحرازه فيما إذا بلغ معضوبًا لعدم الوجوب على الفور بخلاف من طرأ عليه العضب بعد الوجوب، ولما تكلم الرافعي على المسألة في الكلام على وجوب الحج على التراخي خص الخلاف بالحالة الثانية كما هو الصواب وأشار هناك إلى أن الحاكم على هذا الوجه مخير بين أن يستأجر وبين أن يجيره على الاستئجار بخلاف ما تشعر به عبارته هنا من تعين الاستئجار.

الثالث: أن ما ذكرنا في استئجار الحاكم عند امتناع المعضوب من الإجارة يأتي بعينه في الإذن للمطيع، لكن ذكر النووي في "شرح المهذب" أن المعضوب إذا لم يأذن ألزمه الحاكم فإن امتنع فالوجهان.

والذي قاله من الإلزام لا يستقيم، ولم أر من قال به، والتعليل المذكور في الاستئجار والنيابة موجود بعينه في الإلزام، وهذا خيروا بينهما على القول بوجوب الاستئجار كما تقدم، فالصواب أنه أيضًا على الوجهين والقول بالتخيير صريح فيه وفي إبطال ما قاله النووي.

قوله: ولوجوب الاستنابة على المعضوب طريقان: أحدهما: أن يكون مالكًا لمال يستأجر به من يحج عنه، والثاني: أن يتبرع غيره بالحج عنه.

فإن كان المطيع أحد فروعه لزمه القبول ويشترط فيه أن لا يكون المطيع ضرورة ولا معضوبا وأن يكون موثوقًا بصدقه.

انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما ذكره رحمه الله من كونه غير معضوب قد تابعه

ص: 232

علمه في "الروضة" ومحله إذا كان فقيرًا، فإن كان غنيًا يمكنه الاستئجار عنه لزمه قبوله إذا كان ابنًا؛ كذا ذكره الدارمي في "الاستذكار"، وحكى النووي في "شرح المهذب" عن "التتمة" نحوه، وزاد فحكى في الأجنبي وجهين من غير ترجيح، وعلل عدم اللزوم بأنه في الحقيقة بذل المال.

الثاني: أن النووي في "الروضة" قد توهم أن وجوب القبول في الفروع مقطوع به فصرح بنفي الخلاف فقال: فيلزمه القبول والحج قطعًا، ثم اطلع بعد ذلك على خلاف فيه فاعترض به على الرافعي ظنًا منه أنه الذاكر لنفي الخلاف.

قوله: فلو بذل الماشي الطاعة وجب القبول إن لم يكن الماشي أبًا أو ابنًا، فإن كان فوجهان.

ثم قال: وإذا أوجبنا القبول والمطيع ماشي فهو فيما إذا كان مالكًا للزاد فإن عول على الكسب في الطريق ففي وجوب القبول وجهان أولى بالمنع لأن الكاسب قد ينقطع في الأسفار وإن لم يكن كسوبًا أيضًا، وعول على السؤال فأولى بالمنع لأن السؤال قد يرد. انتهى كلامه بحروفه.

فيه أمور:

أحدها: أن الراجح من الوجهين المذكورين هو عدم الوجوب.

كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة"، ورجحه أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: والأشبه المنع؛ لأنه يعسر عليه مشى ولده، فإن كان مع المشي يعول على الكسب فأولى بأن لا يجب القبول لأن المكاسب قد تنقطع في الأسفار وإن كان يعول على السؤال فأولى بالمنع. هذا لفظه.

الثاني: أن كلام الرافعي هنا يقتضي أن مسألة المعول على الكسب

ص: 233

والسؤال صورتها في الماشي وقد صرح به في "الشرح الصغير" كما تقدم لك فلا يلزم من عدم الوجوب في هذه الحالة عدمه في الراكب وحينئذ فتكون مسألة السؤال وحدها أو الكسب وحدها ليست في الشرحين ولا في "الروضة".

نعم: صرح بها صاحب "الحاوي الصغير" وأجاب بعدم اللزوم كما أجاب في الماشي.

الثالث: قد أسلفنا في أول كتاب الحج أن صاحب التقريب قد نص في كتابه على مسألة حسنة، وهي أن المرأة القادرة على المشي لو أرادت أن تحج ماشية كان لوليها منعها من ذلك؛ وحينئذ فلا يجب القبول في مسألتنا على من جوزنا له المنع بطريق الأولى، بل المتجه عدم الوجوب على الولي وعلى غيره.

قوله من "زياداته": قال الدارمي: لو بذل لأبويه فقبلا لزمه ويبدأ بأيهما شاء.

قال: وإذا قبل الأب البذل لم يجز له الرجوع.

وإذا كان على المعضوب حجة نذر فهي كحجة الإسلام. انتهى.

فأما المسألتان الأولتان فالذي ذكره فيهما من اللزوم بعد قبول الأبوين ومن عدم جواز الرجوع هو وجه ضعيف؛ فقد ذكر المسألة قبل هذا بدون صفحة وصحح جواز الرجوع فاعلمه وتفطن له. وجزم ابن عبدان في شرائط الأحكام بما قاله الدارمي وقال: إنه لا يجب عليه على الفور، وهو واضح.

وأما المسألة الثالثة فقد تقدم ذكر الرافعي لها أيضًا وبسطها، وقد فرع الدارمي على الأولى تفريعًا حسنًا وهو أنه إذا حج الابن عن أحدهما ثم مات ففي وجوب القضاء عنه خلاف.

ص: 234

قوله في "الروضة": والأظهر الجديد أن العمرة فرض والقديم أنها سنة. انتهى.

والقول بعدم الوجوب ثابت في الجديد؛ فقد نص عليه الشافعي في أحكام القرآن؛ كذا حكاه عنه جماعة منهم المحاملي والقاضي أبو الطيب، وقد أشار الرافعي إلى ذلك وإن كان غير جازم به فقال عقب ما سبق: وأشار بعضهم إلى ترديد القول فيه قديمًا وجديدًا.

قوله: وعندنا يجوز الحج بالرزق كما يجوز بالإجارة؛ وذلك بأن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك. ذكره في "العدة". ولو استأجر بالنفقة لم يصح لأنها مجهولة. انتهى كلامه.

والمراد بالرزق أن لا يستأجر، بل يعقد بصيغة الجعالة ونحوها بأن يقول: من حج عني فله ألف، أو حج عني وأعطيك ألفًا.

إذا علمت ذلك فما نقله عن صاحب العدة من أصل الجواز صحيح، وأما ما نقله عنه من الجواز بالنفقة وأقره عليه فقد جزم به في "الشرح الصغير" ولم ينقله عنه، وكذلك فعل النووي في "الروضة".

والحكم المذكور مردود بحثًا ونقلًا.

أما بحثًا: فواضح وهو جهالة العوض.

وأما نقلًا: فإن الشافعي قد نص على المسألة وصرح بعدم الصحة فقال في "الأم" ما نصه: قال رجل لرجل: حج عن فلان الميت بنفقتك دفع إليه النفقة أم لم يدفعها هذا غير جائز؛ لأن هذه أجرة غير معلومة، فإن حج أجزأت عنه وله أجرة مثله، وقد نص في الإملاء على مثله فقال: وإن كان لم يكن يؤاجر ودفع إليه مالًا فقال: وقيل: ويجوز أن رجل دراهم فيقال: أنفق منه وحج عن فلان، فحج عن فلان وله أجرة مثله؛ لأن هذه

ص: 235

إجارة فاسدة لأنها غير معلومة فرد الفضل من إجارة مثله.

وكذلك إن دفع إليه مالًا فقال أنفق منه وحج عن فلان، فإن خسر فعلينا وإن زاد فلنا هذا لفظ "الإملاء" بحروفه ومنه نقلت.

وذكر في "البويطي" مسألة نحوه أيضًا فقال: حج عن فلان وأكثر منها وأنفق فما بقي فرده وما خسر فعلينا. هذا لفظه بحروفه.

وقد وقع النووي في "شرح المهذب" في أشد مما وقع فيه في "الروضة" فقال: ويجوز الحج بالرزق كما يجوز بالإجارة، وهذا لا خلاف فيه.

صرح به القاضي أبو الطيب في "المجرد"، والأصحاب قالوا: وذلك أن يقول حج من غير عني وأعطيك نفقتك أو كذا وكذا. وهذه عبارته، وهو عجيب جدًا.

قوله: والأصح المنصوص صحة الجعالة على الحج وغيره مما تصح الإجارة عليه، وقيل: لإمكان العقد عليه بالإجارة، ثم قال فعلى الثاني قد حج عنه إنسان وقع الحج عن المعضوب الإذن، وللعامل أجرة المثل لفساد العقد، وفيه وجه أنه يفسد الإذن؛ لأنه غير متوجه إلى البيان بعينه فهو كما لو قال وكلت من أراد بيع داري فلا يصح التوكيل. انتهى.

وتعبيره في آخر كلامه بالتوكيل ليس بجيد بل ينبغي أن يقول فلا يصح الإذن؛ لأن الكلام في أنا إذا فرعنا على بطلان العقد هل يبطل الإذن أم لا؟

قوله: مقتضى كلام إمام الحرمين والغزالي تجويز تقديم الإجارة على خروج الناس للحج وأن للأجير انتظار خروجهم ويخرج مع أول رفقة، والذي ذكره جمهور الأصحاب على طبقاتهم يقتضي اشتراط وقوع الإجارة العينية في زمان خروج الناس من تلك البلد حتى قال صاحب "التهذيب":

ص: 236

لا يصح إلا وقت خروج القافلة بحيث يشتغل عقب العقد بالخروج أو بأسبابه كشراء الزاد، وسوأء على ذلك أنه لو كان الاستئجار بمكة لم يجز إلا في أشهر الحج ليمكنه الاشتغال بالعمل عقب العقد، وعلى ما قاله الإمام والغزالي لو جري العقد في وقت تراكم الأنداء والثلوج فوجهان: أحدهما يجوز، وبه قطع الغزالي في "الوجيز" وصححه في "الوسيط" لأن توقع زوالها مضبوط.

والثاني: لا لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف انتظار خروج الرفقة فإن خروجها في الحال غير متعذر.

هذا كله في إجارة العين.

أما إجارة الذمة فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك. انتهى ملخصًا.

وقد اعترض في "الروضة" نقل ابن الصلاح وأقره عليه فقال: قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح على الإمام الرافعي هذا النقل عن جمهور الأصحاب.

قال: وما ذكره عن صاحب "التهذيب" على التوفيق بينه وبين كلام الإمام أم هو شذوذ من صاحب "التهذيب" لا ينبغي أن يضاف إلى جمهور الأصحاب؛ فإن الذي رأيناه في "التتمة" و"الشامل" و"البحر" وغيرها مقتضاه أنه يصح العقد في وقت يمكن فيه الخروج والسير على العادة أو الاشتغال بأسباب الخروج.

قال صاحب "البحر": أما عقدها في أشهر الحج فيجوز في كل موضع لإمكان الإحرام في الحال. هذا كلام الشيخ أبي عمرو. انتهى كلام "الروضة"، وفيه أمران:

ص: 237

أحدهما: أن سكوت النووي على كلام ابن الصلاح يوهم صحة ما استدرك على الرافعي، وليس كذلك بل الأمر كما نقله الرافعي عن الجمهور فقد صرحوا أنه في كتبهم المشهورة والمجهورة، ونقل النووي في "شرح المهذب" عبارة جمع كثير منهم.

وفي بعض ما نقله كفاية في رد كلام ابن الصلاح فراجعه، ولولا الإطالة والاكتفاء بما ذكرته لذكرت عباراتهم.

نعم: جوز ابن المرزبان عقدها قبل الوقت مطلقًا، وقال بعضهم: إن كان قريبًا لم يجز، وإن كان بعيدًا جاز. حكاهما الدارمي بعد تصحيحه المنع كما صححه غيره.

وحاصل ما أشرنا إليه من المنقول اعتبار وقت الخروج وأن زمن تحصيل الزاد ونحوه لا يضر إذا كان الخروج عقبه؛ لأنه في العرف ليس بخارج عن وقت الخروج، وهذا الذي تحصل من نقولهم مخالف لكلام الإمام والغزالي قطعًا وموافق لما يقوله الرافعي، بل النقول التي استند إليها ابن الصلاح يوافقه أيضًا فمن أين يجئ الاعتراض على الرافعي؟ .

الأمر الثاني: أن هذا الحكم المذكور في الزيادات عن صاحب "البحر" وهو جواز عقدها في أشهر الحج في كل موضع قد صرح به خلائف كثيرون وهو يؤخذ أيضا من كلام الرافعي؛ لأنه جوز ذلك في مسألة، وإذا جاز ذلك فيها جاز في غيرها من الأماكن البعيدة بطريق الأولى.

قوله: ففي "التهذيب" وغيره أنه إن قال: ألزمت ذمتك لتحج بنفسك، لم يجز أن يستنيب لأن الأغراض تختلف باختلاف أعيان الأجزاء، وهذا قد ذكره الإمام عن الصيدلاني وخطأه فيه وقال ببطلان الإجارة لأن الدينية مع الربط بمعين تتناقضان فصار كما لو أسلم في ثمرة بستان بعينه، وهذا إشكال

ص: 238

قوي. انتهى.

وحاصل الجزم بالصحة أنه ليس فيه إلا كلام الإمام.

إذا علمت ذلك فقد جزم بالبطلان في آخر كتاب الإجارة في المسائل المتعلقة بالباب الأول وستعرف لفظه هناك. وتابعه النووي في "الروضة" على الموضعين ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر" وردها النووي في كتاب الحج في "شرح المهذب" كما ذكرها فيه في "الروضة"، ووافق الفوراني في هذا الباب من "العمد" على الصحة أيضًا، وفرق بينه وبين المسلم بأن الحج قربة وإعراض الناس في عين من تحصيل القربة متفاوت؛ لأنه قد يستأجر فاسقًا ويخرج به عن العهد شرعًا، وأما في السلم فلأنه إذا أطلق حمل على الحد.

قوله: وهل يشترط تعين الميقات الذي يحرم منه الأجير؟ فيه قولان: أحدهما: يشترط لاختلاف المواقيت.

والثاني: لا يشترط، ويعتبر ميقات تلك البلدة على العادة الغالبة، وبهذا أجاب في "المقنع" وصححه ابن عبدان. انتهى كلامه.

ذكر مثله في "الروضة"، وأطلق تصحيح الثاني وفيه أمران:

أحدهما: أنه لم يبين المراد بالبلد هل هي بلد الإجارة أو بلد المحجوج عنه وقد بينه جماعة منهم الغزالي في "البسيط" فقال إن الاعتبار ببلد المحجوج عنه، وكذلك البغوي في "التهذيب".

الثاني: إن الأجير إذا عدل عن الميقات الواجب إلى غيره جاز إن كان مثله أو أطول منه.

كذا ذكره الرافعي بعد هذا بنحو ثلاثة أوراق فاعلمه؛ فإن كلامه هنا

ص: 239

يوهم خلافه، وستقف على المسألة بعد هذا بقليل.

قوله: ووراءه صورة أخرى؛ وهي أن يستأجر المعضوب لنفسه ثم يموت ويؤخر الأجير الحج عن السنة الأولى فهل يثبت الخيار للوارث؟ لم نلقها مسطورة.

ولفظ "الوجيز" يشعر بعدم ثبوثه، والقياس الثبوت كخيار العيب. انتهى ملخصًا.

تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على دعوى عدم نقلها ولكنه خالفه في الحكم فقال: الظاهر المختار أنه للوارث الفسخ إذ لا ميراث في هذه الأجرهة بخلاف الرد بالعيب. هذا كلامه.

والعجب من قول هذين الإمامين أن المسألة ليست مسطورة مع أنها مسطورة في الكتب المشهورة؛ فقد صرح بها المحاملي في "المجموع" في باب الإجارة على الحج وهو في أثناء كتاب الحج فقال: وأما إذا استأجره إجارة في الذمة بأن يستأجره ليحصل له حجه فإطلاق هذه الإجارة يقتضي التعجيل.

ثم قال ما نصه: وفرع أبو إسحاق على هذا فقال: إذا استأجره ليحصل له حجه وأطلق فإطلاق العقد حجه في هذه السنة، فإن أخر الحج عن هذه السنة نظر في المستأجر، فإن كان حيًا فله فسخ الإجارة لأنه ينتفع بذلك -وهو أنه يتصرف في الأجرة-، وإن كان ميتًا لم يجز فسخ الإجارة بل ينتظر إلى الثانية ثم يحج الأجير الحج عنه؛ لأنه إذا استرجع منه الأجرة فلا يتمكن الوارث من التصرف فيها ولابد من استئجار غيره ولا يمكن استئجاره قبل السنة الثانية فلا فائدة في استرجاع ذلك، بل يترك حتى يحج

ص: 240

عنه الأجير في السنة الثانية. هذا لفظ المحاملي، وهو يوافق ما أبداه النووي بحثًا.

ثم رأيت المسألة في "عدة" الطبري فنقل عن سليم الرازي أنه لا خيار، ونقل عن المحاملي أن المسألة ليست منصوصة للشافعي وأن الذي يجئ على المذهب ثبوته، وهذه "العدة" هي عدة أبي عبد الله الحسين التي ينقل عنها صاحب "البيان" لا عدة أبي المكارم ابن أخت صاحب "البحر" الذي ينقل عنها الرافعي، فاعلم ذلك.

قوله: ولو عدل الأجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته مثل ذلك الميقات أو أبعد فالمذهب أنه لا شئ عليه. انتهى.

تابعه في "الروضة" عليه.

وتقييده ذلك بالمساوي أو الأبعد يشعر بأن الأقرب إلى مكة لا يجوز له سلوكه ويلزمه الدم لو فعله، وبه صرح البغوي في "التهذيب" فقال عليه دم الإساءة إلا أن يكون الولي استأجره وعين له ذلك فالدم على الولى. قاله في باب الإجارة.

وصرح به أيضًا الغزالي في "البسيط" واقتضى كلامه أن العبرة فيما ذكرناه بالمسافة سواء كان ميقاتًا شرعيًا أم لم يكن إذا لم تكن فيه مجاوزة للميقات، لكن في "المهذب" و"التتمة" و"الشامل" و"البيان" وغيرها القطع بالجواز وعدم وجوب الدم لأن الشرع قد جعل هذه المواقيت بعضها يقوم مقام بعض.

وهذا الذي ذكروه مناف للتعيين الذي نحن نفرع عليه، وقد فرع الطبري شارح "التنبيه" على ذلك فرعا طويلًا فقال: لو استأجر مكي عن أفقي ليحج عنه أو يعتمر ولم يعين له ميقات وقلنا يصح وينزل على ميقات

ص: 241

المستأجر عنه فأحرم من مكة فوجوب الدم ينبني على الوجهين المتقدمين فيما إذا أحرم من ميقات بلد دون ميقات بلد دون ميقات بلد المستأجر، فإن منعنا ثم كما قال البغوي فهنا أولى، وإن جوزنا ثم كما في "المهذب" و"التتمة" وغيرهما احتمل هنا وجهين: أحدهما: لا شيء عليه؛ لأن مكة ميقات شرعي والشرع أقام المواقيت الشرعية بعضها مقام بعض؛ فعلى هذا لو عين له مكة في الإجارة فلا شئ على المستأجر أيضًا، وأصحهما: عليه دم؛ لأن العبرة بالمستأجر.

ولو استأجر أفقي مكيًا للتمتع لزمه دم، ولا نظر إلى كون الآتي به مكيًا.

والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أحرم الأجير من ميقات شرعي دون ميقات المستأجر لأن الأجير منزل منزلة المستأجر والمستأجر لو أتى من طريق الميقات الذي أحرم منه الأجير كان ميقاتًا له، وكذلك أجيره.

ولو دخل مكة غير محرم وهو مريد للنسك ثم أحرم منها لزمه دم الإساءة ولم يكن ميقاتًا للمار بها بل للمقيم بها بشرط أداء تحية حرمها المشروعة لمريد النسك والمستأجر عنه غير مقيم بمكة وهو مريد للنسك ولم يؤد وظيفة التحية، وأجيره بمنزلته فليقم بما لزمه لو كان ناسكًا فيخرج إلى حيث لزمه الإحرام منه فيحرم منه، ويزيد ذلك بيانًا أنهم اتفقوا على أن الأفقي لو مر بميقات وأراد مجاوزته ليحرم من مكة لكونها ميقاتًا منصوصًا عليه لم يجز قطعًا.

واختلفوا فيما سوى مكة كما تقدم في محاذاة الحليفة والجحفة فدل على مغايرتها لغيرها؛ وعلى هذا لو عين له مكة في الإجارة للإحرام لم يصح العقد لكن لو أحرم عنه منها صح وتأثير الفساد في بطلان المسمى ووجوب

ص: 242

أجرة المثل وهل يجب دم؛ لأن التعيين بطل لبطلان العقد وبقى إذن مجرد في النسك فاقتضاه كاملًا، فإذا نقضه وجب جبره أو لا يجب لأنه أتى به كما أمر؟ فيه احتمالان، وعلى الثاني إن كان المستأجر عنه في صورة الغضب وجب عليه دم، وإن كان وليه في صورة الموت احتمل وجهين كقولي دم محظور الصبي؛ فإن قلنا: الدم على الولي ثم، فهنا أولى؛ لأنه المباشر للمحظور، وإن قلنا في مال الصبي ففي التركة، فإن لم يكن فالظاهر أنه لا يتعين الولي ولو قبل بتعيينه لم يبعد ويجعل بشرطه كالملتزم.

فإن قيل: اتفق الجمهور على جواز استئجار المرأة للحج عن الرجل فإحرامهما مختلف ولا يجب دم قطعًا للبسها المخيط وتغطية رأسها لا عليه ولا عليها اعتبارًا بحالها لكونها المباشرة، فهلا كان استئجار المكي كذلك بالنسبة إلى الميقات؟ قلنا: الفرق أنهم جعلوا الميقات معتبرًا بالمستأجر ولهذا اختلفوا في وجوب تعيينه في الإجارة لاختلاف الغرض باختلافه وذلك لتمكن الأجير من الإحرام منه وإن شق عليه، ولا كذلك لباس المحرم فإنه معتبر به لا بالمستأجر؛ فلذلك جوزنا في إحرامها ما لم يجز في إحرامه لتعينه في حقها؛ إذ الستر واجب عليها، والله أعلم.

وهذا كله إذا استؤجر المكي من تركة الميت. فلو تبرع متبرع بالنسك عنه حيث جاز ففي الدم الاحتمالان فيما إذا عينت مكة للإحرام في الإجارة، وأولى أن لا يجب لأنه جرى ثم التزام نسك متصف بنقص فلما بطل العقد أثر بطلانه في إلغاء الصفة وبقي مجرد النسك والأصل فيه التمام ولا التزام هنا وانما تبرع به ناقصًا فلزمه بالإحرام ما بعده كاملًا حتى لو أساء في شئ منه لزمه جبره وأتى بأصل الإحرام كما تبرع به؛ وعلى هذا يجب الدم في تركه المحجوج عنه؛ لأن الإحرام من الميقات من جملة الواجبات وقد أسقط عنه ما عداه فكان جبره من ماله كما لو قضى عنه بعض دينه وبقي بعضه.

ص: 243

فإن لم يكن له تركه أو كانت ولم يجب عليه الحج لم يجب على واحد منهما.

وذكر فقهاء اليمن من أهل العصر أن المحجوج عنه إن كان قد وجب عليه الحج لم يلزم المتبرع عنه شيء وكأنه قضى بعض دينه وإن لم يجب عليه ألحق بالإحرام عن الصبي فيخرج على الوجهين بجامع التوريط فيما لم يلزمهما ولا اختيار لها فيه، وهو قريب ولكن الفرق ممكن وهو المختار، فإن توريط الصبي حقيقة فإنه صار ناسكًا بإحرام الولي عنه، فلو حط المورط فألزم زائد النفقة والكفارات، وهنا إنما ورط نفسه بالتبرع بالإحرام لا المحجوج عنه فيلزمه جبر النقص بعده من ترك مأمور وارتكاب محظور قطعًا بخلاف نقض الإحرام نفسه كما قدمناه، وهذا كله في المتبرع بالنسك من مكة.

أما المتبرع بالاستئجار فإن ألحقنا مكة بالمواقيت الشرعية على ما تقدم فلا شيء عليه وإلا فسدت الإجارة لاقترانها بالشرط الفاسد ويبقى مجردًا دون العاقد وفيه الاحتمالات المتقدمان فيما لو عين له مكة في الإجارة. وهذا الفرع لم أر فيه نقلًا.

قوله في أصل "الروضة": فلو عينا مكانًا أبعد من الميقات الشرعي بأن عينا الكوفة مثلًا فهل يلزم الأجير الدم بمجاوزته غير محرم؟ وجهان: الأصح المنصوص: نعم.

فإن قلنا باللزوم فهل ينجبر به الخلل حتى لا يحط شئ من الأجرة؟ على قولين: أصحهما: لا ينجبر ثم قال: ولو شرط الإحرام من أول شوال فأخره لزمه الدم، وفي الانجبار الخلاف، وكذا لو شرط أن يحج ماشيا فحج راكبًا لأنه ترك مقصودًا.

هكذا نقلت المسألتان عن القاضي الحسين ويشبه أن تكونا مفرعتين على أن الميقات المشروط كالشرعي وإلا فلا يلزم الدم كما في مسألة تعيين

ص: 244

الكوفة. انتهى كلام "الروضة".

وما ذكره هنا من لزوم الدم والحط فيما إذا حج راكبًا قد صحح خلافه في "شرح المهذب" فقال بعد حكايته لما ذكره في "الروضة" ما نصه: وقطع البغوي بأنه إذا استأجره ليحج ماشيًا فحج راكبًا؛ فإن قلنا: الحج راكبًا أفضل، فقد زاد خيرًا.

وإن قلنا: الحج ماشيًا أفضل، فقد أساء بترك المشي وعليه دم، وفي وجوب رد الميقات بين أجرة الراكب والماشي وجهان بناء على ما سبق، وهذا الذي قاله المتولي هو الأصح. هذا لفظه في "شرح المهذب".

والأصح عنده -أي: عند النووي- أن الحج راكبًا أفضل؛ فيكون الأصح عنده أنه لا دم ولا حط على خلاف المذكور في "الروضة".

ونظير المسألة ما إذا نذر أن يحج ماشيًا فحج راكبًا، وقد صحح فيها في "الروضة" وجوب الدم أيضًا، وستعرف المسألة في موضعها إن شاء الله تعالى.

قوله: الأولى إذا استأجره للقران فامتثل فالدم على المستأجر في أصح الوجهين، والثاني: على الأجير.

وإن أفرد أو تمتع وأتى بهما معًا من الميقات بأن عاد إليه بعد الفراغ من الأول وكانت الإجارة على الذمة فلا شئ عليه لأنه زاد خيرًا ولا على المستأجر لأن الأجير لم يقرن ولم يتمتع.

ثم قال: وذكر أصحاب الشيخ أبي حامد أنه يجب على المستأجر دم لأن القران الذي أمر به يتضمنه، واستبعده ابن الصباغ وغيره. انتهى موضع الحاجة ملخصًا.

وما ذكره هنا من عدم وجوب الدم على المستأجر قد تابعه عليه في "الروضة" وموافقته عليه مناقضة لما سيأتي في المجامع فإنه قد صرح من

ص: 245

"زوائده" بأن القارن والمتمتع إذا أفسدا نسكهما وقضياه مفردين يلزمهما دم آخر للقضاء الذي كان في الذمة، ثم إنه لما حكم بالوجوب بالغ فيه فراجعه، وكلام الرافعي هناك وفي باب النذر مقتضاه رجحان عدم الوجوب؛ فهو ماشي على قاعدة واحدة.

قوله: المسألة الثانية: إذا أمره بالتمتع فامتثل فالحكم كما لو أمره بالقران فامتثل، وإن أفرد نظر؛ إن قدم العمرة وعاد للحج إلى الميقات فقد زاد خيرًا، وإن أخر العمرة. . . . إلى آخر ما ذكره.

واعلم أن ما ذكره هاهنا من أنه إذا قدم العمرة وعاد للميقات فأحرم بالحج يكون مفردًا قد تابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك؛ فإن هذا وجه ضعيف، والمشهور -كما قاله الرافعي في آخر الكلام على شروط التمتع- أن هذا متمتع ولكن لا يلزمه الدم، وسأذكر لفظه هناك.

قوله في "الروضة" في المسألة المذكورة -وهي الأمر بالتمتع-: وإن قرن فقد زاد خيرًا. نص عليه؛ لأنه أحرم بالنسكين من الميقات، وكان مأمورًا بأن يحرم بالحج من مكة، ثم إن عدد الأفعال للنسكين فلا شئ عليه وإلا فهل يحط شئ من الأجر لاختصاره في الأفعال؟ وجهان، وكذا الوجهان في أن الدم على المستأجر أم الأجير. انتهى كلامه.

فيه أمور:

أحدها: أن هذين الوجهين اللذين حكاهما النووي من غير ترجيح قد ذكر الرافعي بعد حكايتهما كلامًا آخر حاصله تصحيح الحط؛ فإنه قال: نقلوا وجهين في أنه هل يحط شيء من الأجره للاختصار في الأفعال، وفي أن الدم على المستأجر لأمره بما يتضمن الدم أو على الأجير لنقصان الأفعال.

وكل ذلك يخرج على الخلاف المتقدم في عكسه وهو ما إذا تمتع المأمور بالقران. هذا لفظه، والصحيح في عكسه أنه مخالف.

ص: 246

الأمر الثاني: أن تعبيره في "الروضة" عن الوجهين المذكورين ثانيًا بقوله: وكذا الوجهان -أعني بصيغة ال- لا يستقيم بعد تنكيره الوجهين المذكورين أولًا؛ فتأمله؛ فالصواب تعريفهما أو تنكيرهما.

الأمر الثالث: أن تعبيره بقوله: ثم إن عدد الأفعال للنسكين ظاهره أن يتبرع فيأتي بطوافين وسعيين كما يشترطه أبو حنيفة. وليس كذلك بل المراد تجديد العود إلى الميقات كما سبق في التمتع؛ فإنه ينفع القارن في سقوط الدم على الصحيح كما يأتي في موضعه، إلا أنه لو استحضر أن المراد ما ذكرناه لعبر بقوله ثم إن عاد فإنه أخصر وأقرب إلى المراد، وعبر الرافعي بقوله ثم إن عدد الأفعال.

واقتصر عليه فزاد النووي لفظه (النسكين) فزاد الكلام خللًا وإيهامًا، وعبر في "شرح المهذب" بعبارة "الروضة" في المسألة جميعها بل في مسائل الفصل جميعه.

قوله: فلو مات في أثناء الحج فهل يجوز البناء على حجه؟ فيه قولان: الصحيح الجديد أنه لا يجوز البناء.

ثم قال ما نصه: لأنه لو أحصر فتحلل ثم زال الحصر فأراد البناء لا يجوز، فأما إذا لم يجز البناء على فعل نفسه فأولى أن لا يجوز لغيره البناء على فعله. انتهى كلامه.

وهذا التعليل الذي ذكره صريح في أن القولين لا يجريان في المحصر إذا تحلل وهو مخالف لما ذكره في أواخر مواقع إتمام الحج في الكلام على المحصر فإنه قال هناك ما نصه: وهل يجوز البناء لو انكشف الإحصار؟ فيه الخلاف السابق؛ الجديد: لا يجوز، والقديم: الجواز إحرامًا ناقصًا. هذا كلامه.

ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "شرح المهذب" فسلم الكتابان من الاختلاف.

ص: 247

قال رحمه الله: المقدمة الثانية في: المواقيت

قال الشافعي: وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة واعترض ابن داود عليه في تعبيره بالتسع فقال: إما أن يريد به الأيام أو الليالي؛ إن أراد الأيام فاللفظ مختل؛ لأن جمع المذكر في العدد بالهاء كما قال تعالى: {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (1)، وإن أراد الليالي فالمعنى مختل؛ لأن الليالي التي يصح الإحرام فيها عنده عشر لا تسع.

قال الأصحاب: هاهنا قسم آخر؛ وهو أن يريد الأيام والليالي جميعًا، والعرب تغلب التأنيث في العدد، ولذلك قال تعالى:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2)، وقال عليه الصلاة والسلام:"واشترط الخيار ثلاثًا"(3). والمواد الأيام والليالي. . . . إلى آخر ما ذكر.

فيه أمور:

أحدها: أن ما ذكره في القسم الأول من أن جمع المذكر لابد فيه من الهاء إنما محله إذا كان المعدود ملفوظًا به، فإن كان محذوفًا كما وقع في كلام الشافعي فكقولك صمت عشرة -يريد: عشرة أيام- فإنه يجوز له حذف التاء وإثباتها وإن كان الإثبات هو الفصيح.

ومما ورد من ذلك ما حكاه الكسائي عن ابن الجراح: صمنا من الشهر خمسًا.

(1) سورة الحاقة (7).

(2)

سورة البقرة (234).

(3)

أخرجه مسلم (1524) من حديث أبي هريرة.

ص: 248

وحكى أيضًا الفراء: أفطرنا خمسًا وصمنا خمسًا، ومنه الحديث الصحيح:"من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال"(1). وإذا علمت ذلك علمت أن الكلام الشافعي صحيح على إرادة الأيام.

والعجب من سرعة اعتراض ابن داود أو غيره على الشافعي في حكم لغوي وكلامه حجة في اللغة.

الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من احتمال إرادة الأيام والليالي جميعًا والعرب تغلب المؤنث على المذكر عند اجتماعهما جواب عجيب؛ لأن السؤال باق وهو إخراج الليلة العاشرة.

الأمر الثالث: أن القائل مثلًا إذا قال سكنت الدار تسعًا وأراد أيامًا وليالي؛ فإن أراد أن بعض التسع أيام وبعضها ليالي فهذا جمع بين مذكر ومؤنث حقيقة، ولا يستقيم إردة ذلك هاهنا، وإن أراد ما يريده القائل بقوله عشرة أيام بلياليها فالمعدود مذكر وإنما نوى مع المعدود شيئًا آخر مؤنثًا، وكذا عكسه.

الأمر الرابع: أن هذا اللفظ الذي جزم به هنا بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكره غاية الإنكار في كتاب البيع، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه.

قوله: أما المقيم بمكة فميقاته مكة ثم من أي موضع أحرم منها جاز، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن يتهيأ للإحرام ويحرم من المسجد قريبًا من البيت وأظهرهما: الأفضل أن يحرم من باب داره ويأتي المسجد محرمًا. انتهى.

فيه أمران:

أحدهما: أن الرافعي قد ذكر بعد هذا أن المستحب لمن ميقاته خلفه أو

(1) تقدم.

ص: 249

قريبه أن يحرم من الطرف الأبعد من مكة ليقطع الباقي محرمًا، وقياسه أن المكي يحرم من طرفها الأبعد عن مقصده -وهو عرفات- تعين ما قاله من العلة.

الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر من زياداته في الكلام على ركعتي الإحرام أن الأصحاب قالوا: إن كان في الميقات مسجد فالمستحب أن يصلي الركعتين فيه وما تقرر أن ميقات المكي مكة وفيها مسجد فيستحب فعلها فيه وحينئذ فكيف يجتمع ذلك مع ما صححوه هنا من كونه يحرم من باب داره ثم يأتي المسجد؛ لأن الركعتين سابقة على الإحرام.

قوله: وميقات المتوجهين من المدينة ذو الحليفة، وهي على ميل من المدينة. انتهى.

فيه أمران:

أحدهما: ما نبه عليه العمراني؛ وهو أن عائشة كانت تحرم من ذي الحليفة وبالعمرة من الجحفة.

قال: وهو محمول عندنا على أن للمدينة طريقين فمن أي الطريقين سلك أحرم من ميقاتها، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي الزبير أن جابرًا سئل عن المهل -فقال أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة (1).

الأمر الثاني: أن ما ذكره من كون ذي الحليفة على ما ذكره صاحب "الشامل" فقلد فيه الرافعي والحسي يرده، بل الصواب المعروف المشاهد أنها على فرسخ وهو ثلاثة أميال أو يزيد قليلًا، بل ذكر الغزالي في "البسيط" أنها على ستة أميال وصححه في "شرح المهذب"، وقيل على سبعة، ولم يتعرض في "الروضة" لشيء من ذلك.

(1) أخرجه مسلم (1183) من حديث جابر، والبخاري (133) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 250

وذو الحليفة: اسم ماء من مياه بني خيثم.

والحليفة: تصغير الحلف بفتح الحاء واللام، واحد الحلفا وهو النبات المعروف.

قوله: وميقات المتوجهين من المشرق والعراق وخراسان ذات عرق؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا وهو جور عن طريقنا، وإنا إذا ردناه شق علينا. قال: فانظروا حذوها، فحد لهم ذات عرق (1).

والثاني وإليه صيغ الأكثرين أنه منصوص عليه روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق ذات عرق. انتهى ملخصًا.

فيه أمران:

أحدهما: أن ما نقله عن الأكثرين وأقرهم عليه قد ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا فقال إنه الأرجح ثم خالف ذلك في "شرح مسند الإمام الشافي" فقال: ذهب الشافعي إلى أن ذات عرق ليس منصوصًا عليه وإنما هو باجتهاد عمر. هذه عبارته، ولم يحك فيه خلافًا، وهو تباين فاحش؛ فإن حاصله أم مقابله ليس مذهبًا له.

الأمر الثاني: أن قول الشافعي قد اختلف في ذات عرق فقال في موضع: هو منصوص عليه، وفي موضع آخر: ليس منصوصًا عليه. كذا ذكره القاضي أبو الطيب في "تعليقه"؛ فثبت إذن أن الخلاف قولان لا وجهان. والحديث الأول رواه البخاري.

والمصران: هما البصرة والكوفة.

(1) أخرجه البخاري (1924) ومسلم (297) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 251

والمراد بفتحهما: عمارتهما؛ لأنهما إسلاميتان بنيتا في خلافة عمر.

وجور: بفتح الجيم وآخره راء مهملة من قولهم: جار يجور إذا مال أي: مائل منحرف.

والحديث الثاني رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب"، ورواه مسلم أيضًا في صحيحه من رواية جابر، إلا أن الرواي عن جابر وهو أبو الزبير لم يجزم بأن جابرًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه عنه جماعة مرفوعًا -يعني شاك-، إلا أن إسناد هذه الرواية ضعيف. والسماع المعتمد عن المنقين في قرن هو التسكين، ورأيته منقولًا عن أبي عبيد وغيره ورواه صاحب "الصحاح" بالتحريك، وادعى أن أويسًا منسوب إليه. انتهى.

قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": اتفق العلماء على التسكين واتفقوا على تغليط الجوهري في فتح الراء وفي نسبة أويس إليه قال في "شرح المهذب": وانما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد بلا خلاف بين أهل المعرفة.

وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أويس بن عامر من مراد ثم من قرن"(1).

قوله: الثانية: إذا سلك طريقًا لا ينتهى إلى ميقات أحرم عند محاذاة الميقات، فلو حاذى ميقاتين يتوسطهما طريقة نظر إن تساويا في المسافة إلى مكة وإلى طريقه جميعًا أو في المسافة إلى مكة وحدها أحرم عند محاذاتهما، وإن تساويا في المسافة إلى طريقة وتفاوتا في المسافة إلى مكة ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن يحرم عند محاذاة أقربهما.

(1) أخرجه مسلم (2542) عن عمر رضي الله عنه.

ص: 252

وأظهرهما: يتعين المحاذى الأبعد، وليس له انتظار الوصول إلى محاذاة الأقرب كما ليس للخارج من المدينة أن يجاور ذا الحليفة ليحرم من الجحفة، وقد يتصور في هذا القسم محاذاة الميقاتين دفعة واحدة؛ وذلك بانحراف أحد الطريقين لو عورة وغيرها وحينئذ فلا كلام في الإحرام موضع المحاذاة.

لكن هل إحرامه منسوب إلى أبعد الميقاتين أو قريبهما؟ حكى الإمام فيه وجهين. قال: وفائدتهما فيما إذا جاوز موضع المحاذاة وانتهى المكان الذي يسلك منه إلى الطريقين اللذين للميقات فأراد العود لدفع الإساءة ولم يعرف موضع المحاذاة فهل يرجع إلى هذا أم ذاك؟ وإن تفاوت الميقاتان في المسافة إلى مكة وإلى طريقه فالاعتبار بالأقرب إليه، وقيل: إلى مكة.

واعلم أن الأئمة فرضوا جميع هذه الأقسام فيما إذا توسط بين طريقين يفضى كل واحد إلى ميقات، ويمكن تصوير القسم الثالث والرابع في ميقاتين على يمينه أو شماله كذي الحليفة والجحفة؛ فإن أحدهما بين يدي الآخر فقد يتساوى قربهما على طريقه وقد يتفاوت. انتهى ملخصًا.

فيه أمور:

أحدها: أن المراد بالمحاذاة في هذا الموضع هو المسامته عن اليمين أو الشمال دون الظهر أو الوجه.

الثاني: أن الإمام قد احترز بقوله: ولم يعرف موضع المحاذاة عما إذا عرفه فإنه يرجع إليه أو إلى مثل مسافته من أحد الميقاتين كذا صرح به الإمام أيضًا.

الثالث: أن تساوى الميقاتين في المسافة إلى مكة واضح، وأما تساويهما بالنسبة إلى طريقه فيحتمل أمور:

أحدها: أن يحاذيهما معًا وتكون المسافة من موضعه إلى أحدهما

ص: 253

كالمسافة من ذلك الموضع إلى الآخر.

ثانيها: أن يحاذي أحدهما قبل الآخر إلا أن مسافة ما بين الأول وموضع محاذاته كمسافة ما بين الثاني وموضع محاذاة الأول سواء؛ وذلك بأن تكون المسافة من محاذاة الثاني إليه أقل لأجل انحراف ووعورة في طريق الأول.

وهذه الأقسام داخله في قول الرافعي أولًا ولو حاذى ميقاتين يتوسطهما طريقة لأنه قسم إلى الثلاثة؛ فإن قوله: فميقاته الموضع الذي يحاذيهما، يقتضي أنه حاذاهما معًا.

وقوله في القسم الذي بعده: فيه وجهان. . . . إلى آخره، يقتضي أنه حاذى أحدهما قبل الآخر.

وقد أهمل قسمًا آخر؛ وهو أن تكون مسافة أحدهما إلى طريقه أقل من مسافة ذاك، ومسافته إلى مكة أكثر وذاك بالعكس ومجموع المسافتين مساوية لمجموع المسافتين.

وإذا علمت ذلك فاعلم أن كلامه قد اشتمل على أربعة أقسام كما ذكره في آخر المسألة:

أحدها: أن يتساوي الميقاتان في المسافة إلى مكة وإلى طريقة جميعًا.

الثاني: أن يتساويا في المسافة إلى مكة ويتفاوتا في المسافة إلى طريقه.

الثالث: عكسه.

الربع: أن يتفاوتا في المسافتين جميعًا على عكس الأول.

وهذه الأقسام والأحكام التي أجاب بها فيها غير محررة لأن الميقاتين قد يتحاذيان في كل منها، وقد تقدم أحدهما على الآخر، بل الصواب ما سلكه

ص: 254

غيره؛ وهو أن يجعل مورد التقسيم هو المحاذاة وتقسيمها إلى ما يقع على الترتيب أو المعية فيقول: إن حاذا أحدهما قبل الآخر وجب الإحرام من محاذاة الأول على الصحيح قد حاذاهما معًا أحرم من ذلك الموضع ولكن هل ينسب إحرامه إلى الأبعد من مكة أم لا إلى آخر ما ذكره.

قوله: وإذا جاوز الموضع الذي لزمه الإحرام منه غير محرم أثم وعليه العود إليه والإحرام منه إن لم يكن له عذر. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن المراد هاهنا بالمجاوزة إنما هو المجاوزة إلى جهة الحرم.

فأما إذا جاوز إلى جهة يمينه أو يساره وأحرم من مثل ميقات بلده أو أبعد فإنه يجوز ذكره الماوردي وضرب له مثلًا بذات عرق وذي الحليفة، وقياسه في المكي أن يجاوز مكة إلى غير جهة عرفه ثم يحرم محاذيًا لمكة. كذا نبه عليه الطبري شارح "التنبيه" قال: ولم أره مصرحًا به.

الأمر الثاني: أن كلام الرافعي يوهم أن التحريم ثابت عاد أم لم يعد، لكن جزم جماعات كثيرون بأنا حيث أسقطنا الدم بالعود فلا تكون المجاوزة حرامًا، منهم المحاملي في "التجريد" والروياني في "البحر"، وقال في "البيان" إنه ظاهر الوجهين، واقتصر في "الكفاية" على كلام الروياني وتأول كلام من أثبت الخلاف، وفي "شرح المهذب" على كلام "البيان".

نعم: صرح المحاملي بأن شرط انتفاء التحريم أن تكون المجاوزة بنية العود والذي قاله لابد منه وما اقتضاه كلام "الكفاية" من إنكار الخلاف ليس كذلك فقد رأيته في كتاب "القولين والوجهين" للمحاملي حكايته بلفظ لا يحتمل التأويل فقال: يسقط عنه الدم، وظاهر المذهب أنه لم يسئ بذلك ولم يأثم، ومن أصحابنا من قال أساء وأثم. هذه عبارته.

ص: 255

الثالث: أن ما قاله من إيجاب الإحرام منه قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وليس كذلك بل إذا قلنا بأن العود بعد الإحرام مسقط للدم -وهو الصحيح- فأحرم من موضعه ثم عاد فإنه يكون جائز بلا شك، وصرح به غيره؛ ويدل عليه تعليله بأن المقصود قطع المسافة محرمًا ويؤيده أيضًا أنهم لما أوجبوا على المكي الخروج إلى أدنى الحل عند إرادة الإحرام بالعمرة صححوا أنه يجوز له أن يحرم من مكة ثم يخرج بعد أن بنوا الخلاف على سقوط الدم، بل صرح المحاملي في "المجموع" والجرجاني في "التحرير" وغيرهما باستحباب ذلك للمكي لأنه شبيه ثم أحرم قبل الميقات.

الأمر الرابع: أن هذا التعبير يوهم بحتم العود إلى الميقات الذي أساء بمجاوزته، وليس كذلك بل لو عاد إلى مثل مسافة من ميقات آخر جاز. صرح به إمام الحرمين في الكلام على محاذاة الميقاتين؛ ويؤيده أن المفسد لما أوجبوا عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه في الأداء قالوا إنه يجوز له تركه والإحرام من مثل مسافته من موضع آخر حتى ادعى في "الروضة" عدم الخلاف فيه.

قوله: فإن كان له علة كما لو خاف الانقطاع عن الرفعة أو كان الطريق مخوفًا أو الوقت ضيقا لم يعد.

فيه أمران:

أحدهما: أن كلامه صريح في أن الانقطاع مع الأمن عذر وسببه مشقة الاستنجائين، وقد تقدم الكلام عليه في التيمم وغيره.

الثاني: أن إطلاقهم يقتضي وجوب العود على الماشي إذا لم يحصل له ضرر، وهو محتمل لكونه قد تعدى، والمتجه أن يقال إن كان على دون مسافة القصر وجب وإلا فلا كما قلنا في الحج ماشيًا.

قوله: ثم إذا لم يعد فعليه دم. انتهى.

ص: 256

ذكر في "الروضة" نحوه، وليس على إطلاقه بل شرط وجوب الدم أن يكون قد أحرم بعد المجاوزة وأن يكون إحرامه بالعمرة أو بالحج ولكن في تلك السنة، فإن لم يحرم أصلًا لم يلزمه شئ كما صرح به الماوردي وغيره قالوا: لأن الدم إنما يجب لنقصان السبب ولا يجب بدلًا من النسك ويؤيده أنا إذا قلنا بوجوب الإحرام على داخل مكة فتركه فلا شئ فيه كما نقله الرافعي عن ابن كج وأقره.

وإن أحرم بالعمرة وجب الدم في أي وقت أحرم لأن العمرة لا يتأقت وقت إحرامها وإن كان إحرامه بالحج فإن كان في تلك السنة وجب؛ لأنه بان أن الحج في هذه السنة كان واجبًا عليه من الميقات، وإن حج في السنة الثانية لم يلزمه؛ لأن إحرام هذه السنة لا يصلح بحج سنة قابله.

كذا ذكره القاضي الحسين والمتولي والبغوي والخوارزمي، وفي كلام الرافعي في باب حج الصبي ما يدل له فراجعه.

قوله: وأظهر القولين أن الإحرام من دويرة أهله أفضل من الميقات؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحجة أو عمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

والثاني: الميقات أفضل اقتداء به عليه الصلاة والسلام.

وقطع بعضهم بالأول حتى أطلق مطلقون كراهية الإحرام من الميقات، وقيل: إن أمن على نفسه ارتكاب المحظورات فدويرة أهله وإلا فالميقات. انتهى ملخصًا.

وما ذكره من تصحيح الأول يستثني منه الحائض والنفساء.

كذا نقله صاحب "التقريب" عن النص فقال: قال الشافعي في "المناسك الكبير": ولا أحب للحائض والنفساء أن يقدما إحرامهما قبل وقتهما. هذه

ص: 257

عبارته، وأراد بالوقت الميقات.

وقد ذكر الرافعي بعد هذا في الكلام على سنن الإحرام ما يقوي ذلك.

والحديث الأول رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي، وإسناده ليس بقوي كما قاله في "شرح المهذب" ولفظ الحديث:"غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، أو "وجبت له الجنة" بلفظ "أو" وهو شك من الراوي.

وأما حديث إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من الميقات فثابت في الصحيحين.

قوله: وأفضل بقاع الحل لإحرام العمرة الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية، وليس النظر إلى المسافة ولكن المتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلوا أنه اعتمر من الجعرانة مرتين: مرة عمرة للقضاء سنة سبع، ومرة عمرة هوازن.

ولما أرادت عائشة أن تعتمر أمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، وصلى بالحديبية عام الحديبية وأراد الدخول منها للعمرة فصده المشركون عنها؛ فقدم الشافعي رضي الله عنه ما فعله ثم ما أمر به ثم ما هم به.

والجعرانة والحديبية على ستة فراسخ من مكة، والتنعيم على فرسخ. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن الرافعي قد فضل الإحرام بالحج والعمرة من باب داره على الإحرام بهما من الميقات وإن كان على خلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من طول زمن الإحرام؛ وحينئذ فيقال له لم راعيت ذلك في هذه المسألة ولم تراعه في تعيين ميقات العمرة؛ فإنك قدمت التنعيم على الحديبية والحديبية أبعد كما تقدم لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على عزم الرحيل لما

ص: 258

أرادت عائشة أن تعتمر كما رواه البخاري ومسلم؛ فعين التنعيم لكونه أقرب أماكن الحل؟

الأمر الثاني: أن إحرام النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة من الجعرانة (1). صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية أنس.

وأما ما ذكره من إحرامه عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء منها أيضًا فكيف يستقيم مع أنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة على قصد الإحرام وميقات أهل المدينة ذو الحليفة في الحج والعمرة.

الأمر الثالث: أن ما ذكره من كونه عليه الصلاة والسلام عام الحديبية أراد الدخول من الحديبية للعمرة (2). صحيح فقد رواه الشيخان أيضًا.

واحتراز الرافعي بهذه العبارة عن الإحرام بها فإنه لم يقع من الحديبية بل من ذي الحليفة كما رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي ووقع في "البسيط" للغزالي أنه عليه الصلاة والسلام هم بالإحرام من الحديبية.

قال في "شرح المهذب": وهو غلط صريح لأن ميقاته ذو الحليفة كما سبق.

(1) أخرجه أبو داود (1741) وأحمد (26600) والدارقطني (2/ 283) والطبراني في "الأوسط"(6515) وأبو يعلي (6927) والبيهقي في "الشعب"(4026) وفي "الكبرى"(8708) من حديث أم سلمة بسند ضعيف.

قال البخاري: لا يثبت.

وقال الألباني: ضعيف.

(2)

أخرجه البخاري (687) ومسلم (1253).

ص: 259