الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: في أسباب التحلل
قوله: ومبيت مزدلفة نسك، فإن دفع منها بعد انتصاف الليل فلا شيء عليه معذورًا كان أو غير معذور؛ لأن سودة (1) وأم سلمة (2) أفاضتا في النصف الأخير بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهما بالدم.
وإن دفع قبل انتصاف الليل وعاد قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه أيضًا. انتهى كلامه. وليس فيه تصريح بالمقدار الذي يحصل به المبيت، وفيه أربعة أقوال:
أحدها: معظم الليل كما لو حلف لا يبيت في موضع فإنه لا يحنث إلا بأن يقيم فيه المعظم.
والثاني: أن المعتبر هو الحصول بها حال طلوع الفجر.
وهذان القولان حكاهما الرافعي في الكلام على مبيت منى استطرادًا. وصحح الأول منهما وعبر بالأظهر؛ فاعلمه.
إلا أنه استشكله على القول بوجوب المبيت من جهة أنهم لا يصون مزدلفة إلا قريبًا من ربع الليل والدفع منها بعد انتصاف الليل جائز كما سبق فيلزم أن لا يحصل المعظم بالضرورة.
والقول الثالث: أن يحصل بلحظة من النصف الثاني لا بكونه يسمى مبيتًا؛ فإن الأمر بالمبيت لم يرد هنا، بل لما تقدم، في تقرير إشكال
(1) حديث سوده أخرجه البخاري (1596) ومسلم (1290) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
وحديث أم سلمة أخرجه مالك (930) وأبو داود (1942) والحاكم (1723) والدارقطني (2/ 276) والبيهقي في الكبرى (9354) من حديث عائشة.
قال البيهقي إسناده صحيح.
قال الحاكم: صحيح على شرطها ولم يخرجاه.
الرافعي بخلاف المبيت بمنى فإنه لابد فيه من المعظم.
والرابع: يحصل بساعة من نصف الليل وطلوع الشمس.
وهذان القولان حكاهما في "الروضة"، وصحح الأول منهما وهو الذي عبرنا عنه هنا بالثالث.
وحديث تقديم سودة رواه البخاري ومسلم مع أحاديث تتعلق بتقديم غيرها أيضًا.
وحديث تقديم أم سلمة رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم.
قوله: فإن لم يعد وترك مبيت مزدلفة أراق دمًا.
ثم قال: وهل هو واجب أو مستحب فيه طرق: أظهرها: أنه على قولين كما ذكرنا في الإفاضة من عرفة قبل الغروب. انتهى وفيه أمران:
أحدهما: أن هذا التنظير قد ذكره أيضًا في "المحرر" و"الشرح الصغير"، ومقتضاه ترجيح عدم وجوبه لأنه الصحيح في الإفاضة من عرفة.
إذا علمت ذلك فقد استدرك النووي عليه في "الروضة" فقال من زياداته: الأظهر وجوبه.
ثم إنه ارتضى ذلك في "مختصر المحرر" فلم يستدرك عليه.
واعلم أن الرافعي لما ذكر هذه المسألة في "المحرر" قال: وفي كون الدم واجبًا أو مستحبًا مثل الخلاف المذكور في عرفات، فلما اختصره النووي قال: وفي وجوبه القولان.
ولم يذكر غير ذلك وهو غريب؛ فإنه ذكر هذه المسألة في أول فصل بحيث لم يتقدم للقولين ذكر في ذلك الفصل، وهو من المواضع التي يسأل عنها في "المنهاج".
الأمر الثاني: أن يقتضي كلامه أنه لا فرق في إيجاب الدم بين المعذور وغيره لأن كلامه في المسألة السابقة يدل على إرادة القسمين.
وليس كذلك لما ستعرفه في الكلام على مبيت منى.
قوله: وينبغي أن يأخذوا من المزدلفة الحصى للرمي.
ثم قال ما نصه: ولو أخذوا من موضع آخر جاز لكن يكره الأخذ من المسجد لأنه فريضة، ومن الحش لنجاسته، ومن المرمي؛ لما قيل: إن من يقبل حجه يرفع حجره وما لقي فهو مردود. انتهى.
تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور:
أحدها: أنه أهمل موضعًا رابعًا يكره الأخذ منه نص عليه الشافعي ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" في الكلام على مبيت مزدلفة فقال: قال الشافعي والأصحاب: يكره أخذ حصى الجمار من أربعة مواضع: من المسجد، والحش، والحل، والجمار التي يرمي بها غيره. انتهى.
ونص الشافعي في "الأم" على كراهة أخذه من كل موضع نجس سواء كان حشًا أو غيره. انتهى.
والحش: بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة: هو المرحاض، وجمعة: حشوش، وأصله في اللغة البستان ثم أطلق على هذا المعنى لأن العرب كانت تقضي حاجتهم في البساتين والحدائق.
الأمر الثاني: أن النووي قد جزم في باب الغسل من "شرح المهذب" بتحريم إخراج الحصى من المسجد، فقال في الفصل المعقود لأحكام المساجد ما نصه: ولا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحصاه وحجر وتراب وغيره. وقد يحرم التيمم بترابه.
ومثله الشمع والزيت.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد"(1).
هذا كلامه. وهو عكس ما قاله في الحج. إلا أن يقول قائل: مراده أنه إذا أخرجها من المسجد ورمى بها فتتبعها في المرمي بأعيانها ويعيدها إليه. وهو في غاية البعد عن كلامه، وفي نهاية العسر.
وبتقديره فنفس الإخراج حرام كما اقتضاه كلامه، وفي نهاية العسر.
وبتقديره فنفس الإخراج حرام كما اقتضاه كلامه أولًا ودل عليه الحديث.
وقد سبق في كلامه هناك وهنا مصير عجبًا من منعه التيمم وتجويزه أخذ الحصى. وما أشبه هذا بقول الحسن البصري لأهل العراق: تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البراغيث.
الأمر الثالث: إطلاقهم يقتضي بقاء الكراهة إذا غسل المأخوذ من الموضع النجس لأخذه إياه من مكان مستقذر ويؤيده أنهم نصوا على استحباب غسل الجمار قبل الرمي بها سواء أخذه من موضع نجس أم لا، فلو لم تبق الكراهة بعد الغسل لكان يلزم أن لا يصح قولهم، ويكره الرمي بها مع قولهم يستحب الغسل، وما أشار إليه الرافعي من رفع الحصى الثقيل فرواه الدارقطني والبيهقي من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعًا لكن بإسناد ضعيف.
قال البيهقي: ويروى من وجه آخر ضعيف أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا.
قال: وإنما هو مشهور عن ابن عباس موقوفًا عليه.
(1) أخرجه أبو داود (460) والبيهقي في "الكبرى"(4113) والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 184) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند ضعيف.
ضعفه الدارقطني والألباني.
ولأجل ما ذكرناه عبر الرافعي بقوله: لما قيل.
قوله: ثم الجمهور قالوا ببرود الحصى ليلًا قبل أن يصلي الصبح. وفي "التهديب": أخر أخذها عن الصلاة.
انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، والذي قاله البغوي هو الصواب نقلًا ودليلًا؛ فقد رأيته منصوصًا عليه في "الأم" و"الإملاء".
وروى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قاله في "شرح المهذب" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: "التقط لي حصى فالتقطت له حصيات مثل حصى الحذف"(1).
قوله: ويرمون سبع حصيات إلى جمرة العقبة وهي في حضيض الجبل مترقية عن الجادة. انتهى.
حضيض: بحاء مهملة وبضادين معجمتين.
قال الجوهري: هو قرار الأرض عند منقطع الجبلين.
والمترقية، بالتاء المثناة من فوق وبالقاف، من الرقي وهو الارتفاع؛ أي: مرتفعة عن الطريق.
والجادة: الطريق التي يسلكها غالب الناس. والجمع: الجواد.
قوله: فأحد القولين أن الحلق ليس بنسك وإنما هو استباحة محظور لأن كل ما لو فعله قبل وقته كان استباحة كالطيب واللبس.
وأصحهما وبه قال مالك وأبو حينفة وأحمد أنه نسك مثاب عليه؛ لأن الحلق أفضل من التقصير، والتفضيل إنما يقع في العبادات دون المباحات. انتهى كلامه.
(1) أخرجه النسائي (3057) وأحمد (3248) من حديث الفضل.
وهو صريح في أن الطيب مباح لا ثواب فيه وإلا لم يصح قياس القول الأول عليه ليس كما قال، بل المنقول استحبابه بين التحللين؛ لرواية عائشة، ونص عليه الشافعي في "الأم" وجزم به هو أعني الرافعي في آخر المسألة، ووقع هذا الاختلاف للنووي أيضًا؛ فإنه ذكر في "شرح المهذب" ما ذكره الرافعي من القياس المذكور وجزم في "الروضة" باستحبابه.
واعلم أنا قد استفدنا من استحباب الطيب أنه لا يلزم من كون الشيء استباحة محظور أن ينتفي عنه الثواب؛ ولهذا قال في "الوسيط": إذا جعلنا الحلق استباحة محظور كان مستحبًا يلزم بالنذر بلا خلاف، وفيه كلام آخر ستعرفه.
قوله في "أصل الروضة": فإن قلنا: إن نسك فهو ركن لا يجبر بالدم. انتهى. وحكى الرافعي بعد هذا في الكلام على ما يحصل به التحلل عن الداركي أن الحلق ليس بركن إذا جعلناه نسكًا، وأسقط النووي هذا الوجه، وذهب الشيخ أبو حامد وجماعة إلى أنه ركن في العمرة واجب في الحج.
فحصلنا على خمسة أوجه.
قوله: لكن الحلق أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين. فقالوا يا رسول الله والمقصرين؟ فقال في الرابعة: والمقصرين"(1). انتهى.
وما أطلقه من تفضيل الحلق قد تبعه في "الروضة" وهو في الحج صحيح.
وأما العمرة ففيها تفضيل نص عليه الشافعي في "الإملاء" ذكره في أثناء كتاب الحج قبل آخره بنحو خمسة عشر ورقة فقال ما نصه: قال الشافعي: ومن قدم معتمرًا قبل الحج في وقت إن حلق فيه حمم رأسه حتى لا يأتي
(1) أخرجه البخاري (1640) ومسلم (1301) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
عليه يوم النحر إلا وثم شعر يحلق أحببت له أن يبتدئ الحلاق بفصل الحلاق، وإني لا أدري لعله لا يدرك حلاق الحج.
وإن قدم يوم التروية أو يوم عرفة في وقت إن حلق فيه لم يحمم رأسه إلى يوم النحر اخترت له أن يقصر ليحلق يوم النحر، ولو حلق لم يكن عليه شيء.
هذا لفظه بحروفه ومن "الإملاء" نقلته.
وهي مسألة نفيسة.
وحمم: بحاء مهملة وميم مفتوحة مشدودة، ومعناه: أسود من الشعر؛ مأخوذًا من الحممة؛ وهي الفحم.
ويؤيد التقصير أيضًا أنه إذا تعاطاه المعتمر المذكور لزم أن يقوم في كل نسك بواجب من الحلق أو التقصير فيثاب ثواب الواجب ويدخل في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالفعلين معًا. بخلاف ما لو حلق في العمرة.
والحديث الذي ذكره المصنف رواه الشيخان.
قوله: والنساء لا يؤمرن بالحلق؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على النساء حلق وإنما يقصرن"(1). انتهى.
وتعبيره بعدم الحلق ذكر مثله في "الروضة"، وليس فيه تصريح بكونه حرامًا أو مكروهًا أو خلاف الأولى أو مباحًا، وقد تعرض له في "شرح المهذب" فحكى فيه وجهين:
(1) أخرجه أبو داود (1869) والدارمي (1905) والدارقطني (2/ 271) والطبراني في "الكبير"(13018) والبيهقي في "الكبرى"(9187) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني: صحيح.
أصحهما: أنه مكروه.
والثاني: يحرم لأنه مثلة في حقهن وقد نهي الشارع عنها.
وأيضًا فلما رواه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن تحلق المرأة رأسها"(1)، رواه الترمذي وقال: أنه مضطرب.
ثم نقل أعني النووي على أبي الفتوح أن الخنثى في ذلك كالمرأة، وما أطلقه النووي وغيره من الكراهة يتجه تقييده بثلاث شروط وهي: أن تكون كبيرة حرة خلية عن الأزواج؛ فإن كانت صغيرة لم تنته إلى سن يترك فيه شعرها فالمتجه أنها كالرجل في استحباب الحلق.
وإن كانت أمة فإن منعها السيد من الحلق حرم بلا نزاع، ويعدل إلى التقصير؛ لأن الشعر ملكه، ولأنه قد يقصد الاستمتاع بها أو بقصد بيعها والحلق ينقص القيمة. وإن لم يمنع ولم يأذن فالمتجه التحريم أيضًا لما ذكرناه. ثم المتجه فيما إذا قصرت امتناع الزيادة على ثلاث شعرات إلا بإذن وإن كانت حرة إلا أنها متزوجة جاز لها تقصير الجميع وإن منع الزوج؛ لأن لها غرضًا في حصول هذه السنة، ولا ضرر على الزوج فيه.
وأما الحلق فيمتنع الجزم بامتناعه لأن فيه تشويهًا، ويحتمل تخريجه على الخلاف في إجبارها على ما يتوقف عليه كما الاستمتاع كإزالة الأوساخ ونحوه. والصحيح أن له إجبارها عليه، وفي التحريم عليها عند منع الوالد نظر. والأوجه.
وحكم التقصير فيما زاد على الأنملة كحكم الحلق؛ لأنه لا ينضبط؛ فلو
(1) أخرجه الترمذي (914) والنسائي (5049) وتمام في "الفوائد"(1411) من حديث علي رضي الله عنه.
وأعله الترمذي، وقال الألباني: ضعيف.
جوزنا زيادة عليه لكان يؤدي إلى ما ذكرناه من التشويه.
والحديث الذي ذكره الرافعي رواه أبو داود بإسناد حسن.
قوله: وإذا حلق فالمستحب أن يبدأ بالشق الأيمن ثم بالأيسر، وأن يكون مستقبل القبلة وأن يكبر بعد الفراغ وأن يدفن شعره. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره من البداءة بالشق الأيمن هل المراد أنه يستوعبه من مقدمه إلى مؤخره أم يفعل ذلك أولا بالمقدم ثم يفعله بالمؤخر؟ اختلف فيه كلام النووي فقال في "مناسك الحج الكبرى" ما نصه: والسنة في صفة الحلق أن يستقبل المحلوق القبلة ويبدأ الحالق بمقدم رأسه فيحلق منه الشق الأيمن ثم الأيسر ثم يحلق الباقي. هذا كلامه.
وقال في "شرح المهذب": السادسة: قال أصحابنا: يستحب أن يبدأ بحلق شق رأسه الأيمن من أوله إلى آخره ثم الأيسر. هذا لفظه وهو الموافق لكلام الأصحاب وللحديث الصحيح.
الأمر الثاني: أن المراد بالذي يستقبل القبلة إنما هو المحلوق له لا الحالق كما صرح به في "شرح المهذب" ولفظ الرافعي و"الروضة" محتمل للمحلوق والحالق، وكذلك لفظ الرافعي بالنسبة إلى الكبير عند فراغه وأن يدفن شعره.
ثم قال: التكبير ولم أر فيه نقلًا صريحًا.
الأمر الثالث: أن النووي قد نسى التكبير فلم يذكره في "الروضة" ووقع له بسبب نسيانه غلط فأحسن في "شرح المهذب" فإنه ذكر ما في "الروضة" ثم قال بعده: قال صاحب: "الحاوي": في الحلق أربع سنن: أن يستقبل القبلة، وأن يبدأ بشقه الأيمن، وأن يكبر عند فراغه، وأن يدفن شعره.
ثم قال: وهذا كلامه، وهو حسن إلا التكبير عند فراغه؛ فإنه غريب، وقد استحب التكبير أيضًا البندنيجي، ونقله صاحب "البحر" عن أصحابنا. انتهى.
فانظر كيف استغرب استحبابه مع أنه مجزوم به في الرافعي؛ وسببه ما أشرنا إليه مرات من كونه ينقل من "الروضة" ويعزوه إلى الرافعي، وقد سري هذا الوهم أيضًا إلى المناسك؛ فإنه عد المستحبات كما وقع في "الروضة" خاصة ولم يذكر التكبير.
قوله في "الروضة": ولو حلق ثلاث شعرات في دفعات أو أخذ من شعره واحدة شيئًا ثم عاد ثانيًا فأخذ منها ثم ثالثًا فأخذ، فإن حملنا الفدية به لو كان محصورًا حصل النسك وإلا فلا. انتهى كلامه.
ذكر الرافعي نحوه أيضًا. وهذه المسألة المحال عليها وهي تكميل الفدية قد ذكرها الرافعي في آخر النوع السادس من محرمات الإحرام، ونقلها النووي إلى آخر النوع السابع، وصححا معًا أن الدم لا يكمل بل يجب في كل منها ما يجب فيه لو انفرد وهو المدون بالعاقي في ذلك حتى اقتضى كلامهما تصحيح القطع به، وحينئذ فلا يحصل به النسك أيضًا على الأصح المقطوع به.
وقد خالف ذلك في "شرح المهذب" فقال: فلو حلق أو قصر ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات أجزأه وفاتته الفضيلة، هذا هو المذهب. انتهى لفظه. ثم نقل بعد ذلك ما قاله هو في "الروضة" تبعًا للرافعي عن الإمام خاصة وأن الرافعي يخصه فقال كذا وكذا، وهو تباين فاحش، على أن الرافعي هنا لم يصرح بالمنع على القول بعدم تكميل الفدية، بل إنما يؤخذ من مفهوم كلامه، وإنما النووي هو الذي صرح به حالة الإحصار.
قوله: ومن لا شعر على رأسه يستحب له إمرار الموسي على الرأس تشبها بالحالقين. انتهى.
تابعه في "الروضة" على هذا التعبير، وهو يقتضي أنه إذا كان على بعض رأسه شعر لا يستحب له إمرار الموسي على الباقي، والقياس خلافه لأنه كما يستحب الحلق في الجميع يستحب إمرار الموسي عليه للمعنى الذي قالوه وهو التشبيه.
قوله: أما إذا نذر الحلق في وقته فإنه متعين ولم يقم التقصير مقامه ولا النتف ولا الإحراق. انتهى كلامه.
ذكر في "الروضة" نحوه، وعبر في "شرح المهذب" بعدم الإجزاء.
وهذه العبارات مجملة إذ يحتمل أن يكون المراد عدم الجواز فقط، ويحتمل عدم حصول التحلل أيضًا. وعلى كل من التقديرين، فإذا زال الشعر جميعه بغير الحلق فهل يبقى الحلق أيضًا في ذمته حتى يتعلق بالشعر المستحلق تداركًا لما التزمه أو لا يتعلق به؛ لأن النسك إنما هو في إزالة شعر اشتمل عليه الإحرام كما قاله الرافعي فيه نظر، والمتجه الأول وهو عدم الجواز؛ فإنه إذا نذر صفة في واجب لم تقدح تلك الصفة في الاعتداد بذلك الواجب كما لو نذر الحج ماشيًا وقلنا بوجوب المشي فركب.
قوله في "الروضة": وفي وجه غريب لا يلزم الحلق بالنذر إذا لم يجعله نسكًا. انتهى كلامه.
وحاصله أن الصحيح المعروف أن الحلق يلزم بالنذر وإن قلنا: إنه ليس بنسك، وهذا مشكل؛ لأن النووي جازم بأن الحلق لا ثواب فيه إذا فرعنا على هذا القول أي: كونه ليس نسكًا. هكذا قاله في "شرح المهذب" وغيره وصرح به الرافعي أيضًا.
وإذا لم يثبت عليه فكيف يلزم بالنذر مع اتفاقهم على أن النذر لا يصح إلا في قربة.
وبالجملة فالذى ذكره في "الروضة" غير مطابق لكلام الرافعي؛ فإن الرافعي قد قال ما نصه: وقوله يعني الغزالي لا خلاف في أنه مستحب يلزم بالنذر ليس صافيًا عن الإشكال لأن التوجيه الذي مر يقتضي كونه من المباحات على قولنا أنه ليس بنسك وقد ذكر غيره أنه إنما يلزم بالنذر على قولنا أنه نسك.
هذا لفظ الرافعي، ولم يذكر في هذه المسألة غيره، وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وهو صريح في إنكاره؛ وليوضح ذلك فيقول: قد علمت أن الغزالي ذهب إلى استحبابه على القول بأنه ليس بنسك، ويلزم من استحبابه لزومه بالنذر، ونزاع الرافعي ليس في الوجوب على تقدير تسليم الاستحباب بل إنما نازع في الاستحباب المقتضي للوجوب؛ ولهذا عبر بقوله لأن التوجيه الذي مر يقتضي كونه من المباحات فتأمله. . إلى آخره.
وحاصل ما يستفاد من سياقه رجحان الإباحة وعدم الوجوب، وهو كلام صحيح.
وأما ما صححه النووي من الوجوب بناء على أنه ليس من المناسك فلا يستقيم؛ لأنه إن كان تفريعًا على أنه مستحب فهو تفريع صحيح غير أنه لا يقول هو به فإنه قد صرح في "شرح المهذب" وغيره فعبر بعدم الثواب كما تقدم نقله عنه في المسائل السابقة، وإن كان مع القول بالإباحة فلا يستقيم لأن اللازم بالنذر إنما هو المستحب دون المباح؛ فالصواب إما أن يقول باستحبابه ولزومه بالنذر أو بإباحته وعدم لزومه.
وأما الجمع بين الإباحة واللزوم فمما لا يعقل.
وأما كلام الرافعي فمستقيم كما سبق لأن إشعاره بعدم الوجوب بالنذر موافق لتصريحه بالإباحة تفريعًا على ذلك القول.
واعلم أن نذر الحلق له ثلاثة أحوال:
أحدها: أن لا يعين مقدارًا، بل يطلق الحلق فيكفي حلق ثلاث شعرات عند من أوجبه.
الحال الثاني: أن يصرح بالاستيعاب؛ قال الرافعي: ففيه تردد عن القفال ولها أجوبة تذكر في النذر، وأشار بذلك إلى ما إذا نذر استيعاب الرأس بمسح الرأس في الوضوء ونحوه، والأصح فيه اللزوم. وهذه المسألة لم يذكرها في "الروضة".
الحال الثالث: أن يعبر بالحلق مضافًا فيقول لله تعالى على حلق رأسي، والمتجه أنه كتصريحه بالجميع للعرف، ويحتمل إلحاقه بما إذا قال: على الحلق أو أن أحلق. وتدل عليه الآية.
قوله: وأعمال الحج يوم النحر أربعة: جمرة العقبة، والذبح، والحلق، والطواف. انتهى.
لم يتعرض هنا لصلاة العيد، وقد تقدم الكلام عليها في موضعها فراجعها.
قوله: ومتى يخرج وقت هذه الأربعة؟ أما الرمى فيمتد وقته إلى غروب الشمس يوم النحر.
وهل تمتد تلك الليلة؟
فيه وجهان: أصحهما: لا. انتهى كلامه فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره هنا من الامتداد إلى الغروب فقد ذكر ما يخالفه في الكلام على الأغسال المسنونة فقال نقلًا عن الإمام أنه يمتد إلى الزوال، وقد تقدم الكلام عليه.
الأمر الثاني: أن تصحيحه عدم الامتداد تلك الليلة قد تابعه عليه في "الروضة" وكذلك في "المناسك الكبرى"، ثم خالف ذلك في المناسك المذكورة أيضًا في الكلام على فوات رمي أيام التشريق فذكر أن هذا الرمي يجوز فعله بالليل وفي باقي أيام التشريق ويكون أداء، ووافقه عليه أيضًا غيره، وسيأتي الكلام عليه هناك مبسوطًا.
قوله: وأما الذبح فالهدي لا يختص بزمن لكن يختص بالحرم. انتهى.
واعلم أن الهدي يقع على دماء الحيوانات والمحظورات وعلى ما يسوقه المحرم تقربًا إلى فقراء الحرم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالأول لا يختص بزمن قياسًا على الديون وغيرها، وهذا هو المراد هنا.
وأما الثاني فيختص ذبحه بوقت الأضحية على الصحيح كما ذكره الرافعي في آخر باب الهدي، وصرح هناك بأن اسم الهدي يقع على الكل وبأن الهدي المذكور هناك الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو الذي يسوقه المحرم.
ثم ذكر الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" على مسألة في بابها وحكم عليها بما ذكرته غير أنه عبر في الموضعين بالهدي ولم يفصح عن المراد كما أفصح عنه في الكثير، وظن النووي رحمه الله أن المسألة متناقضة فاعترض على الرافعي هنا في "الروضة" و"المنهاج" و"شرح المهذب" وقال: إن المذكور هنا خلاف الصحيح وإن الصحيح ما ذكره هناك،
والعجب من استدراكه مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد؛ فتفطن لذلك؛ وأحد ما وقع فيه النووي من هذا الوهم الفاحش.
قوله: وأما الحلق والطواف فلا أحدهما لكن ينبغي أن يطوف قبل خروجه من مكة. وقال في "التتمة". إذا تأخر عن أيام التشريق صار قضاء. انتهى.
وكلامه يشعر بجواز تأخير أسباب التحلل إلى خروج أيام الحج، وبه صرح النووي في "شرح المهذب" فقال في هذا الموضع: يكره تأخير الحلق وطواف الإفاضة عن هذا اليوم، وتأخيرها عن أيام التشريق أشد كراهة، وخروجه من مكة قبل ذلك أشد، ولكن لا آخر لوقتها، ولا يزال محرمًا حتى يأتي بذلك. انتهى كلامه وما اقتضاه كلامه في "الروضة" وصرح به في الشرح المذكور يشكل عليه ما ذكره فيه أيضًا في الكلام على الفوات؛ فإنه قال ما نصه: قال الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي وغيرهم: ليس لصاحب الفوات أن يصير على إحرامه إلى السنة القابلة لأن استدامة الإحرام كابتدائه وابتداؤه لا يصح، ونقله أبو حامد هذا عن النص وعن إجماع الصحابة. انتهى.
قلت: وجزم به أيضًا صاحب التقريب ونقله عن "النص" أيضًا.
وإحصار الحاج بسنة ما نحن فيه فإنه إذا ترك التحلل فاته الحج ولزمه القضاء.
وليس في "الشرح" ولا في "الروضة" فيه ولا في الفوات تصريح بوجوب المبادرة إلى التحلل ولا بعدم وجوبها.
وقد جزم ابن الرفعة في "المختصر" بأنه لا يجب عليه أن يتحلل بالكلية فقال: كلام الأصحاب دال على أنه غير واجب.
قال: وصرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما.
ثم ذكر في مسألة الفوات ما يدل على أن التحلل فيه واجب، ونقله عن الماوردي، وعلله بأن الاستدامة كالابتداء.
وذكر في مسألتنا وهي تأخير طواف الإفاضة والحلق ما يوافقه فقال: الذي يظهر لي أن قول: من قال: يجوز تأخيرهما، ليس على إطلاقه بل هو محمول على من يحل التحلل الأول بأن أتى بأحدهما مع الرمي وإلا يصير محرمًا بالحج في غير أشهره.
والذي قاله ابن الرفعة حكمًا وتعليلًا مردودًا؛ فقد تقدم عن "شرح المهذب" عكسه، وأما التعليل فلأن وقت الحج يخرج بطلوع فجر يوم العيد والتحلل قبل ذلك لا يجب اتفاقًا بل أن يؤخروه إلى ما بعد طلوع الشمس، وهو نظير ما لو أحرم بالنافلة في غير وقت الكراهة ثم مدها إليه فإنه يجوز وإن كان ابتداؤها فيه لا يصح.
قوله: ومن فاته الرمي ولزمه بدله فهل يتوقف التحلل على الإتيان ببدله؟ فيه أوجه: أشبهها: نعم؛ تنزيلًا للبدل منزلة المبدل.
والثالث: إن افتدى بالصوم فلا؛ لطول زمانه. انتهى كلامه.
والصحيح في هذه المسألة خلاف ما رجحه الرافعي؛ فإن المشهور أنه لا يتوقف، وهو الذي نص عليه الشافعي.
وقد تعرض لما ذكرناه ابن الرفعة أيضًا حتى نقل فيه عن بعضهم الإجماع.
وتعبير الرافعي بالأشبهه يدل على أنه لم يظفر بترجيح صريح في المسألة لعدم إمعانه فيها.
وقد اغتر النووي بهذا الترجيح الضعيف فعبر عنه في "الروضة" بالأصح، ثم نقل ذلك منها إلى غيرها على عادته.
فإن قيل ما الفرق عند الرافعي بين هذا وبين المحصر إذا عدم الهدي؟ فإن أصح القولين أن التحلل لا يتوقف على بدله وهو الصوم مع أن العلة في مسألتنا وهي تنزيل البدل منزلة المبدل لوجوده فيه؟ .
قلنا: الفرق أن التحلل إنما أبيح للمحصر تخفيفًا عليه حتى لا يتضرر بالمقام على الإحرام، فلو أمرناه بالصبر إلى أن يأتي بالبدل لتضرر.
قوله: ويحل بالتحلل الأول اللبس والتقليم وستر الرأس.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا حلقتم ورميتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء"(1).
وفي عقد النكاح والمباشرة فيما دون الفرج قولان، واختلفوا في الأصح منهما؛ فذكر صاحب "المهذب" وطائفة أن الأصح منهما الحل.
وقال آخرون: بل الأصح المنع ومنهم المسعودي، صاحب "التهذيب". وهؤلاء أكثر عددًا وقولهم أرفق لظاهر النص في المختصر.
انتهى. وما اقتضاه كلامه من رجحان التحريم قد خالفه في "الشرح الصغير" فصحح الحل وعبر بالأظهر، وكلامه في "المحرر" يقتضي التفصيل بينهما؛ فإنه صرح بإباحة عقد النكاح بالأول وجعل المباشرة داخلة فيما يحل بالثاني.
(1) أخرجه أحمد (2090) من حديث ابن عباس مرفوعًا بسند ضعيف.
وأخرجه أبو داود (1978) و (25146) والدارقطني (2/ 276) والبيهقي في "الكبرى"(9379) والطحاوي في "شرح المعاني"(2/ 228) والحارث في "مسنده"(380) من حديث عائشة مرفوعًا. وقال الألباني: صحيح.
وقد استدرك عليه النووي في "المنهاج" وصحح التحريم ونقله في "شرح المهذب" عن الأكثرين.
والحديث المذكور رواه الدارقطني من ثلاثة طرق، ولكنه ضم الذبح في الطرق الثلاث إلى الخصلتين المذكورتين وهما الرمي والحلق.
غير أن الأصحاب اتفقوا على أنه لا مدخل له في التحلل.
وروى النسائي بإسناد جيد كما قاله في "شرح المهذب": إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل [شيء](1) إلا النساء، ونقل أعني النووي في الشرح المذكور أن الحديث الذي ذكره الرافعي رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف وليس كما قال؛ فإن المذكور في أبي داود:"إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء"، وهو موافق لما رويناه عن النسائي في الاقتصار على خصلة واحدة.
قوله في "الروضة": والمذهب حل الطيب بالأول، بل هو مستحب بين التحللين.
انتهى. وهذه العبارة لا يعلم منها أن الأصح طريقة القطع أم طريقة القولين، قد بينه الرافعي فقال: وفي الطيب طريقان: أشهرهما أنه على القولين، والثاني: القطع بالحل، وسواء أثبتنا الخلاف أو لم نثبته فالمذهب أنه يحل بل يستحب.
هذه عبارته.
فاقتصر النووي في "الروضة" على آخر عبارة الرافعي ثم التبس عليه المراد منها في "شرح المهذب" فظن أن مراده رجحان طريقة القطع فصرح به فقال: المذهب الذي عليه الجمهور هو القطع بالحل.
هذا لفظه فاحذره.
(1) سقط من أ.