الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية
لقد ذكرنا طرفا من الأحاديث الصحيحة في شأن الموالاة والمعاداة عامة وفي موالاة الكفار خاصة، وخشية الإطالة والتكرار فسوف نقتصر في هذا المبحث على ذكر الأحاديث التي لم يتقدم ذكرها فيما سلف من هذه الرسالة وهذه الأحاديث هي كما يلي:
أولاً: إن الإسلام قد سدَّ الذَّرائع المفضية إلى موالاة اليهود والنصارى بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (1).
قال النووي (2): فالصواب تحريم ابتدائهم بالسلام، ونقل القاضي
(1) رواه مسلم انظر صحيح مسلم كتاب السلام (4/ 1707).
(2)
هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن النووي الشافعي (محيي الدين أبو زكريا) فقيه محدث، حافظ لغوي مشارك في بعض العلوم ولد بنوى من أعمال حوران في العشر الأول من المحرم سنة (631هـ) وقرأ بها وقدم دمشق فسكن المدرسة الرواحية، لازم كمال الدين إسحاق المغربي، وقرأ الفقه وأصوله والحديث وأصوله والمنطق والنحو وأصول الدين وسمع الكثير من الرضي بن البرهان، وعبد العزيز الحموي وغيرهما وولي مشيخة دار الحديث بعد شهاب الدين أبي شامة وتوفي بنوى في 14 رجب سنة (677 هـ) ودفن بها من: تصانيفه الكثيرة الأربعون النووية في الحديث شرح صحيح مسلم روضة الطالبين وعمدة المفتين في فروع الفقه الشافعي، تهذيب الأسماء واللغات، التبيان في آداب حملة القرآن ورياض الصالحين انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (13/ 202).
عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام للضرورة والحاجة، ولقوله صلى الله عليه وسلم «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (1).
أما ما ورد في الحديث من اضطرارهم إلى أضيق الطريق، فالمقصود بذلك إشعارهم بالذلة والمهانة بسبب ما هم فيه من كفر، حتى يسلموا فيدخلوا في عزة الإسلام أو يستكينوا فلا يتطاولون على الإسلام والمسلمين بأذى أو يظهروا عداوتهم فيحاربوا مع الكفار المحاربين.
وهذا الاضطرار والتضييق عليهم في الطريق ليس مطلقا، بل بشرط أن لا يلجئهم إلى الوقوع في وهدة، أو الاصطدام بجدار ونحو ذلك، لأن المقصود الإهانة المعنوية دون الأذى الجسدي (2).
حيث إن ابتداءهم بالسلام، وتصديرهم في المجالس والطرق، إعزاز لهم ولما يمثلونه من كفر، وذلك مخالف لما دلت عليه الآيات القرآنية في قوله تعالى:(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح: 29] وقول الله تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)[التوبة: 123] وعلى ذلك يمكن أن يقاس صاحب البدعة.
(1) رواه مسلم: انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 146).
(2)
انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 144 - 147) وانظر الجامع الصحيح (7/ 3 - 5) الحاشية على تلك الصفحات.
قال الطيبي (1): إن المختار من الأقوال، أن المتبدع لا يبدأ بالسلام (2) اهـ.
وقال آخرون: إن النهي عن البدء بالسَّلام يحمل على الكراهية لا على التحريم حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألف الكفار بالأموال الطائلة فكيف بالكلام الحسن؟ (3) اهـ.
فمن قصد بالسلام تألفهم للدعوة إلى الله فهذا في حقه السلام مباح، ومن قصد بالسلام ملاطفتهم في معاملات تجارية ونحو ذلك فابتداؤهم بالسلام مكروه، وأما من ابتدأهم بالسلام تعظيما لهم وإكراما لمقامهم، وطلبا لرضاهم، ومحبة لهم، فهذا محرم يتنافى مع الآيات القرآنية والحديث المتقدم (4)، ويتعارض صراحة مع قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)[الممتحنة: 1] والسلام هو شعار المودة ودليلها البارز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (5).
(1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي (شرف الدين) عالم مشارك في أنواع العلوم توفي في 13 شعبان سنة (743هـ) من تصانيفه الكاشف عن حقائق السنن النبوية، التبيان في المعاني والبيان مقدمة في علم الحساب، أسماء الرجال فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب في التفسير انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 53).
(2)
انظر حاشية الجامع الصحيح (7/ 5).
(3)
انظر المصدر السابق المكان نفسه وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 145).
(4)
انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 144 - 147) انظر حاشية الجامع الصحيح (7/ 3 - 5).
(5)
رواه مسلم، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ص (661) ورقم (848).
وعلى هذا فالسلام على الكفار تعظيما وإكراما وتحية لهم وطلبا لرضاهم أمر لا يجوز للآية المتقدمة وللحديث الذي يدور حوله النقاش وإذا تقرر عدم السلام بهذا الوصف، خوفا لما يجر إليه من مودة وموالاة للكفار.
فكيف حال من يستقبلون قتلة المسلمين من اليهود والنصارى والمرتدي بالمعانقة والاستبشار، وأيديهم لا تزال تقطر من دماء المسلمين المنكوبين؟
إن هؤلاء الذين يتلقون الكفار وأباههم البشاشة والإكرام، ويقدمون لهم الهداية الثمينة، والأموال الطائلة، ويرسلون إليهم التهاني، والرسائل التي تبالغ في مدحهم واطرائهم، ومدح ما هم فيه من كفر وضلال وحتى في مناسبات سخيفة ساذجة عليهم أن يراجعوا أنفسهم إذا أرادوا السير مع الإسلام سيرا حقيقيا قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56].
وقد روى أبو داود، وأحمد عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل» (1).
ثانيا: ما أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد أن جريرًا قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله أبسط يدك حتى أبايعك واشترط عليَّ فأنت أعلم قال: أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين وتفارق المشركين (2).
(1) انظر سنن أبي داود كتاب الأدب (5/ 257ح 4977) وقال الألباني: إسناده صحيح انظر المشكاة (3/ 1349ح 4780) وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1) رقم الحديث (371) وانظر مسند أحمد (5/ 346).
(2)
قال الألباني إسناده صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 230) رقم الحديث (636) وانظر سنن النسائي (7/ 148) وانظر سنن البيهقي (9/ 13) وانظر مسند أحمد (4/ 365).
ثالثًا: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مسلم على مسلم حرام، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» (1).
رابعا: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (2).
خامسا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أوليائي يوم القيامة المتقون، وإن كان نسب أقرب من نسب فلا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد: فأقول: هكذا وهكذا لها، وأعرض في كلا عطفيه» (3).
سادسا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أولى الناس لي المتقون من كانوا وحيث كانوا» (4).
هذا مجمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في موضوع الموالاة والمعاداة سوى ما تقدم ذكره سلفًا، وفيما يلي بعض الأحاديث التي يستأنس بها وقد يكون في سند بعضها مقال وهي كما يلي:
(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م1 رقم الحديث (469).
(2)
رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال الترمذي: حديث حسن انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 341) رقم الحديث (368).
(3)
أخرجه البخاري من الأدب المفرد (ص129) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 403) رقم الحديث (765).
(4)
رواه أحمد: (5/ 235) وهو حديث صحيح انظر صحيح الجامع الصغير (2/ 181ح 2008).
أولاً: روي أبو نعيم في الحلية من حديث مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعًا قال: «يؤتى بعبد محسن في نفسه لا يرى أن له ذنبًا فيقول له هل كنت توالي أوليائي؟ قال: كنت من الناس سلما، قال فهل كنت تعادي أعدائي؟ قال: رب لم يكن بيني وبين أحد شيء، فيقول الله عز وجل: لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي» (1)، فهذا الحديث تنبيه للذين يظنون أنهم في سلامة من أمرهم وهم يقفون موقف المتفرج في صراع الإسلام وأهله مع قوى الكفر والضلال، وهو كذلك تحذير للذين يفعلون أكثر مما يفعله المتفرجون، تحذير للذين يداهنون الكفار ويوالونهم، ولا يرون بذلك بأسًا أو غضاضة ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» (2).
ثانيا: روي عن أبي بكر محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعامر بن الأسود (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامر بن الأسود المسلم أن له ولقومه من طيء ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة وفارقوا المشركين) كتبه المغيرة، أخرجه أبو موسى (3).
ثالثا: ما روى أبو ياسر بن أبي حبة بإسناده عن عبد الله بن أحمد حدثني أبي حدثنا إسماعيل حدثنا سعيد الحريري عن أبي العلاء بن الشخير
(1) انظر تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران تأليف حمود بن عبد الله التويجري (38).
(2)
رواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما بأسانيد فيها مقال عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه مرفوعًا ولكن معناه موافق لعموم الأدلة انظر تحفة الإخوان محمود التويجري (75).
(3)
انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (3/ 77).
قال: كنا مع مطرف في سوق الإبل بالربذة فجاء أعرابي معه قطعة أديم وجراب فقال: من يقرأ أو فيكم من يقرأ؟ قلت: نعم، فأخذته فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأعطوا الخمس مما غنمتم، وأقروا بسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله (1).
رابعا: ما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي في مرضه نعوده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «قد كنت نهيتك عن حب يهود، فقال عبد الله: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمات» (2).
خامسًا: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «اعتبروا الناس بإخوانهم» (3).
سادسا: جاء في كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه اليهود وعاهدهم، ما يدل على تناصر المؤمنين وأنهم يد واحدة على من خالفهم جاء فيه وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (4) ظلم أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس (5).
(1) رواه البيهقي انظر السنن الكبرى للبيهقي (9/ 13) وانظر أسد الغابة لابن الأثير (5/ 39، 40).
(2)
انظر مسند أحمد (5/ 201) وانظر سنن أبي داود (3/ 184).
(3)
انظر تفسير القرطبي (4/ 57).
(4)
الدسيعة العظيمة انظر المعجم الوسيط (1/ 282، 283)
(5)
انظر السيرة لابن هشام (2/ 147 - 149) وانظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون (140، 141).
سابعًا: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» (1).
ثامنا: روي الإمام أحمد في مسنده أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى، قال: فخياركم الذين إذا رءوا ذُكر الله تعالى ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال فشراركم المفسدون بين الأحبة المشاءون بالنميمة الباغون للبراء العنت» (2).
ومن خلال الأحاديث المتقدمة يتأكد لدي أن المسلم مأمور بمفاصلة المشركين وعداوتهم، وعدم إظهار التقدير والتكريم لهم، ولا يجوز احترامهم إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا أراد المسلم تأليف قلوبهم للدعوة إلى الإسلام، فيجوز له البر بهم، والتظاهر بحسن المعاشرة لهم، ولا تدخل محبتهم قلبه إلا بعد إسلامهم، ودخولهم في عداد المسلمين.
أما فيما يتعلق بمحبة المؤمنين والمسلمين ووجوب مناصرتهم بالقول والفعل والاعتقاد، فإنَّ السنة قد دلَّت على ما دلَّ عليه القرآن الكريم، من أن الموالاة في الله والمعاداة فيه، أصل من أصول الإسلام لا يصحُّ إسلام المرء إلا بهما فمن خالف ذلك فقد خالف ما قرره الله ورسوله في الكتاب والسنة من وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين.
(1) رواه أبو داود والترمذي بإسناد لا بأس به، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 341) رقم الحديث (367).
(2)
انظر مسند الإمام أحمد (6/ 459) وقال عنه ابن الأثير: إنه حديث غريب، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 306) باب العين مع النون.