الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة
يختلط على كثير من الناس مفهوم المداهنة بالمداراة، فيحتج البعض منهم بمفهوم إحداهما على الأخرى، رغم أن هناك فرقا بينهما لا يخفى على ذوي الاطلاع، من أجل ذلك أردنا في هذا المبحث أن نوضح حسب اطلاعنا المحدود الفرق بين هذين المفهومين اللذين يلتبسان على كثير من الناس فنقول:
بأن في هذا المبحث مطلبين:
المطلب الأول: هو تعريف المداهنة وحكمها.
المطلب الثاني: هو تعريف المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة
المطلب الأول: المداهنة وحكمها
المداهنة: هي ترك ما يجب لله، من الغيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي وهوى نفساني، لزعم هؤلاء
أن المعيشة لا تحصل لهم إلا بذلك، فالمداهنة هي المعاشرة والاستئناس مع وجود المنكر والقدرة على الإنكار (1).
فالمداهنة محرمة، وهي نوع من أنواع الموالاة للكفار (2).
فمن داهن أهل الكفر والظلم والفجور وهو قادر على الإنكار عليهم فقد خالف نهج الرسل والأنبياء وأتباعهم، وخرج عن سبيلهم ومنهاجهم، فالذين يداهنون الكفار، يرون العقل في إرضاء الناس على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم، بغض النظر عمن هو صاحب الحق ومن صاحب الباطل، فهم يسالمون الجميع ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، إيثار للحظوظ الدنيوية، وحبا للدعة والراحة، وطلبا للسلامة العاجلة، في ترك المعاداة في الله، والموالاة فيه، وتحمل الأذى في سبيله، وهذا الاعتقاد والعمل هو التهلكة في العاجلة والآجلة، حيث إن المداهنة بهذا الوصف تتعارض مع آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[لقمان: 17].
فالمداهن بالإضافة إلى تركه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكتسب إثما جديدا وهو إشاعة الفحشاء والمنكر في المجتمع، لأن الفجرة والطغاة إذا آمنوا من مغبة الإنكار عليهم، ازدادوا في فجورهم وطغيانهم لأنهم يرون أن الكلم يعلم فجورهم، ومع ذلك يسكت ويداهن، فالمداهنة مشاركة بجريمة اقتراف المنكر والسكوت عليه في الدنيا، ولذلك استحق من يفعل ذلك اللعن والطرد من رحمة الله، كما ذكر الله عز وجل عن بني إسرائيل قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ
(1) الدرر السنية (11/ 85).
(2)
الدرر السنية (7/ 38، 39).
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ) [المائدة: 79].
فلا يجوز ترك إنكار المنكر ممن يراه، فالذي يسكت عن إنكار المنكر خوفا أو هيبة من أحد من الناس، يكون مداهنا في دين الله، والله عز وجل حرم المداهنة يقول تعالى:(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[القلم: 9].
فالذي يرى المنكر ينكر على فاعله بالحكمة والموعظة الحسنة التي يراها مناسبة لمثل تلك الحالة، فالمنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، وإذا فشا ولم ينكر ضر العامة كلهم (1).
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها» وقال مرة: أنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (2)، فعلى هذا يكون الاستئناس والمعاشرة عند رؤية المنكر مع القدرة على الإنكار، هو عين المداهنة (3) فما ذاق طعم الإيمان، من لم يوال في الله ويعاد فيه فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضا الله ورسوله وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته على مرضاتهم، والغضب إذا انتهكت محارمه فالغضب ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه لله، وإذا عدمت الحياة في القلب تبعها انعدام الغيرة والتعظيم والغضب لله فتساوى عند هؤلاء الناس الخبيث والطيب، في المعاملة وفي الموالاة والمعاداة فأي خير يبقى في قلب كهذا؟
(1) انظر الدرر السنية (11/ 4).
(2)
انظر سنن أبي داود (4/ 124) رقم الحديث (4345) كتاب الملاحم،.
(3)
انظر الدرر السنية (7/ 35، 36).
إن المداهن الذي يطلب رضا الخلق، أخبث حالا من الزاني والسارق وشارب الخمر.
قال ابن القيم رحمه الله: ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل القيام مع ذلك بالأمور المحبوبة عند الله، وأكثر المنتسبين إلى الدين لا يعبئون منها، إلا بما يشاركهم فيه عموم الناس، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله، ورسوله وعباده المؤمنين، ومناصرتهم والجهاد معهم فلا يخطر ببال كثير ممن يدعون الإسلام فضلا عن أن يريدوا فعلها، أو أن يفعلوها وأقل الناس دينا، وأبعدهم من الله، من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، حيث يندر من هؤلاء من يحمر وجهه ويتمعر غضبا لله، إذا انتهكت محارمه، فهم لا يجودون بالأنفس والأموال في نصرة الحق وقمع الباطل، فأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء (1) اهـ.
ثم يقول الشيخ حمد بن عتيق معلقا على كلام ابن القيم رحمهما الله جميعا: لو قدر أن رجلا يصوم النهار ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب ولا يتمعر وجهه، ويحمر لله غضبا عند رؤية المنكر وأهله، فهذا من أبغض الناس عند الله وأقلهم شأنا، نظرا لعدم تحمله الأذى في سبيل الدعوة إلى الله (2) اهـ.
ثم يقول حدثني من لا أتهم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال مرة: عندما رأى أناسا يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرءون ويبكون، فإذا علموا معروفا لم يأمروا به، وإذا رأوا منكرا لم ينهو اعنه، ورأى أناسا يعكفون عندهم، ويقولون هؤلاء لحي
(1) انظر الدرر السنية (7/ 38).
(2)
انظر الدرر السنية (7/ 38، 39).
غوانم (1) وأنا أقول إنهم لحي فوائن (2) فقال السامع أنا لا أقدر أن أقول: إنهم لحي فوائن فقال الشيخ: أنا أقول إنهم من العمي البكم (3).
يشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف قولهم: إن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق (4) فلو علم المداهن الساكت أنه من أبغض الخلق إلى الله وهو في تلك الحالة، لتكلم بالخير وصدع بالحق، ولو علم طالب رضا الخلق بترك الإنكار عليهم، أنه لن يناله من ذلك إلا غضب الله عليه، ومن يغضب الله عليه يغضب الناس عليه، كما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» (5).
فالمداهنة سبب للغضب والعذاب في الدنيا والآخرة يقول الشاعر:
وثمود لو لم يداهنوا في ربهم
…
لم تدم ناقتهم بسيف قدار (6).
وعلى هذا فالحاكم المسلم يجب عليه موالاة أهل الإيمان ونصرتهم، وقمع أهل الباطل والبغي والفساد وكسر شوكتهم، وقد أخذ بهذا المبدأ عبد الله بن سعود بن عبد العزيز في رسالة بعث بها إلى أمراء بعض الجهات التابعة له، قال فيها: بلغنا الخبر أن بعض الأمراء متسلط على أهل الدين، بأمور ظاهرها حق وباطنها باطل ومغشة، ولا يفعل هذا أمير مع
(1) أي فائزة من غنم الشيء غنما أي فاز به، انظر المعجم الوسيط (2/ 670).
(2)
فوائن جمع فينة وهي الأمر الدريء
(3)
انظر الدرر السنية (7/ 39).
(4)
المصدر السابق نفس المكان.
(5)
انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (350، 351) انظر سنن الترمذي (4/ 34).
(6)
انظر الدرر السنية (7/ 36).