الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله
إن الإسلام ليس دعوة نظرية لإمتاع العقول وتزكية الخيال، بقدر ما هو عمل واقعي، ومنهج تطبيقي لإصلاح شأن الإنسان وشأن الناس جميعا لقد كانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة أو الحادثة المعينة تحدث للناس عما في نفوسهم، وتصور لهم منهج العمل في ذلك الموقف أو غيره من المواقف، وتصحح لهم الأخطاء في الشعور والسلوك، وتربطهم في هذا كله بالله عز وجل، ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم العملية والنفسية، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم (1).
لقد أكد الله عز وجل على العمل في آيات كثيرة من القرآن الكريم فقد ورد ذكر العمل مقرونا بالإيمان في أكثر المواضع، ومفردا تارة أخرى وقد بلغ ذلك أكثر من ثلاثمائة وسبعين موضعا من القرآن الكريم (2).
(1) انظر معالم في الطريق سيد قطب (18، 19).
(2)
انظر المعجم المفهرس لإلفاظ القرآن (483 - 488).
ليكون ذلك دليلا على أن العمل هو البرهان الحقيقي على صدق القول من كذبه، ذلك أن العمل أشق من مجرد القول الذي لا يكلف الإنسان إلا بضع كلمات عابرة، ولكن بالأفعال يظهر الصدق من الكذب.
فمن سمات هذا الدين البارزة وخصائصه الفريدة أنه يربط القول بالعمل، فهو ليس مجموعة من النصوص المثالية النظرية، بقدر ما هو عمل تطبيقي واقعي طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقه أصحابه، ولا يزال المسلمون المتمسكون بهذا الدين يطبقون نصوص الكتاب والسنة حتى هذا اليوم تطبيقا عمليا في صغير الأمور وجليلها، وهذا هو معنى الإسلام والإذعان الحقيقي لله عز وجل، وقد ذم الله عز وجل الذين يقولون ما لا يفعلون، بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2].
وأسباب تحقيق الموالاة في الله كثيرة ومتنوعة ولكن حسبنا أن نذكر أهم تلك الأسباب العملية للذكرى والتنبيه وهي كما يلي.
السبب الأول: إن من أهم أسباب تحقيق الموالة في الله، أن يكثر المسلم من مطالعة كتاب الله عز وجل وتدبر آياته، حيث إن المسلم يرى من خلال آيات الكتاب الكريم ما يجب عليه نحو ربه ثم نحو رسوله صلى الله عليه وسلم ثم نحو إخوانه المؤمنين، من محبة وطاعة ومناصرة، فقراءة الكتاب الكريم جلاء للبصائر الكليلة، وشفاء للصدور العليلة، فإن من دوام على قراءته في تمهل وترو، وتدبر، انفتحت أغلاق قلبه وسطعت أنوار القرآن في آفاق نفسه، وانمحت منها غياهب الظلام والفجور، ولذلك يدعونا الله عز وجل إلى هذا الأمر بقوله تعالى:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة، قبل أن
يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله» (1).
وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)[الكهف: 100، 101]
إنهم هم الذين كانوا يعرضون عن القرآن الكريم، وعن الاستماع إليه، والتأمل في معانيه، والتدبر في آياته (2).
وأخرج ابن حبان من حديث طويل عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: «عليك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله» ، قلت: يا رسول الله زدني قال: «عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذكر في السماء» (3).
ويروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله:«لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله» .
وللقرآن تأثير مباشر على قوة الإيمان وضعفه، فكلما قويت الصلة بكتاب الله وتدبر معانيه، كلما ازداد الإيمان في النفس وظهرت آثاره على الأقوال والأفعال، وكلما ضعف الإيمان بضعف الصلة بكتاب الله وتدبر معانيه، كلما ازداد الإنسان بعدا عن محبة الله ومحبة رسوله ومحبة المؤمنين، وصار مهيئا لمحبة الكفار وأفعال الكفر وصفات الكافرين.
(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 118) رقم الحديث (258).
(2)
انظر تفسير الطبري (11/ 64) والطبري (16/ 25) وفي ظلال القرآن (16/ 414).
(3)
انظر الترغيب (3/ 8) وانظر أحاديث تاريخ الخطيب (7/ 393).
السبب الثاني: إن السبب الثاني من أسباب تحقيق الموالة في الله هو الإيمان الله. إن الفرد بغير الإيمان الحقيقي بالله، ريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، والإنسان بغير الدين الإسلامي، إنسان لا قيمة له ولا جذور، فهو عندما ينسلخ من الدين الإسلامي يتحول إلى حيوان شره، أو وحش مفترس، لا تستطيع الثقافة الوضعية ولا القانون الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الافتراس، والمجتمع بغير دين صحيح، وإيمان قوي، مجتمع متوحش مظلم متألم، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتلأ بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي، فهو مجتمع البقاء فيه للأقوى، لا للأفضل والأتقى مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في وجوه أصحابه، وإن زينوا وجوههم بأنواع الأصباغ والمحسنات وركبوا الطائرات وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات، فهو مجتمع تافه رخيص هزيل، لأن غايات أهله غايات ساذجة سطحية هزيلة لا تتجاوز شهوات البطون والفروج قال تعالى:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)[محمد: 12] بخلاف مجتمع الإيمان والإسلام المبني على الحب في الله والرضا بكل ما صدر عن الله عز وجل، إن المؤمن بعقيدة الإسلام قد نفذ إلى سر الوجود فأحب الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق وصاحب الأمر والنهي المطلق في الوجود كله، وهذا أمر طبيعي، في أن يجب الإنسان ربه، وخالقه ورازقه، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر، وجعل الإنسان في أحسن تقويم، ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لهذا كله ولأكثر منه أحب المؤمنون ربهم حبًّا لا يقاس بغيره مما هو دونه، فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله بلا تردد أو منة، بل اعتبروا ذلك تفضلا من الله عليه، أن فتح لهم باب
الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه فقاموا بذلك الواجب خير قيام (1).
أحب المؤمنون ربهم وكل ما يصدر عن ربهم من أمر ونهي، وكل ما يحبه سبحانه وتعالى، أحبوا الكتاب الذي أنزله ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وأحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين وأحبوا إخوانهم في الله من أهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان، لأن محبة المؤمنين أمر لازم على كل مسلم، ومناصرتهم واجب شرعي لا يتخلى عنه إلا من لا إيمان له، قال تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال:74]. فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثرا حيث إنه الضمان الوحيد لترابط المجتمع واحترام حقوقه، ولذلك ورد في الحديث الشريف:«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (2).
إن الحب في الله يحول المر حلوا، والكدر صفاء، والألم شفاء، والنصرة جهادا والابتلاء رحمة، والإحجام عن نصرة أهل الحق خيانة، وتراجع عن الإسلام.
إن الإيمان الحقيقي بالله، هو الذي ينبعث منه الحب في الله الذي يحرك إرادة القلب، ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات وكلما ازداد الإيمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في الله لديه قوة صلابة.
(1) انظر كتاب الإيمان وأثره في الحياة د/ يوسف القرضاوي (5 - 12).
(2)
رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 74) كتاب الإيمان.
فحقيقة المحبة في الله لا تتم إلا بموافقة الباري جل وعلا في حب ما يحب، وبغض ما يبغض (1).
ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم إيمانا من كان أقربهم إلى الله في محبته، وأقواهم في طاعته، وأتمهم عبودية له (2) وهذه الصفات تستلزم بطبيعة الحال محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة ما جاء به من عند الله، ومحبة المؤمنين بهذا الدين، وإيثارهم على النفس بالمال والنصرة والتأييد، والانضمام في حزبهم حيث إنهم حزب الله ومن انضم إلى حزب الله فقد أفلح في دنياه وأخراه.
إن الإيمان بالله، والحب في الله، وما يترتب عليهما قواعد متلازمة ينبني بعضها على البعض الآخر، ويتأثر اللاحق منها بالسابق فإذا قوي الإيمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في الله، وازدادت الأفعال المترتبة على ذلك، حتى تصبح الجماعة المسلمة، كخلايا الدم في الجسم تعمل لغرض واحد، وهدف واحد، وفي إطار واحد، عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق نفسها، وفي حق البشرية جمعاء (3).
إن أي ارتباط بين شخصين أو أكثر لا بد أن يكون مسبوقا برابطة تربط بينهما، وهذه الرابطة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، بحسب أسسها وركائزها، والأهداف المقصودة منها.
أما الرابطة في دين الإسلام فهي الرابطة في الإيمان بهذا الدين قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
(1) انظر مجموعة التوحيد (422، 423).
(2)
انظر مجموعة التوحيد (422، 423).
(3)
انظر في ظلال القرآن سيد قطب (12/ 560 - 562).
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
إن رابطة الإسلام تغنينا عن جميع الروابط الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدم، أو رابطة اللون أو اللغة، أو رابطة الوطن أو الإقليم أو رابطة الحرفة أو الطبقة، أو غير ذلك من الروابط الجاهلية التي تختلف اختلاف جذريا مع أصول الإسلام ومنطلقاته في الموالاة والمعاداة، والحب والبغض فالدعوة إلى القومية والتجمع العربي فقط على أساس العروبة لغةً ونسبًا هي دعوة جاهلية خارجة عن منهج الإسلام يقول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].
فمن أجل ذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الإخوة في الله هي الأساس والرابطة التي جمع عليها أفئدة أصحابه، حيث إن العقيدة الإسلامية التي جاء بها من عند الله تضع الناس كلهم في مقام العبودية لله تعالى، دون أي اعتبار لفارق اللون، أو الدم أو الوطن، أو الطبقة، أو غير ذلك من الفوارق القائمة في المجتمعات الجاهلية.
فالمقياس لتفاوت الأفراد في الإسلام هو التقوى والعمل الصالح، وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل الصالح.
إن البشرية قد جربت في الماضي المعهود والحاضر المشهود روابط عديدة، من قومية ووطنية، ومنظمات حزبية كافرة، وقد باءت كلها بالفضل الذريع، فهي لم تستطع أن تجمع المتفرقين، أو توحد المختلفين، أو تنصر المهزومين، ولم تنصف المظلومين من الظالمين.
إن مفتاح القلوب لإدخال الحب والألفة والتعاون والتناصر بين الناس، يكمن في الانتماء إلى هذا الدين، وفهمه فهما مستقيما والعمل به قولاً وفعلاً، قال تعالى:(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 62، 63].
فلا ألفه ولا تعاون ولا تناصر، إلا بتعميق مفهوم الإيمان في النفوس، ولنا في هذا تجربة فريدة مضيئة سوف تبقى مثلا أعلى ما بقيت الحياة فقد كانت حياة العرب قبل الإسلام أشبه بحالنا اليوم من الفرقة والقتال والتناحر والخصام والأنانية، وحب الذات، وعدم التمييز في النصر بين الظالم والمظلوم، وعدم الإيثار، والتضحية للمضطهدين والمحتاجين والمشردين من الضعفاء والمساكين، وعندما شع نور الإسلام في قلوب أولئك القوم قلب أفعالهم وأقوالهم رأسا على عقب فاستيقظوا بعد الضلالة والعمى وأدركوا أن التآخي في الله ليس مجرد شعار في كلمة يجرونها على ألسنتهم وتتناقلها أفواههم وإنما هو حقيقة عملية يتصل بواقع الحياة، وبكل أوجه العلاقات القائمة من تعاون وتناصر، وتناصح وإيثار ومحبة، وقد قام بتطبيق ذلك تطبيقا عمليا كل من المهاجرين والأنصار، رضوان الله عليهم، ثم تبعهم على ذلك عامة المسلمين على درجات متفاوتة.
وهذا يؤكد لنا أن مناط التآخي والمحبة والتناصر بين المسلمين هو فهم الإسلام فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا تاما كما فهمه وطبقه أولئك الصفوة الأفاضل الأبرار، بلا تردد أو مداهنة أو احتيال (1).
إن الفهم الحقيقي للإسلام، هو الذي ينبعث منه شعور صادق يحل
(1) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي (156 - 159).
في كيان المرء وإحساسه، ويستولي على شعوره ووجدانه، فيدرك به من حقائق الرسالة ما لا يستطع أن يدركه من يعيش على هامش الحياة، ومن علامات هذا الفهم المستنير لمقاصد الإسلام، أن يرى المرء متجافيا عن دار الغرور منيبا إلى دار الخلود، مستعدا للموت قبل الفوت، منبعثا إلى الدعوة إلى الإسلام في همة وجد ونشاط، مطبقا أحكامه على نفسه وأهل بيته، في غير هوادة أو مداهنة.
ومن علاماته أيضا، شعور المرء بالغيرة والغضب إذا انتهكت حرمات العقيدة، أو اعتدي على حمى الإسلام والمسلمين.
إن من لوازم الإيمان بالله، الحب في الله، والحب في الله يورث الموالاة والمناصرة والتعاون بين الإخوة في الله، فعلينا أن نسعى لغرس الإيمان في النفوس وأن نقتلع كل عوامل الضعف أو العوائق التي تمنع وصول التصور الإسلامي الصافي إلى النفوس، إذا أردنا تحقيق الموالاة في الله والمعاداة فيه (1).
السبب الثالث: من أهم أسباب تحقيق الموالاة في الله تجنب الخلاف بين المسلمين حيث يؤدي الخلاف بين المسلمين إلى الانقسام وإلى ضعف الموالاة وربما إلى المعاداة بين الطرفين المتنازعين، وقد نهى الله عن التنازع والاختلاف والمجادلة بغير التي هي أحسن قال تعالى:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105]، وقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام: 159]، وقال تعالى:(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا)[الروم: 159]، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا
(1) انظر تذكرة الدعاة - لبهي الخولي (233).
وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
فالأخوة المعتصمة بحبل الله، هي الأخوة التي تؤلف بين المسلمين بغض النظر عن مراكزهم، وألوانهم وبلادهم وكان بعضهم يقرأ الآية أو الحديث فيفهم منه فهما معينا، ويفهم غيره فهما آخر، فيناقش كل صاحبه بالتي هي أحسن، فإن كانت النتيجة اتفاقا حمدًا الله تعالى، وإن كانت الأخرى عذر كل صاحبه، وانصرفا صديقين متحابين.
وكان من أثر ذلك في علاقة بعضهم ببعض، نمو روح التسامع فيما بينهم، وقوة المحبة والأخوة في الله وفي سبيل الحق، والتعاون عل كل ما يوصل إلى إرضاء الله تعالى، وإلى سعادة الأمة فبارك الله لهم في أعمارهم، وأعمالهم، وحفظها من أن تضيع في جدل عقيم، ومراء سقيم، ليس له من باعث سوى العناد للرأي، والانتصار للمذهب، مهما بعد عن الحق أو ظهر خطؤه (1).
لقد نفعهم الله سبحانه وتعالى بوحدة الكلمة والرأي، فسلموا من التخاصم والتحاسد، ومن كل ما يفسد القلوب، ويحبط الأعمال، فنفعهم الله بأعمالهم ونفع بها الأمة.
وها هي ذي آثارهم، لا زالت منارا يهتدي به من أراد سلوك طريقهم ونموذجا لمن وهبه الله الفقه في الدين وحرص على تحري الحق، وأراد أن ينفع كما نفعوا، ويثمر كما أثمروا ولعل من أسلوب نجاحهم أنهم كانوا جميعا يغترفون من نهر واسع الجنبات عميق الغور،
(1) انظر ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين عبد الجليل عيسى (6).
وذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرتوي منه كل منهم على قدر استعداده ولا يقابل من غيره بعتاب ولا ملام.
أما اليوم ونقولها بكل مرارة وأسى، فقد وصل الاختلاف بين المسلمين المحسوبين على الإسلام، إلى درجة ينفطر لها قلب المسلم الغيور حسرة وألما، وكأنهم عفا الله عنهم، لم يكفهم التمزق الذي أصابهم من أعدائهم من الخارج، فراحوا يوسعون شقة الخلاف، ويعينون أعداءهم على أنفسهم، بتفرقهم شيعا وأحزابا يخاصم كل حزب غيره ويعاديه (1).
بدلاً من الانضمام تحت حزب واحد وراية واحدة وقيادة واحدة، فالحزب هو حزب الله والراية هي راية الإسلام راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والقيادة هي قيادة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
هذا هو طريق العزة والنصر، طريق الموالاة في الله، والوحدة على رضاه:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
…
وإذا افترقن تكسرت آحادا
فالخلاف المذموم، هو الذي يؤدي إلى نشوء العصبية بين المختلفين وتراشقهم بسهام اللجاج والجدل، حتى ينتهي بهم إلى التفرق والتناحر، وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يتعصب لقول في مذهبه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله بل يجب الرد والرجوع إليها قال تعالى:(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء: 59].
فالاختلاف الناجم عن الهوى والتعصب، هو بلا شك شر على
(1) انظر في هذا المعنى في كتاب ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين عبد الجليل عيسى (6).
الأمة، وقد حصل بسببه آثار سيئة ومفاسد كبيرة، فالتخلص من الاختلاف الذي هو من هذا النوع، واجب ورحمة للأمة كما قال تعالى:(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].
فينبغي للعلماء والمجتهدين، التقارب والبعد عن الاختلاف، تبعا لقوة الدليل وغلبة الظن أنه الحق، لأن اجتماع المسلمين وتوحد كلمتهم وتقاربهم وتعاونهم واحترام بعضهم لبعض أمر، حث عليه الإسلام وهو الضمان الحقيقي لدوام الأخوة والموالاة والنصرة فيما بينهم (1) ويجب أن يدرك الأخ المسلم في تعامله مع إخوانه أنه لا يتعامل مع ملائكة لا يعضون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، بل يتعامل مع بشر يخطئون ويصيبون في اجتهادهم في أقوالهم وأفعالهم، فعلى الأخ أن لا يضيق ذرعًا بأي بادرة خطأ أو اجتهاد في غير محله، بل يحسن التوجيه، فيعذر الجاهل وبينه الغافل، ويذكر المتهاون والله الهادي إلى سواء السبيل.
السبب الرابع: من أسباب تحقيق الموالاة في الله صحبة أهل الخير وأهل المعرفة بالله، وتلك الصحبة مما أمر بها الإسلام وحث عليها، وأهل الخير الذي تستحب صحبتهم، هم من يشتغلون بعيوب أنفسهم عن عيوب الناس، يلتزمون أمر الشرع، ونهيه في صدق وطاعة، ويقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوة وإيمان، فصحبة هؤلاء تلين القلوب، وتطهر من الذنوب وهي بيئة طيبة يحيى فيها القلب حياة كريمة (2).
فقد ورد في الحديث الصحيح أن أعرابيًا قال لرسل الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أعددت لها؟» قال: حب الله ورسوله قال: «أنت مع من أحببت» (3).
(1) انظر أسباب اختلاف الفقهاء د/ عبد المحسن بن عبد الله التركي (34 - 36).
(2)
انظر تذكرة الدعاة لبهي الخولي (205).
(3)
رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2032).
وفي حديث آخر: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك، إما أن يحذيك (1) وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة» (2)، وفي الحديث أيضًا:«إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (3).
وفي الحديث القدسي: «وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتزاوين فيَّ والمتباذلين فيَّ» (4)، وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (5)، وذلك أن ترابط القلوب برباط العقيدة الإسلامية يورث أنسا وسعادة واستقامة في الحياة وأقل درجات الحب في الله، سلامة الصدر من الغل والحسد والضغينة نحو الإخوان في الله، وأعلى درجات الحب في الله والموالاة فيه مرتبة الإيثار، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في وصفه للأنصار حين أكرموا إخوانهم المهاجرين قال تعالى:(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
وفي الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضًا» (6).
(1) يحذيك أي يعطيك.
(2)
رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2026).
(3)
المصدر السابق (4/ 1988، 2566).
(4)
رواه مالك في الموطأ انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 352).
(5)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 633).
(6)
رواه البخاري ومسلم، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 245) باب تعظيم حرمات المسلمين.
وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة: 71].
فالأخ المسلم الصادق يرى أن إخوانه أولى به من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، فحاجته إليهم أشد من حاجتهم إليه (1).
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة: 54].
فالأخ يتقوى بإخوانه ويسترشد بهم فبدلا من أن يفكر بعقل واحد يفكر بعدة عقول عندما يطرح أي مشكلة من مشاكل الحياة التي تواجهه فيجد من إخوانه تنويرًا وتبصيرًا لما قد يغيب عنه أو يخفى عليه، ويجد منهم عونا معنويًا وماديًا له في الحياة.
السبب الخامس: من أسباب تحقيق الموالاة في الله، سلامة الصدر من الغش والحسد والضغينة نحو الإخوان في الله.
فقد أخرج أحمد بإسناد حسن والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه، وقد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه
(1) انظر مجموعة رسائل البنا (276).
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال: إني لاحيت (1) أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤيني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال: أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار (2) تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات:«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فاقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق (3).
هذه حال أولئك الصفوة، صدق وصفاء ونقاء في الظاهر والباطن، ولكن للأسف إن هذا الأمر مفقود بين المسلمين في عصرنا الحاضر إلا ما شاء الله، فحتى أولئك الذين ينصبون أنفسهم للدعوة إلى الإسلام نرى كثيرًا منهم يضمرون ويظهرون أنواعًا من الغش والحس نحو إخوانهم في الإسلام حيث إن هم أحدهم هو التجريح لكل من ينتمي إلى الدعوة.
(1) أي خاصمته انظر المعجم الوسيط (2/ 826).
(2)
استيقظ وأصابه الأرق، وتقلب في فراشه ليلا مع كلام وصوت، انظر المعجم الوسيط (2/ 598).
(3)
رواه أحمد انظر مسند أحمد (3/ 166)، وقال الهيثمي: رجال أحمد ورجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 79)، وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 338) لحديث أحمد: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين اهـ.
الإسلامية أو يحسب عليها، فلا يبقون على أحد يمثل الإسلام أو يتمثل فيه الإسلام سوى خاصة أنفسهم وقلة من أتباعهم، وينظرون إلىمن سواهم نظرة الند للند، وهذا أمر في غاية الخطورة على واقع المسلمين وحياتهم، وهو أمر يمنع تحقيق الموالاة والمناصرة بين عموم المسلمين، ويبقي الفئات العاملة للإسلام مزع متناثرة متناخرة، لا تشكل بوضعها هذا أي خطر على الأعداء ولا تحقق، لها ولدينها العزة والكرامة.
إن المسلم الحق الذي يحرص على مصلحة الإسلام والمسلمين هو الذي يواجهه إخوانه ويكاشفهم بآرائه عنهم وعن عملهم للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فقد يتصور خطأ أنهم على خطأ وهو المخطئ في الحقيقة وقد يكون العكس صحيحا، كما أن الأخ أو الجماعة المسلمة التي يوجه إليها النقد يجب أن تتحلى برحابة الصدر وباحترام آراء إخوانهم الآخرين وإن اشتملت على شيء من الاجتهاد المخالف للصواب في مسألة فرعية فإن الكمال لله عز وجل فظاهر العتاب خير من باطن الحقد.
فكثير من المنتسبين إلى الدعوة تقاعسوا عن الانتماء إليها بسبب أنهم طرحوا بعض القضايا والآراء حول طريقة الدعوة وسبلها فلم يلق لها بال ولم يؤبه (1) لها فكان ذلك سببا من أسباب إعراضهم عن الدعوة عن الانتماء إليها، وهو سبب غير وجيه بطبيعة الحال، ولكنه واقع فعلا ومنهم من يختزن في ذهنه مجموعة من الملاحظات التي يظنها أخطاء تيردى فيهال العاملون للإسلام ثم تزداد في نفسه يوما بعد يوم دون أن يبديها لأخوانه أو يناقشهم عليها ويرى رأيهم فيها وفي النهاية تشكل تلك الملاحظات مبررا شرعيا في نظره للانفصال عن الجماعة المسلمة وعن الدعوة التي ينتمون إليها دون أن يكلف نفسه عرض تلك الملاحظات على إخوانه ومعرفة وجه الحق فيها له أم عليه.
(1) لا يؤبه له: لا يحتفل به، ولا يلتفت إليه انظر المعجم الوسيط (1/ 3).
إن الشجاعة في نقد الأخ لأقوال إخوانه وأفعالهم معدومة تقريبا بين العاملين للإسلام، كما أن رحابة الصدر وتقبل النقد عند بعض الإخوة مفقود أيضا، وهذا يؤدي إلى استمرار الأخطاء، وانطواء النفوس على ما يزعزع ثقتها بإخوانها، وبالتالي تضعف الموالاة والمناصرة بين الأخ وإخوانه وربما تقطع الصلة بينه وبين إخوانه بسبب ذلك.
وللأسف فإن هذا الأمر الذي أضعناه أو تهاونًا فيه قد أخذ به أعداؤنا فهم أكثر منا شجاعة في نقد بعضهم لبعض، كما أنهم أقدر منا على تحمل النقد وتقبله ممن جاء به، وإن بدا هذا النقد واهيا ضعيفًا.
فعلى كل أخ إذا أراد أن تستمر الموالاة والمناصرة بينه وبين إخوانه، أن يكون صريحا مع إخوانه، وأن لا يضمر لهم خلاف ما يظهر وأن يكون لهم مرآة يرون من خلاله عيوبهم ويكونوا له مرآة يرى عيوبه من خلالهم، حتى يصل الجميع إلى التكامل والتكاتف وتجنب الأخطاء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» (1).
السبب السادس: من أسباب تحقيق الموالاة في الله الفرح بحسن حال المسلمين واسترضاء المسلم لأخيه المسلم وقضاء حاجته أخرج الطبراني عن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإنَّ فيَّ ثلاثَ خصالٍ، إني لآتي على الآية في كتابِ الله فلوددت أن جميعَ الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أقاضي
(1) رواه أبو داود والترمذي انظر سنن أبي داود (4/ 280) كتاب «الأدب» باب في النصيحة والحياطة، وانظر سنن الترمذي (3/ 218) باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم.
إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة (1).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر أخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر، فسلَّم، وقال: يا رسول الله إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق عليه أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم «مرتين» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ «مرتين» فما أوذي بعدها (2).
وفي قضاء حاجة المسلم لإخوانه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف به عنه كربةً أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد (يعني: المسجد النبوي) شهرًا ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له، أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (3).
(1) رواه الطبراني انظر: «مجمع الزائد ومنبع الفوائد للهيثمي» (9/ 284) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه البخاري انظر فتح الباري (7/ 18) كتاب فضائل الصحابة.
(3)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 608) رقم الحديث (906).
فالفرح بحسن أحوال المسلمين والحرص على رضاهم، وإدخال السرور عليهم، والاهتمام بالمسلم أثناء تقديم حاجته، والإنصات إليه، كل هذه المعاني قد أمر بها الشرع وهي من حسن الخلق، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا» (1) حيث إنَّ عدم تقدير المتكلم وعدم المبالاة بكلامه أو الاهتمام به، وبما يطلبه يورث في نفس المتكلم ردود فعل خطيرة، ومداخل لشياطين الجن والإنس في إيقاع الفرقة ونشوء العداوة بين المسلمين.
وقد أمر الله عز وجل بفعل الخير في حق المسلمين جميعًا قال تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77].
ومما يثبت المودة ويزيد المحبة زيارة الأخ المسلم لإخوانه، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيت من الأنصار فطعم عندهم طعاما فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح (2) له على بساط، فصلى عليه ودعا لهم (3)، وورد في فضل الزيارة أحاديث منها ما رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رفعه:«من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد طبت وطاب ممشاك وتبوَّأت من الجنة منزلاً» (4).
وفي حديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: «حقت محبتي للمتزاورين فيَّ» (5).
(1) المصدر السابق (1/ 174) رقم الحديث (433).
(2)
أي: رش الماء على بساط انظر «المعجم الوسيط» (2/ 936).
(3)
رواه البخاري انظر: «فتح الباري» (10/ 499).
(4)
المصدر السابق (10/ 500).
(5)
انظر فتح الباري (10/ 500).
والزيارة توجب إكرام الزائر في حدود القدرة والاستطاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» الحديث (1).
والزيارة يجب أن تتم وفق ضوابط وحدود معينة بلا إفراط أو تفريط فيها، ويحكم هذه الضوابط العرف السليم والفهم المستقيم، والحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها المناسبة، ومقتضياتها السليمة حتى تحقق الزيارة الهدف المقصود منها، ولا تؤدي إلى مردود عكسي يضعف الموالاة أو ينقصها بين الإخوة في الله.
السبب السابع: من أسباب تحقيق الموالاة في الله حفظ السر للأخ المسلم، فالمسلم إذا استودع أخاه سرًّا وجب عليه المحافظة على ذلك، فقد روي أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت (2) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنهما وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر توفي بالمدينة، فقال عمر: لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه فقلت إن شئت أنكحتك حفصة، فقال سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت إن شئت أنكحتك حفصة، فلم يرجع إلى شيئا فلبثت ليالي فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال قلت: نعم قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك شيئًا حين عرضتها علي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ولم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها نكحتها (3).
(1) المصدر السابق (10/ 532).
(2)
أي فقدت زوجها، انظر المعجم الوسيط (1/ 34).
(3)
رواه البخاري والنسائي انظر فتح الباري (9/ 183) وانظر سنن النسائي (6/ 77، 78).
وروي عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسرَّ إلى حديثًا لاأحدث به أحدًا من الناس .. الحديث (1).
فهذه الأحاديث تدل على وجوب حفظ السر وهو نوع من الأمانة التي أمر الله بحفظها حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27] وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المؤمنون: 8].
ولذلك فإنه من أعظم الذنوب، أن يتظاهر المرء بالصلاح والتقوى والصدق والإخلاص فإذا استودعه أحد الإخوة في الله سرًا؛ أذاع به ونشره، إما لأنه منافق في الأصل من الذين (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) [البقرة: 9]، وإما لأنه من الذين يعبدون الله على حرف كما في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11]، وإمَّا لأنه جهول لا يقدِّر حق الأمانة التي اؤتمن عليها فيبوح بأسرار إخوانه بلا وعي أو إدراك، وكل هذه الأمور سبب في إضعاف روح الموالاة والمناصرة بين الإخوة المؤمنين.
السبب الثامن: من أسباب تحقيق الموالاة في الله، مواساة الأخ لإخوانه بفضل ماله قال تعالى:(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر: 9].
(1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (1/ 268، 269) دار إحياء التراث.
وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[الإنسان: 8].
وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» قال فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (1) وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم» (2).
ففي هذه الأدلة دلالة واضحة على الحث على الصدقة والجود والمواساة للمحتاجين، عند وجود الأسباب المقتضية لذلك، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وإنه يكفي العلم بحاجة المحتاج، دون اضطراره إلى السؤال وإراقة ماء وجهه في المسألة والاستجداء.
فالبذل والعطاء من فضل المال لمن هو محتاج إلى ذلك أمر مؤكد على المسلم الواجد، فالذي يبخل بفضل ماله على إخوانه وهم بأشد الحاجة إليه، فهو ناقص الإيمان قليل الفلاح قال تعالى:(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
والأدلة المتقدمة في وجوب مواساة الأخ لإخوانه في الإسلام لا يستدل
(1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (3/ 1354) باب اللقطة.
(2)
رواه الطبراني بأسانيد بعضها حسنة. انظر مجمع الزوائد» ومنبع الفوائد للهيثمي (10/ 285).
بها على جواز الاشتراكية، أو شيوعية المال بين المسلمين، كما يحاول ذلك عبيد ماركس اليهودي، فإن المسلم الحقيقي يندفع ذاتيًا إلى مساعدة إخوانه بفضل ماله عن رضا نفس وطيب خاطر نتيجة إيمانه بالله وبما عند الله من عظيم الجزاء، وقد يقول بعض دعاة الاشتراكية والشيوعية في العالم الإسلامي: إننا نشاهد كثيرًا من الدول والشعوب التي تدعي الإسلام، تبذر الأموال على الغانيات والراقصات، وفي أمور هزيلة ساذجة في حين أن معظم الشعوب الإسلامية تعاني من الفقر المدقع، ومشكلات الحروب الشيء الكثير، ومع ذلك ما قدم لها الإقطاعيون (1) في العالم الإسلامي أية مساعدات مالية على المستوى المطلوب كما يأمر بذلك الحديث.
فنقول للإجابة عن هذا الاحتجاج الموهم: إن تقصير هؤلاء عن القيام بواجبهم الشرعي نحو إخوانهم لا يعني ذلك خطأ النظام الاقتصادي في الإسلام وتقصيره في سد حاجات المسلمين، وإنما الخطأ مرجعه إلى سوء التطبيق من هؤلاء الذين يملكون الأموال الطائلة في العالم الإسلامي ولا يؤدون الحق الشرعي عليهم، فهم ليسوا من الملتزمين بالإسلام التزاما حقيقيا بل هم صورة مزيفة للمسلمين، ولذلك يجب أن لا نحمل الإسلام أخطاء أولئك الخارجين عليه، ولا نتخذ ذلك مبررًا للدعوة إلى غير الإسلام وإلى غير نظامه الاقتصادي العادل الرحيم.
السبب التاسع: من أسباب تحقيق الموالاة في الله، الاحتراز من سوء الظن بالمسلم.
فقد أخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً مر بمجلس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم الرجل فردوا عليه فلما جاوزهم قال أحدهم: إني لأبغض هذا، قالوا: مه فوالله لننبئنه بهذا انطلق يا فلان فأخبره بما قال له فانطلق الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كان
(1) هم الذين يتحكمون بالأرض ومن فيها من الناس، انظر المعجم الوسيط (2/ 752).
وبالذي قال: قال الرجل: يا رسول الله ارسل إليه فاسأله لم يبغضني؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم تبغضه؟» قال: يا رسول الله أنا جاره وأنا به خابر، ما رأيته يصلي صلاة إلا هذه الصلاة التي يصليها البر والفاجر، فقال له الرجل: يا رسول الله سله هل أسأت لها وضوءا أو أخرتها عن وقتها فقال: لا ثم قال: يا رسول الله أنا له جار وأنا به خابر، ما رأيته يطعم مسكينا قط إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، فقال: يا رسول الله سله هل رآني منعت منها طالبها؟ فسأله، فقال: لا، فقال يا رسول الله أنا له جار وأنا به خار، ما رأيته يصوم يوما قط إلا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، فقال الرجل: يا رسول الله سله هل رآني أفطرت يوما قط لست فيه مريضًا ولا على سفر؟ فسأله عن ذلك، فقال: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإني لا أدري لعله خير منك» (1).
وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن سوء الظن بالمسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (2) فإن المسلم بناء على ذلك مأمور بأن يحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محمل حسن ما لم يتحول الظن إلى يقين جازم، فالله عز وجل أمرنا بالتثبت فيما يصدر من الغير نحونا ونحو إخواننا قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6] فكم أوقع سوء الظن السيئ من فراق بين المتحابين، وقطيعة بين المتواصلين، ولو لم يكن الظن على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في الكتاب والسنة ومن استعراض الأسباب المتقدمة نجد أن ما أصاب المسلمين اليوم من قطيعة وتناحر وتنكر بعضهم للبعض الآخر، إنما هو بسبب تجافيهم عن الأخذ بالأسباب التي تحقق الموالاة في الله والتي أشرنا إليها فيما تقدم من هذا
(1) كنز العمال (2/ 170) وانظر حياة الصحابة (2/ 513، 514).
(2)
رواه البخاري انظر فتح الباري (9/ 198) باب النكاح (45).
المبحث وإقبالهم على بدائل مستمدة من مخططات اليهود والنصارى لتدمير هذه الأمة.
فقد استبدل معظم المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مطالعة الصحف والمجلات والنشرات والكتب التي يصدرها ويسيطر عليها أعداء الإسلام والمسلمين، سواء كانوا أعداء أصلاء أم أعداء عملاء.
ونتيجة لذلك فقد ضعف الإيمان في النفوس وشوهت حقيقته بواسطة وسائل الإعلام المعادية للإسلام، في داخل البلاد الإسلامية وخارجها ووقع الاختلاف بين المسلمين نتيجة اختلاف مصدر التلقي والتوجيه فمن الناس من يستوحي أقواله وأفعاله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن الناس من يستوحي أقواله وأفعاله من أسائده من اليهود والصليبيين ومنهم من يستوحي أقواله وأفعاله من الشيوعيين الوجه الثاني للعملة الكافرة ولذلك فشا التناحر والخصام بين مختلف فئات المجتمع الواحد تبعا لاختلاف التبعية والولاء، وهذا ما جعل المسلمين كاليهود تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وكثر التأسي بالأشرار والمصاحبة لهم نظرا لكونهم يتمتعون بمركز القوة في عامة البلاد الإسلامية، وانزوى ضعاف الإيمان عن صحبة الأخبار نظرا لما تنطوي عليه من أخطار جسيمة، حيث إن أهل الخير تحت المراقبة الدائمة والخطر المستمر نظرا إلى أن السلطات الكافرة لا تريد للخير أن ينتشر أو أن يستمر.
وقد تداعت على المسلمين المصائب في كل قطر وبلد حتى شغل البعض منهم بمصيبته عن مصيبة إخوانه، مما أعطى للأعداء فرصة الضربات القاضية للمسلمين في بعض البلاد الإسلامية، دون أن يقابل عملهم هذا بأي رد إسلامي كبير، يكون تأديبا لهم ولأسيادهم من ورائهم وذلك كله بسبب غيبة الموالاة الحقيقية في الله، التي تجعل المسلمين كالجسد الواحد إذا اشكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر واللحمى.