الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: اعلم رحمك الله تعالى أن أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل قوله تعالى:(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36].
فأما صفة الكفر بالطاغوت، أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم.
وأما معنى الإيمان بالله أن تعتقد أن الله هو المعبود وحده، دون سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم، وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها، وهذه هي الأسوة الحسنة التي أخبر الله بها في قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ
مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4] اهـ.
وهذه الآيات وغيرها، تدل على أن الإنسان لا يصير مؤمنا بالله إلا بالكفر بالطواغيت ومعاداتهم، ومعاداة كل الصفات الطاغوتية وأهلها ومن يروج لها من أهل الردة والنفاق وتجار الألسن وفاقدي الضمير.
إنه لا يمكن أن يستقر في قلب واحد، الإقرار بالتوحيد وأنه دين الله، ثم يعاديه، ويعرف أن الشرك هو الكفر ثم يواليه ويذب عنه، وعن أهله باللسان والمال والسنان فهذا الفعل من أعظم الذنوب وأكبر الآثام (1).
قال تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ)[المائدة: 80، 81].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في هذه الآيات بيان من الله سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه يقتضي عدم ولاية الكفار، فثبوت موالاتهم، يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم (2) اهـ.
فالبراءة من الشرك تقتضي البراءة من المشركين والبراءة من الأوثان تقتضي البراءة من عابديها قال تعالى: (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)[الممتحنة: 4] الآية فقدم الباري عز وجل البراءة من المشركين على
(1) انظر الدرر السنية (1/ 96).
(2)
مجموعة التوحيد (259).
البراءة من الأوثان المعبودة، ومثل ذلك قول الله تعالى:(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم: 48] فقد اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم وقال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)[مريم: 49] فقد اعتزالهم على اعتزال ما يعبدون وقال تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ)[الكهف: 16] الآية. فأشار إلى اعتزالهم واعتزال ما يعبدون من دون الله، وهذه أدلة كافية في وجوب مباينة الكفار، ومباينة الأفعال الخاصة بهم لمن كان قصده الحق والاهتداء بهداه، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك ولكنه لا يعادي المشركين ولا يعتزلهم فلا يكون بذلك مسلما، لأنه بعمله هذا مخالف لملة جميع الرسل، فلم يقل ولم يفعل كما أمره الله، وكما ذكر الله عن أبينا إبراهيم عليه السلام حيث يقول:(إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4] فتأمل كيف قدم الباري جل وعلا العداوة على البغضاء، لأن الأولى أهم من الثانية.
فالإنسان قد يبغض الكفار ولا يعاديهم، فلا يكون آتيا بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء معا، ولا بد من أن تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين باديتين لكل ذي عينين، وأن يستمر على ذلك إلى غاية أن يسلم الكافر، ويدخل في عداد المؤمنين، ولا يستثنى من ذلك سوى المكره إكراها ملجئا فإنه يجوز له موافقة الكفار في الظاهر مع عداوته لهم في الباطن، وإظهار العداوة لهم في أول لحظة من زوال الإكراه.
هذا في مجال إظهار العداوة لهم، فكيف بحال من وجدت منه الموالاة والمواصلة والمناصرة للكفار؟
أليس ذلك يدل على عدم البغضاء وعلى عدم العداوة من باب أولى؟ وهذا يستلزم عدم الإيمان فإن الإيمان الصحيح يوجب استمرار المقاطعة والعداوة والبغضاء للكفار حتى يسلموا عملا بقول الله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4].
ولولا العداوة في الله لما تحمل الأنبياء والرسل والمؤمنون صنوف العذاب والأذى من الكفار، ولكان بالإمكان مجاملتهم ومداهنتهم وطلب رضاهم وكف شرهم عن الأنفس والأموال والأعراض، ولكن الحق لا بد أن يصطدم مع الباطل، والنور لا بد أن يطرد الظلام.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قام ينذر المشركين عن الشرك ويأمرهم بالتوحيد لم يكرهوا ذلك منه أول الأمر، واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بسب دينهم، وتسفيه أحلامهم وتجهيل أكابرهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة وإظهارها بالأذى له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه حتى اضطر بعض الصحابة إلى الهجرة إلى الحبشة، وحوصر البعض الآخر في شعب أبي طالب، فإذا عرفت هذا، وعرفت أن الإسلام لا يستقيم في حق الإنسان ولو وحد الله وترك الشرك، ما لم يصرح للكفار بالعداوة والبغضاء كما تقدم في الآيات السابقة، حيث إنه لو كان بالإمكان مداهنة الكفار، لما حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وأصحابه، مؤنة مواجهة الكفار بالعداوة والبغضاء وهو أرحم الناس بأصحابه وأتباعه، مع ذلك لم يجد لنفسه ولا لأصحابه رخصة في مداهنة الكفار ومجاراتهم ومجاملتهم، وقد أحب المشركون ذلك منه ولكنه لم يحصل من الرسول وصحابته ما طلب المشركون حصوله من المداهنة والموافقة لهم على الكفر، قال تعالى:(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[القلم: 9] وحول هذا المعنى قال أحد العلماء من قصيدة في غربة الإسلام مبتدئا بنهج الرسول صلى الله عليه وسلم.
ووالى وعادى في رضا الله قومه
…
... ولم يثنه عن ذاك صولة قاهر (1)
فلا بد لبقاء الإيمان وكماله من إعلان عداوة الكفار، وإعلان محبة المسلمين والانضمام إليهم قال تعالى:(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 64] ففي قوله اشهدوا بأنا مسلمون إظهار البراءة من الكفار وكفرهم، وزجر عن الدخول في طاعتهم، وإشعار بوجوب التميز عنهم، والاعتزاز بالإسلام، والاعتداد به قولاً وفعلاً (2).
وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين سلفا وخلفا، أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة والقدرة والإمكان (3).
وقد سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا: عن رجل دخل هذا الدين وأحبه وأحب أهله، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم.
فأجابا: بأن هذا لا يكون مسلما لا إذا عرف التوحيد ودان به وعمل بموجبه وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به وآمن بما جاء به (4).
فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم فهو غير مسلم وهو ممن قال الله فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ
أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
(1) انظر المجموع المخطوط بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1638) الورقة (156) أو (311، 312) القائل هو الصنعاني.
(2)
انظر الدرر السنية (7/ 8)
(3)
انظر الدرر السنية (9/ 199).
(4)
انظر مجموعة التوحيد (284) وانظر الدرر السنية (8/ 111، 112).
عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: 151] اهـ.
فمما تقدم نعلم أن الله أوجب معاداة الكفار ومنابذاتهم وتكفيرهم واستمرار العداوة لهم إلى أن يسلموا فقد روى الإمام أحمد عن عمرو بن الجموح رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحق لعبد صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى، ويبغض لله تعالى، فإذا أحب لله تعالى وأبغض لله تبارك وتعالى، فقد استحق الولاء من الله، وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم» (1).
وفي ذلك يقول ابن القيم (2) رحمه الله في نونيته:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي
…
حبا له ما ذاك في الإمكان
وكذا تعادي جاهدا أحبابه
…
أين المحبة؟ يا أخا الشيطان
شرط المحبة أن توافق من تحب
…
على محبته بلا نقصان
فإن ادعيت له محبة مع خلا
…
فك ما يحب فأنت ذو بطلان (3)
وحول هذا المعنى يقول الشيخ سليمان بن سحمان نظمًا:
يوالي ويدني أهل سنة أحمد
…
عدوا لمن يهدى بغير هداها (4).
وقد روي عن سالم بن أبي الجعد (5) أنه قال: (العروة الوثقة هي الحب
(1) رواه أحمد. انظر مسنده أحمد (3/ 430).
(2)
هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المعروف بابن قيم الجوزي (شمس الدين، أبو عبد الله) ولد سنة (691) وهو فقيه، أصولي، مجتهد مفسر، متكلم، نحوي محدث مشارك في غير ذلك، ولد بدمشق ونشأ بها، ولازم ابن تيمية وسجن معه في قلعة دمشق، وتوفي في 13 رجب سنة (751) ودفن في سفح قاسيون بدمشق من تصانيفه الكثيرة، وروضة المحبين ونزهة المشتاقين، وزاد المعاد في هدي خير العباد، وتهذيب سنن أبي داود، والجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية، وله نظم ومؤلفات كثيرة، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (9/ 106، 107)، وانظر مقدمة زاد المعاد في هدى خير العباد ص (3).
(3)
نونية ابن القيم (171).
(4)
انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان (3).
(5)
هو سالم بن أبي الجعد، مولى أشجع واسم أبي الجعد رافع روى عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأنس وعبد الله بن عمرو وروى عنه عمرو بن مرة، وأبو إسحاق، وروي عن أحمد بن حنبل تضعيف رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان وقال ليست هذه الأحاديث بصحاح، وذكر أن سالما لم يلق ثوبان وأن بينهما معدان بن أبي طلحة وقد سئل أبو زرعة عن سالم بن أبي الجعد فقال: كوفي ثقة، انظر كتاب الجرح والتعديل للرازي (4/ 181).
في الله والبغض في الله) (1) اهـ.
ومن المخالفين في موضوع الموالاة والمعاداة ما يلي:
القسم الأول: من عبد الله ووحده، ولكنه لم ينكر الشرك ولم يعاد أهله فهو وإن وحد الله فتوحيده فاسد، لعدم كفره بالطاغوت، فالإنسان لا يصير مؤمنا إلا بالكفر، بالطاغوت قال تعالى:(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)[البقرة: 256].
القسم الثاني: من عادى المشركين ولم يكفرهم.
فهذا النوع لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك وما تقتضيه من تكفير من فعله، وهذا الأمر هو مضمون سورة الإخلاص، وسورة الكافرون، وآيات من سورة الممتحنة، فمن لم يكفر من صرح القرآن الكريم بكفره، فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد، وما يوجبه في حق الناس من حب وعداوة وإيمان وكفر (2).
القسم الثالث: من لم يحب التوحيد ولم يبغضه:
وهذا الصنف للأسف الشديد هو الغالب وجوده بين المسلمين في هذا
(1) انظر مجموعة التوحيد (10)
(2)
انظر الدرر السنية (2/ 95 - 97) وانظر مجموعة التوحيد (36).
العصر ومثل هذا الصنف من الناس لم يكن موحدا لله تعالى حق التوحيد لأن التوحيد الحقيقي هو الرضا بالدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده قال تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)[المائدة: 3] فلو رضي بما رضي الله به وعمل به لأحبه، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد والعمل به، ومحبة أهله، فالإخلاصة لله إنما يكون في محبة الله، وإرادة وجهه، فمن أحب الله أحب دينه، لأن المحبة يترتب عليها تنفيذ ما تقتضيه كلمة الإخلاص وشروط التوحيد التي منها المحبة لله وفي الله (1).
فمن عرف الشرك وأبغضه لا بد أن يعرف ما يريد الله من خلقه من محبة وإجلال وتعظيم له سبحانه وتعالى، فذكر هذه الحال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:(فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 104].
فالذي يبغض الكافرين وأعمالهم، ولكنه لم يدخل في جماعة المسلمين ويعمل لصالح الإسلام معهم، فإن إيمانه ناقص، نظرا لعدم موالاته لله ورسوله والمؤمنين، فالمؤمن الحق هو الذي يكون مع المؤمنين كالعضو من الجسم كما وضح ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إنه لا بد للمسلم من التصريح بأنه من هذه الطائفة المؤمنة حتى يقويها ويتقوى بها ويفزع الطواغيت الذين لا يبلغون الغاية في العداوة حتى يصرح لهم أنه من هذه الطائفة المحاربة لهم (2) اهـ.
(1) انظر الدرر السنية (2/ 95 - 97) وانظ رمجموعة التوحيد (36).
(2)
انظر مجموعة التوحيد (30).
القسم الرابع: من لم يبغض الشرك ولم يحبه:
فهذا لم ينف ما نفته (لا إله إلا الله) من الشرك والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فهذا ليس من الإسلام في شيء أصلا ولم يعصم ماله ودمه، لأنه لم يحقق معنى «لا إله إلا الله» (1) ولأنه خالف ما ذكر الله عن أبينا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:(كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4] ولحديث: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (2).
القسم الخامس: من عمل بالتوحيد، ولم يبغض من تركه ولم يكفرهم: فهذا لم يصحح توحيده بنفي الشرك والبراءة منه ومعاداة أهله، فهو لم يوحد الله توحيدا كاملا، لأن التوحيد الحقيقي يقتضي نفي الشرك والبراءة من المشركين وتكفير أهله بعد قيام الحجة عليهم وهذا النوع من الناس من أشد أنواع المخالفين خطرا على التوحيد لأنه قد يغتر بحالهم، فيقلدهم غيرهم في مداهنة الكفار والمشركين والمرتدين وهم في الحقيقة لم يأتوا بالأمور التي دلت عليه كلمة الإخلاص نفيا وإثباتا (3) فهم يظنون أنهم إذا أصلحوا أنفسهم فلهم مطلق الحرية في التعامل مع الآخرين، بلا تمييز بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل وهؤلاء يخشى أن يكونوا من الداخلين تحت قول الله تعالى:(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 103، 104].
(1) المصدر السابق (37) وانظر الدرر السنية (2/ 97، 98).
(2)
رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 53).
(3)
انظر مجموعة التوحيد (37) وانظر الدرر السنية (2/ 98).
ويقول الشيخ المودودي رحمه الله: إن من مظاهر النفاق أن الإنسان يدعي الإيمان بالإسلام ويتظاهر بالانتساب إليه والتمسك به، ثم يعيش راضيا مطمئنا في ظل نظام مناقض للذي يؤمن به، قانعا مغتبطا في كنفه لا ينبض له عرق، ولا يخفق له قلب، إن مثل هذا الصنيع لعمر الحق من أمارات النفاق ومن صميمه من غير شك (2) اهـ.
القسم السادس: من ترك الشرك، ولم يعاد أهله، ولم يكفرهم.
فهذا الصنف داخل تحت ما ذكر في الصنف الأول، إلا أنه يزيد عليه أن الصنف الأول يعمل بالتوحيد، وهذا الصنف جمع بين سيئتين الأولى: ترك الواجبات الشرعية، والثانية: مداهنة الكفار، وعدم معاداتهم فهو لم يؤمن بالله إيمانا حقيقيا ولم يعمل بأوامر التي أنزل على عباده ولم يجتنب الطاغوت كما نهى الله عن ذلك فهو ليس من الإسلام في شيء (3).
(1) انظر مجموعة التوحيد (111).
(2)
انظر تذكرة الرعاة للمودودي (7، 8).
(3)
انظر مجموعة التوحيد (10).
القسم السابع: من لم يشرك بالله، ولكنه عرف التوحيد ولم يعمل به ولا أحب ولا أبغض فيه:
فهذا وأمثاله من الذين يستحقون عذاب الله، ولو لم يكن قد حصل الشرك منهم، لأن فائدة ترك الشرك تصحيح التوحيد لله، ومن أعظم ما ينبني على التوحيد التضرع عند الله، والالتجاء إليه وحده، ومحبة ما يحب وعداوة ما يعادي (1).
ومن ادعى الإسلام ونطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأحبها وانتسب إلى أهلها، ولكنه لم يفرق بين أوليائها وأعدائها ولم يحب في الله، ولم يبغض في الله، فهذا عين الكفر وصريحه، لأن حق التوحيد ليس مجرد الإقرار به، ثم الإعراض عن أحكامه التي أهمها الحب في الله والبغض في الله، كما سبق بيان ذلك من الكتاب والسنة (2).
القسم الثامن: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه، وعرف الشرك وتركه، ولكنه مع ذلك يكره من دخل في التوحيد وانضم إلى جماعة المسلمين ويحب من بقي في مناصرة وتأييد الكفار:
فهذا النوع من الاعتقاد والتعامل كفر (3) يخرج به المسلم من مسمى الإسلام لأن الإنسان إذا أحب نصرة الكافرين وخذلان المسلمين فهو داخل تحت قول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 19].
فالذين يؤيدون أحزاب الكفر وأحزاب الشيطان، التي تتخذ مظاهر متعددة في البلاد الإسلامية، بحبهم لمن ينتمي إليها وبغضهم لمن ينتمي
(1) انظر الدرر السنية (1/ 99).
(2)
انظر المبحث الأول والثاني من الباب الأول من هذه الرسالة من ص (75) إلى (106).
(3)
انظر الدرر السنية (1/ 66).
إلى حزب الله الممثل في الجماعة المسلمة، هؤلاء داخلون تحت هذا الحكم، وهذا الحكم ينطبق تماما على دعاة الشيوعية والاشتراكية أو الدعاة إلى حزب البعث، أو الأحزاب الماسونية، أو دعاة العلمانية، فالذين يؤيدون من ينضم إلى تلك الأحزاب الكافرة، هم كفار وإن ادعوا الإسلام حيث لا يدعو أحد من المسلمين إلى الخروج من حزب الله إلى أحزاب الكفار، ومن فعل ذلك فليس بمسلم، حيث لم يرض بالإسلام دينًا ولم يتخذ شريعته منهجًا في الحياة.
القسم التاسع: من عرف التوحيد وأنه الحق، ولكنه لم يلتفت إليه ولم يتعلمه ولا دخل فيه، ولا انضم إلى جماعة المسلمين وبقي مع الشرك وأهله.
فهذا العمل، وهذا الموقف كفر، يقاتل عليه من فعله، لأن صاحبه عرف الحق فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه قد لا يبغض دين الله ولا رسوله ولا المؤمنين ولا يمدح الشرك أو يزينه للناس، ولكنه مقبل على الكافرين بفعله مدبر عن المؤمنين.
وقد يتخذ لذلك التصرف حجة وهي حبه لأهله ووطنه ومنافعه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده من الكفار، فيجاهد بنفسه وماله ورأيه أهل الحق مع أهل الباطل، وهذا الموقف كفر مخرج عن الإسلام لأن ذلك هو غاية التولي للكفار، وحتى لو ادعى الإكراه في ذلك فإن الإكراه مهما يكن، لا يجوز معه أن يحمل المسلم سلاحه، ضد أهل الحق من المسلمين (1).
ومن يقف مثل هذا الموقف من أهل الإسلام يكون داخلا تحت قول الله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
(1) انظر الدرر السنية (1/ 66).
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) [النساء: 91].
القسم العاشر: من تساوي لديه الإسلام والكفر في الحب والبغض، أو من يحبهما من وجه، ويبغضهما من وجه آخر.
فهذا الذي يقف من الإسلام مثل هذا الموقف، لم يتحقق فيه معنى الإسلام وهو الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة، التي من أركانها موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، فهو كأنه يعارض الله فيما فرض وشرع، قال الله تعالى:(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
يقول الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي رحمه الله (1): اعلموا رحمكم الله أن أكبر الذنوب وأعظمها الشرك بالله، قال الله تعالى:(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 116] وهذا الذنب القبيح له وسائل وذرائع توصل إليه، وأعظمها موالاة أعداء الله على اختلاف أنواعها فيا عباد الله، انتبهوا من هذه البلية العظيمة، التي صيرت أهل الإسلام وأهل الردة والضلال عند كثير من الجهال جماعة واحدة إلا من عصم الله برحمته (2) اهـ.
فمن كمال الإيمان وتمام العبودية لله محبة الله، ومحبة رسوله وأنبيائه وعباده المؤمنين، وإن كانت المحبة التامة لا يستحقها غير الله تبارك وتعالى فغير الله يحب في الله لا مع الله.
(1) الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: من تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله (190).
(2)
انظر الدرر السنية (11/ 183).
فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه فيما يأمر به وما ينهى عنه (1) والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين، ويحب التوالين ويحب المتطهرين (2) ونحن ملزمون شرعا بحب ما يحبه الله تعالى كما أننا ملزمون بعدم حب ما لا يحبه الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى، لا يحب الخائنين ولا يحب المفسدين ولا يحب المستكبرين (3).
ونحن أيضا يجب أن لا نحبهم، وأن نبغضهم موافقة له سبحانه وتعالى في حب ما يحب وبغض ما يبغض.
فالمحبة التامة لله، مستلزمة الموافقة للمحبوب في محبوبه ومكروهه، وولاية من يواليه، وعداوة من يعاديه، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة، فلا بد أن يبغض أعداءه ولا بد أن يحب ما يحبه الله من الأقوال والأفعال فيحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذكر وتلاوة القرآن ونحن ذلك، ويجب الجهاد في سبيل الله وما دونه من أعمال الخير (4) لأن كل ذلك من الأمور المحبوبة عند الله تعالى، قال تعالى:(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)[الصف: 4].
فلا بد للمسلم أن يحب الله عز وجل أولاً ثم هذه المحبة لله تجعله يكون متواضعًا مع المؤمنين، ذا غلظة وعزة على الكافرين فإذا أصبح
(1) انظر شرح الطحاوية (317، 318).
(2)
انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم محمد فؤاد عبد الباقي (192).
(3)
المصدر السابق المكان نفسه.
(4)
انظر شرح الطحاوية (318).
بهذه الحال، أحبه الله عز وجل لهذه الصفة التي اتصف بها قال تعالى:(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)[المائدة: 54].
وقد سئل ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهما حسين وعبد الله عن رجل دخل هذا الدين وأحبه وأحب أهله، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، وهو يعتذر بأن مقاتلته لهؤلاء الكفار وترك وطنه من أجلهم يشق عليه ذلك، فهو لا يستطيع مفارقة الأهل والأموال والأولاد والعشيرة.
فهل يكون كافرا أو مسلما؟
فأجابا بأن في ذلك تفصيل.
أولاً: أن ينظر إلى هذا الشخص المقيم مع الكفار، هل يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ منهم ومما هم عليه من كفر وشرك؟ وهل يقدر على إظهار عداوته لهم، أو أن يظهر لهم أنهم كفار؟ وهل يأمن على أن لا يفتنوه عن دينه، لأجل أهله وماله وولده؟ فإن كانت الإجابات على هذه الأسئلة بنعم فهذا لا يحكم بكفره ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهرهم فيخشى أن يكون داخلا في أهل هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97، 98].
ثانيا: أما إذا أظهر الموافقة للكفار على دينهم، وأن بدعتهم وكفرهم أصوب من الإسلام، واتهم الإسلام بالباطل والقصور، وقاتل معهم أهل التوحيد، بنفسه وماله ورأيه فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه وكره الكفر بقلبه، لأن الأمر الذي يمنعه من الهجرة محبة الدينا على الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه ملجيء فهو داخل في قوله تعالى:(وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[النحل: 106، 107](1) اهـ، وحتى المكره إكراها ملجئا لا يجوز له أن يحمل على أخيه السلاح فيقتله من أجل سلامة نفسه هو (2) فالإكراه يجوز معه التلفظ بكلمة الكفر ترضية للكفار أما من يحارب المسلمين بقوله وفعله ويناصر الكافرين من أجل أنه يشق عليه فراق أهله وأولاده وبلاده، فيقتل المسلمين، ويرمل نساءهم وييتم أطفالهم، ويخفي الإسلام وأهله، ويظهر الكفر ويجاري أهله، مقابل أن يسمل هو بنفسه فهذا ظلم وإعانة على الظلم، قال تعالى:(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[الأنعام: 164].
قال القرطبي في معنى هذه الآية: أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي: لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها (3).
(1) انظر مجموعة التوحيد (284، 285) والدرر السنية (8/ 111، 112).
(2)
انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر فتح الباري (12/ 316) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 568).
(3)
انظر تفسير القرطبي (7/ 157).
وفي مختصر تفسير الطبري: أي لا تجترح نفس إثمًا فيؤخذ به غيرها (1) وعلى هذا إذا وجد حاكم ظالم يطارد أهل الحق ويبطش بهم، وينصر أهل الباطل ويدعم باطلهم، فلا يجوز لمن يلتزم بالإسلام قولا وفعلا، أن يعين هذا الظالم على ظلمه، لأنه حينئذ يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال:«تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره» (2).
والذي يعين الظالم على المظلوم، إنما يعمل ضد مفهو م الحديث تماما، وهذا إثم عظيم وذنب كبير، وتلك هي الموالاة الظالمة حيث ينصر من يجب عليه خذلانه، ويخذل من تجب عليه نصرته.
ونود أن نذكر في هذا المقام الذين يوالون الكفار ويطلبون رضاهما، بأن رضا الكفار لن يتم إلا بما هو دون الكفر، قال تعالى:(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة: 120] فالكفار إذا أحسوا أن لدى المسلم إمكانية المتابعة لهم والموالاة لهم على كفرهم، فإنهم يتدرجون به رويدا رويدا حتى يخرجوه من الإسلام، فإذا آرادوا إقرار منكر ما فأول خطوة في ذلك هي أن يشتروا بعض العلماء الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، ثم يستصدرون الفتاوى التي هم أول من يعلم ببطلانها، ثم يطلبون التأييد على هذا المنكر الذي فعلوه بحجة أنه لا يعارض الشرع ثم يطلبون ممن يوافقهم مطاردة من ينكر عليهم تصرفهم هذا، وأن يحمل السلاح ويدفع المال لقتال المعارضين لهم، وإن كان المعارض هو صاحب الحق والذي مع الحق، وهكذا يفعل الكفار في مدعي الإسلام ترك بعض
(1) انظر مختصر تفسير الطبري -ابن صمادح- الأندلسي على هامش المصحف المفسر عن (165).
(2)
رواه البخاري: انظر فتح الباري (5/ 98) باب المظالم
الواجبات وفعل بعض المحرمات تدريجا حتى ينسلخ المسلم من دينه ويخرج من مسمى الإسلام وهو لا يشعر (1) ومما تقدم يتضح أنه يجب على المسلم أن يقف موقفا صلبا من أعداء الإسلام والمسلمين وأن لا يتنازل عن شيء من واجبات الإسلام مهما كانت الدوافع والأسباب، وأن يقاطع أهل الشرك ويتبرأ منهم ومن شركهم ويجاهدون ويكفرهم، ويقر بإباحة دمائهم وأموالهم ما داموا على الكفر، فلا يكون المؤمن موحدا إلا بهذا وهو مقتضى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، حيث يقول الله عز وجل:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة: 71]، فهذا شأن كل مؤمن مع المؤمنين، ويقول الله تعالى عن الكفار (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73].
فلا يصح للمؤمن دين إلا بموالاة أهل التوحيد، ومعاداة أهل الضلال وبغضهم والبراءة منهم، كما تبرأ إبراهيم والذين معه من الكفار، وكما تبرأ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه من كفار قريش ومن حذا حذوهم، وهذه هي الموالاة للمؤمنين، والمعاداة للمشركين التي هي أصل عرى الإيمان وأوثقها (2).
فمعاداة الكفار واجبة وإن كان فيهم أخلاق طيبة، وصفات حميدة فمن لم يعاد الكفار ويتبرأ منهم لم يدخل في الإسلام، وإن كان يتعامل مع المسلمين معاملة حسنة ويقدم لهم دعما سخيا.
فإن في قصة أبي طالب درسا وعبرة وعظة، أنه لا موالاة إلا بمعاداة فهذا الرجل قد بذل عمره وماله وأولاده وعشيرته في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
(1) انظر الدرر السنية (1/ 66).
(2)
انظر الدرر السنية (2/ 95).
إن مات على ذلك، وصبر على المشقة العظيمة، والعداوة البالغة له من قومه، وكان يحب من أسلم وينتقص أعمال المشركين وكان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق وصواب كما يظهر ذلك من قوله في النونية:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتني سمحا بذاك مبينا (1)
ويقول في قصيدة أخرى:
ولقد علموا أن ابنا لا مكذب
…
لدينا ولا يعني بقول الآباطل
حدبت (2) بنفس دونه وحميته
…
ودافعت عنه بالذري (3) والكلاكل (4)(5)
ولكنه لما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب ويعلن عداوته لذلك، ولم يعلن موالاته لله ثم لرسوله والمؤمنين في الله، ما نفعه ذلك شيئا وقد استغفر الله النبي صلى الله عليه وسلم نظرا لنصرته له ودفاعه عنه، فأنزل الله قوله تعالى:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113] لو كان هناك رجل من أهل الشرق أو أهل الغرب، يحب الدين الإسلامي، وينصر المسلمين باليد والمال والسلاح، ولكنه لم يعلن دخوله في الإسلام وانضمامه إلى جماعة المسلمين وبراءته وانفصاله وعداوته للمشركين لم يكن مسلما
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 42).
(2)
أي تعطفت وأشفقت عليه، انظر لسان العرب لابن منظور (1/ 581).
(3)
الذري بالضم أعلى كل شي وذروة السنام والرأس أشرفهما المصدر السابق (1/ 1066).
(4)
الكلاكل: جمع كلكلة وهو الصدر من كل شيء وقيل هو ما بين الترقوتين وقيل هو باطن الزور وقيل القصير الغليظ الشديد المصدر السابق (3/ 290) وانظر المعجم الوسيط (2/ 801).
(5)
انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 42).
ولم تصح موالاته من قبل المسلمين، وإنما يعامل على أساس البر والصلة بالمعروف، دون محبة القلب كمحبة أحد المسلمين، فهو وإن كان يحب لما فيه من صفات طيبة وأخلاق كريمة، كالكرم، والأمانة، والصدق والفواء فإن تلك الصفات لا تطغى ولا تنسينا صفة الكفر التي هو أسوأ صفة وأقبحها في الوجود، فمثل الكفار وصفاتهم الطيبة كمثل امرأة جميلة كريمة متواضعة ولكنها مع تلك الصفات عاهر بغي فإن تلك الصفة القبيحة تطغى على جميع صفاتها الحسنة وتذهب أثرها عند ذوي العقول السليمة والفطرة المستقيمة وتجعلهم يمقتونها ويعادونها وينظرون إليها نظرة احتقار وازدراء (1).
إن موقف المسلم من الكفار، ليس مجرد العداء لهم، بل المطلوب منه جهادهم، والحرص على مراغمتهم، وإدخال الحزن عليهم (2)، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)[التوبة: 123] فمن جهاد الكفار السعي إلى كسر شوكتهم ومراغمتهم وإدخال الهزيمة عليهم بكل الوسائل والأسباب المباحة، والتضييق عليهم والوقوف في وجه مكائدهم، بكل ثبات وإصرار، وكشف آباطيلهم وعورات نظمهم، وتعرية مفاسدهم لكل ذي عينين، حتى يحصل الإقبال على الإسلام والأدبار عن الكفر، نتيجة للفهم والوعي الصحيح، فإن لم يحصل من المسلم جهاد ومراغمة للكفار، فلا أقل من مقاطعتهم وعوراتهم وترك تبادل الأقوال والأفعال التي لا يقصد بها تقريبهم إلى إسلام وإنما يقصد بها التقرب إلى دنيا الكفار وما هم فيه من كفر.
ومما تقدم نخلص إلى القول بأنه لا صحة لإسلام المسلم إلا بموالاة.
(1) انظر الدرر السنية (10/ 101).
(2)
انظر «مدارج السالكين» ابن قيم الجوزية (1/ 226).
أهل الإسلام ومعاداة أهل الكفر، فلو والى المسلم المسلمين ولم يعاد الكافرين لم يصح إسلامه، ولو عادى الكافرين ولم يوال المسلمين لم يصح إسلامه إلا بالجمع بين موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وحول هذا المعنى يقول الشيخ سليمان بن سحمان شعرا:
ومن كان ذا حب لمولاه إنما
…
يتم بحب الدين دين محمد
فعاد الذي عادى لدين محمد
…
ووال الذي والاه من كل مهتد
وأحبب رسول الله أكمل من دعا
…
إلى الله والتقوى وأكمل مرشد
وما الدين إلا الحب والبغض والولاء
…
كذاك البرا من كل غاو ومعتد (1)
ويقول أيضا:
نعم لو صدقت الله فيما زعمته
…
لعاديت من بالله ويحك يكفر
وواليت أهل الحق سرا وجهرة
…
ولما تهاجيم وللكفر تنصر
فما كل من قد قال ما قلت مسلم
…
ولكن بأشراط هنالك تذكر
مباينة الكفار في كل موطن
…
بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتكفيرهم جهرا وتسفيه رأيهم
…
وتضليلهم فيما اتوه وأظهروا
وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم
…
وتدعوهموا سرا لذاك وتجهر
فهذا هو الدين الحنيفي والهدى
…
وملت إبراهيم لو كنت تشعر (2)
(1) انظر الدرر السنية (1/ 294).
(2)
انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ للشيخ سليمان بن سحمان (79).