الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم
إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب ووئام، ونظام يستهدف أن يعيش العالم كله بظلِّه، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لوائه إخوة متحابين ومتعاونين، وليس من عائق يحول دون ذلك سوى عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فكيف يتم لقاء أو مودة مع من كفروا بالله وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق؟ كيف يتم لقاء أو محبة مع من تجرءوا على ذات الله فوصفوها بأوصاف لا تليق بأبسط الناس فضلاً عن القوي العزيز؟ كيف تتم مودة وموالاة مع من نصَّبوا أنفسهم أعداء للحق وأهله عبر كل زمان ومكان؟ ماذا أبوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة من سبب؟
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أعدائه، ولكنه منهي عن الموالاة لهم ومناصرتهم، والتحالف معهم لأنه مهما أبدى من السماحة والمودة فلن يرضى عنه الأعداء، حتى يقضوا على دينه، وحتى ينسلخ من عقيدته
ومن السذاجة، أن يظن شخص أنه يمكن الجمع بين رضا الله، ورضا الكفار معا.
إن هناك فئة من الناس تحاول كسر حاجز التضاد بين الإيمان والكفر، فتدعو تارة إلى الجمع بين الحق والباطل باسم التسامح، وحسن المعاملة وتارة تحرف بعض النصوص كي توافق هوى في نفسها، ولكي تمزج المسلمين مع غيرهم حتى يذوبوا في مستنقع الكفر العميق، وتدعو تارة أخرى باسم التقريب بين الأديان، والتعايض السلمي إلى الأخذ من كل دين بطرف، وتارة تدعو إلى طرح الأديان جانبا واتخاذ مبدأ العلمانية في إدارة الدول والشعوب، بحجة تجنب غائلة الحروب بين أهل الأديان.
ونحن كمسلمين لن نرضى بغير منهج الإسلام في التعامل مع الناس، لأن ذلك شرط من شروط صحة إسلامنا، فلن نكون مسلمين حقيقة حتى نطبق أحكامه على أنفسنا، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بتعاملنا مع غيرنا من الناس.
والقضية التي نختلف عليها مع غيرنا هي قضية الإيمان بهذا الدين فمن آمن أحببناه وواليناه، ومن كفر وفسق أبغضناه وعاديناه، إن انقطاع رابطة العقيدة الإسلامية، وآصرة الإيمان بين المسلم والكافر، موجب للمفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من آواصر المحبة ووشائج المودة والقربى مع من كفروا بالله (1).
إن السواد الأعظم من المسلمين اليوم قد ارتدوا عن دينهم بسبب موالاتهم للكفار وتوليهم لهم بالقول والفعل والاعتقاد، حيث نجد كثيرًا من مدعي الإسلام يمجدون مبادئ الكفر وأنظمته رغبة أو رهبة، ويستهزئون بشعائر الإسلام في أقوالهم وأفعالهم، ويحملون السلاح دفاعا عن الباطل،
(1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 758، 759) وانظر (28/ 62، 63)
وأهله، وحربًا للحق وأصحابه، ومع كل هذا الإجرام ينظرون إلى أنفسهم وينظر البعض إليهم أنهم من عداد المسلمين الصالحين. ولهذه الفئة نظائر في حياة الرسل والدعاة إلى الله في كل زمان ومكان، فأهل النفاق موجودون قديما وحديثا، وهم أول من يسير على هذا الخط المنحرف، ثم يتبعهم الدهماء من الناس إن لم يجدوا من يرشدهم أو يوجههم إلى الحق من عالم عامل بعلمه، أو صاحب حكم عادل في حكمه، والله عز وجل يبتلي الناس في مثل هذه الأحوال، ليرى وهو العالم بكل شيء، من يقدم موالاته على موالاة الكفار والمرتدي، ومحبته على محبتهم فيرفع من استغنى بمحبة الله عن محبة أعدائه إلى الدرجات العالية، ويخفض من تعلق قلبه بمحبة غير الله إلى قاع الهاوية وشفير جهنم وقد انقسم الناس في هذا الزمان في تعاملهم مع الكفار إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم ناصر لدين الله مجاهد في سبيل الله موال لأوليائه، معاد لأعدائه، وهم القليلون عددا الأعظمون أجرا عند الله.
القسم الثاني: قسم خاذل لأهل الإسلام، تارك لمعونتهم معتزل عن الكفار.
القسم الثالث: قسم خارج عن الإسلام بمظاهرة الكفار وموالاتهم ومناصرتهم بالقول والفعل والاعتقاد، ومعاداة أهل الحق ومحاربتهم (1).
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعان صاحب باطل ليدحض بباطله حقًّا فقد برئت منه ذمة الله وذمة نبيه» (2).
ونظرًا لتداخل أنواع الموالاة التي يحكم على صاحبها بالكفر مع أنواع الموالاة التي يأثم فاعلها بما دون الكفر، تبعًا لاختلاف النية والحال والمحل الذي تحصل به الموالاة للكفار، فقد أجملنا الأدلة الدالة على
(1) انظر مجموعة التوحيد (256، 257).
(2)
رواه الطبراني عن ابن عباس انظر مجموعة التوحيد (257).
تحريم موالاة الكفار ووجوب موالاة المؤمنين حسب ترتيب السور والآيات في القرآن الكريم:
الدليل الأول: قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة: 109] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)[آل عمران: 100] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)[آل عمران: 149] ففي الآية الأولى من الثلاث المتقدمة بيان من الله عز وجل لما تكنه قلوب أهل الكتاب من طوية خسيسة وحسد بغيض تجاه الإسلام والمسلمين، فاضت به ألسنتهم وانبعثت منه دسائسهم في الماضي والحاضر، وما تزال تلك صفتهم لا تتغير، ولذلك نبهنا الله إلى أخذ الحذر منهم، وعدم الاغترار بمعسول الألفاظ التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهم من مكرهم بنا أنهم يتظاهرون بالصداقة التي تجرنا إلى موالاتهم ومتابعتهم فتحصل الردة عن الحق إلى الضلال، وهذا هو أهم مبتغاهم، وما يودونه من كل مسلم (1).
وفي الآية الثانية، نداء من الباري جل وعلا إلىالمؤمنين يستثيرهم باسم الإيمان إلى عدم طاعة أهل الكتاب، أو الاستجداء من مناهجهم وأوضاعهم، ونظمهم الخبيثة القاصرة.
إن هذا التصرف لا يصدر إلا عن هزيمة داخلية، وشعور بالنقص وشك في عدم كفاية هذا الدين، وقدرته على قيادة الحياة وتنظيمها والسير بها إلى طريق الارتقاء، فإذا وجد مثل هذا الفهم والتصور الخاطئ عند
(1) انظر في ظلال القرآن (1/ 137، 138).
بعض المسلمين فلا شك أن أعداء الإسلام سيستغلون تلك الثغرة بمكر وخبث ودهاء، من أجل الغاية التي تؤرقهم وهي قيادة الجماعة المسلمة كلها إلى الكفر والضلال، فإن لم يستطيعوا تحقيق ذلك بالاتصال المباشر، جندوا أتباعهم من المنافقين والمخدوعين الذين ينتسبون إلى الإسلام زورا وبهتانا، ليعملوا على تطويع هذه الأمة لأعدائها، لأن الموالاة والطاعة للأعداء لا بد أن يسبقها محبة لهم، ولما يصدر عنهم، وهذا ما حذرنا الله منه في هذه الآية (1).
وفي الآية الثالثة والأخيرة من الآيات المتقدمة، تحذير للمؤمنين من طاعة الذين كفروا، فالمؤمن إما أن يكون مستمرا على طريق الإيمان في جهاد الكفر والكفار، وعداوتهم، وبغضهم وإما أن يكون مرتدا على عقبيه كافرا والعياذ بالله ومحال أن يقف المسلم سلبيا بين الإسلام والكفر، فيحافظ على إسلامه، وينال رضا الكفار والسلامة من أذاهم، إنه قد يخيل إلى البعض، أنه يستطيع، أن ينسحب من المعركة بين الإسلام والكفر، وأن ينضم إلى القوي المنتصر في النهاية، فإن كان ذلك المنتصر كافرا سالمه وأطاعه وخضع له، وهو مع هذا كله يعتقد أنه محتفظ بدينه وعقيدته، وهذا وهم وضلال كبير، إن الذي لا يكافح الشر والكفر والضلال، ويقف منه موقف العداء لا بد أن يتقهقر ويرتد حتى يركن إلى أعداء الله، ويستمع إلىوسوستهم ويطيع توجيهاتهم رجاء الحماية والنصرة عندهم، فيصبح من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وبذلك يكون من المرتدين الخاسرين (2).
الدليل الثاني: قول الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)[البقرة: 120].
(1) المصدر السابق (4/ 18، 19)
(2)
انظر مجموعة التوحيد (235) وانظر في ظلال القرآن (4/ 102).
إن الله عز وجل يخبرنا في هذه الآية على جهة التأكيد والدوام، أن اليهود والنصارى لن يصطلحوا معنا، ولن يسالمونا أو يرضوا عنا، حتى نتبع باطلهم، نحذو حذوهم في شركهم وكفرهم وانحلالهم، فمن الغباء والجهل، بل من الكفر، أن يشك الإنسان في أخبار الله عز وجل في طبيعة العلاقة لكل من اليهود والنصارى معنا، إن من يظن أنه يمكن أن يقع خلاف ما أخبر الله به في شأن اليهود والنصارى يكون غير مسلم، إنه لا يتصور من مسلم أن يعتقد أنه من الممكن أن يتحول اليهود والنصارى إلى أناس مسالمين موادعين، مناصرين لنا على الحق، إن هذا التصور الخاطئ والفهم الساذج لا يصدر إلا عن إنسان مخدوع بأضاليل اليهود والنصارى، معرض عن تلاوة كتاب الله وتدبر آياته.
إن اليهود والنصارى، في معركة مستمرة مع المسلمين كما أخبر الله عز وجل ونحن نرى الدليل عليها في كل زمان ومكان، إنها معركة بين الجماعة المسلمة، وبين هذين المعسكرين الكافرين، ولكن أعداء الإسلام زيادة في تضليلنا يرفعون أعلاما شتى، في خبث ومكر، وتورية حيث لم يعلنوها حربا معلنة باسم الديانة اليهودية، أو النصرانية، ضد الإسلام خوفا من رد الفعل عند المسلمين، بل أعلنوها باسم الأرض تارة، وباسم الاقتصاد تارة أخرى وباسم السياسة والمصالح القومية مرات أخرى.
وألقوا في روع المخدوعين منا أن الحرب باسم الدين حكاية قديمة لا معنى لها، وما أدرك أولئك السذج أن الاستعمار الذي مزق شمل الأمة والبلاد الإسلامية، لم يكن هدفه الأول الاقتصاد، بقدر ما كان تتمة لما عجزت عنه الحروب الصليبية، في عهد صلاح الدين، ولكنهم في هذه المرة لم يجدوا قائدا صالحا يدحرهم كما دحرهم صلاح الدين الأيوبي، بل وجدوا وللأسف الشديد بين المسلمين من يعين الغاصب على اغتصابه والظالم على ظلمه فلا حول ولا قوة إلا بالله (1).
(1) انظر ظلال القرآن سيد قطب (1/ 146).
الدليل الثالث: قول الله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)[البقرة: 145] فلو وافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على دينهم ظاهرا من غير اعتقاد القلب، مداهنة لهم، وخوفا من شرهم لكان بذلك بموجب تعبير القرآن الكريم من الظالمين.
فكيف حال من أظهر الإعجاب والتمجيد للكفار، ودعا إلى ما هم فيه من كفر، وأنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا؟ ألا يكون ذلك ظالم لنفسه ولأمته بدعوتها إلى الكفر والضلال؟ إن الطريق واضح والصراط مستقيم وليس هناك مقارنة بين الأخذ بالعلم اليقيني الذي جاء من عند الله، وبين اتباع أهواء أهل الضلال والانحراف، وتوجيه الخطاب إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل إيحاء قويا إلى من وراءه من المسلمين أن لا ينخدعوا في غمرة الدسائس اليهودية والصليبية، وحملات التضليل، فيخطبوا ود اليهود والنصارى فإن ذلك سيجعلنا من الظالمين، وما أجدرنا نحن المسلمين اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير العظيم من الرب الكريم، فنتعامل مع الكفار في شئون دنيانا، بحذر ووعي ويقظة تامة، ونقاطعهم في شئون ديننا مقاطعة تامة، فلا نستفتي المستشرقين من اليهود والنصارى والشيوعيين والكفار أجمعين في أمر ديننا، ولا نتلقى عنهم تاريخنا، ولا نرسل إليهم أبناءنا يتلقون عنهم علوم الإسلام التي خلطوها بمذاهبهم الباطلة، والتي يأتون ببعض نصوصها في وضع مبتور كي يحققوا أهدافهم في الدس والتكفير للمسلمين، وقد عاد إلينا كثير من أبناءنا مدخولي العقل فاقدي الضمير (1).
الدليل الرابع: قول الله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ
(1) انظر مجموعة التوحيد (234) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (2/ 187، 189).
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217] ففي هذه الآية تقرير صادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث والعداوة المتأصلة في نفوس أعداء الإسلام، لهذا الدين وأهله، في كل جيل وفي كل أرض.
إن وجود الإسلام بذاته، هو غيظ وكمد ورعب لأعداء الله، وأعداء الجماعة المسلمة في كل حين، فهم يعرفون ما في الإسلام من القوة والنزاهة والعدل بحيث يخشاه كل طاغ، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد، ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرذ جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام المميز الفريد (1)، ولهذا فهم لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا ولم يرخص الله عز وجل في موافقتهم خوفا على النفس والمال، بل أخبر أن من وافقهم، بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون فإنه من أهل النار الخالدين فيها، فكيف حال من وافقهم من غير قتال، ألا يكون أولى بعدم العذر وأولى بحكم الردة والكفر (2).
الدليل الخامس: قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)[آل عمران: 28] فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء، وأصحابا، من دون المؤمنين، وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء (3) قال ابن جرير الطبري (4) في قوله تعالى: (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
(1) انظر في ظلال القرآن (2/ 330، 331).
(2)
انظر مجموعة التوحيد (234، 235).
(3)
انظر الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (183).
(4)
هو محمد بن جرير الطبري (أبو جعفر) مفسر، مقرئ، محدث، مؤرخ فقيه
أصولي مجتهد، ولد بآمل طبرستان في آخر سنة (224) وطوف الأقاليم في طلب العلم واستوطن بغداد واختار لنفسه مذهبا في الفقه، وتوفي ليومين بقيا من شهر شوال في بغداد سنة (310) من تصانيفه: جامع البيان في تأويل القرآن، وتاريخ الأمم والملوك، وتهذيب الآثار، واختلاف الفقهاء وآداب القضاة والمحاضر والسجلات، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (9/ 147).
فِي شَيْءٍ) يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر (1) اهـ.
ويقول القرطبي: هذا المعنى أي ليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء، وهو إذا من حزب الشيطان وأنصاره (2) اهـ، وأما قوله تعالى:(إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي إلا أن يكون المسلم مقهورا معهم، لا يقدر على إظهار عداوتهم، لتعذيبهم له، فيظهر لهم الرضا بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان بالله، ممتلئ بالعداوة والبغضاء لأعداء الله.
والتقية لهم لا تجيز مشايعتهم على كفرهم، ولا إعانتهم على مسلم، وقيل التقية منسوخة، وإنما كانت أول الإسلام (3) والراجح أنها باقية ولكنها لا تصح إلا مع غلبة الظن في القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم وسوف نذكر ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في موضوع الإراه في الفصل الرابع من الباب الثاني، والذي نخرج به من هذه الآية، أن التعاون مع أعداء الله وأعداء المسملين خيانة عظمى لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا تصدر إلا عن صاحب نفس دنيئة وطبع لئيم، ومنافق حقود.
الدليل السادس: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً
(1) انظر تفسير الطبري (3/ 152).
(2)
انظر تفسير القرطبي (4/ 57).
(3)
انظر تفسير الطبري (3/ 152) وانظر تفسير القرطبي (4/ 57).
مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118].
إن هذه الآية تحذير صارخ وبلاغ عظيم للجماعة المسلمة أن لا تتخذ من أعداء يتظاهرون للمسلمين في ساعة قوتهم وغلبتهم بالمودة والصداقة، وهم لا يريدون في الحقيقة للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في زرع الفرقة بين المسلمين كلما واتتهم الفرصة في نثر الشوك في طريق الدعوة إلى الإسلام، فهم يسعون جاهدين في الكيد والدس للإسلام وأهله عبر وسائلهم المتعددة، ولكن المسلمين وللأسف الشديد في غفلة عن أمر ربهم، وعن أعدائهم، فما يزال معظمهم مخدوعًا في أعداء الله.
وما يزال البعض من مدعي الإسلام، يفضون إلى أعداء الله بالمودة، ويأمنونهم على أسرار المسلمين، ويتخذون منهم بطانة، وأصحابا وأصدقاء.
إن هذه الآية تبصرنا بأعدائنا الحقيقيين، الذين لا يخلصون لنا أبدا ولا تغسل أحقادهم مودة المسلمين لهم، لأنهم أعداء عقيدة لا ترجى مودتهم (1) يقول الشاعر:
كل العداوات قد ترجى مودتها
…
إلا عداوة من عاداك في الدين
وها نحن نشاهد مصداق هذه الآية فيما مضى وفيما هو حاضر مشهود، إن كل تقارب مع الكفار وتقريب لهم، يورث المسلمين عنتا ومشقة، وإنه بعد هذا كله لا يقرب الكفار أو يواليهم من دون المسلمين، إلا سفيه أو مجنون، أو جماعة من السفهاء والمجانين حيث يقول تعالى في آخر هذه الآية (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فمن خالف أمر الله
(1) في ظلال القرآن (4/ 40، 41).
بائتمان وتقريب من خونهم الله، فهو غير عاقل، أو كافر جاحد عن عمد وإصرار.
الدليل السابع: قول الله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[آل عمران: 162] قال الطبري (1): أي أفمن اتبع رضوان الله على ما أحب الناس وسخطوا، كمن باء بسخط من الله بسبب مناصرته للشرك والوقوف مع المشركين (2) اهـ.
وعلى هذا فاتباع رضوان الله يكون بموالاة أوليائه، ونصرتهم ومعاداة أعدائه وبغضهم، ومحاربتهم.
الدليل الثامن: قول الله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)[آل عمران: 162].
يخبر تعالى بهذه الآية أن المنافقين والكفار، يودون كفر المسلمين كما كفروا هم بذلك، ومودتهم هذه ليست مودة قلبية مجردة عن العمل، بل إنها مودة تقتضي العمل والسعي والتخطيط لتكفير المسلمين، وهذا ما هو حاصل فعلا في عصرنا الحاضر، فبلاد المسلمين ممتلئة بالجمعيات السرية، والظاهرة المدعومة من اليهود والنصارى والشيوعيين، والتي تعمل على قدم وساق، لإخراج العباد من عبادة رب العباد، إلى عبادة البشر بعضهم لبعض، وهم يسلكون في ذلك وسائل شتّى وطرقا متعددة، ظاهرة وخفية، ونحن نشاهد اليوم جوانب عظيمة من مكرهم، ونقاسي آلامًا جمة.
(1) انظر ترجمته (78) من هذه الرسالة.
(2)
تفسير الطبري (4/ 107) وانظر مجموعة التوحيد (236).
من جرائمهم، يساعدهم في ذلك فئة حقيرة ذليلة دنيئة خسيسة، باعت دينها بعرض من الدنيا، وتلك الفئة هي فئة المنافقين.
فعلى كل مسلم غيور على دين الله، أن يعرف أماني أعدائه وأهدافهم على الإسلام والمسلمين، فلا يمكنهم من تحقيق ذلك، وأن يمتثل أمر الله عز وجل بعدم اتخاذهم أولياء، فمن اتخذهم أولياء فقد عصى الله واستحق عذابه (1).
إن الإسلام يتسامح مع مخالفيه من الكفار الصرحاء الذين يخالفونه جهارًا نهارا، ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون كلمة لا إله إلا الله بأفواههم وتكذبها أفعالهم، حيث ينطقون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم يبقون في دار الكفر يناصرون الكفار ويوالونهم مع قدرتهم على الهجرة، إن الرضا عن مثل هذا الوضع ليس تسامحا إنما هو تميع، فالإسلام دين التسامح، ولكنه يأبى التميع للمنتمين إليه إنه تصور جاد للحياة، ونظام جاد في تعامله مع الناس، والجد لا ينافي التسامح ولكنه ينافي التميع، وإذا كان الله عز وجل قد نهى عن موالاة المسلمين الذين يقيمون مع الكفار وأمر بقتلهم حيث وجدوا، ونهى عن اتخاذهم أولياء ونصراء، فما ظنك أيها الأخ الكريم بمن يوالي الكفار وهو بين المسلمين؟ أليس هذا الصنف أولى بهذا التهديد والوعيد ممن يداهن الكفار وهو بينهم وفي بلادهم، إن في هذه الآية بيان يرفع صفة التميع عن المسلم في اعتقاده وعمله على حد سواء (2).
الدليل التاسع: قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ
(1) انظر تفسير القرطبي (5/ 308) وانظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (1/ 420) وانظر مجموعة التوحيد (262)
(2)
انظر في ظلال القرآن سيد قطب (5/ 476 - 482).
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97 - 99].
وقول الله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[النحل: 28، 29].
ففي هذه الآيات إخبار من الله عز وجل أنه سوف يسأل كل من انحاز إلى الكفار، أو تخلى عن المسلمين واعتزلهم في أي فريق كنتم؟ أفي فريق المسلمين؟ أم في فريق المشركين؟ فاعتذر البعض عن كونهم ليسوا في فريق المسلمين بسبب الاستضعاف، فلم تعذرهم الملائكة، وقالوا لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فكل من لم يكن مع جماعة المسلمين فهو مع المشركين، ما عدا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فهؤلاء يرجى لهم العفو من الله في قبول عذرهم والمغفرة عن تقصيرهم وهناك من اعتذر بأنه ما عمل سوءا حيث ترك كلا من المسلمين والمشركين، واعتزل بنفسه عن الفريقين مع علمه أن المسلمين على حق، فعد القرآن كلا من الاعتذارين الاستضعاف والاعتزال غير مقبول، وأن مثل هذا الفعل موجب لدخول النار وعذابها، حيث يقتضي واجب الأخوة في الإسلام، أن يكون المسلم مع إخوانه المسلمين، كالعضو مع الجسد، يتأثر بكل مؤثر يصيب الجسم من الداخل أو الخارج، فإذا كان هؤلاء لم يعذروا فكيف بمن أظهر لأهل الشرك الموافقة لهم، والدخول في طاعتهم، فآواهم ونصرهم، واتبع سبيلهم، وخطًأ أهل التوحيد وسبهم، واستهزأ بهم في أقوالهم وأفعالهم، ومظاهرهم، التي هي من شعائر
الإسلام؟ أليس هذا الصنف من الناس أولى بالكفر ممن ترك الهجرة إلى دار الإسلام، والانضمام إلى جماعة المسلمين مشحة بالوطن أو المال أو الأهل وخوفا من الكفار على تلك الأشياء (1).
الدليل العاشر: قول الله تعالى: (إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)[النساء: 105].
فنهى الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عن عضد أهل التهم والدفاع عن أهل الباطل، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن كافر أو منافق، أو مرتد إلا إذا علم أنه محق في مسألة من المسائل بعينها، فيجادل عن تلك المسألة بذاتها (2).
فلا ينبغي للمسلم أن يكون خصما لأهل الحق في الدفاع عن أهل الباطل، كما يفعل كثير من المفتونين في هذا العصر فالذين يدافعون عن الأفراد الظالمين، أو الحكومات الظالمة، والأنظمة المرتدة، والأحزاب الكافرة واقعون فيما نهى الله عنه، بل لقد وصل الأمر ببعضهم على حد الدفاع عن اليهود الغزاة في فلسطين والصليبيين المحاربين للمسلمين في أوغندا وتشاد وإرتريا والفلبين، ومثل ذلك موقف الحكومات الكافرة في بعض البلاد العربية من قضية الهجوم الاستعماري الإلحادي على افغانستان، حيث بدأت تلك الحكومات تبرر إجرامها وإجرام أسيادها في موسكو في غزوهم لأفغانستان (3).
إنه لا ينبغي للمسلمين أن يكون بوقا للأعداء، وصدى لأصواتهم
(1) انظر مجموعة التوحيد 136، 137 وانظر تفسير القرطبي (10/ 99) وانظر زاد المسير في علم التفسير (4/ 442).
(2)
انظر تفسير القرطبي (5/ 377).
(3)
انظر مجلة المجتمع عدد (551) في 20/ 1/ 1402 ص (28) بخصوص ما قاله راديوا عدن عن المجاهدين الأفغان.
المنكرة والخطاب وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فإن المراد بذلك هم الذين كانوا يفعلون ذلك من المسلمين، والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: إن الله تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد قوله تعالى: (هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[النساء: 109].
ثانيًا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما في القصة التي نزلت الآية بسببها، ولذلك كان يعتذر إليه، ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل ذلك على أن المقصود بذلك أمته من المسلمين (1).
ثم قال تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)[النساء: 107] أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، نزلت في «أسير بن عروة» ، والمجادلة المخاصمة عن الغير (2)، وفي هذه الآية دليل على النهي عن المجادلة عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير فإنه لا يجادل عنه، بدفع ما صدر عنه من الخيانة أو تبرير ما ارتكبه من جريمة لغرض إسقاط ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية، وفي قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) دليل على انتفاء حب الله لمن كان بهذا الوصف، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البغض (3) فمن اللائق بالمسلم أن يحب ما أحب الله، ويبغض ما أبغضه الله، ولا يكون مخالفا لله في حب ما يبغض وبغض ما يحب، فإن هذا السلوك لا يجوز أن يصدر من مسلم ملتزم بالإسلام التزاما صادقا.
فما هو موقف اقزام الأعلام من هذه النصوص؟ وهم ديدنهم المجادلة.
(1) انظر تفسر القرطبي (5، 337).
(2)
انظر تفسير القرطبي (5/ 378).
(3)
انظر تفسير ابن سعدي (2/ 154).
والمخاصمة عن الخونة، في تزييف الحقائق وتضليل الشعوب، وتقبيح الحسن، وتحسين القبيح، وإلباس الباطل ثوب الحق، وإلباس الحق ثوب الباطل، أليس هؤلاء داخلين تحت ما نهت عنه هاتان الآيتان نهيا صريحا لا لبس فيه ولا غموض؟ ولكن أي من يسمع ويعقل ويتدبر أمره فيما يقول ويفعل في هذه الحياة؟
الدليل الحادي عشر: قول الله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا)[النساء: 138، 139].
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي، والإلحاد في ديني أولياء، يعني أنصارا وأخلاّء من دون المؤمنين تاركين موالاة المؤمنين، معرضين عنها، يطلبون عند هؤلاء الكفار المنعة والقوة والنفوذ، وما علم أولئك السفهاء البلهاء أن العزة لله جميعا (1) قال تعالى:(وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)[المنافقون: 8].
الدليل الثاني عشر: قول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[النساء: 140].
فذكر تعالى أنه نزل على المؤمنين في الكتاب، أنهم إذا جلسوا مجلسا، يمدح فيه الكفر بالله والكافرون، ويقر فيه الاستهزاء بالله ورسوله وكتابه، ثم سكتوا عن أولئك المجرمين وعن باطلهم وصحبوهم على تلك
(1) انظر تفسير القرطبي (5/ 211).
الحال فهم مثلهم في الحكم والجزاء، هذا وهم في بلد واحد في أول الإسلام، فكيف بمن كان عنهم في سعة في بلاد المسلمين، ثم استقدم الكافرين المستهزئين بالله ورسوله والمؤمنين إلى بلاد المسلمين، واتنخذ منهم أصدقاء وأصحابا وجلساء، يأنس بقربهم، بدلا من قرب اتقياء المسلمين ويتخذهم أمناء ومستشارين، وناصحين وهم متلبسون بالحديث عن الكفر فيما يظهره ويعلي شأنه، مع استهزائهم بالله وآياته ورسوله والمؤمنين وهذا أمر لا يمكن أن يقره المؤمن بالله أو يرضى به، أو يقبله ممن قاله دون أن يعترض عليه، وينكر عليه قوله، إن كان ممن يقدر على ذلك، فإن لم يكن متمكنا من ذلك فلا أقل من اعتزال هذا المكان وهذا القول، حتى ينجو من عذاب الله، ويجب أن لا يمنعه من ذلك خوف أو حياء، فإن الخوف والحياء من الله أولى، من الخوف والحياء من الناس، ولا يمنعه من ذلك خوف على مال أو مركز، أو أي غرض من أغراض الدنيا، فإن الله سبحانه وتعال، أحق بالخشية والخوف من الناس جميعا (1) ،.
الدليل الثالث عشر: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)[المائدة: 51، 52] قال حذيفة رضي الله عنه: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر لهذه الآية (2) اهـ.
(1) انظر كتاب الإيمان -أركانه - حقيقته - نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (186، 187).
(2)
انظر مجموعة التوحيد (115).
وقد روى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: مثل قول حذيفة المتقدم (1).
وقال القرطبي في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي: من يعاضدهم ويناصرهم على المسلمين، فحكمه كحكمهم في الكفر والجزاء وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة، وهو قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين (2) اهـ.
لأن في الآية شرطا وجوابا، فإذا تحقق الجواب بتحقق الشرط وجبت معاداة الموالي للكفار، كما تجب معاداة الكفار الصرحاء، ووجبت النار للموالي للكفار إن لم يتب قبل موته، كما تجب النار لمن مات كافرا وصار منهم، ومن أصحابهم، ومن أهل ملتعهم ولو لم يقل: أنا يهودي أو نصراني، أو شيوعي أو وثني أو بعثي، أو اشتراكي، أو نحو ذلك ولو كان اسمه محمدا أو عليا أو عبد الله، ولو نطق بالشهادتين لأنه لم يحقق معنيهما، ولم يعمل بمقتضاهما ويقول ابن العربي: إن الآية تفيد نفي اتخاذ الأولياء من الكفار جميعا (3) اهـ.
لأن المتولي للكفار متبن لما عليه أحد الكفار وتابع له وراض عنه، فيكون مثله من حيث الكفر والجزاء، ثم تأمل أعذار هؤلاء الذين كفروا بموالاتهم للكفار، تجد أن الله عز وجل لم يقبلها منهم، وهي خوفهم من أهل الكتاب وسلطانهم، على مراكزهم وأموالهم، ودنياهم عامة من أن تنتقص أو تستباح أما دين الإسلام وشرائعه العظام، فليست داخلة في
(1) انظر كتاب الإيمان - أركانه - حقيقته - نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (184).
(2)
انظر تفسير القرطبي (6/ 217).
(3)
انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/ 630).
تفكير ومخيلة هؤلاء المنافقين، الذين يعيشون لبطونهم وفروجهم وشهواتهم المحرمة، وقد عد الله ذلك عذرا غير مقبول منهم قطعا لحجتهم وحجة المنافقين أمثالهم إلى يوم القيامة (1).
الدليل الرابع عشر: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة: 57].
فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن موالاة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، وبين أن موالاتهم تنافي الإيمان (2).
الدليل الخامس عشر: قول الله تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ)[المائدة: 80، 81].
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان الحقيقي بالله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم مرتب بعدم موالاة الكفار، وتوليهم، فثبوت موالاة الكفار، موجب لعدم الإيمان أو نقصه، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم من جهة أخرى فقد رتب الله تعلى على موالاة الكافرين سخطه والخلود في العذاب، وأخبر أن موالاة الكافرين لا تحصل من مؤمن، فإن أهل الإيمان يعادونهم ولا يوالونهم كما هو الواجب شرعا (3).
ثم بين سبحانه وتعالى في آخر الآية أن من أسباب موالاة الكفار
(1) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (184).
(2)
انظر مجموعة التوحيد (261).
(3)
انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (185).
الفسق الذي بدوره، جرهم إلى أن جعلوا الكفار أولياء، فصاروا بذلك مرتدين عن الإسلام أعاذانا الله من ذلك (1).
الدليل السادس عشر: قول الله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)[الأنعام: 121] نزلت هذه الآية لما قال المشركون للمسلمين: تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله، فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل أكل الميتة يكون مشركا، من غير فرق بين الخائف وغيره، إلا المكره إكراها ملجئا، فكيف بمن أطاع الكفر على كفرهم، ووالاهم، وركن إليه ونصرهم، وشهد أنهم على حق فيما يفعلونه وما يتركونه وأطاعهم في إباحة الربا والزنى والقمار، وما يدعون إليه من فحشاء وعري وغناء ماجن خسيس؟ فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافق المشركين على أن الميتة حلال (2).
الدليل السابع عشر: قول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175، 176].
اختلف المفسرون في المقصود بهذه الآية فذكرت بعض الروايات أنها نزلت في عابد من بني إسرائيل كان اسمه بلعام بن باعورا فكان هواه وتأييده مع القوم الذين حاربوا موسى عليه السلام فاعتبر هذا منه
(1) انظر مجموعة التوحيد (239).
(2)
انظر مجموعة التوحيد (239) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (8/ 370).
مظاهرة للمشركين وموالاة لهم، فكان ذلك الأمر منه انسلاخا من آيات الله، حيث ركن إلى شهوته وهواه في حطام الدنيا الفاني، فقعد عن موالاة الحق ونصرة أهله.
والراجح عدم تخصيص الآية بهذا السبب الذي لم يثبت سنده، بل الآية تدل على هذا المعنى من مفهومها العام، وعلى ذلك فالعلماء الذين لم يعملوا كما أمرهم الله، بموالاة المؤمنين ومحبتهم ونصرتهم والاعتصام بحبل الله مع المؤمنين، وفي الجانب الآخر يقومون بمعاداة المشركين وبغضهم وجهادهم، وفراقهم، فإنهم إذا لم يكونوا بهذا الوصف، فقد انسلخوا من آيات الله واستحقوا الوصف المهين (1).
الدليل الثامن عشر: قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)[الأنفال: 73].
أي: إن لم تجانبوا الكفار وتوالوا المؤمنين، وتتميزا عن المشركين، تقع فتنة في الناس وهي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكفار، فيقع الناس في حيرة التمييز بين الحق والباطل، في أقوال الناس وأفعالهم، وخاصة العامة منهم وصغار السن، لامتزاج المؤمنين بالكفار، واختلاط أقوالهم وأفعالهم واعتقاداتهم فيحصل لضعاف المسلمين وللجهلة منهم العدوى من الكفار، بتحريض من المنافقين الذين يكونون في العادة وسطاء بين الكفار الصرحاء والمسلمين الأغبياء، فتترك الواجبات، وترتكب المحرمات، وتنتشر عدوى الكفر بين المسلمين، كما تنتشر عدوى الأمراض عند من لا حصانة لديهم، فمن باب الوقاية والحماية وعدم التفريط في دين الأمة، أن يفصل المجتمع المسلم فصلا تاما عن أهل
(1) انظر تفسير القرطبي (7/ 319، 320) وانظر تفسير زاد المسير عبد الرحمن بن الجوزي (3/ 287) وانظر تفسير الطبري (9/ 82، 89)، وانظر مجموعة التوحيد (239).
الكفر وعن مناهجهم وأنظمتهم وأوضاعهم الشاذة، وأن يبنى المجتمع الإسلامي على أساس الإسلام بناء صحيحا قويا، وبأيد مسلمة مؤمنة قادرة، ذات اعتزاز بدينها قادرة على التأثير دون التأثر في تعاملها مع غير المسلمين (1).
الدليل التاسع عشر: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ)[التوبة: 23].
فهذه الآية تؤكد بكل قوة انقطاع آواصر الدم والنسب، إذا انقطعت رابطة الإيمان بهذا الدين، وتبطل ولاية القرابة في الأسرة، إذا بطلت ولاية القرابة في الله، فلله الولاية الأولى وفيها ترتبط البشرية جمعاء فرابطة العقيدة متبوعة لا تابعة لغيرها من الروابط، ولذلك إذا فقدت رابطة العقيدة أو ضعفت فلا اعتبار ولا قيمة للروابط الأخرى، فالحبل مقطوع والعودة منقوضة مع من يتولى الكفار قال تعالى:(وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[التوبة: 23] و (الظالمون) هنا تعني: المشركين فولاية الأهل والقوم إن استحبوا الكفر على الإيمان شرك لا يتفق مع الإيمان ومقتضى الإيمان بالله (2).
الدليل العشرون: قول الله تعالى: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[التوبة: 120].
(1) انظر مختصر التفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (2/ 122) وانظر تفسير القرطبي (8/ 56) وانظر مجموعة التوحيد (262).
(2)
انظر في ظلال القرآن سيد قطب (10/ 162).
فبين سبحانه وتعالى في هذه الآية أن إغاظة الكفار والنيل منهم وخاصة الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، أمر مقصود من الشارع الحكيم، فإغاظتهم لا تأتي إلا عن طريق البغض والعداوة لهم ولكفرهم وهذا البغض هو الذي يولد الرغبة في حربهم بلا هوادة، ولا تميع، ولا تراجع، ولا استسلام ومفهوم المخالفة في هذه الآية يدل على أن الذي لا يغيظ الكفار ولا ينال منهم، ويتولاهم ويحرص على رضاهم، يكتب له بذلك عمل فاسد، لأنه على النقيض من صفات المحسنين أعاذنا الله من ذلك (1).
الدليل الحادي والعشرون: قول الله تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود: 45، 46].
ففي هاتين الآيتين تبيان أن لا موالاة بين المسلم والكافر، ولو كان هذا الكافر ابنا للإنسان قد خرج من صلبه وغذاه من كسبه فما حجة الذين يوالون الكفار، المحاربين لله ورسوله والمؤمنين، وهم لا يرتبون بهم بنسب ولا سبب مباح (2).
الدليل الثاني والعشرون: قول الله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)[هود: 113].
فذكر تعالى أن الركون إلى الظلمة من الكفار الصرحاء، والكفار المدلسين أو الظالمين مطلقا موجب لمسيس النار وعذابها، ولم يذكر سبحانه
(1) انظر تفسير الطبري (11/ 47) وانظر في ظلال القرآن (11/ 352).
(2)
انظر في ظلال القرآن (12/ 560، 561).
فرقا بين من خاف أو لم يخف، ما عدا المكره إكراها ملجئا، فيجوز له الموافقة في الظاهر بالقول، وقلبه مطمئن بالإيمان قال تعالى:(إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)[النحل: 106] فكيف حال من اتخذ الركون إلى الكفار سياسة وكياسة، ليساعدوه على اغتصاب المنصب والثروة في البلاد الإسلامية؟ إن مثل ذلك كمثل المنافقين الذين قال الله فيهم:(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)[المائدة: 52].
ومن هذا نستنتج أن الركون إلى الكفار وموالاتهم من أعظم الذنوب الموجبة لدخول النار، فإن اقترن بذلك حب زوال التوحيد وأهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم، فإن هذا من أعظم الكفر وأشد أنواعه (1).
الدليل الثالث والعشرون: قول الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36].
فهذه الآية تدل على أن الإنسان إذا عبد ربه بطاعته ومحبته ومحبة ما يحبه ولم يبغض المشركين ويبغض أفعالهم ويعاديهم، فهو لم يجتنب الطاغوت ومن لم يجتنب الطاغوت لم يدخل في الإسلام، فهو كافر، لو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل، ويصوم النهار، وتصبح عبادته كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة، أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يفعل الفاحشة في نهار رمضان (2).
(1) انظر مجموعة التوحيد (241).
(2)
انظر الدرر السنية (1/ 93)
وعلى هذا فعبادة الله لا تتحقق إلا باجتناب الطاغوت، واجتنابه يعني: بغضه وعداوته، وقطع الصلة به والتعاون معه، إلا بحدود ما أباح الشرع، وفق قيود وشروط خاصة من إكراه ملجئ، وصلة بالمعروف لذوي القرابة من الكفار، مع كراهة ما هم فيه من كفر والتصريح لهم بذلك.
الدليل الرابع والعشرون: قول الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[النحل: 106، 107].
فحكم الله تعالى لا يبدل على أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان الدافع لذلك خوفا على نفس أو مال أو أهل من الكفار، وسواء كان كفره في الباطن أم بالظاهر دون الباطن، وسواء كان كفره بمقاله أو بفعاله أو بهما معا، وسواء كان طامعًا من المشركين بمال أو جاه أو شهوة أو شهرة فهو كافر على كل حال من تلك الأحوال جميعا، ما عدا صورة واحدة وهي ما إذا أكره على قول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، جاز له موافقتهم في الظاهر على ذلك، أما إن وافقهم في الباطن فهو كافر مثلهم، ولو ادعى الإكراه، لأن الباطن لا سلطان لأحد عليه من الناس وإن صبر المكره على أذى الكفار، ولم يوافقهم في طلبهم على قول كلمة الكفر، فقتل بذلك فهو شهيد، كما حصل ذلك من خباب بن الأرت (1).
(1) هو خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة وهو من السابقين إلى الإسلام كان سادس ستة في الإسلام، وممن عذب في سبيل الله تعذيبا شديدا، حيث كان الكفار يلبسونه الدروع الحديدية ويضعونه في شمس مكة وحرها اللافح ليس عليه ما يسرته، وقد صبر ولم يعط الكفار ما طلبوه، ثم شهد بدرا بعد ذلك وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل الكوفة في عهد الخلافاء الراشدين ومات بها سنة 37 هـ انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 99، 100).
وخبيب بن عدي (1) رضي الله عنهما حيث عُذِّب الأول بالنار والشمس واستشهد الثاني مصلوبا بأيدي المشركين، فلم يستجيبا إلى مطلب الكفار، مع عظم ما عرض عليهما من إغراء مقابل النطق بكلمة الكفر (2).
وظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبل (3) رحمه الله أن الإكراه المعنوي لا يصح به قول كلمة الكفر، بل لا بد من الإكراه بالتعذيب الحسي فإن أحمد لما دخل عليه يحيى بن معين (4) وهو مريض وتلا عليه هذه الآية فقلب أحمد وجهه إلى الجهة الأخرى، فمازال ابن معين يعتذر ويقول حديث عمار بن ياسر، فلما خرج من عنده قال: أحمد يحتج بحديث عمار وحديث عمار يقول: مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم
(1) هو خبيب بن عدي بن مالك الأنصاري، شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عشرة من الصحابة رضي الله عنهم كان منهم خبيب فظفر بهم قوم من بني لحيان فقتلوا منهم ثمانيية وبقي خبيب وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكة وباعوهما إلى قريش، فلبث خبيب عند الكفار مدة ثم خرجوا به من منطقة الحرم، فقتلوه فهو أول من صلب في سبيل الله، انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 103 - 105).
(2)
انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة، نفس المكان المتقدم.
(3)
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، قدمت أمه بغداد وهي حامل فولدته في ربيع الأول سنة (164) ونشأ بها وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، توفي ببغداد لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة (241) وله من الكتب المسند في الحديث يحتوي على نيف وأربعين ألف حديث، وله الناسخ والمنسوخ، وله كتاب الزهد، والمعرفة والتعليل، والجرح والتعديل، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (2/ 96) وانظر دائرة المعارف الإسلامية (1/ 491 - 496).
(4)
هو يحيى بن معين بن عون الغطفاني المري (أبو زكريا) محدث حافظ مؤرخ، عارف بالرجال، أصله من سرخس، ولد بقرية نقيا قرب الأنبار في آخر سنة (158) وكان أبوه على خراج الري، فخلف له ثروة كبيرة، فأنفقها في طلب العلم، وعاش ببغداد وحدث عن أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم، وتوفي بالمدينة وهو قاصد للحج في ذي القعدة سنة 223 هـ من آثاره: التاريخ والعلل، ومعرفة الرجال، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (13/ 232).
فضربوني وأنتم قيل فريد أن نضربكم، فقال يحيى بن معين: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك (1).
الدليل الخامس والعشرون: قول الله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)[الإسراء: 73، 74، 75] قال ابن عباس في رواية عن عطاء أن سبب نزول هذه الآيات أن وفدا من ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرنا أصنامنا وأسلمنا وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت تلك الآيات (2) وقد أخبر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو وافقهم لا تخذوه خليلا، من الخلة وهي المحبة التي تؤدي إلى الموالاة والمصافاة والمصادقة للكفار، ثم أخبر أن مثل هذا الركون والميل نحو الكفار ولو كان قليلا موجب لضعف الحياة والممات، ولو كان هذا الميل يقصد به مصلحة الدعوة والإسلام، حيث إن التنازل عن شيء من الدين، يورث التنازل المستمر إلى درجة الصفر، وهو الكفر، لأن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكالم في نهاية المطاف، ولأن أحكام الإسلام وواجباته كل لا يتجزأ، وليس بينها فاضل ومفضول خاصة فيما يتعلق بالواجبات والأركان، وليس فرض ضروري في وقت يمكن الاستغناء عنه في وقت آخر، وما عرضه وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضه أعداء الإسلام على مدعي الإسلام اليوم إلا أن مادة الطلب تختلف، فثقيف طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب مقابل وعدها بالإسلام، أما أعداء الإسلام اليوم، فيطلبون من أرباب العلم
(1) انظر مجموعة التوحيد (242).
(2)
انظر تفسير القرطبي (10/ 229، 300) وانظر تفسير الطبري (15/ 88، 89).
والدعوة، ترك الدعوة تركا كليا أو تركا جزئيا بحيث لا يتعرض الدعاة إلى مصالح ومظالم وتسلط صاحب السلطان وبحيث لا تشكل الدعوة خطرا على وجوده ووجود أسياده، وقد يستجيب لذلك كثير من حملة الأقلام في النحور، والكتب في الصدور الذين هم مطية لكل متغطرس جبار، والبعض منهم يبرر ذلك بأن مصلحة الدعوة في كسب أصحاب المناصب العليا، ولو كانوا هم المحاربين للإسلام والمسلمين، والبعض الآخر يغريه الكسب المادي ولو كان هذا الكسب على حساب التنازل عن جانب أو جوانب متعددة من أركان الإسلام وواجباته، وهم بذلك يظنون أنهم يخدعون غيرهم، وما أدرك هؤلاء أن غيرهم يمكر بهم ويصطادهم من حيث لا يشعرون ذلك أن أصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، ويغرونهم بالأسعار المرتفعة لكلماتهم، حتى يتنازلوا عن جوانب من هذا الدين، ويصدروا لهم الفتاوى التي تحل ما حرم الله، أو تحرم ما أحل الله، عند ذلك يفقد أدعياء العلم هيبتهم، وحصانتهم عند صاحب السلطان وعند الناس عامة، ويكون صاحب السلطان قد حقق مقصده فيهم بتلويث سمعتهم وسمعة الدعوة التي يمثلونها، ثم يرميهم كما ترمى الثياب الخلقة البالية، لا يؤبه لهم في قول أو فعل، إن الواجب على كل مسلم هو عدم التنازل عن شيء من دينه وعقيدته تحت وطأة الأغراءات المتعددة التي يلوح بها الكفار.
إن الركون اليسير من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تم لكان نتيجته عذاب الدنيا والآخرة، فما ظنك إذا كان ذلك الركون ركونا تاما وتوليا عاما ومن شخص أبعد ما يكون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ألا يكون ذلك كفرا وخلودًا في النار (1).
الدليل السادس والعشرون: قول الله تعالى عن أهل الكهف (وَإِذِ
(1) انظر تفسير القرطبي (10/ 300) وانظر في ظلال القرآن (15/ 351، 353).
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف: 16] وقول الله تعالى: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)[الكهف: 20].
ففي الآية الأولى يبدو موقف الفتية الذين آمنوا بربهم واضحا صريحا لا تردد فيه ولا تلعثم، إنه موقف المفاصلة الكاملة للمجتمع الكافر، فلا سبيل إلى الالتقاء على أنصاف الحلول ولا المشاركة في الحياة الجاهلية، ولا بد إذًا من الفرار عندما يصل الخطر إلى الإرغام على عقيدة الكفر، وفي الآية الثانية ذكر الله عز وجل على لسان أحد الفتية أن حالهم بين أمرين:
1 -
إما أن يرجمهم الكفار ويقتلوهم شر قتلة.
2 -
وإما أن يعيدهم في ملتهم وكفرهم والنتيجة (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) أي: إن وافقتموهم على دينهم، بعد أن غلبوكم وقهروكم عليه، فإذا كانت هذه حال من وافق الكفار بعد إن غلبوه وقهروه، فكيف مصير من وافقهم واحتضنهم وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه؟ ومع ذلك نجد أن كثيرا منهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ويحسبون أنهم مهتدون (1).
الدليل السابع والعشرون: قول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في شأن أبيه وقومه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا)[مريم: 48، 49].
(1) انظر مجموعة التوحيد (243) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (15/ 375).
هكذا بكل قوة وعزم وإصرار، اعتزل إبراهيم أباه وقومه، واعتزل عباداتهم وآلهتهم، وهجر أهله، ودياره فلم يتركه الله وحيدا، بل عوضه الله عن ذلك خيرا عظيما، وإبراهيم عليه السلام لم يعتزلهم إلا بعد أن أيس من قومه وأبيه، حيث تبين له أنهم أعداء لله وأنهم لا يفيد معهم شيء من وسائر الدعوة، فاجتنبهم وتبرأ منهم ومن آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، فإذا كان إبراهيم قد تبرأ من أبيه وقومه لكفرهم، أفلا يجب علينا اعتزال الكفار والبراءة منهم، ومفاصلتهم كما فعل أبونا إبراهيم عليه السلام (1)؟
الدليل الثامن والعشرون: قول الله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)[القصص: 8] فبين تعالى أنه بعث موسى إلى فرعون ليكون موسى عدوا لهم يتحداهم بسبب كفرهم، ويعاديهم بسبب ضلالهم، فهي عداوة بين الحق والباطل عداوة بين الحق الذي يمثله موسى ومن معه، والباطل الذي يمثله فرعون وحزبه، وهذه العداوة إنما كانت بسبب اختلاف منهج الحق عن منهج الباطل، فهي ليست عداوة على حسب أو نسب أو مصالح مادية، وإنما هي عداوة في اختلاف الدين، وهذه العداوة لن تقف عند حد مادية، وإنما هي عداوة في اختلاف الدين، وهذه العداوة لن تقف عند حد المشاعر القلبية، وإنما ستكون باعثة لما يدخل الهم والحزن والكمد على قلب فرعون وقومه، بما يواجهونه من الأقوال والأفعال التي تصدر من موسى ومن معه (2).
الدليل التاسع والعشرون: قول الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)[القصص: 17].
(1) انظر تفسير ابن سعدي (5/ 113، 114) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (16/ 440) وانظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني (2/ 454).
(2)
انظر في ظلال القرآن سيد قطب (20/ 326).
ففي هذه الآية يتحدث الله عن موسى عليه السلام وقد قطع على نفسه عهدا مطلقا، ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا أو معينا لهم، وذلك إشعار بالبراءة من الجريمة وأهلها براءة تامة، وعلى هذا فلا يحلًُّ لمسلم يحرض على سلامة إسلامه أن يعين ظالما حتى ولو بكتابة ما ينطوي على الظلم أو يصحبه على تلك الحال، فإن الله لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وليست مناصرة الظالم على ظلمه ومظاهرة الكافر على كفره، بأيسر مما تقدم.
وفي الأثر من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض الأقدام (1).
وروي أيضا من مشى مع ظالم فقد أجرم (2).
وهذه الآثار ضعيفة الإسناد، وإن كان المعنى الذي تدل عليه في الجملة صحيحًا (3).
فالمشي مع الظالم لا يكون جرمًا إلا إذا مشى معه ليعينه على ظلمه فحينئذ يكون قد ارتكب ما نهى الله عنه في قوله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2].
الدليل الثلاثون: قول الله تعالى مخاطبا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ)[القصص: 86] فمعنى ظهير في هذه الآية والتي قبلها بمعنى: معين
(1) انظر تفسير القرطبي (13/ 264).
(2)
المصدر السابق المكان نفسه.
(3)
انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/ 181).
وناصر، وهي مرادفة لمعنى الموالاة التي تدل على المحبة والمناصرة (1) ومعنى هذه الآية أي لا تكن يا محمد عونا لمن كفر بربك على كفره (2) والخطاب وإن كان موجها للرسول صلى الله عليه وسلم فالمقصود به أمته من بعده، فيجب أن لا يكون هناك تناصر، أو تعاون بين المؤمنين والكفارين والمحاربين لله ورسوله والمؤمنين، لأن الإيمان والكفر طريقان مختلفان، ومنهجان لا يتلقيان أولئك حزب الله وهؤلاء حزب الشيطان، فعلام يتعاونان؟ وفيما يتعاونان (3)؟
الدليل الحادي والثلاثون: قول الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة: 22].
فأخبر تعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا ثم تصدر منه موادة لمن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب وأن هذا الجمع مناف للإيمان مضاد له، إذ لا يجتمع الإيمان بالله واليوم الآخر مع مودة ومحبة من حاد الله ورسوله، إلا كما يجتمع الضدان (4) وعلى ذلك فمن واد كافرا فليس بمؤمن (5).
أما ما قد يعترض به معترض على هذا الدليل من جواز نكاح نساء أهل الكتاب، الأمر الذي يترتب عليه مودة الرجل لزوجته الكافرة كما في فول الله تعالى:(وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم: 21] فكيف الجمع بين هذين الدليلين اللذين ظاهرهما التعارض؟
(1) انظر المعجم الوسيط (2/ 584) وانظر (7) من هذه الرسالة.
(2)
انظر تفسير الطبري (20/ 81).
(3)
انظر في ظلال القرآن سيد قطب (20/ 380).
(4)
انظر مجموعة التوحيد (248).
(5)
انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (186)
والجواب على ذلك باختصار أن في هذه المسألة قولين:
الأول: هو قول من يمنع الزواج من غير المسلمات (1) وعلى هذا القول فلا إشكال ولا اعتراض، ودليل أهل هذا القول هو قول الله تعالى:(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)[البقرة: 221] وقول الله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)[الممتحنة: 10].
الثاني: قول من يرى الإباحة مستدلا بقول الله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[المائدة: 5] فقد جعل أصحاب هذه القول شروطا متعددة في مسألة زواج المسلم بالكتابية سوف نتناولها بالتفصيل في بحث قادم إن شاء الله، ولكن لا مانع من الإشارة إلى مجمل تلك الشروط، وهي أن يكون المتزوج للكتابية، قويا في عقيدته صلابًا في رجولته، حادا في معاملته، شديد الغيرة على دينه، فإذا توفرت هذه الصفات في شخص مسلم جاز له نكاح الكتابية، وإن كان بعكس ذلك فالأولى منعه (2).
وقال بعض المفسرون: إن النساء من الضعفة وممن لا يقاتل فجاز برهن بالمعروف (3) ومن البر بهن الزواج منهن قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8].
(1) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران (45).
(2)
انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران (65).
(3)
انظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي (8/ 237).
الدليل الثاني والثلاثون: قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 25 - 28].
فذكر تعالى أن هناك جماعة من الناس تدعي الإسلام في ظاهر حالها، ولكنهم في الحقيقة مرتدون بسبب وعدهم للكفار، المتضمن طاعتهم لهم في بعض الأمور، فذكر أنهم ارتدوا بذلك، ولم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة وغرهم الشيطان بتسويله وتزيينه لما ارتكبوه من الردة، وأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، وأنهم بمعرفتهم الحق، ومحبتهم له، والشهادة به، لا يضرهم ما فعلوا، فقالوا للكفار: سنطيعكم في بعض الأمر من موالاة ومحبة، وتأييد، مع بقائهم حسب زعمهم الخاطئ على مسمى الإسلام وأنهم فعلوا ذلك محبة للدنيا، وخوفا على فوات الأنفس والأموال والمناصب، فإذا كانت الردة حاصلة لمن وعد المشركين بالطاعة في بعض الأمور، فكيف حال من وافق المشركين وأطاعهم في كل الأمور قولا وفعلا؟ ألا يكون هؤلاء أحرى بالردة من أولئك الذين وعدوا المشركين في الطاعة في بعض الأمور دون البعض الآخر؟ وبناء على ذلك فإن اتباع المشركين والدخول في طاعنهم والشهادة لهم بأنهم على الحق، ومعاونتهم على الباطل، وترك التوحيد وأهله وخذلان أصحابه، كل هذه أمور موجبة للردة والكفر (1).
الدليل الثالث والثلاثون: قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
(1) انظر مجموعة التوحيد (244).
وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الحشر: 11] ففي هذه الآية تنبيه من الله عز وجل لرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده إلى القرابة الشديدة بين المنافقين والكفار من أهل الكتاب، قرابة تصل إلى درجة الأخوة بينهما، فأهل الكتاب كفروا صراحة، والمنافقون إخوانهم في الكفر، ولو أنه يلبسون رداء الإسلام ظاهرا، فهم كفار في حقيقة أمرهم وواقعهم، فقد اعتبرت الآية وعد المشركين في السر بالدخول معهم ونصرهم، والخروج معهم نفاقا وكفرا، وإن كان هذا الوعد كذبا وتمويها، فكيف بمن وعد الكفار بالدخول معهم ونصرهم صادقا ظاهرا، فدخل في طاعتهم ودعا إليها، ونصرهم على ذلك، وانقاد لهم وصار من جملتهم وأعانهم على كفرهم بالمال والرأي والعتاد، أليس هذا أشد حالا وأسوا مالا من المنافقين المذكورين في هذه الآية؟ (1)
الدليل الرابع والثلاثون: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
…
) إلى قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[الممتحنة: 1].
فأخبر تعالى أن من تولى أعداء الله، وإن كانوا أقرباء، فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ الطريق القويم، والمنهج المستقيم، فإن من يدعي محبة الله، ومحبة رسوله، ومحبة المؤمنين، ثم يتخذ أعداء الله أصدقاء وحلفاء وأنصارا، ويلقي إليهم بالمودة لكاذب فيما يدعيه من حب الله ورسوله والمؤمنين، وفعله هذا تكذيب عملي لله، ومن كذب على الله فهو
(1) انظر مجموعة التوحيد (236/ 237)، وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (28/ 43).
كافر في مثل هذه الصورة، لأنه تعمَّد مخالفة الله فيما نهى الله عنه وقد أجمع العلماء على أن من تعمَّد استحلال ما حرم الله فهو كافر (1).
الدليل الخامس والثلاثون: قول الله تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)[الممتحنة: 2] أي إن قدروا على المسلمين، واستولوا عليهم ساموهم سوء العذاب (2) وهذا الكلام له شواهد في التاريخ فعندما تغلب الصليبيون على المسلمين في الأندلس أبادوا المسلمين إبادة تامة بعد أن استقر المسلمون فيها ثمانية قرون، وكان بوسع المسلمين أيام عزهم وقوتهم أن يبيدوا كل الطوائف غير الإسلامية، وأن يسحقوها سحقًا تامًّا، ولكن الدين الإسلام رحيم حتى بأعدائه رفيق بهم، واليهود اليوم عندما تغلبوا على المسلمين فعلوا بالمسلمين مثل ما فعل الصليبيون قبلهم فنجد أنهم شردوا الملايين من السكان وقتلوا مئات الآلاف، ولا زالوا يطاردون البقية الباقية من الفلسطينيين خارج فلسطين، وعداوة اليهود لنا ليست عداوة عرقية أو طمعا في البلاد أو الاقتصاد كما يصور ذلك السذج البلهاء من الناس، بل هي عداوة عقيدة ودين، وهذا ما يدل عليه قولهم وفعلهم فعندما دخلت قوات اليهود القدس عام (1387هـ- 1967م) تجمهر الجنود من اليهود حول حائط المبكى كما يزعمون، وأخذوا يهتفون مع موسى ديان، هذا يوم بيوم خيبر، يا لثارات خيبر، ثم أخذوا ينشدون حطوا المشمش على التفاح .. دين محمد ولي وراح، محمد مات وخلف بنات (3).
(1) انظر مجموعة التوحيد (249).
(2)
انظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (3/ 482 وانظر مجموعة التوحيد (265)).
(3)
انظر كتاب قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله تأليف جلال العالم ص (9، 15، 29)
الدليل السادس والثلاثون: قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التوبة: 114] وقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)[الزخرف: 26، 27] وقول الله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4].
إن الإيمان بالدين الإسلامي هو الرباط الذي تلتقي فيه سائر الأواصر البشرية، والعلاقات الإنسانية فإذا انقطعت رابطة الإسلام انقطعت سائر الروابط الأخرى، فلا لقاء بعد ذلك في نسب أو صهر، أو عشيرة أو أرض، فإما إيمان بالله فالرابطة الكبرى موصولة والوشائج الأخرى تنبع منها وتلتقي معها، أو لا إيمان فلا صلة إذا يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان من جنس آخر (1).
ففي هذه الآيات إشارة وتنبيه بأنكم يا معشر المؤمنين لكم قدوة صالحة في مفاصلة الكفار ومعاداتهم، إلى أن يؤمنوا إذا كنتم متبعين لملة إبراهيم ومن معه من المؤمنين، فقفوا من الكفار مثل موقفه ومن معه منهم، وأظهروا العداوة للكفار مثل إظهارهم العداوة لهم، فهم لكم قدوة ولكم بهم أسوة (2).
الدليل السابع والثلاثون: قول الله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
(1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (11/ 322) وانظر معالم في الطريق للمؤلف نفسه (187 - 198).
(2)
انظر تفسير ابن سعدي (7/ 352).
قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9] وقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)[الممتحنة: 13].
ففي هاتين الآيتين ينهى الله عز وجل عن موالاة وموادةمناصرة الكفار لأن ذلك من الظلم والتناقض، أن يجمع الإنسان بين محبة الله وبين محبة من غضب الله عليه، فإن عداوة المعادي لربك أيها الإنسان باعثة وداعية إلى عداوتك له، ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى، لو كان هناك حاكم له مملوك، وهذا الحاكم يسدي على مملوكه من الخير، ويمنع عنه من الشر الشيء الكثير، ولهذا الحاكم أعداء، أيليق عقلاً وعرفًا، أن يوالي هذا المملوك ويناصر ويحب عدو سيده وولي نعمته، فكيف إذا نهاه سيده عن ذلك أشد النهي ورتب على موالاته لعدوه أن ينزل به أشد أنواع العذاب؟ فكيف إذا كان هذا العدو عدوا له ولسيده في آن واحد؟ ألا يعتبر من يفعل ذلك من الظالمين؟ والظلم نوع من الشرك، قال تعالى:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13] فحال من يوالي الكفار ويناصرهم، ويترك موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ومناصرتهم، كحال هذا المملوك مع سيده والله أعزُّ قدرًا وأجل ذكرًا وأعظم شأنًا من ذلك (1).
الدليل الثامن والثلاثون: قول الله تعالى: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا)[الفرقان: 55] فهذه الآية دلت على أن المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه، وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده والموالين
(1) انظر مجموعة التوحيد (264) وانظر تفسير ابن سعدي (7/ 356، 364) وانظر ظلال القرآن سيد قطب (28/ 65 - 70).
له فهو مع الله على أعداء الله يحاربهم ويعاديهم ويبغضهم من أجل الله كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه، أما البعيدون منه فهم غير مهتمين به ولا مبالين بشيء من ذلك (1).
ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: (الكافر عون للشيطان على ربه بالعداوة والشرك) اهـ وقال الليث عن مجاهد قال: (الكافر يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه عليها)(2) اهـ.
وقال زيد بن أسلم (ظهيرا) أي: مواليًا لأعداء الله أيًّا كان نوعهم، والمعنى أنه يوالي عدو الله على معصية الله والشرك به فيكون مع عدو الله معينا له على مساخط الله (3) اهـ.
فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت بحق الكافر والفاجر معية مع الشيطان والنفس والهوى ولهذا صدر الله الآية بقوله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ)[الفرقان: 55] وهذه العبادة هي الموالاة المتضمنة للمحبة والرضا، ولكنها لما صرفت لما لا ينفع ولا يضر، أصبحت هذه الموالاة مظاهرة لأعداء الله على الله وتلك الصفة من نواقض الإسلام العشرة التي عدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله موجبة للخروج من الإسلام (4).
ومن هذه الأدلة جميعا يتقرر بما لا يدع مجالا للشك أن لا صحة لإسلام المسلم حتى يتولى الله ورسوله والذين آمنوا قولا وفعلا واعتقادا، ويعلن عداوته للكفار بالقول والفعل والاعتقاد، ما داموا على الكفر، ويستمر على هذا الاعتقاد والعمل حتى يلقى الله على ذلك.
(1) الفوائد لابن القيم (79).
(2)
المصدر السابق (80)
(3)
المصدر السابق المكان نفسه.
(4)
انظر مجموعة التوحيد (28).