الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة في الله والمعاداة فيه
الإكراه هو حمل الإنسان على ما لا يرضاه من القول أو الفعل بحيث لو خلي ونفسه لما باشر ذلك القول أو الفعل (1).
والذين يدعون الإكراه في عدم موالاة المسلمين، أو معاداة الكافرين يلجئون إلى الاعتذار والاحتجاج ببعض النصوص من الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قول الله تعالى:
1 -
(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران: 28].
2 -
قول الله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)[النحل: 106].
(1) انظر أصول الفقه، محمد الخضري بك ص (106).
3 -
قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ) إلى قوله: (عَفُوًّا غَفُورًا)[النساء: 97، 99].
4 -
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)[النساء: 75].
ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
5 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1).
فدل الحديث بعمومه على عدم مؤاخذة المكره فيما أكره عليه من قول أو فعل، وتلك جملة أدلة الذين يدعون الإكراه في عدم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين حيث يقولون إن الله عذر المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به لولا استضعافهم والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به من قبل الكفار وأشباههم (2).
والرد على دعوى من يعممون الإكراه في كل قول أو فعل يرتكبونه أن نناقش تلك الأدلة واحدًا بعد الآخر حتى يتضح المفهوم الصحيح للإكراه ونوع ما يجوز الإكراه فيه، وما لا يجوز فيه الإكراه فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: إن المراد بقول الله تعالى: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي إلا أن تخافوا منهم خوفا جازما، فلا بأس حينئذ بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة
(1) رواه ابن ماجه انظر سنن ابن ماجه (1/ 630) رقم الحديث (2070).
(2)
انظر فتح الباري (12/ 311).
لهم ودفعا لشرهم وأذاهم، مع طمأنينة القلب إلى بغضهم وعداوتهم (1).
وقد اختلف أهل العلم في جواز التقية (2) مع الكفار:
1 -
فقال معاذ بن جبل (3) ومجاهد رضي الله عنهما: كانت التقية قبل قوة الإسلام، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأعز المسلمين أن يتقوا من عدوهم (4).
2 -
قال الحسن البصري رحمه الله: التقية جائزة للمسلم إلى يوم القيامة ولا تقية في القتل (5).
فالآية دليل على جواز التقية، ولكن التقية المقصودة في هذه الآية كما فهمها السلف الصالح من هذه الأمة، هي جواز النطق بالإيمان، أما تفسير التقية بأنها جواز الكذب المطلق بالقول والفعل بلا حدود أو قيود فهذا تفسير خاطئ وهو ما ذهب إليه بعض مفسري الشيعة حيث يوجبون التقية ويرون أنها واجب شرعي حتى يقوم القائم المنتظر (6).
(1) التقية الخشية والخوف والتقية عند بعض الفرق إخفاء أمر ومصانعة الناس في أمر أو أمور أخرى انظر المعجم الوسيط (2/ 1063 - 1065).
(2)
انظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام محمد علي الصابوني (1/ 398).
(3)
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري، وهو أحد السبعين الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية من الأنصار، وقد شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه:«خذوا القرآن من أربعة» ذكر منهم معاذ بن جبل، وقد أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وبقي فيها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتقل بعد ذلك إلى الشام فتوفي هو وبعض أفراد عائلته في طاعون عمواس سنة (18) هـ وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة انظر أسد الغابة (4/ 376 - 378).
(4)
انظر تفسير القرطبي (4/ 57).
(5)
انظر تفسير القرطبي (4/ 57).
(6)
انظر السنة والشيعة إحسان إلهي ظهير (156 - 158).
والعدو الذي يتقى شره نوعان:
(1)
عدو سبب عداوته على الأغراض الدنيوية، فإذا كانت العداوة بسبب المال أو المنصب أو أذى النفس فهو حق راجع للإنسان نفسه، فإن داراهم بترك بعض حقه لهم فهو جائز، لأن ذلك الترك لا يلحق الدين منه نقصان مباشر (1).
(2)
عدو سبب عداوته الاختلاف في الدين، والعداوة من هذا النوع توجب على المسلم الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه إظهار دين الله، أما إذا لم يستطع لكونه ممن رخص الله لهم من العجزة والنساء والصبيان الذين أذن الله لهم بالبقاء مع الكفار نظرا لأنهم من المستضعفين أو لم يجد مكانا يستطيع أن يتجه إليه ليظهر فيه دين الله، كما هو واقع المسلمين اليوم في عامة بلاد المسلمين، جاز له المكث بين الكفار والموافق لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعي الجاد لتغيير الواقع الجاهلي الذي يعيش فيه إلى صالح الإسلام والمسلمين، فإن عجز سعى في حيلة للخروج والفرار بدينه من هذه القرية الظالم أهلها، فإن عجز عن الخروج جاز له موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن على الأمور القولية، دون الأعمال الفعلية، والموافقة لهم بهذه الشروط حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه من عزيمة فلو جاهدهم فقتل فهو شهيد كما سيأتي بيان ذلك قريبا بإذن الله تعالى في ثنايا هذا المبحث.
ثانيًا: إن المراد بالآية في قوله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر عندما يكون المسلم بيد الكفار يعذبونه على ذلك، فيجوز أن ينطق بكلمة الكفر ترضية لهم، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وذلك مثل ما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه
(1) انظر فتح الباري (5/ 124).
عندما أجاب الكفار إلى التلفظ بكلمة الكفر بعد تعذيبه واستشهاد والديه، ثم إنه لما قال هذه الكلمة التي طلب الكفار منه أن يقولها أتى بعد قولها وهو يبكي حزنا وغما على موافقتهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إن عادوا فعد» (1).
ثالثًا: إن المستضعفين بمكة لم يكن منهم مجاراة للكفار في كل ما يريدون بحجة الاستضعاف أو الإكراه، فهم لم يسجدوا لصنم ولم يشربوا خمرا، ولم يرتكبوا فاحشة إرضاء للكفار، وكل ما فعلوه هو أنهم أقاموا مع الكفار في دارهم، مع أنهم أحاطوا أنفسهم بعزلة قولية وفعلية عن الكفار وما يعبدون من دون الله.
أما ما ورد في بعض روايات أسباب النزول من أن سبب نزول قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 97] هو أن بعض المسلمين المستضعفين في مكة أجبرهم الكفار على الخروج معهم إلى معركة بدر فقتل عدد منهم فأنزل الله هذه الآية (2).
فالصحيح أن الذين خرجوا مع الكفار ليسوا من المستضعفين للأسباب الآتية:
1 -
إن الكفار لم يكرهوا من خرج من المسلمين مع المشركين في بدر إكراها ملجئا بدليل أن الروايات تذكر عن ابن عباس قوله: أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) فأنزل الله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
(1) انظر تفسير القرطبي (10/ 180).
(2)
انظر الصحيح المسند من أسباب النزول مقبل بن هادي الوادعي (51).
(3)
رواه البخاري انظر فتح الباري (8/ 262) كتاب التفسير (4596).
ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97 - 99].
ولو أكرهوا على ذلك إكراها ملجئا لورد من البيان ما يوضح تلك الحال.
2 -
إن إقامة هؤلاء الذين خرجوا مع الكفار في بدر، إقامة غير شرعية في الأصل، حيث إن الله عز وجل لم يعذر أحدا في الإقامة بدار الكفار سوى المستضعفين، والقادرين على حمل السلاح ليسوا من المستضعفين.
3 -
إنه لو قدر فرضا على أنهم خرجوا مكرهين إكراها ملجئا فإن الواجب عليهم هو الانضمام إلى المسلمين، لأن الإكراه مهما يكن مصدره لا يبيح للمسلم حمل السلاح على أخيه بحجة الإكراه (1) وحيث إن خروج هؤلاء لم يكن مشروعا للأسباب المتقدمة لم يعذرهم الله تعالى ولذلك قال في حقهم: (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وقد يقول قائل: إن المسلمين في مكة من غير المستضعفين لم يكونوا معذورين أصلا في البقاء في مكة لإمكان الهجرة إلى المدينة.
لكن ما هو الحكم وما هو المخرج الشرعي للمسلمين الذين يعيشون اليوم تحت ظل حكومات كافرة تدفع بهم في معظم الأحيان إلى محاربة
(1) انظر فتح الباري (12/ 316، 317).
وانظر التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة (1/ 568).
وانظر جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354).
الإسلام والمسلمين في الداخل والخارج، وهم مكرهون على ذلك، حيث لا يجدون بلدا أو دولة إسلامية تحميهم وتؤويهم وإن وجدوا فلا يستطيعون الخروج إلا بإذن هؤلاء الكفار، وهم لا يسمحون لهم حتى بالتفكير في الخروج فهم بين نارين إما أن يحملوا السلاح في وجه إخوانهم المؤمنين وإما أن يعلنون الرفض والعصيان فيكون مصيرهم الموت على أيدي هؤلاء الكافرين بدعوى الخيانة والعصيان، فما العمل في مثل تلك الحال التي يعاني منها معظم المسلمين اليوم في بلاد الإسلام؟
والجواب كما يظهر لي والله أعلم يتمثل في سلوك أحد الطرق التالية:
(1)
إذا كان هناك جماعة مسلمة قائمة منحازة بنفسها في داخل هذه الدولة التي تحارب الإسلام وجب عليه شرعا الانضمام إلى تلك الجماعة والعمل معها بشكل ظاهري أو خفي، ووجب بذل المال والنفس في مناصرتها وتأييدها والجهاد معها، واعتبر التخلي عنها أو خذلانها من التولي يوم الزحف كما أن محاربتها بالفعل بدعوى الإكراه موجب لعذاب النار كما بين الله ذلك في حق من خرج من المسلمين مع المشركين ضد المسلمين في بدر.
(2)
أن يفارق المشركين مفارقة سكن ومقام إذا استطاع إلى ذلك سبيلا فإن لم يستطع فيلجأ إلى المكر بأعداء الإسلام كما فعل نعيم بن سعود رضي الله عنه حين أوقع الفرقة بين الأحزاب، فمن لا يجد جماعة إسلامية منظمة ينضم إليها في بلده ولا يستطيع الخروج إلى بلاد المسلمين ودعي لحرب أناس مؤمنين فعليه أن يمكر بأعداء الله ويعاملهم بنقيض قصدهم ويطعنهم من خلفهم ويقوم بعمل كل ما من شأنه أن يثبطهم ويخذلهم ويلحق الهزيمة الساحقة بهم، وحينئذ يكون جنديا مجاهدا بين صفوف الأعداء وهو في تلك الحال أشد على الأعداء من المؤمنين الذين يعلنون حربهم على الكفر وأهله في شكل مستقل فهو إن صدق في النية مع
الله عز وجل أدرك فضل المجاهدين وأصاب المقتل من الكافرين، وحينئذ يظفر بما يظفر به المؤمنون المجاهدون.
(3)
إذا عجز عن الانضمام إلى الجماعة الإسلامية في بلده أو خارج بلده وعجز عن المكر بأعداء الإسلام والمسلمين، وأكرهه أعداء الإسلام على إيذاء المؤمنين وجب عليه شرعا الامتناع عن فعل ما أكره عليه.
حيث قد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز للمسلم ولو أكره أن يفدي نفسه بغيره من إخوانه، بل عليه أن يصبر على البلاء ويسأل الله العافية، ولا يحول الظلم عن نفسه إلى غيره من إخوانه المؤمنين (1) وخاصة في مسألة القتل فإنه إن قتل مسلمًا بغير حق شرعي بحجة الإكراه وجب عليه شرعا القصاص (2) وأثم إثما عظيما، أما الإكراه فيما دون القتل في حق الغير ففيه قولان:
القول الأول: من يرى أن الأفضل في حق المكره في حق الغير أن يأخذ بالعزيمة والشدة وأن يمتنع عن ما أكره عليه وإن ضرب أو قتل أو عذب في ذلك فهو أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، وهذا القول يقول به أصحاب الإمام مالك رحمهم الله (3) حيث يرون أنه إذا اجتمع مبيح ومحرم قدم المحرم (4).
القول الثاني: هو قول من يرى جواز الأخذ برخصة الإكراه فيما عدا القتل فلا يرى أحد جواز قتل المسلم ظلما بدعوى الإكراه، فالذين يرون جواز الأخذ برخصة الإكراه فيما دون القتل لا يبيحون الأخذ برخصة الإكراه على الإطلاق، وإنما يقولون بدفع أعظم الضررين بأدناهما في حق نفسه.
(1) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر فتح الباري (12/ 316، 317) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 568).
(2)
انظر المصادر المتقدمة نفس المكان، وانظر أصول الفقه، محمد الخضري (109).
(3)
انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183).
(4)
انظر أصول الفقه، محمد الخضري بك (307).
وحق أخيه الذي أكره على إيذائه بناء على القاعدة الفقهية في دفع أعظم الضررين بأدناهما (1).
رابعًا: إن الحديث الوارد في موضوع الإكراه وهو «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهو عليه» لفظ عام قد ورد تخصيصه بأدلة منها ما يلي:
1 -
قول الله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164].
فقد أجمع أهل العلم المعتد بهم، أنه لا يجوز للإنسان أن يفتدي نفسه من القتل بقتل غيره من الأبرياء (2).
2 -
إن حديث إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه حديث في جميع طرقه ضعف وإن كان مشهورا، فقد أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدا، وسئل أبو حاتم فقال هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة (3).
3 -
إن القتل للغير بدعوى الإكراه معارض بالنهي الشديد عن قتل المؤمن لأخيه المؤمن قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[آل عمران: 94] وفي الحديث كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركا، أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا (4).
والمكره على القتل ظلما متعمدا للقتل، عندما يعلم أنه يقتل إنسانا
(1) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر فتح الباري (5/ 24) وانظر كشف الخفا (2/ 269).
(2)
انظر جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354 - 355).
(3)
المصدر السابق (350).
(4)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 24) رقم الحديث (511).
بغير حق وقد ذكر علماء الأصول أنه إذا اجتمع مصلحة ومفسدة قدم درء المفسدة على جلب المصلحة، وبنوا على ذلك قاعدة أنه لو تعارض مبيح ومحرم قدم المحرم على المبيح (1).
والذي أراه في مثل هذا المقام هو دفع أعظم المفسدتين بأدناهما كما هو مقرر عند عامة العلماء (2) اهـ.
وعلى القول بصحة حديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإن الحديث عام قد ورد تخصيصه بما يلي:
(1)
قول الله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)[النحل: 106].
فقد ذكر هل التفسير أنها نزلت في عمار بن ياسر، وعمار أكره على القول دون الفعل (3).
(2)
إن الله عز وجل قد ذم الذين خرجوا من المسلمين مع أهل مكة لمحاربة المسلمين في بدر على القول بأنهم خرجوا مكرهين فإن الآية مخصصة للحديث إذ لو كان الإكراه عذرا شرعيا في مثل هذه المسألة لما قال الله في حقهم (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 97].
وخلاصة القول في مسألة الإكراه أن الإكراه ينقسم إلى قسمين وكل قسم ينقسم إلى عدة أقسام، ونظرًا إلى أن معظم هذه الأقسام لا يدخل في موضوعنا هذا فسنقتصر على ذكر ثلاثة أنواع لها صلة بموضوعنا وهي:
(أ) الإكراه المعنوي.
(1) انظر إرشاد الفحول في علم الأصول للشوكاني (1284)(ط دار المعرفة (1399)) وانظر أصول الفقه، محمد الخضري بك (307).
(2)
انظر تفسير القرطبي (10/ 180)، وانظر مجموعة التوحيد (237).
(3)
انظر تفسير القرطبي (10/ 180)، وانظر مجموعة التوحيد (237)
(ب) الإكراه الفعلي في مجال القول.
(ج) الإكراه الفعلي في مجال الأفعال في حق الغير.
أولا: الإكراه المعنوي:
هناك طائفة من الناس ممن يعز عليهم أن يعرضوا أنفسهم وأولادهم وأموالهم، للتضحية في سبيل الله، يقولون بأنهم مكرهين إكراها معنويا على التلفظ بالكفر، وإقراره لأنه يغلب على ظنهم أنهم إذا لم يقولوا الكفر ويقروا بألفاظه، فسوف يتعرضون للأذى والفتنة في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وقد يستدل هؤلاء بقصة عمار بن ياسر التي تقدم ذكرها قريبا (1) ولكن أين هؤلاء من عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي تبرأ من المشركين وسبهم وسب دينهم، ومعبوداتهم واستشهدت والدته تحت التعذيب وعذب هو في نفسه عذابا شديدا؟ حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهو يقول:«اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ومع هذا كله لم يقع من عمار رضي الله عنه إلا موافقة الكفار على قوله واحدة تحت وطأة التعذيب والتهديد ولم ينشرح صدره بقولها بل ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ولم يطمئن إلى تكرار تلك الكلمة أو ما يماثلها عند الكفار ولم يوافقهم في أي فعل من أفعال الكفر، فكيف يحتج بقصة عمار هؤلاء الذين يسارعون بدون إكراه فعلي إلى التملق والمداهنة للكفار وأشباه الكفار وهم لم يطلب منهم ذلك فضلا عن أن يكرهوا عليه؟، ثم إذا ناقشهم أحد بذلك قالوا نحن مكرهون على هذا السلوك.
والصحيح أن الاستجابة القولية والفعلية للكفار من غير إكراه ملجئ غير معتبرة ولا جائزة عند جمهور أهل العلم (2).
(1) انظر (398) من هذه الرسالة.
(2)
انظر فتح الباري (12/ 315، 316)
وانظر مجموعة التوحيد (297).
حيث يرى الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما لله أن الإكراه لا يكون معتبرا إلا بمباشرة التعذيب، من ضرب أو إرادة قتل أو سجن مغلظ أو نحو ذلك.
أما التهديد اللفظي والمعنوي، من قبل الكفار وأشباههم فلا يكون إكراها فالأسير المسلم إن خشي من الكفار أن يعذبوه أو يسجنوه أو يحولوا بينه وبين امرأته، وأولاده وماله لم يصح له التكلم بكلمة الكفر حتى يحصل الإكراه بالفعل، أما الخوف من أن يحول الكفار بينه وبين أهله وماله أو أن يعذبوه في نفسه فلا يكون ذلك إكراها، لأن الخوف من الشيء قبل وقوعه ليس إكراها (1) ولأنه ما من مسألة من مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ويخشى الإنسان أن يصيبه منها أذى، فلو جاز للمسلم أن يترك كل مسألة يخشى الأذى منها لما وجدنا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد في سبيل الله.
ثانيًا: الإكراه الفعلي على النطق بألفاظ الكفر:
خصص بعض العلماء الإكراه بأنه رخصة في جواز النطق بكلمة الكفر في الأقوال فقط دون الأفعال عند وجود الشروط اللازمة لذلك وهي:
1 -
طمأنينة القلب بالإيمان في موالاة الله ورسوله والمؤمنين ومعاداة أعدائه.
2 -
وجود الإكراه الملجئ بالفعل الحامل للإنسان على إرادة التخلص من أذى الكفار وعذابهم.
(1) انظر مجموعة التوحيد (297) وانظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن الجوزي (4/ 496، 497).
قال بذلك الحسن البصري والأوزاعي (1) وسحنون (2) وأحمد بن حنبل وإن كان الإمام أحمد يرى أن الأولى الثبات على الحق ولو قتل على ذلك (3).
وأما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى طائفة من أصحابه وقال: «لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم» (4) فالمراد به الشرك بالقلوب لا بالألفاظ كمثل قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا)[العنكبوت: 8] وسائر الأقوال متصور عليها الإكراه، ولهذا إذا أكره بغير حق على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة، إذا كان قلبه مطمئمنا بالإيمان وهذا هو الفارق بين المكره والناسي والجاهل (5).
ثالثا: الإكراه الملجئ على الأفعال التي تخالف الإسلام.
سبق أن أوضحنا في أول هذا المبحث أن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لمسلم أن يقتل مسلما بدعوى الإكراه (6) أما إيذاء المسلم لأخيه
المسلم فيما دون النفس تحت وطأة الإكراه فالراجح من الأقوال عدم جواز
(1) انظر ترجمته (132) من هذه الرسالة.
(2)
هو عبد السلام بن سعيد التنوخي الحمصي الأصل القيرواني المالكي ويلقب بسحنون أبو سعيد ولد سنة (160) هـ وأصبح فقيها ثم تولى القضاء بالقيروان وارتحل في طلب العلم وسمع من سفيان بن عيينة وغيره، وتوفي في اليوم الخامس من شهر رجب من سنة (240) من مصنفاته المدونة الكبرى في الفقه المالكي في أربعة مجلدات، وعليها يعتمد فقهاء القيروان، انظرالبداية والنهاية لابن كثير (10/ 323) وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 224).
(3)
انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر زاد المسير في علم التفسير (4/ 496) وانظر الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (191 - 194).
(4)
انظر تفسير القرطبي (19/ 293).
(5)
انظر جامع العلوم والحكم عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354، 355).
(6)
انظر فتح الباري (12/ 316، 317) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 568).
ذلك، كما هو رأي الذين يرون أن الصبر على الابتلاء أولى من الأخذ بالرخصة وعلى رأس هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (1).
وفي رأيي أنه في مثل هذه الحال التي يتعرض فيها المسلم للإكراه في إيذاء أخيه أن يدفع أعظم المفسدتين بأدناهما في حقه وحق أخيه على حد سواء، وهذا على قول من يرى جواز الأخذ بالرخصة أما من يرى أن الصبر على الأذى أولى من دفع الضرر عن النفس ليقع على نفس أخرى بريئة، فأقول: إنه ليس من حق المسلم أن يدفع الضرر عن نفسه بضرر مثله أو أشد منه في حق أخيه، ولكن لو دفع أعظم الضررين بأدناهما سواء في حق نفسه أو حق أخيه لكان ذلك عدلا وإنصافا في حق الاثنين معا بحسب القدرة والاستطاعة فيما دون مسألة القتل (2).
أما من قتل مؤمنا بدعوى الإكراه فقد احتمل إثما وذنبا كبيرا، قال تعالى:(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93].
وقد ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن المسلم إذا قتل مؤمنا متعمدا لا تقبل له توبة.
وقال الجمهور: إن القاتل للمؤمن عمدا تقبل توبته إذا كانت توبة صادقة، وتوبة نصوحا، واستدلوا على ذلك أن الكفر أعظم من القتل، والتوبة عن الكفر مقبولة فعن القتل أولى (3)، وعلى كل حال فإن من المرجح قبول توبة القاتل للمؤمن عمدا وإن كان الوعيد في حقه شديدا فقد
(1) انظر المصدرين السابقين نفس المكان وانظر تفسير زاد المسير (4/ 496).
(2)
انظر التشريع الجنائي الإسلامي (1/ 575، 576).
(3)
انظر تفسير آيات الأحكام، محمد علي السايس (126، 127).
أكدت الآية المتقدمة قريبا أن من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وعليه غضب من الله ولعنة وله عذاب عظيم، ووردت أحاديث بهذا المعنى وإن كان في طرقها ضعف مثل حديث:«من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» (1). وحديث: «يجيء المقتول ظلما يوم القيامة معلقا رأسه بإحدى يديه إما بشماله وإما بيمينه أخذا صاحبه بيده الأخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول: يا رب سل عبدك هذا علام قتلني» ، يقول ابن عباس فما جاء بعد نبيكم نبي، ولا نزل كتاب بعد كتابكم (2) ولهذا ذهب ابن عباس إلى القول بعدم قبول توبة من يقتل مؤمنا متعمدا وقد ذكرنا أن الراجح هو قبول التوبة، ولكن على كل حال فإن الوعيد في هذه المسألة شديد فيجب على كل مسلم أن ينشد الحيطة والسلامة لنفسه في دنياه وأخراه فلا يقتل مسلما ولا يعين على قتل مسلم بغير حق سواء بالقول أو الفعل حتى ولو أكره على ذلك فإن الإكراه في مسألة القتل لا يعفى من المسئولية الجنائية ولذلك اختلف الفقهاء في أمثال هذه الحال، هل يكون القصاص على الآمر أم على المأمور أم عليهما جميعا؟ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال هي:
1 -
قول جمهور الفقهاء أن القصاص على الآمر والمأمور على حد سواء لاشتراكهما في جريمة القتل، وهو قول مالك والشافعي والمشهور عن أحمد (3).
2 -
قال جماعة يجب القود والقصاص على الآمر دون المأمور، لأن المكره صار كالآلة في يد الآمر، وهذا القول هو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (4).
(1) تفسير آيات الأحكام، محمد على السايس (126، 127) وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/ 1، 2) رقم الحديث (503).
(2)
انظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس (2/ 126، 127).
(3)
انظر جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354، 355).
(4)
انظر المصدر السابق المكان نفسه وانظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183).
3 -
قول زفر (1) إن القصاص على المأمور وحده دون الآمر لأنه قادر على الامتناع وهو إثم بالاتفاق (2) من الجميع.
والذي نرجحه في هذه المسألة هو أن القصاص على الآمر والمأمور جميعا، لأن الآمر وهو صاحب السلطة والولاية، أمر ظلما وهو خلاف ما يجب عليه، وذلك إثم يؤاخذ عليه، والمأمور نفذ هذا الظلم وأجراه بفعله، وهو كذلك يؤاخذ على تنفيذ الظلم وإجرائه، ومن يحتج بأن العقوبة على الآمر دون المأمور بقوله تعالى:(إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) فالجواب أن لا تقية في الأعمال ولا إكراه عليها كما تقدم بيان ذلك (3).
فماذا يعمل جلادو الطغاة وزبانيتهم الظالمون حيال هذه النصوص العظيمة من الوعيد لمن آذى مسلما، وبأي وجه يقدمون على الله، وأيديهم تقطر من دماء الأبرياء والمظلومين، والمقهورين بغير حق، أيظن أولئك أن الله غافل عما يعملون؟ قال تعالى:(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)[إبراهيم: 43] وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي
(1) هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري أبو الهذيل فقيه، تفقه على أبي حنيفة له مصنفات مات سنة (158) هـ انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 181).
(2)
انظر جامع العلوم والحكم عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354، 355) وانظر أصول الفقه محمد الخضري بك (106، 108).
(3)
المصدر السابق نفسه.
ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 19 - 24].
وقد اختلف العلماء عند حصول الإكراه على الشخص أيهما أفضل في حقه الأخذ بالرخصة فيما أكره عليه، أم الصبر على الأذى وعدم تنفيذ ما أكره على فعله ولو أدى ذلك إلى استشهاده؟ وفي هذه المسألة قولان:
القول الأول: من يقول إن الأخذ برخصة الإكراه أولى من الصبر على الأذى، قال بذلك ابن مسعود رضي الله عنه حيث يروي عنه أنه قال:«ما من كلام يدرأ عني سوطين من أذى سلطان إلا كنت متكلما به» (1) اهـ ..
وقال بعض أهل العراق إن الشخص إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخشى منه التلف فالأولى له أن يفعل ما أكره عليه فيما لا يتعلق بحق الغير، مثل أن يكره على شرب خمر، أو أكل لحم الخنزير فإن لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه في هذه الحال كالمضطر لأكل الميتة وشرب الماء النجس (2).
ولو ترك المضطر أكل الميتة أو شرب الماء النجس حتى مات لأثم في ذلك.
وقال ابن العربي: إن التلفظ بالكفر عند الإكراه عليه ناسخ لآيات وأحاديث المصابرة على العذاب اهـ.
فهو يستوي عنده الأمران، التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها، أو الصبر على العذاب حتى القتل ويكون قتله شهادة (3).
القول الثاني: قول من يقول إن الصبر على الأذى وتحمل القتل أو
(1) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183).
(2)
انظر المصدر السابق (10/ 188).
(3)
انظر أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1165 - 1170).
الضرب أو الحبس أولى من الأخذ بالرخصة وإجابة الطالب إلى ما طلب من محرم تحت وطأة الإكراه، وقد استدل أصحاب هذا القول بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون (1).
ففي هذا الحديث وفي قصة بلال، ووالدي عمار سمية وياسر وقصة خباب بن الأرت في بطحاء مكة، وخبيب بن عدي وقصة أصحاب الأخدود وقصة الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ممن صبروا على العذاب في سبيل الله أكبر دليل على أن الصبر على الأذى أولى لمن وثق من نفسه في قوة التحمل وصلابة العقيدة (2).
إن قمة الإيمان تتمثل بأولئك الذين بلغوا القمة في الصبر والتضحية واليقين، ولم يدفعهم الخوف أو الإكراه إلى تنفيذ أوامر الطغاة والظلمة والمجرمين فلم يهرولوا أمام أعداء الإسلام ويلهثوا تحت أقدامهم، ويكيلوا لهم المدح الكاذب وينفذوا أوامرهم في معصية الله، فما ظنك بمن ينفذ
(1) رواه البخاري انظر فتح الباري (12/ 316) باب الإكراه.
(2)
انظر المغني والشرح الكبير (10/ 107) وانظر تفسير القرطبي (19/ 286 - 294) وانظر في ظلال القرآن، سيد قطب (م8/ج 30/ 528 - 530) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 98 - 100) وانظر تفسير الأحكام، محمد على السايس (3/ 54، 55) وانظر روائع البيان في تفسير آيات القرآن محمد علي الصابوني (1/ 402، 403).
أوامر الطغاة وهو لم يضرب سوطا في سبيل الله؟ كيف لو ضرب أو منع راتب شهر واحد ماذا يفعل بالإسلام والمسلمين؟
إن مفهوم الإكراه قد اعتراه شيء من الغبش وسوء التصور عند بعض المسلمين حتى أصبح هذا الأمر مشجبا يعلق عليه المتخاذلون في نصرة الإسلام والمسلمين كل أسباب التخاذل والقصور في شأن الموالاة والمعاداة في الله، وقد أوضحنا المفهوم الصحيح للإكراه بما فيه الكفاية كما أعتقد، والله الهادي إلى سواء السبيل.