الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال
الاعتزال: هو الابتعاد والتنحي (1) قال تعالى: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ)[الدخان: 21] ويستدل طائفة من الناس من علمائهم وعامتهم على جواز اعتزال أهل الحق والباطل والبعد عن الصراع بينهما بعموم بعض النصوص من الكتاب والسنة متخذين من ذلك ذريعة لهم في ابتعادهم عن الانضمام إلى أهل الحق والجهاد معهم ضد الكافرين المحاربين لله ورسوله والمؤمنين.
وجملة النصوص التي يستدل بها أولئك هي ما يلي:
1 -
قول الله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[البقرة: 195].
(1) انظر المعجم الوسيط (2/ 605)
2 -
قول الله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة: 105].
3 -
قول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء: 29].
وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الواردة في مثل هذا الموضوع وهي كما يلي:
1 -
ما روي عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني قال: قلت كيف نصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية تريد؟ قلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال: سألت عنها خبيرا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدان لك به، فعليك خويصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون بمثل عمله» (1).
2 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم» قال زيد:
(1) رواه ابن ماجه انظر سنن ابن ماجه (2/ 478 - 488) وانظر جامع الأصول (10/ 3/ 7453) ورواه الترمذي في التفسير (3060) وقال حديث حسن غريب
تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم والعلم في رذالتكم أي: إذا كان العلم في الفساق (1).
3 -
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (2).
4 -
ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا؟ وشبك بين أصابعه، قال» قلت يا رسول الله ما تأمرني؟ قال: «عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم» (3).
5 -
ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال يتعرض «من البلاء لما لا يطيقه» (4).
6 -
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به» (5).
وقد أجاب القائلون بعدم جواز الاعتزال بإجابات على هذه الأدلة نوجزها فيما يلي:
(1) المصدر السابق نفسه (2/ 488).
(2)
رواه البخاري انظر فتح الباري (1/ 69).
(3)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 3/ 26) رقم الحديث (206).
(4)
انظر المصدر السابق (2/ 172) رقم الحديث (613) وانظر: مسند أحمد (5/ 405) وانظر سنن ابن ماجه (2/ 488).
(5)
رواه البخاري انظر صحيح البخاري (9/ 64).
أولاً: إن المقصود بالتهلكة في الآية من سورة البقرة هو ترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله كما روى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم بن عمران عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم صف من المسلمين مثلهم أو أكثر فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله: يلقي بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو قمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآية يرد عليه ما قلنا، فكانت التهلكة، الإقامة على الأموال، وإصلاحها وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم مجاهدا في سبيل الله» (1).
ثانيا: إن المقصود بآية المائدة في قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ليس الغرض منها بيان أن المؤمن غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اهتدى هو بذاته فقط فهذه الآية لا تسقط عن الفرد أو مجموعة من الأفراد التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، ومحاربة الطغيان فقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ
(1) انظر تفسير القرطبي (2/ 361، 362) وانظر صور من حياة الصحابة د. عبد الرحمن رأفت الباشا (1/ 131).
الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقاب من عنده (1) وهكذا صحح الخليفة الأول رضوان الله عليه ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة.
ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق وأثقل في مجتمع يتتبع القاعدون فيه كل عذر يعفيهم من المسئولية فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآيات على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاق الدعوة، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه (2).
ثالثا: إن المقصود من سورة النساء في قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) هو النهي عن أن يقتل بعض المسلمين بعضا وقد أجمع أهل التفسير على ذلك، وإنما عبر بذلك باعتبار المسلمين كالجسد الواحد والنفس الواحدة، وأن ما يضر الكل يضر الجزء مثل قول الله تعالى:(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)[الحجرات: 11] فغير متصور أن يعيب الإنسان نفسه ولكنه تعبير يوحي بعظم الرابطة وعظم الوحدة بين المسلمين (3).
أما الإجابة عن الأحاديث المتقدمة فكما يلي:
أولاً: إنها معارضة بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث قد ورد معظمها في الصحيحين وذلك فيما يتعلق بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولزوم جماعة المسلمين.
(1) رواه أبو داود: انظر سنن أبي داود (4/ 122) رقم الحديث (4338) رواه الترمذي في سننه انظر (4/ 322) ورواه أحمد في مسنده انظر (1/ 2 - 5 - 7) ورواه ابن ماجه في سننه انظر (2/ 484) رقم الحديث (4069).
(2)
انظر في ظلال القرآن سيد قطب (2/ 7/ 63).
(3)
انظر تفسير القرطبي (5/ 156).
ثانيًا: أنه يمكن الجمع بين الأدلة الدالة على جواز الاعتزال وبين أدلة المنع عن الاعتزال بأن الاعتزال يجوز عند توفر أحد الأسباب الآتية:
السبب الأول: عدم معرفة صاحب الحق من صاحب الباطل.
فيجوز الاعتزال عندما يتعذر على الإنسان المسلم معرفة صاحب الحق من صاحب الباطل، ففي حالة التباس الأمر عليه يجوز له اعتزال المتخاصمين كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم فقد اعتزل سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة أثناء الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهم والسبب في ذلك عدم وضوح الدليل مع أحد الطرفين المتنازعين في نظرهما، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: عندما أمره رجل بالقتال بدعوى أنهم بغاة فقال: لا أدري من هي الفئة الباغية؟ ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها (1) اهـ.
أما إن استبان له الحق والصواب فالجمهور متفقون على منع الاعتزال زمن الفتنة لما يترتب على ذلك من خذلان أهل الحق وتقوية أهل الباطل ويستدلون على ذلك بفعل بعض الصحابة رضي الله عنهم الذين اشتركوا في القتال في موقعة الجمل وصفين، وبفعل خزيمة (2) بن ثابت رضي الله عنه حيث كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان لا يقاتل فلما قتل عمار قاتل حينئذ وحدث بحديث «يقتل عمارًا الفئة الباغية» (3).
السبب الثاني: فقدان القدرة القولية أو الفعلية على إظهار الحق وقمع
(1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل علي بن أحمد بن حزم (4/ 171).
(2)
هو خزيمة بن ثابت بن ثعلبة الأنصاري يكنى أبا عمارة وهو ذو الشهادتين جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته عن شهادة رجلين شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر الجمل وصفين مع علي ولم يقاتل حتى قتل عمار وقاتل وقتل سنة (37) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (2/ 114، 115).
(3)
انظر فتح الباري (13/ 42، 43).
الباطل، فيجوز للإنسان الاعتزال إذا لم يكن لديه القدرة القولية أو الفعلية على إظهار الحق وقمع الباطل، وذلك بموجب الأعذار الشرعية، لا بموجب هوى النفس ورغبتها (1) قال تعالى:(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا)[البقرة: 286].
السبب الثالث: إذا تيقن الإنسان أنه ليس له أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك.
فيجوز للمسلم أن يعتزل مواجهة الكفار وأن يمسك عن محاربتهم حتى تحين الفرصة المناسبة لذلك، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في مكة حتى صار له شوكة وأنصار بالمدينة، فإذا وجد الأنصار وإن قلوا وجب التناصر بينهم، ولا يصح ترك أحدهم للآخر بلا نصرة أو معونة طلبا للراحة وإيثارا للسلامة لأن ذلك مما يتعارض مع المبادئ العامة لرسالة الإسلام (2).
ولذلك أجمع الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدة بحيث يغلب على الظن عند أهل الحل والعقد في الأمة، أنهم سيقتلون من غير نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا على قتالهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة لذلك وهي مصلحة حفظ الدين منتفية الحصول في غلبة الظن (3).
ويقرر عبد العزيز (4) بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا
(1) انظر مختصر إغاثة اللهفان (80).
(2)
انظر فتح الباري (13/ 42، 43) وانظر مختصر إغاثة اللهفان (80).
(3)
انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي (77).
(4)
هو عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن المعروف بـ عز الدين بن عبد السلام ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة وسمع الكثير من العلوم ثم علم جمعا كثيرا من طلاب العلم بدمشق وولي خطابتها ثم سافر إلى مصر مهاجرا بسبب إنكاره على حاكم دمشق فأكرمه صاحب مصر وولاه القضاء والخطابة فيها ثم أنكر الشيخ على الحاكم بعض مواقفه فانتزع منه الخطاية والقضاء وسمح له بالتدريس وتوفي الشيخ العز بن عبد السلام في العاشر من جمادي الأولى سنة ستين وست مائة من الهجرة وقد نيف على الثمانين ودفن في سفح المقطم وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلق كثير رحمه الله رحمة واسعة وله من المصنفات التفسير واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى، وكتاب الصلاة والفتاوى الموصلية، وغير ذلك انظر البداية والنهاية لابن كثير (13/ 235) وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 249).
الجهاد قائلا: فإذا لم تحصل نكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس، مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت في هذه الحال مفسدة محضة، ليس في طيها مصلحة (1) اهـ،.
وتقديم مصلحة النفس هنا ليس خاصا بالنفس فقط كما هو الظاهر بل إن ذلك هو مصلحة الدين أيضا، إذ المصلحة الدينية تقتضي في مثل هذه الحال أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى.
حيث إن هلاكهم يعتبر إضرارًا بالدين نفسه، لأن ذلك سوف يفسح المجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدودا أمامهم من السبل ويحتثوا أهل الإسلام من أساسهم، وخلاصة القول في هذه المسألة أنه لا يجوز للمسلم أن يعتزل المسلمين إلا وفق الشروط الخاصة التي تقدم ذكرها وهو وإن اعتزلهم عمليا لا يعتزلهم شعوريا في جميع تلك الحالات بل الواجب أن يكون مع المسلمين ومع أصحاب الحق منهم خاصة ولو بمشاعره فإن القلب لا سلطان لأحد عليه، كما يجب أن يعمل للإسلام في الميادين المفتوحة أمامه ولو سرا إذا كان الجهر بالدعوة والانتساب إليها مما يترتب عليه ضرر بالدعوة وأصحابها.
فالإسرار بالدعوة سنة عند الحاجة إلى ذلك فنوح عليه السلام دعا قومه سرا وجهرا قال تعالى: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)[نوح: 9].
(1) انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين بن عبد السلام (1/ 95).
والرسول صلى الله عليه وسلم أقام يدعو بمكة سرا ثلاث سنوات، حتى نزل عليه قوله تعالى:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[الحجر: 94].
فإذا أمكن الجهر بالدعوة ومنازلة أعداء التوحيد بالقوة وجب الإسراع إلى ذلك عند غلبة الظن في توفر الأسباب وانتفاء الموانع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» (1) وفي حديث آخر: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» (2) فالصبر على الابتلاء مع أهل الحق، والاختلاط مع الناس لإبلاغ الدعوة إليهم أولى من العزلة عن ذلك (3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم» (4).
فاللجوء إلى تأييد الظالم وإعلان التخلي والتبرؤ من الجماعة المسلمة ومهاجمتها كوسيلة للإعفاء من الإيذاء والسجن والتعذيب خلاف الأصل فالأصل أن نصبر ونتحمل الأذى ونثبت ولا نتخلى أو نتنكر للطريق الذي ارتضيناه واعتقدنا صحته والجماعة التي اعتقدنا اجتماعها على الحق، لتظل راية الحق مرفوعة يحملها الرجال جيلا بعد جيل، فهذا هو الأصل وإن كان قد يباح لبعض الأفراد والجماعات الصغيرة الذين يشتد بهم الإيذاء بصورة لا يحتملونها أن يلجئوا لمثل هذه التصرفات أو بعضها مع اطمئنان القلب
(1) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي (77).
(2)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 688) رقم الحديث (963).
(3)
المصدر السابق (1/ 144) رقم الحديث (403).
(4)
انظر الدرر السنية (11/ 86).
بالإيمان وبالالتزام مع الجماعة المسلمة، لكن يكون ذلك استثناء وليس القاعدة للمجموع، فالأصل العزيمة والترخص هو الاستثناء لأن الدعوات تقوم على العزائم وأولي العزم، لا على الرخص والمترخصين (1).
ففيما عدا هذه الصور المتقدمة لا يجوز الاعتزال كما هو مذهب جمهور العلماء بناء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على الأمة المسلمة ممثلة في أفرادها كل بحسب قدرته، قال تعالى:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[آل عمران: 104] فالآية وردت بصيغة من صيغ الطلب وهي المضارع المقرون بلام الأمر، والأمر للوجوب ما لم توجد قرينة تصرف المعنى إلى ما هو دونه ولا قرينة في الآية من هذا القبيل، فيثبت وجوب العمل بالمطلوب في الآية، فهي إذا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2) وقال تعالى مشيرا إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة الإفراد (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17]، وقال تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 142]، وقال تعالى:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)[التوبة: 88] فمن رغب بنفسه عن الجهاد فقد خالفه الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ثم بين تعالى نتيجة عدم إنكار المنكر بقوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
(1) انظر مجلة الدعوة المصرية عدد (91) السنة (33) جمادى الأولى (1404)(10) موضوع طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف (7).
(2)
انظر التشريع والفقه في الإسلام لفضيلة الشيخ مناع القطان (59).
لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ) [المائدة: 78، 79].
فمن اعتزل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيه شبه من بني إسرائيل ما لم يكن له عذر شرعي في ذلك، والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا تربو على عشرين آية (1).
ومن الأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع ما روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2) وفي مسلم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون، ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (3) وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (4) وفي حديث أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها» وقال مرة أنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (5).
(1) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (458، 459).
(2)
رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 69)).
(3)
المصدر السابق (1/ 70).
(4)
رواه أبو داود كتاب الملاحم (4/ 514) وابن ماجه في الفتن (2/ 1329) والترمذي في كتاب الفتن (6/ 338/ 1175) وقال حديث حسن غريب وقال عنه الألباني إنه صحيح انظر مشكاة المصابيح (2/ 1094).
(5)
رواه أبو داود في سننه (4/ 124) رقم الحديث (4345) كتاب الملاحم قال في التقريب (إنه صحابي) ورمز السيوطي لصحته انظر جند الله ثقافة وأخلاقا سعيد حوى (183).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويأتي في مقدمتها قول الرسول صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما أرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال:«تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره» (1).
ولهذا قال جمهور أهل العلم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا واحتجوا بالأدلة المتقدمة آنفا.
وقالت طائفة أخرى يجب الإنكار بشرط أن لا يلحق المنكر بلاء، لا قبل له به، من قتل أو تعذيب ونحوه، وحجتهم في ذلك الآيات والأحاديث التي قد يستدل من ظاهرها بجواز الاعتزال كما تقدم.
ولحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعا ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا: ما صلوا (2). فدل الحديث على أن الإنسان لا يأثم بمجرد السكوت، وإنما يأثم برضى القلب والمتابعة كما دل الحديث على عدم جواز الخروج على الولاة ما لم يغيروا شيئا من قواعد الدين، فذكر الصلاة على سبيل المثال، لا على سبيل التخصيص (3) وقال الطبري وغيره: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن قدر عليه (4) اهـ.
وقال ابن عطية (5): الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وعلم به، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر صاحب المنكر ولا يخالطه (6) اهـ.
(1) رواه البخاري في باب المظالم، انظر فتح الباري (5/ 98).
(2)
رواه مسلم انظر صحيح مسلم (3/ 1480).
(3)
انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 243، 244) باب الإمارة.
(4)
انظر فتح الباري (13/ 52، 53).
(5)
انظر ترجمته (178) من هذه الرسالة
(6)
تفسير القرطبي (6/ 253).
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة (1) اهـ.
ومن الأدلة على أن من أنكر سلم ومن وافق بالرضى والسكوت أثم، ما حصل في غزوة تبوك عندما قال أحد المنافقين ما قال مستهزئا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فكان معهم اثنان من الصحابة هما مخشي بن حمير وعوف بن مالك رضي الله عنهما على أرجح الروايات في ذلك، فمخشي سمع وسكت، فأنزل الله قول تعالى:(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)[التوبة: 66] فعد من ضمن المنافقين لسكوته ومداهنته إياهم، ثم استثناه الله فعفى عنه تفضلا منه وكرما بعدما كاد أن يدخل في عداد المنحرفين، وهذا دليل على أن الشخص الذي لا يغضب لله ورسوله، ولا ينكر المنكر إذا سمعه أو شاهده أنه على خطر من الدخول مع أصحاب المعصية ومشاركتهم في الإثم والحكم والجزاء إن لم يتداركه الله بعفوه وغفرانه.
والصحابي الآخر وهو عوف بن مالك رضي الله عنه فما أن سمع هذا الكلام حتى غضب لله ورسوله وأظهر العداوة لهؤلاء ووصفهم بالنفاق والكذب وقابلهم بهذا الوصف، وأعلمهم أنه سيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وذهب فعلا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه بذلك الخبر، فسلم من تبعة تلك المقالة بإنكارها والرد القوي على الباطل وأهله (2).
وإنكار المنكر لا يلزم من منكره أن يكون سليما من المعاصي معصوما من الخطأ، فإنه يجب الأمر بالمعروف ولو كان الأمر متلبسا ببعض
(1) انظر الدرر السنية (1/ 30).
(2)
انظر في ذلك تفسير القرطبي (8/ 197، 198) وانظر تيسير العزيز الحميد (557، 558) وانظر مجموعة التوحيد (213).
المعاصي، لأنه في الجملة، يؤجر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا سيما إذا كان مطاعا في قومه أما إثمه الخاص به، فقد يغفره الله له، وقد يؤاخذه به، أما من قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من ليست فيه نقيصة من المعاصي، فالجواب أنه إذا أراد بذلك الأولى والأفضل فهو أمر جيد أما إذا أراد بذلك المنع فيلزم من ذلك سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم وجود الشخص أو الأشخاص الخالين من المعاصي أو الأخطاء (1).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عمل للنفس في الدنيا والآخرة فالإنسان وإن شعر بأنه لا يناله أذى مباشر من بعض معاصي الناس ومنكراتهم إلا أن الحقيقة أن المعصية إذا وجدت والمنكر إذا حصل ولم يقم الناس بالواجب عليهم في ذلك عمهم الله بآفة العقوبة في الدنيا والآخرة كما حصل لبني إسرائيل قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)[المائدة: 78 - 80] وقد حذرنا الله عز وجل من ترك أهل المعاصي دون الإنكار والأخذ على يديهم فقال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25] وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» (2) ولذلك فإن الأمر بالمعروف
(1) انظر فتح الباري (13/ 52، 53).
(2)
انظر فتح الباري (5/ 132) كتاب الشركة.
والنهي عن المنكر إصلاح للدنيا والآخرة معا، ومن ذلك يتقرر أن المسلم يجب عليه الانضمام إلى المسلمين والجهاد معهم والميل إليهم ومناصرتهم باليد والمال واللسان، قال تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[التوبة: 16].
فالاعتزال جائز عند توفير الأسباب الثلاثة التي تقدم ذكرها وفيما عدا هذه الصور الثلاث لا يجوز الاعتزال كما هو مذهب جمهور العلماء وهو مقتضى الأدلة الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكثر الناس الذين يلجئون إلى دعوى الاعتزال في هذا العصر لا تنطبق بحقهم الأسباب المبيحة للاعتزال، ولذلك فهم آثمون فيما ذهبوا إليه موالين لأعداء الإسلام متخاذلين في نصرة الحق وأهله وقد توعد الله من خذل مسلما أو تقاعس في نصرته بماورد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من امرئ يخذل امرءا مسلما عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» (1).
وروي أيضا أن معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» (2).
وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» (3).
(1) رواه أحمد، انظر مسند أحمد (4/ 30).
(2)
رواه البخاري انظر فتح الباري (6/ 632) كتاب المناقب (28).
(3)
رواه البخاري انظر فتح الباري (12/ 323) باب الإكراه: 7.
وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد، فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة» (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (2).
فهذه الأدلة كلها تدل على عدم جواز التخلي عن المسلمين واعتزالهم في مجاهدتهم لأهل الكفر والضلال، وأن من لم يقف مع المسلمين وينحز إلى صفهم ويجاهد معهم عدوهم، وينصرهم عليه بكل ما يملك من قوة فإنه على خطر من خروجه من مسمى الإسلام حيث إن المسلم الحقيقي هو الذي يكون مع المسلمين كالعضو من الجسد كما يقرر ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يعتزل المسلمين في آلامهم وآمالهم فهو كالعضو البائن من الجسد أو كالعضو الميت من الجسم الحي وحينئذ فإن العضو الموصوف بتلك الصفة يعتبر وجوده كعدمه لعدم مشاركته للجسم في صفة الحياة وما يترتب عليها من تكاليف وواجبات وهكذا شأن من يهتم بنفسه فقط، غير مبالٍ بأمر المسلمين وقد ذكر الله عز وجل أن الاعتزال مناف لشرط الإيمان قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان: 21] فمن اعتزل فليس بمصدق ومن آمن بنبي وجب عليه عدم اعتزال دعوته وأهل دعوته كما يفهم مما ذكره الله تعالى عن موسى وقومه.
(1) انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص (280)(ط1 إدارة الطباعة المنيرية).
(2)
رواه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا، انظر كتاب جند الله ثقافة وأخلاقا سعيد حوى ص (141).
وأما المسألة الأصولية في شرع من قبلنا هل يكون شرعا لنا؟ فقال بعضهم إذا أورد النص في شرعنا حكاية عن شرع من قبلنا على جهة الاستدلال والإقرار من غير إنكار، تقرر ضمنا الاستدلال بذلك والعمل بموجبه (1).
وعلى هذا فإن الذين يرضون أن يكونوا في عزلة عن الأمة في صراعها مع أعدائها ويتخذون السلبية منهجًا وطرقًا للهروب من مواجهة المشاكل والأحداث ليسوا من المؤمنين حقيقة، بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا وإلا لما وقفوا متفرجين في صراع الحق مع الباطل كأن الأمر لا يعنيهم وكأنهم لا شأن لهم بما يجري من أحداث إن هؤلاء الذين يدسون رءوسهم بالتراب طلبا للسلامة لو أخلصوا لله ولدينه، ووالوا أهل الإيمان وعادوا أهل الكفر والعصيان، وواجهوا الحوادث بثبات المؤمن وصبر الموحد لقطعوا الطريق على أهل الباطل، ولما وجدت الفوضى الإلحادية إلى أوطان المسلمين سبيلا.
لقد أمر الله بسلوك سبيل المؤمنين وبالاعتصام معهم على الحق، قال تعالى:(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 115].
وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103].
فقد حث الله على الاعتصام بالحق وهو أقوى من مجرد الاجتماع ثم أكد على ذلك بقوله: جميعا ثم نهى عن الصد وهو التفرق فهذه ثلاثة مؤكدات على وجوب لزوم الجماعة والتماسك معها (2)، وقد أمر الله بذلك أمرا صريحا في سورة الكهف فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
(1) انظر أسباب اختلاف الفقهاء د/ عبد الله عبد المحسن التركي (125).
(2)
انظر في ظلال القرآن (2/ 4/ 23 - 26).
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
فالآية أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده بلزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عنهم طلبا لزينة الحياة الدنيا وشهواتها المحدودة الفانية، أو إرضاء للغافلين اللاهين عن الآخرة بالدنيا المفرطين بدنياهم وأخراهم لحساب شهواتهم وأهوائهم.
فمن اعتزل أهل الإيمان وجماعة المسلمين فقد اتبع غير سبيلهم وافترق عنهم، واستحق الوعيد الشديد على ذلك، لأن ذلك خذلان للمسلمن وقد ورد عن سهل بن حنيف رضي الله عنه مرفوعًا «من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر أن ينصره أذلة الله على رءوس الخلائق يوم القيامة» (1).
ويمكن أن يحتج البعض بما روي عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع قال، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها، قال: لا، إلا أن تطوع قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق» (2).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(1) رواه أحمد انظر مسند أحمد (3/ 487) وانظر كتاب الكبائر للشيخ محمد بن عبد الوهاب (71) طبع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء تحقيق إسماعيل بن محمد الأنصاري.
(2)
رواه البخاري ومسلم انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1/ 2، 3).
دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» (1).
فالذين يحتجون بهذين الحديثين على جواز الاقتصار على هذه الأعمال دون اللجوء إلى مجاهدة الكفار مع المؤمنين، ودون تحمل تبعة الولاء والعداء في الله، ودون القيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هؤلاء الذين يفهمون هذا الفهم مخطئون في فهمهم لعدة أسباب هي كما يلي:
أولا: إن هذين الحديثين لم يذكر فيهما الشهادة والحج وهما من أركان الإسلام فلو اقتصر أحد على العمل بما في ظاهر الحديثين دون هذين الركنين لعد كافرا بالإجماع.
ثانيًا: إن هذين الحديثين إنما كانا إجابة لسائل سأل عن أركان الإسلام الفعلية التي كانت مفروضة حين زمن السائل فكانت الإجابة مطابقة لمقتضى الحال عن السؤال.
ثالثًا: إن الحديثين لم يتضمنا بنصهما جميع الواجبات وجميع المنهيات وإن كان هذا الأمر قد يدخل في عموم الأمر بعبادة الله والنهي عن الشرك.
رابعًا: إن الحديث الثاني وهو حديث أبي هريرة يكون مخصصًا لعموم الحديث الأول ومقيدا لإطلاقه حيث قد تضمن قوله صلى الله عليه وسلم «تعبد الله لا تشرك به شيئا» وجوب عبادة الله عز وجل في المسائل المذكورة بالحديث وغيرها من الأوامر والنواهي (2).
(1) رواه البخاري ومسلم المصدر السابق (1/ 3).
(2)
انظر فتح الباري (1/ 106 - 108) وانظر (3/ 263 - 265) وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 166 - 169)(173 - 175) وانظر شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 357 - 359).
وحينئذ فإن موالاة الله ورسوله والمؤمنين من أهم أصول العبادة لله عز وجل، كما أن محبة الكفار وتوليهم لون من ألوان الشرك قال تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ)[البقرة: 165].
وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة: 51].
وعلى هذا فلا صحة لما يتوهمه بعض ضعاف المسلمين من أنه يجوز لهم الاقتصار على بعض الواجبات المذكورة في الحديث الأول دون أن يتحملوا تبعة الموالاة في الله والمعاداة فيه، بالانضمام إلى حزب الله ومحاربة حزب الشيطان لأن الله تعالى يقول:(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[المائدة: 56] ويقول تعالى: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[المجادلة: 22] ومن لم يكن في حزب الله فهو في حزب الشيطان، قال تعالى:(أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وعلى هذا فليس هناك منزلة وسط بين حزب الله وحزب الشيطان فيجب على الإنسان أن يراجع نفسه إلى أي الحزبين ينتمي قولا وفعلا واعتقادا، فالكيس من دان نفسهه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين، وله من المؤيدين والمناصرين واصرف قلوبنا عن محبة وتأييد ومناصرة أحزاب الشياطين يا أرحم الراحمين إنك حسبنا ونعم الوكيل.