المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولا وعملا - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية - جـ ١

[محماس الجلعود]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: المفهوم اللغوي للموالاة والتولي

- ‌المبحث الثاني: المفهوم اللغوي للمعاداة

- ‌المبحث الثالث: المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة

- ‌المبحث الرابع: بيان ارتباط عنوان الرسالة بالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية

- ‌الباب الأول: مشروعية الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

- ‌التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة

- ‌الفصل الأول: منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الأول: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف الصالح في الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌المبحث الرابع: ارتباط الموالاة والمعاداة بالشهادتين

- ‌المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولاً وعملاً

- ‌المبحث السادس: حكم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

- ‌المبحث السابع: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل

- ‌المبحث الثامن: مكانة الموالاة والمعاداة في الإسلام

- ‌المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة

- ‌المطلب الأول: المداهنة وحكمها

- ‌المطلب الثاني: المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة

- ‌المبحث العاشر: تغيير الأسماء لا يغير حقيقة المسمى وحكمه

- ‌الفصل الثاني: التطبيق العملي للموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله

- ‌المبحث الثاني: حقوق الموالاة بين المسلمين

- ‌المبحث الثالث: موالاة الأقليَّات الإسلامية

- ‌المبحث الرابع: أسباب تحقيق المعاداة في الله

- ‌المبحث الخامس: صورة من الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌الباب الثاني: في عوامل ضعف الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌التقديم: تحديد قضية هذا الباب

- ‌الفصل الأول: الجهل وصلته بالموالاة والمعاداة

- ‌الفصل الثاني: الاختلاف في مسألة من مسائل الفروع

- ‌الفصل الثالث: الاعتزال عن الجماعة المسلمة

- ‌المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال

- ‌المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان

- ‌المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال

- ‌الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌الفصل الخامس: العملاء الذين يوالون الأعداء للمصلحة الشخصية

الفصل: ‌المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولا وعملا

‌المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولاً وعملاً

سبق أن ذكرنا أن الموالاة والمعاداة يقصد بهما إظهار الحب والبغض في الأقوال والأفعال والنوايا وهما بهذا الاعتبار ينقسمان إلى قسمين:

القسم الأول: ما يتعلق بالقلب والوجدان كالمحبة والمودة (1) في الموالاة، والعداوة (2) والبغض في المعاداة.

القسم الثاني: ما يتعلق بالفعل والقول، كالنصرة بالقوة، أو بالنفس أو بالمال أو بالرأي، في الموالاة، أو بذل القول والنفس والمال في المعاداة.

ومن أجل ذلك فأساس هذه الرسالة يدور ويستند إلى عاطفة المحبة

(1) المودة أخص من المحبة حيث إن المودة هي الحب الكثير، والحب المجرد من المودة يكون أقل من المودة بدرجة أو درجات متفاوتة.

انظر المعجم الوسيط (1/ 151، 2/ 1031).

(2)

العداوة أخص من البغض، لأن كل عدو مبغض، وليس كل مبغض عدو انظر المحيط المحيد بطرس البستاني (2/ 1353) وما يليها.

ص: 139

والمودة، والعداوة والبغضاء، وما يترتب على تلك الأمور من أقوال وأفعال، حيث إن الأقوال والأفعال مبينة على العواطف ومترتبة عليها، ونابعة منها، سواء كانت العواطف حسنة أم سيئة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة ورغبة، ولكنها قد تكون محبة محمودة أو محبة مذمومة والمرجع في ذلك كله إلى عرف الشرح لا إلى عرف الناس» (1) اهـ.

وقد يأخذ علينا بعض النقاد أن من سمات هذا البحث الظاهرة غلبة الناحية العاطفية فيه، وأنه يقل فيه الجدل المنطقي المبني على المقدمات والنتائج.

وللإجابة على هذا التساؤل نقول: بأن الموالاة والمعاداة تنطلق في أساسها من عاطفة المحبة والمودة، أو البغض والعداوة ثم يترتبت على ذلك وينبني عليه أمور قولية وفعلية، فالأقوال والأفعال، مرتبطة بالعواطف ارتباط الفرع بالأصل.

فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل والقول، فصلاح الأقوال والأفعال مرتبط بصلاح الخواطر والأفكار وفساد الأقوال والأفعال مرتبط بهما (2) قال صلى الله عليه وسلم:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (3).

ولذلك عرف العلماء الإيمان بأنه «اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل

(1) انظر التحفة العراقية لابن تيمية (35).

(2)

انظر الفوائد لابن القيم (173).

(3)

انظر فتح الباري (1/ 126).

ص: 140

بالأركان» (1) فبين هذه الجوانب ارتباط وتلازم لا يتحقق وصف الإيمان للمؤمن إلا بتحقق هذه الجوانب الثلاث.

ذلك أن العبادة في الإسلام ليست كلمة تقال باللسان، وليست هي فقط الشعائر التعبدية وحدها من صلاة وصوم وزكاة، وحج كما يظن بعض الناس.

إن النطق بالشهادتين، يقتضي العمل بموجبهما ليكون موحدًا من نطق بهما توحيدًا حقيقيًا، ومن مقتضيات شهادة التوحيد، الموالاة في الله والمعاداة فيه، فمن توجه بالولاء والمحبة والنصرة للكفار أينما كانوا فإن هذا نقض لشهادة التوحيد ولو ظل ينطقها مئات المرات.

إن التوحيد يشمل كل حياة الإنسان وعمله وكل فكره ومشاعره وحتى خلجات النفس الداخلية التي قد يخفيها الإنسان داخل نفسه، ولا يبينها ولكنها لا تخفي على الله تعالى قال تعالى:(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19] ويقول الله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162، 163].

إن التوحيد لا يتم في حقيقة الواقع حتى تكون كل أعمال الإنسان وفكره ومشاعره مستقيمة على منهج الله مستمدة من وحي الله، وهذا يعني أن الإنسان يجب أن يكون معصوما من الخطأ ولكن الأخطاء تتفاوت فمنها ما يكون سهوا وخطأ ومنها ما يكون عمدًا وتهاونًا، ومنها ما هو من صغائر الذنوب، ومنها ما يكون كبيرًا من كبائر الذنوب، وقد يكون منها ما هو ردة وكفر، وذلك يختلف باختلاف الأفعال والنيات، ولكن التوجه بالمحبةوالمودة إلى الكفار والمشركين، وإقامة منهج الحياة والسلوك

(1) انظر شرح الطحاوية (267).

ص: 141

على هذا الأساس، ردة كاملة لا شبهة فيها ولا غبار عليها، حيث إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تمنع موالاة الكفار جملة وتفصيلا.

فمحبة هوى النفس بغير التقيد بحب ما يحبه الله، أو بغض ما يبغضه الله، يعتبر شركا وكفرا بواحا، قال تعالى:(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)[المائدة: 48].

وقال تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا)[المائدة: 77] وقال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28].

وقال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)[الفرقان: 43].

فالموالاة الحقيقية لله، والمعاداة فيه، يجب أن تدور عليهما الأعمال الظاهرة، وتنتج عنهما، فالإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان (1).

والحب في الله والبغض في الله من أسس الإيمان وركائزه العظام، والأعمال الظاهرة تصدق ذلك أو تكذبه، وقد ربط الله عز وجل المحبة بآثارها في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)[المائدة: 54] فصفة المحبين لله المحبوبين عند الله أنهم يكونون (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}

(1) انظر شرح الطحاوية (266).

ص: 142

وهي صفة مترتبة على المحبة في الله، فالمؤمن مع أخيه المؤمن، سمح، ودود، هين، لين، معين، مستجيب، فهي الأخوة التي ترفع الحواجز، وتزيل التكلف، وتختلط فيها النفس بالنفس، على محبة الله ومن أجل الحب في الله، وهذا الموقف مع المؤمنين على نقيضه موقف آخر مع الكفار، فالمؤمن فيه على الكفار شماس (1) وإباء (2) واستعلاء (3) وغلظة، فهي ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقف المؤمنون تحتها جميعا في مواجهة الكافرين في كل زمان ومكان (4) فعندما تصل المحبة في الله إلى ذروتها يصبح الجهاد في سبيله، والتضحية بالنفس والمال والأهل والعشيرة، من نتائج ذلك الحب وآثاره المشرقة.

وقد شذ بعض أهل الكلام، في مسألة الإيمان هل هو قول وعمل أم لا؟ فقالت جماعة: بأن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وقال الجمهور: بأن الإيمان قول وعمل وعلى هذا ففي المسألة قولان:

القول الأول: قول الكرامية والجهمية، وأبي الحسين الصالحي أحد رؤساء القدرية أن الإيمان هو الإقرار باللسان أو التصديق بالجنان، وهذا القول ظاهر الفساد حيث إن المنافقين عند هؤلاء كاملي الإيمان ولازم قولهم أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فقول يترتب عليه مثل ذلك يعتبر ظاهر البطلان فلا يحتاج فيه إلى مناقشة أو جدل كلامي مع هؤلاء (5).

القول الثاني: أما القول الثاني: وهو قول الجمهور، وهو أن الإيمان هو ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، وقد قال بذلك الإمام مالك

(1) أي عسر في عداوته، شديد على من عاداه، وعانده السان العرب (2/ 358).

(2)

والإباء الامتناع والكراهية لسان العرب (1/ 11).

(3)

أي رفعة وشرف لسان العرب (2/ 874).

(4)

انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب (6/ 775، 776).

(5)

انظر شرح الطحاوية (266).

ص: 143

والشافعي وأحمد والأوزاعي (1) وإسحاق (2) بن راهوية وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين، حيث قالوا إن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان (3).

وقد شذ بعض المعاصرين في هذا فقال لا يخرج من الملة إلا الكفر الاعتقادي (4) ثم يقول: (الأصل إنه لم يوجد دليل على أن المسلم قد نقض إيمانه فتظل القاعدة العامة بالحكم له بالإسلام بمجرد النطق باللسان أي الشهادة)(5) وعلى هذا القول: فإن الحكام الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويحكمون بغير ما أنزل أنهم من المسلمين الذين تجب طاعتهم وموالاتهم ونصرتهم وعلى هذا القول أيضًا: إن الذين يلهبون ظهور المؤمنين بالسياط ويمزقون أجسادهم بوسائل التعذيب ويفرغون ما بجعبة بنادقهم في أجسامهم الطاهرة إن هؤلاء من عموم المسلمين وإنه يكفي لتكفير تلك السيئات مجرد النطق بالشهادتين دون العمل بمضمونها، إنه لا بد أن يفهم كل مسلم ويدرك كل مؤمن، أن هناك فرقا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بين المؤمنين الأبرار، والكافرين الفجار، بين أهل الطاعة وأهل المعصية، في المعاملة والتعامل معهم، فهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على المسلم فردا كان أو جماعة، أو دولة.

(1) هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي الدمشقي «أبو عمرو» ولد ببغداد سنة 88 هـ وأقام بدمشق ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن توفي بها سنة 157 هـ من آثاره: كتاب السنن في الفقه، والمسائل في الفقه. انظر، معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 163).

(2)

هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن عبد الله المعروف بابن راهويه «أبو يعقوب» ولد سنة 161 هـ وأصبح محدثا فقيها رحل إلى الحجاز وله مع الشافعي مناظرة في بيوت مكة، توفي سنة 237هـ من تصانيفه المسند، وكتاب التفسير انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (2/ 228).

(3)

انظر شرح الطحاوية (266).

(4)

انظر الحكم وقضية تكفير المسلم/ سالم علي البهنساوي (45).

(5)

المصدر السابق (54).

ص: 144

لأنه قد دخل بسبب المساواة في التعامل بين الأخيار والأشرار، من الكفر والفسوق والعصيان ما يعلمه إلا الله في بلاد المسلمين، حتى صار منهم معاونين لأهل البغي والفساد، ظنا منهم أنهم إذا كانت لهم أحوال من الصلاح في تأدية بعض شعائر العبادة فإن ذلك يكفي عن أعمال القلب والجوارح في مسألة الحب في الله والبغض فيه، وما علم أولئك أن الله قد فرق بين أهل طاعته وأهل معصيته، على أساس أعمالهم، قال تعالى:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[الجاثية: 21] وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[القلم: 36] وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص: 28] فقرن تعالى في الآية الأولى والأخيرة بين الإيمان والعمل وبين اختلاف العمل بينهما ثم بين نتيجة كل عمل ومآله.

والإيمان يزيد وينقص، والعمل تابع له في ذلك، فمن الأعمال ما يزيد الإيمان بها، ومنها ما تنقصه حتى ينتهي الإنسان إلى الكفر والردة أعاذنا الله من ذلك.

فإيذاء المسلم بالقول والعمل سبب في نقص الإسلام أو نفيه بالكلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (1).

وقد سأل الشيخ حسين والشيخ عبد الله أبناء الشيخ محمد رحمهم الله عمن قال: لا أتعرض لمن قال: لا إله إلا الله ولو فعل الكفر والشرك وعادى دين الله.

(1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (1/ 65) كتاب الإيمان.

ص: 145

فأجابا: بأن هذا وأمثاله لا يكون مسلما (1) بل هو ممن قال الله فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)[النساء: 151].

وقال الحسن البصري (2) رحمه الله: «ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» (3) وذلك أن الله تعالى يقول: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10] اهـ.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس المراد بقول لا إله إلا الله قولها باللسان مع الجهل بمعناها، وترك العمل بمقتضاها فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع أنهم يصلون ويتصدقون.

ولكن المراد بقولها مع معرفة القلب لمعناها ومحبته لها، ومحبة أهلها وبغض من خالفها ومعاداته (4) اهـ.

(1) انظر مجموعة التوحيد (284) وانظر الدرر السنية (8/ 112).

(2)

هو الحسن بن يسار البصري، تربى في بيت النبوة فقد ولد سنة (21) بالمدينة ونشأ بها في كنف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد خرجت به أمه يوما إلى الصحابة رضي الله عنهم وكان ممن دعا له عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس، سكن البصرة وكان مثالا للعالم المتبحر المتجرد الصدوق المخلص، وكان له مواقف مع الحجاج وابن هيبرة وغيرهم من الولاة وله مواعظ جمة جمع فيها بين جزالة اللفظ وقوة المعنى وحسن الإيجاز توفي ليلة الجمعة من غرة رجب سنة 110.

انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 128، 129).

وانظر: صور من حياة التابعين د/ عبد الرحمن رأفت الباشا (2/ 6 - 36).

(3)

انظر مجموعة التوحيد (24، 25).

(4)

انظر مجموعة التوحيد (108).

ص: 146

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إنه لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى: «لا إله إلا الله ومقتضاها» (1) اهـ.

ويقول الشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المسلم ليقول في اليوم والليلة أكثر من سبع عشرة مرة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6، 7] ولكنه مع ذلك قد يكون من المغضوب عليهم ومن الضالين بلسان حاله وفعاله (2) اهـ.

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن الناس ثلاثة أصناف، منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون).

فالمغضوب عليهم، أهل علم ليس معه عمل، والضالون أهل عبادة ليس معها علم، والآيات وإن كان سبب نزولها في شأن اليهود والنصارى فهي عامة لكل من اتصف بذلك الوصف، ما عدا صفة المؤمنين، وهي الجمع بين العلم والعمل (3) اهـ.

وقال الشيخ إسحاق (4) بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: إن مجرد الإتيان بالشهادتين من غير علم بمعناهما، ولا عمل بمقتضاهما لا يكون به المكلف مسلما، بل هو حجة عليه، خلافا لمن زعم أن مجرد الإقرار كاف بذلك، كالكرامية، أو مجرد التصديق كاف في دخول الإنسان

(1) المصدر السابق المكان نفسه.

(2)

انظر التحفة العراقية لابن تيمية (41).

(3)

انظر مجموعة التوحيد (20).

(4)

هو الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ولد بمدينة الرياض (1276) ونشأ بها وأخذ العلم عن أخيه عبد اللطيف وعن جمع من العلماء ورحل إلى الهند سنة (1309) وأخذ عن علماء الهند ثم رجع وأخذ عنه العلم وجمع من طلاب العلم وله بعض الردود القصيرة توفي في شهر رجل سنة (1319) بمدينة الرياض انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله (95).

ص: 147

في مسمى الإسلام، كالجهمية ونحوهم، وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأكد على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات (1).

قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[المنافقون: 1] وقال تعالى في عاقبتهم رغم نطقهم وادعائهم الإيمان: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[النساء: 145].

ومن هذا يتضح أن مسمى الإيمان لا بد فيه من التصديق والعمل وأن من شهد أن لا إله إلا الله، وعبد غيره، لا شهادة له، وإن صلى وزكى، وصام وزعم أنه مسلم.

لأن الكفر نوعان:

1 -

كفر مطلق.

2 -

كفر مقيد.

فالكفر المطلق: هو الكفر بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

والكفر المقيد: هو أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أن بعض العلماء كفروا من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث الجد أو الأخت، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم (2)، فكيف بمن يبيح الحرمات، أو يقر بوجودها مع علمه بها، كالربا، أوالزنا، أو الخمر؟

ثم كيف حال من يستبيح لنفسه أو لغيره قتل النفوس المؤمنة

(1) انظر الدرر السنية (1/ 261).

(2)

انظر الدرر السنية (1/ 261).

ص: 148

البريئة ويسعى في محاربة الله ورسوله والمؤمنين، عبر وسائل متعددة وأجهزة مختلفة، يعادي أولياء الله ويطاردهم، ويوالي أعداء الله ويقربهم، ثم يضحك على البسطاء بالتمسح بظاهر الإسلام، وهو من أشد وألد الأعداء للإسلام والمسلمين.

ولقد أجمعت الأمة الإسلامية على كفر (بني عبيد الله المهدي) المسمين ببني عبيد القداح، مع أنهم يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر، وغيرها من المدن المصرية، وقد ذكر أن ابن الجوزي (1) صنف كتابا في وجوب غزوهم، وقتالهم سماه النصر على مصر نظرا لما ارتكبه هؤلاء من بدع وضلالات (2).

وقد أجمع الصحابة رضي الله عنه أن من أقر بنبوة مسيلمة الكذاب أنه مرتد، ولو بقي ينطلق الشهادتين، وأن من يشك في ردته فهو كافر (3).

وقد عدوا من أصناف المرتدين الفجأة السلمي حيث وفد على أبي بكر رضي الله عنه وذكر أنه يريد قتال المرتدين فأمده أبو بكر بالسلاح والرواحل، فاستعرض السلمي المسلم والكافر، يقتل من لقى منهم ويأخذ ماله، فوصل الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه فجهز جيشا لقتاله، فلما أحس السلمي بالجيش قال لأمير الجيش: أنت أمير أبي بكر وأنا أميره

(1) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التميمي البكري البغدادي، الحنبلي المعروف بابن الجوزي جمال الدين أبو الفرج محدث، حافظ مفسر فقيه واعظ أديب، مؤرخ مشارك في أنواع العلوم، ولد ببغداد سنة (510) وتوفي بها ودفن بباب حرب بلغت مؤلفاته مائة واثنين وتسعين مؤلفًا في مختلف العلوم والمعارف.

انظر: زاد المسير في علم التفسير (1/ 21 - 31).

وانظر: معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (5/ 157).

(2)

انظر الدرر السنية (1/ 262).

(3)

انظر مجموعة التوحيد (25).

ص: 149

ولم أكفر، فقال أمير الجيش إن كنت صادقا فألق السلاح فألقاه فبعث به قائد الجيش إلى أبي بكر فأمر بتحريقه بالنار وهو حي (1).

فإذا كان هذا حكم الصحابة رضي الله عنهم في هذا الرجل مع إقراره بأركان الإسلام، فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة سوى قول لا إله إلا الله بلسانه في بعض المناسبات، مع تكذيبه لها بأفعاله (2) وقد قال أحد رجال البادية عندما قدم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فسمع منه التوحيد، وعرف ما كان عليه قومه من الشرك، قال: أشهد أن قومي كفار، وأن مطوعهم الذي يسميهم أهل الإسلام أنه كافر (3) فأطلق على قومه وعلى إمامهم الكفر رغم أنهم يؤدون الشهادتين مع ثباتهم على لفظها، ولكنه أدرك بالفطرة السليمة أنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وهو الشرك، فقال فيهم ما قال، وقد أقره على ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نظرا لما كانوا متمسكين به من بدع وانحرافات تؤدي بالمتمسك بها إلى الشرك.

والنطق بالشهادتين لا يكفي للكف عن قتال من لم يمتثل ببقية أركان الإسلام وواجباته بدليل قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ)[البقرة: 193] وقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ)[الأنفال: 39] قال المفسرون في معنى فتنة كفر وشرك (4) ومعنى قوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ) وقوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) أي: يكون

(1) انظر مجموعة التوحيد (26).

(2)

انظر مجموعة التوحيد (26).

(3)

المصدر السابق المكان نفسه.

(4)

انظر تفسير القرطبي (2/ 353، 354) وانظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (1/ 170).

ص: 150

دين الله هو الظاهر العالي على سائر الشرائع والأنظمة، في كافة وجوه الحياة (1).

وقد أطلق الله عز وجل، على تارك الحج بدون عذر الكفر، قال تعالى:(وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97] وقد قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة وهم يقولون لا إله إلا الله، ولكنهم حين امتنعوا عن دفع الزكاة أصبح نطقهم لها لا تأثير له عليهم، في عصمة الدم والمال، ولا في اعتبارهم من أهل الإسلام (2) قال تعالى:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)[التوبة: 5] فبين سبحانه وتعالى أنه لا يخلى سبيلهم حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ولم يكتف بالنطق بالشهادتين، ووافق ما دلت عليه هذه الآية، الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (3).

ومما تقدم يتبين أن المسلم إذا حدث منه قول أو فعل أو اعتقاد يناقض أركان الإسلام وأصوله، لم ينفعه مجرد النطق بالشهادتين، كما قال تعالى للذين تكلموا بالكلام السيئ في غزوة تبوك:(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 66]، وقال تعالى عن المنافقين:(يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ)[التوبة: 74].

(1) المصدرين الساقين المكان نفسه.

(2)

انظر مجموعة التوحيد (145، 146).

(3)

انظر صحيح مسلم (1/ 53).

ص: 151

فدلت الآية على أن المنافقين كفار في الواقع وإن كانوا في الظاهر يتظاهرون بالإسلام، ودلت أيضا على أن الكفر يكون بكل ما ينقض التصديق والمعرفة بلا إله إلا الله، إلا ما ورد التخصيص بكونه لا يخرج من الإسلام كبعض الذنوب، ما لم يستبح الإنسان فعل ما حرم الله، فمن أباح المحرم أو حرم المباح، فقد كفر بما أنزل الله على رسوله، حيث يعد فعله هذا استدراك على الله وتجهيل للبارئ عز وجل فيما شرع وأنزل، وهذا من أشد أنواع الكفر وأقبحها (1).

فإذا كان في هاتين الآيتين المتقدمتين تكفير لأناس ينطقون بالشهادتين، ويؤدون أركان الإسلام، ويخرجون للجهاد فيه، وبمجرد قولهم لكلمات قليلة في الباطل، حكم الله عليهم بالكفر، فأين موقع أهل زماننا الذين جعلوا السخرية بالدين وأهله مادة لهم في صحفهم، وإذاعاتهم، ووسائل أعلامهم عامة، ولم يكتفوا بذلك، بل شنوا حرب الإبادة والتنكيل على كل مسلم غيور، وحاصروه في كل صقع من أصقاع الأرض، إن تلك الأدلة المتقدمة سقناها إلى الذين يحسبون الإسلام تمتمات جوفاء وهمهمات خاوية ناسين أو متناسين أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقة العمل (2).

وحول هذا المعنى يقول الشاعر سليمان بن سحمان الدوسري ما يلي:

أو ما ترى أن القلوب إذا امتلت

حبا وإيمانا لها أنوار

ولها بذلك غيرة فتغار من

رؤيا المعاصي والسعيد يغار

إظهار هذا الدين تصريح لهم

بالكفر إذ هم معشر كفار

وعداوة تبدو وبغض ظاهر

يا للعقول أما لكم أفكار

(1) انظر تفسير القرطبي (8/ 207).

(2)

انظر في هذا المعنى كتاب الإيمان وأثره في نهضة الشعوب يوسف العظم (19).

ص: 152

هذا وليس القلب كافٍ بغضه

والحب منه وما هو المعيار

لكنما المعيار أن تأتي به

جهرا وتصريحا لهم وجهار (1)

(1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان (76، 77).

ص: 153