الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان
يعلم كثير من الناس أن الحق مع طائفة أو جماعة من المسلمين ولكن الخوف على النفس أو المال أو الأهل يدفع بعض المنتسبين إلى الإسلام إلى اعتزال الجماعة المسلمة، وعدم تأييدها أو الجهاد معها، طلبا للراحة وخوفا من الفتنة والامتحان والابتلاء في طريق الدعوة، ولا شك أن الخوف مما فطرت عليه النفس البشرية ولكن هذا الخوف إما أن يجد مكانه الصحيح والطبيعي، وهو الخوف من الله عز وجل ومن عذابه، فعند ذلك يبادر المسلم إلى فعل الطاعات وترك المحرمات، بدافع الخوف من عذاب الله ورجاء ثوابه وعظيم جزائه، وإما أن ينحرف بتلك الصفة عن مسارها الصحيح فحينئذ يخشى ويخاف من أهل الزعامات الأرضية حتى يقدم الخوف منهم على الخوف من الله لقصر نظره وضعف عقيدته، وهذا النوع من الخوف هو الذي ورد الذم لفاعله في الكتاب والسنة، قال تعالى:(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 175].
وقال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18] فدلت الآيات على أن التخلص من الخوف من غير الله من كمال الإيمان ولذلك مدح الله المؤمنين بعدم الخشية من سواه كما ذم الله عز وجل الذين يدعون الصلاح والإصلاح في وقت الرخاء والسعة، فإذا حانت ساعة الشدة والبأس، وبلغت القلوب الحناجر تنصلوا من الإسلام ومن المسلمين وأنكروا الانتماء إليهم خوفا على أنفسهم وأموالهم وحظوظهم من الدنيا الفانية، قال تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ)[العنكبوت: 10] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الخوف من عبودية القلب لله تعالى فلا يصلح الخوف إلا من الله تعالى، فهو كالذل والمحبة والتوكل، والرجاء وغير ذلك من أنواع عبودية القلب (1) اهـ.
فالخوف الذي يجعل الإنسان يترك ما يجب عليه من الدعوة والجهاد ومناصرة المؤمنين بالقول والفعل، خوفا من بعض الناس هو نوع من أنواع الشرك المنافي لكمال التوحيد (2).
وفي الآية المتقدمة رد على المرجئة، والكرامية ومن حذا حذوهم من المتأخرين الذين يقولون إن من آثر الخوف فترك الجهاد، واعتزل الفئة المؤمنة، ولم يجاهد معها فإنه لا يترتب على عمله هذا كفر (3) بناء على أصلهم أن الإيمان هو مجرد التصديق ويستدل البهنساوي على ذلك بقوله:
(1) انظر الجامع الفريد (142).
(2)
انظر فتح المجيد (344).
(3)
انظر المصدر السابق نفس المكان، وانظر الحكم وقضية تكفير المسلم (55 سالم البهنساوي).
تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)[الأنفال: 72] فيذكر أن القرآن أقر لهم بوصف الإيمان مع أنهم تركوا الهجرة خائفين ولم ينضموا إلى المسلمين بالمدينة وكتوضيح لهذا الكلام نقول:
أولا: إن الذين لم يهاجروا إلى المدينة لم يكن الخوف هو السبب في إقامتهم بمكة، وأنهم رغبوا بأنفسهم عن الاشتراك مع المسلمين لهذا السبب بدليل أن عامة كتب التفسير لم تذكر هذا السبب الذي جعله علة لإقامتهم (1).
ثانيا: إن الذين أقاموا بمكة من المستضعفين الذين عذرهم الله بالإقامة حيث إن الاستضعاف نوع من الإكراه (2) بخلاف الخوف (3) فإنه مغاير للاستضعاف فالإكراه هو إلزام شخص بما لا يريده، والخوف، هو ترك ما يريده الشخص خوفا مما لا يريده شخص آخر، فالإكراه شيء حاصل على الإنسان وواقع عليه، والخوف صادر منه في شيء لم يحصل له بعد، وقد دل القرآن الكريم على أن غير المستضعفين لم يعذروا بالإقامة بمكة بل أخبر تعالى بوجوب الهجرة عليهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا
(1) انظر تفسير القرطبي (8/ 56) وانظر تفسير الطبري (10/ 36 - 40) وانظر زاد المسير (3/ 38) وانظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني (2/ 121) وانظر في ظلال القرآن (4/ 72) وانظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس (3/ 11).
(2)
انظر المعجم الوسيط (1/ 542) وانظر فتح الباري (12/ 311).
(3)
انظر المعجم الوسيط (1/ 261).
يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97 - 99].
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قنوته اللهم نج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنينا كسني يوسف (1).
ثالثا: وردت الأحاديث بذم من سكن مع المشركين وهو ليس من الضعفاء المعذورين، ولم يستطع إظهار دينه بينهم، ومعلوم أن الكفار بمكة كانوا محاربين لكل مسلم غير مجيزين إظهار الإسلام لديهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم (2)» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إني بريء من كل مسلم مع مشرك» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا تراءى نارهما» (3) وقال عليه الصلاة والسلام: «أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين» (4) فالخوف ليس عذرا في ترك الدعوة واعتزال الجماعة، فمن منا لا يخاف على نفسه وماله وأهله وعرضه؟ ولو كان مثل هذا الخوف يبيح ترك الدعوة واعتزال الجماعة لما نهض أحد بتكاليف الإسلام وقام بحق هذا الدين.
إن من يترك العمل للإسلام مع الجماعة الإسلامية بدون عذر شرعي
(1) انظر الفتاوى ابن تيمية (35، 36).
(2)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 411).
(3)
رواه النسائي انظر سنن النسائي (8/ 36) وقال الألباني: حديث حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير (2/ 17/ 1474).
(4)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 230) رقم الحديث (636).
وإنما خوف من نقص يصيبه في نفسه أو أهله أو ماله فإنه مرتكب لإثم عظيم وذنب كبير وتلك هي أعذار المنافقين قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[الفتح: 11] وهذا هو النفاق المحض (1) مع أن مقتضى الإيمان الصحيح أن لا يخشوا أحدا غير الله، ولذلك قال في آخر الآية المتقدمة (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) فالذين يعتزلون شعائر الإسلام والجماعة المسلمة، خوفا وتحسبا لنقص يصيبهم في أنفسهم أو أموالهم أو أهليهم، فهم مفضلون للدنيا على الآخرة وهم حينئذ داخلون تحت قول الله تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)[النحل: 107].
وقوله: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)[إبراهيم: 3] فلو كان هناك طريق للجهاد لا يخسر فيه الإنسان قطرة من دمه ولا درهما من ماله، ولا يفارق فيه أهلا ولا ولدا، لتسابق إليه المنافقون، ولما تحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة التضحية بالمال والنفس والأهل في سبيل الله مع وجود ما يقوم مقام ذلك، فإذا كان التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة واحدة موجب لوصف هؤلاء المتخلفين بالنفاق كما في قوله تعالى:(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[التوبة: 81، 82] فإذا كان هؤلاء سينالهم العذاب بتخلفهم عن معركة واحدة فما ظنك بمن يقف موقف المتفرج في صراع الحق مع الباطل بصفة
(1) انظر تفسير القرطبي (16/ 268).
مستمرة، إيثارا للسلامة، وطلبا للراحة، واستصغار للدعوة وأصحابها، ألا يكون هذا أعظم إثما ممن تخلف عن معركة واحدة.
ألا يكون موقف هذا المعتزل للدعوة والدعاة يوحي بعدم اكتراثه واهتمامه بالإسلام والمسلمين؟
إن الخوف من أهم الأسباب التي تقعد بضعاف الإيمان عن الموالاة في الله والمعاداة فيه.
إن الذين يعيشون لبطونهم وفروجهم، أخوف ما يخافون على حظوظهم الدنيوية، ولذلك تراهم يضحون بالإسلام والمسلمين، من أجل ذلك، فيدفعهم الخوف والجبن إلى تملق كل صاحب سلطة، ومجاراة كل طاغية، وإلى تحريف الكلم عن مواضعه طلبا لرضا ذوي السلطان، وأقل هؤلاء درجة من يلوذون بالصمت، في أشد المواقف حاجة إلى كلمة الحق عند السلطان الجائر.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره» (1) وهذا يدل على أن إيثار رضا المخلوق بما يجلب له سخط خالقه، نوع من الشرك، لأنه قدم رضا المخلوق على رضا الخالق عز وجل، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» رواه ابن حبان في صحيحه (2).
فالواجب على المسلم إذا عرف الحق أن يتبعه وأن يقول به دون
(1) الجامع الفريد ص (144).
(2)
المصدر السابق ص (145).
خوف من أحد، أو مجاملة لأحد، لأن هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والساكت عن الحق شيطان أخرس فكيف ينزل الخوف من الناس منزلة أعظم من منزلة الخوف من الله؟ إن هذا الأمر لا يجوز سواء في حق الفرد أو الجماعة المسلمة لأن المسلم إذا عرف الحق يجب عليه أن يتوكل على الله في الدعوة إليه وبيانه، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنفال: 64] وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 3] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له (1):(إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173].
أما إذا قصد الإنسان بأعماله الدنيا خاصة، فطبيعي أن يخشى على فراقها ويضحي بكل شيء في سبيل بقائها حتى ينسلخ من عقيدته وهذا لون من ألوان الشرك، قال تعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[هود: 15].
وعلى هذا فإن الخوف من غير الله الذي يجعل الإنسان يترك ما أوجب الله عليه من الواجبات الشرعية، هو نوع من أنواع الشرك يجب على المسلم الابتعاد عنه (2).
(1) رواه البخاري والنسائي انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (356، 357) وانظر مجموعة التوحيد (200، 201).
(2)
انظر الفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن (344).
قال تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[المائدة: 44].
وقد يقول قائل لماذا إذًا نرى بعض العلماء والمفكرين يتغاضون عن كثير من المنكرات والمحرمات في بلادهم ويتجاهلون وجودها؟ ألا يعني ذلك خوفهم من صاحب السلطان وبطشه؟
والجواب على ذلك في رأيي أنه ليس كل من رأى منكرا وسكت عنه يكون راضيا به أو خائفا من أن ينكره، ولكن قد يكون الإنكار في بعض الأحوال ليس هو الأصلح للدعوة والدعاة إلى الله وإن كان الإنكار بصفة عامة أمرا صالحا، وذلك راجع إلى طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه المسلم فقد يعيش المسلم في مجتمع ملتزم بالإسلام وفي هذه الحال يكفي أن يجهر بإنكار المنكر فيجد من السلطة والمجتمع العون الكامل لتغيير هذا المنكر وإزالته، وقد يكون المسلم في مجتمع أفراده مسلمون وسلطته كافرة، وفي هذا الحال يتوجه بالإنكار والدعوة إلى المجتمع لأن السلطة ليست مستعدة للاستجابة إلا بمنطق القوة، والقوة ليست متوفرة بأيدي الدعاة في كل الظروف.
وقد يكون المسلم في مجتمع كافر، بدولته وأفراده وفي مثل هذه الحال ليس من الحكمة الوقوف في وجه المجتمع كله وهو قطرة في بحر.
ففي مثل هذه الحال يلجأ إلى الدعوة الخاصة عن طريق الاتصال بالأفراد وربما بسرية تامة كما فعل نوح عليه السلام مع قومه وكما فعل نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في مكة حيث أمضى ثلاث سنوات يدعو الناس سرًا وتلك الأساليب في الدعوة هي من الحكمة التي أمرنا الله بها في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) [النحل: 125] وقال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ)[البقرة: 269] وبناء على ذلك فإن من يسلك إحدى هذه السبل مع مجتمعه الذي يعيش فيه لا يعتبر من المنقطعين عن الدعوة ولا يوصف بالخوف أو الجبن في تجاهله لبعض المنكرات، لأنه ينظر إلى الأمور بحكمة وروية تختلف عن نظرة أهل الضحالة في العلم والتفكير الذين يقعد بهم الخوف عن العمل للإسلام في كل الميادين، أو الذين يندفعون بلا حكمة ورؤية في محاربة قشور الباطل وأغصانه ناسين أو متناسين العمل الجاد لاقتلاع جذور الباطل واجتثاث أصوله من أعماقها، فالباطل كالشجرة التي كلما قطع منها غصن خرج بدل منه ولا يزول الباطل إلا باقتلاع أصله قال تعالى:(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم: 26، 27] ولذلك يجب أن نميز بين من يعمل لله بحكمة ومن يترك العمل لله خوفا من الناس.