المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية - جـ ١

[محماس الجلعود]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: المفهوم اللغوي للموالاة والتولي

- ‌المبحث الثاني: المفهوم اللغوي للمعاداة

- ‌المبحث الثالث: المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة

- ‌المبحث الرابع: بيان ارتباط عنوان الرسالة بالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية

- ‌الباب الأول: مشروعية الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

- ‌التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة

- ‌الفصل الأول: منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الأول: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف الصالح في الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌المبحث الرابع: ارتباط الموالاة والمعاداة بالشهادتين

- ‌المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولاً وعملاً

- ‌المبحث السادس: حكم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

- ‌المبحث السابع: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل

- ‌المبحث الثامن: مكانة الموالاة والمعاداة في الإسلام

- ‌المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة

- ‌المطلب الأول: المداهنة وحكمها

- ‌المطلب الثاني: المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة

- ‌المبحث العاشر: تغيير الأسماء لا يغير حقيقة المسمى وحكمه

- ‌الفصل الثاني: التطبيق العملي للموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله

- ‌المبحث الثاني: حقوق الموالاة بين المسلمين

- ‌المبحث الثالث: موالاة الأقليَّات الإسلامية

- ‌المبحث الرابع: أسباب تحقيق المعاداة في الله

- ‌المبحث الخامس: صورة من الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌الباب الثاني: في عوامل ضعف الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌التقديم: تحديد قضية هذا الباب

- ‌الفصل الأول: الجهل وصلته بالموالاة والمعاداة

- ‌الفصل الثاني: الاختلاف في مسألة من مسائل الفروع

- ‌الفصل الثالث: الاعتزال عن الجماعة المسلمة

- ‌المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال

- ‌المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان

- ‌المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال

- ‌الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌الفصل الخامس: العملاء الذين يوالون الأعداء للمصلحة الشخصية

الفصل: ‌المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال

‌المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال

إن مما لا شك فيه أن العلماء هم ورثة الأنبياء وهم الأتقى لله قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28].

ولو وجد هؤلاء العلماء أن طريق الاعتزال يقودهم إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة لسلكوه ودعوا الناس إليه، لأنهم هم الأعرف بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أقدر على استنباط الأحكام ومعرفتها كما قال تعالى:(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83] فلو استنبط العلماء جواز الاعتزال عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخلي عن جماعة المسلمين والاكتفاء بإصلاح النفس وتأدية الشعائر التعبدية المتعلقة بذات الفرد لما وقف العلماء تلك المواقف التي جعلتهم يقدمون أنفسهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله.

ص: 414

لقد كان بإمكان أولئك المجاهدين أن يلجئوا إلى الآيات والأحاديث التي قد يستوحى من ظاهرها جواز العزلة عن الصراع بين الحق والباطل، فيفسروا تلك النصوص على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه المضنية ويريحهم من سياط المتسلطين ومعتقلات الطغاة المجرمين ولكنهم أدركوا أن هذا الطريق الذي سلكوه هو الطريق الصحيح، فمشوا فيه مستهينين ومستصغرين وصابرين على جميع العقبات التي تواجههم فيه حيث إن ذلك الطريق هو طريق الجهاد الموصل إلى مرضاة الله وجنته يقول أحد هؤلاء المجاهدين:

وسبيل دعوتنا الجهاد، وإنه

إن ضاع ضاعت حرمة الأوطان

والموت أمنية الدعاة، فهل ترى

ركنا يعاب بهذه الأركان؟ (1).

وسنعرض في هذا المبحث نماذج حية لرجال عمر الإيمان قلوبهم فلم يأبهوا بجاه أو سلطان، ولم يرضخوا لجبروت أو طغيان، بل لقد كافحوا الطغيان في أوج قوته وبطشه وقهروا الجبروت في عنفوانه وتطاوله ولم يكن لهم من سلاح سوى سلاح الإيمان الذي يعلو به المؤمن فوق كل سلاح لقد كان بإمكان هؤلاء جميعا أن يعيشوا مع أممهم وحكامهم بغير هذا الأسلوب وغير هذا الطريق، لو أنهم أرادوا العيش الرغيد والمتاع الزهيد الذي يتكالب عليه علماء السوء وسماسرة الطغاة، ولكنهم كانوا أكبر من أن تفتنهم الدنيا أو تقعد بهم الشهوات والشبهات، ومواقف العلماء في ذلك أكثر من أن تحصر ولكن حسبنا أن نذكر بعض الصور للذكرى إن الذكرى تنفع المؤمنين فمن هذه المواقف ما يلي:

أولا موقف سعيد بن جبير (2) مع الحجاج:

كان سعيد بن جبير رحمه الله معروفا بشدة الورع والتقوى قد أوتي

(1) انظر شعراء الدعوة الإسلامية أحمد الجدع وحسني جرار (5/ 7).

(2)

هو سعيد بن جبير الأسدي الوالبي من أكابر أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح مات رحمه الله سنة (95 هـ)، وله من العمر (74) سنة انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 98، 99) وانظر الإسلام بين العلماء والحكام للبدري (138 - 143).

ص: 415

لسانا ناطقا بالحق، وقلبا حافظا للعلم، وسرعة بديهة بإلقاء الحجة القوية في وجه الخصم، وكان الحجاج معروفا بالفسق والتعدي على حرمات الناس في أنفسهم وأموالهم، فخاف من وجود سعيد بن جبير بين الرعية نظرا لحبها له وثقتها به فقرر التخلص منه بالترغيب والترهيب.

فقد حمل سعيد بن جبير إلى الحجاج ولما دخل عليه سأله الحجاج عدة أسئلة كلها سخرية وتبكيت واستهزاء فرد عليه سعيد ردًا مفحمًا.

ثم أمر الحجاج بطبق مملوء باللؤلؤ والزبرجد، والياقوت فجمعه بين يده لعل ذلك يغري سعيد بن جبير فيكون ثمنا لصمته وسكوته، ولكن سعيدا أدرك الهدف من ذلك وقال للحجاج: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ولا خير في شيء للدنيا إلا ما طاب وزكا (1).

فلم ينفع الحجاج هذا الإغراء بالمال والذهب، فليس ابن جبير من عباد المال، ولا من الذين يبيعون دينهم بدنياهم، ولذلك ضاق الحجاج ذرعا بسعيد فقال له: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟ فقال سعيد: اختر أنت لنفسك فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، فقال: أتريد أن أعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.

فأمر به الحجاج فذبح من الوريد إلى الوريد ولسانه رطب بذكر الله (2).

(1) انظر الإسلام بين العلماء والحكام (141).

(2)

انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 112) وانظر الإسلام بين العلماء والحكام عبد العزيز البدري (138 - 143).

ص: 416

وقد قيل للحسن البصري رحمه الله: إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير فقال: اللهم أنت على فاسق ثقيف، والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار (1) اهـ.

وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه (2) اهـ.

ثانيًا: عندما قام المأمون بتأييد المعتزلة ضد أهل السنة والجماعة في مسألة القول بخلق القرآن، وقف الإمام أحمد رحمه الله ناصر السنة وهازم البدعة كالطود الشامخ لم يرهبه تهديد أو يرغبه إغراء ووعيد، حتى لقد أشفق عليه بعض تلاميذه وأقربائه، فقد جاءه عمه إسحاق فقال: يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله، وبقيت أنت في الحبس والضيق، فقال: يا عم إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟ (3) اهـ.

ثالثًا: عندما سجن الإمام أبو حنيفة رحمه الله بعد أن ضرب بأمر أبي جعفر المنصور، زارته أمه في السجن فقالت له: يا نعمان إن علما ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيق بك أن تنفر عنه فأجابها: يا أمه لو أردت الدنيا لوصلت إليها، ولكني أردت أن يعلم الله أني صنت العلم ولم أعرض نفسي فيه للهلكة (4).

رابعًا: إن الجهاد والتعرض للاستشهاد أعظم أجرا وأنفع للمسلمين من الذين يخفون رءوسهم في التراب رغم رؤيتهم للمنكرات ظانين أن قيامهم ببعض شعائر الإسلام التي لا تكلفهم شيئا من أنفسهم وأموالهم كافية في حملهم إلى مراتب الشهداء والصالحين والمجاهدين في سبيل الله.

(1) المصدر السابق نفس المكان.

(2)

المصدر السابق نفس المكان.

(3)

انظر الإسلام بين العلماء والحكام للبدري (165 - 166).

(4)

انظر المصدر السابق رقم الصفحة (221).

ص: 417

ومع أن الحق خلاف ما توهموه، حيث إن الواجب هو الجمع بين تأدية شعائر التعبد، مع الجهاد مع الجماعة المسلمة لنصرة هذا الدين بالقول والفعل، وهذا ما فهمه العالم المجاهد عبد الله بن المبارك (1) رحمه الله حيث كان يحج سنة ويجاهد أخرى حتى توفي وهو في درب الجهاد، وكان هذا العالم الجليل صديقا للفضيل بن عياض (2) وكان الفضيل منقطعا للعبادة في أشرف مكان وهو المسجد الحرام، فكتب عبد الله بن المبارك رسالة وقصيدة إلى أخيه الفضيل بن عياض يقول في بعض أبياتها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا

قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي غبار خيل الله في

أنف امرئ ودخان نار تلهب

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميت لا يكذب (3)

لقد كتب ابن المبارك هذا الكلام في وقت لم يكن الجهاد فيه فرض عين كما هو الحال حيث يستبيح اليهود والنصارى والشيوعيون معظم البلاد الإسلامية، وقد وصف ابن المبارك انقطاع صديقه لنوافل العبادات بأنها لعب وهي عبادة تقع في أشرف بقعة على هذه الأرض، ترى ماذا يقول ابن المبارك عن أدعياء العلم الذين يفتون بمصالحة اليهود على مقدسات المسلمين والذين يركعون تحت أقدام الطغاة المستبدين؟ رحم الله العلماء العامملين الذين لا يبررون أخطاءهم وأخطاء حكام السوء في عصرهم بمبررات واهية، تبيح لهم ترك الجهاد، وتبرر للطغاة المجرمين البطش والتنكيل بأهل الحق والرشاد.

(1) انظر ترجمته ص (251) من هذه الرسالة.

(2)

انظر ترجمته ص (144) من هذه الرسالة.

(3)

انظر الإسلام بين العلماء والحكام للبدري ص (229)، وانظر تذكرة الدعاة لبهي الهولي ص (212)

ص: 418

خامسا: إن في موقف العز بن عبد السلام من الملك الصالح أيوب صاحب مصر درسا لمن لا يخشى إلا الله تعالى فقد استضاف الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الملقب بالعز بن عبد السلام الملك الصالح أيوب حيث نزل الشيخ ضيفا عنده في مصر بعد أن طرد الشيخ من الشام، وفي يوم من الأيام كان الملك أيوب في محفل من المحافل، قد أحاط به الأمراء والحكام ورجال الجيش وسراة الحاشية، وأقبل الناس عليه يقبلون يديه ويحنون له الهامات ويطأطئون له الرءوس في موكب يشعر بالذلة والخضوع لغير الله فخرج العز بن عبد السلام يشق الصفوف المتراصة ويفري الجموع المحتشدة ليهتف في وجه الملك في قوة المؤمن وعزم الموحد لم تباع الخمور في عهدك وأنت ساه لاه في هذه الأبهة وهذا النعيم؟ وما كان للسلطان إلا أن يعتذر في رفق، ويجيب في لين أنا ما علمت بهذا .. لعله من زمان أبي فيعيد العز بن عبد السلام قولته أشد مضاء من سابقتها فيقول: ما زدت عن كونك من الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23] فيأمر السلطان بإغلاق تلك الخمارة فيسأل الشيخ رجل من خاصته ممن أدهشتهم جرأة الشيخ في الحق أمام هذه الجموع فيقول: أما خفته؟ فقال الشيخ: والله يا بني .. لقد استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط الصغير (1).

سادسا: موقف الشيخ ابن تيمية رحمه الله وهو في السجن حيث كتب إليه بعض إخوانه يشيرون عليه بالموافقة والمجاراة والمداهنة لخصومه ليتخلص من السجن فقال في رسالة رد بها عليهم قوله: أما بعد فقد وصلت الورقة التي ذكر فيها الشيخان الناسكان، ما ذكرا، جعلهما الله من الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، وعلموا أن الله ناصر حزبه ومنجز وعده، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، ولكن بما اقتضت.

(1) انظر الإيمان وأثره في نهضة الشعوب، يوسف العظم (59 - 62).

ص: 419

حكمته ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان (1).

قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1 - 3].

سابعا: من المواقف العلماء الذين اختاروا طريق الجهاد والدعوة إلى الله على طريق العزلة والاعتزال، موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وذلك أنه ثار في وجه الشرك والمشركين غير مبال بما يلاقيه في سبيل الله، وبعد أن شاع أمر الدعوة وأصبحت خطرا يهدد أهل الفسق والفجور، تآمر عليه بعض الفسقة وسطوا على بيته ليلا لاغتياله، فعلم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا، فلم يطمئن الشيخ بعد هذه الحادثة إلى المقام في حريملاء، فانتقل منها إلى العيينة وتلقاه أميرها ابن معمر بالقبول والمناصرة في أول الأمر ولكنه كان واليا من قبل ابن عرير حاكم الأحساء، وقد وشى بعض دعاة السوء وجهل الضلال بالشيخ إلى ابن عرير فكتب إلى ابن معمر خطابا يأمره فيه بطرد الشيخ من بلده فما كان من ابن معمر إلا أن ينفذ أمر سيده، ومنها انتقل الشيخ إلى الدرعية حيث كتب الله له النصر بالتعاون مع الإمام محمد بن سعود (2).

ثامنا: من مشاركة العلماء في قضايا أمتهم وجهادهم الذي يستعلي على الإغراءات المادية ما حصل من جمال الدين الأفغاني (3) مع سلطان

(1) انظر العقيدة والآداب الإسلامية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (325 - 329).

(2)

هو الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن من قبيلة عنزة تولى حكم الدرعية سنة (1139) وبعد توليه بتسعة عشر عاما التقى بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وتعاونا معا في مجاهدة أهل الشرك والضلال إحدى وعشرين سنة حتى توفي الإمام سنة (1179) بعد إمارة دامت أربعين سنة انظر عنوان المجد في تاريخ نجد عثمان بن بشر (63).

(3)

هو جمال الدين الأفغاني من أشهر أعلام الإسلام في القرن التاسع عشر

الميلادي القرن الثالث عشر الهجري ولد في أسعد آباد على مقربة من كنار من أعمال كابل في أفغانستان عام 1254 هـ الموافق (1838) من أسرة حنفية المذهب درس العلوم الإسلامية في صباه ثم انصرف وهو في الثانية عشرة من عمره إلى دراسة الفلسفة وقام بعدة جولات في العالم الإسلامي والعالم كله، وهو يجمع بين الكتابة والخطابة والصحافة والسياسة، كان من أكبر الدعاة إلى فكرة الجامعة الإسلامية وأنشأ في فرنسا مجلة العروة الوثقى بالاشتراك مع تلميذه محمد عبده وتوفي جمال الدين الأفغاني عام (1897) انظر دائرة المعارف الإسلامية (7/ 95، 100) وانظر الموسوعة الحركية فتحي يكن (1/ 21 - 26).

ص: 420

تركيا حيث أراد السلطان عبد الحميد أن يشتري صمته فمنحه رتبة قاض عسكري وهي وظيفة يسيل لها لعاب كثير من أصحاب المناصب والشهوات بما تقتضيه من رواتب وحلل زاهية ومركز مرموق في نظر عبدة الدرهم والدينار، ولكن جمال الدين الأفغاني لم يكن من هذا النوع فعندما جاء رجال السلطان يتسابقون إليه بهذه البشرى قال لهم: قولوا لمولاكم السلطان: إن جمال الدين الأفغاني يرى رتبة العلم هي أعلى رتبة ثم قولوا له: إنني لا أستطيع أن أكون مثل البغل المزركش (1).

وفي موقفه الثاني درس للذين لا يهتمون إلا بمصلحتهم الخاصة وراحتهم النفسية ولو كان ذلك على حساب الإسلام والمسلمين فقد هبط إلى مطار تركيا منفيا من إيران فسأله أحد مستقبليه عن حقائب متاعه فقال: أما صندوق الكتب فها هنا، مشيرا إلى صدره، وأما صندوق الثياب فهذه مشيرا إلى الجبة التي يرتديها ثم قال: كنت في أول عهدي بالنفي أستصحب جبة ثانية وسراويل ولكن لما توالى النفي صرت أستثقل الجبة الثانية، فآثرت ترك التي علي إلى أن تخلق فأستبدلها بغيرها (2).

تاسعا: يقول الشيخ عمر التلمساني رئيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر: إنني في كل ما أسعى إليه أبتغي مصلحة الدعوة الإسلامية.

(1) انظر الإيمان وأثره في نهضة الشعوب يوسف العظم (65، 66).

(2)

انظر المصدر السابق.

ص: 421

وليست لي مصلحة خاصة، فأنا لا أطمع أن أكون وزيرا أو مديرا وقد بلغت من العمر ستة وسبعين عاما فماذا انتظر بعد ذلك؟ ولولا أنها بيعة لله تتطلب وفاء وتضحية في سبيله، لاعتزلت العمل في ذلك ولكني أريد أن ألقى الله عز وجل ببيعي وليكن ما يكون (1).

ولم يمنع رئيس دولة العلم والإيمان، كما يدعي زورا وبهتانا، من أن يعتقل هذا الشيخ المسن الذي بلغ من العمر سبعة وسبعين عاما بغيرذنب سوى أن يقول ربي الله في الوقت الذي يكتفي فيه السادات بتجريد صوري للبابا شنودة من منصب لا يملك فيه حلاً ولا عقدًا (2).

لقد كان بإمكان هؤلاء العلماء المجاهدين، أن يتحولوا إلى علماء انعزاليين ووعاظ مسكنة، يقرءون أفكار الحكام ورغباتهم قبل أن ينطقوا بها فيصدروا لهم الفتاوى المعلبة الجاهزة ويلوون أعناق النصوص ويتكلفون في التأويل البعيد عن مدلول النص ومفهومه، ويستدلون بالضعيف من الأدلة كي يكسبوا مقعدا وثيرا بجانب حاكم ظالم، ويقبضوا مالا وفيرا ولو كان هذا المال قد سلب من عرق الكادحين، وقوت الضعفاء والمساكين ولكن العلماء العاملين أدركوا بما فتح الله عليهم من علم نافع وفهم ثاقب وهداية في القول والعمل أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته وجنته، وأن الجهاد يكون بالحسنى تارة عندما يكون الضالون أفرادا يحتاجون إلى الإرشاد والتقويم، وتنوير الأفهام وإيضاح الطريق المستقيم، ويكون تارة بالقوة حين تملك الفئة الباغية قوة تقف بها في طريق الناس لتصدهم عن الحق والهدى وتعطل بقوتها تنفيذ شريعة الله (3).

فهل يبقى لدعاة الاعتزال مستمسك بعد هذا التوضيح والبيان؟

(1) المجتمع الكويتية عدد 476 السنة الحادية عشرة في 29/ 5/ 1400 ص (25).

(2)

انظر المجتمع الكويتية عدد (5422) السنة الحادية عشرة في (9/ 11/ 1401) هـ ص (18) وانظر صحيفة الأنباء العدد (2050) السنة السادسة في (8/ 11/ 1401) ص (1/ 19).

(3)

انظر هذا المعنى في ظلال القرآن سيد قطب (7/ 63).

ص: 422