المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية - جـ ١

[محماس الجلعود]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: المفهوم اللغوي للموالاة والتولي

- ‌المبحث الثاني: المفهوم اللغوي للمعاداة

- ‌المبحث الثالث: المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة

- ‌المبحث الرابع: بيان ارتباط عنوان الرسالة بالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية

- ‌الباب الأول: مشروعية الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

- ‌التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة

- ‌الفصل الأول: منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الأول: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية

- ‌المبحث الثالث: أقوال السلف الصالح في الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌المبحث الرابع: ارتباط الموالاة والمعاداة بالشهادتين

- ‌المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولاً وعملاً

- ‌المبحث السادس: حكم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

- ‌المبحث السابع: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل

- ‌المبحث الثامن: مكانة الموالاة والمعاداة في الإسلام

- ‌المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة

- ‌المطلب الأول: المداهنة وحكمها

- ‌المطلب الثاني: المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة

- ‌المبحث العاشر: تغيير الأسماء لا يغير حقيقة المسمى وحكمه

- ‌الفصل الثاني: التطبيق العملي للموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله

- ‌المبحث الثاني: حقوق الموالاة بين المسلمين

- ‌المبحث الثالث: موالاة الأقليَّات الإسلامية

- ‌المبحث الرابع: أسباب تحقيق المعاداة في الله

- ‌المبحث الخامس: صورة من الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌الباب الثاني: في عوامل ضعف الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌التقديم: تحديد قضية هذا الباب

- ‌الفصل الأول: الجهل وصلته بالموالاة والمعاداة

- ‌الفصل الثاني: الاختلاف في مسألة من مسائل الفروع

- ‌الفصل الثالث: الاعتزال عن الجماعة المسلمة

- ‌المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال

- ‌المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان

- ‌المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال

- ‌الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة في الله والمعاداة فيه

- ‌الفصل الخامس: العملاء الذين يوالون الأعداء للمصلحة الشخصية

الفصل: ‌التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة

‌التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة

إن مما فطرت عليه النفس البشرية، منذ أن خلقها الله عز وجل صفة الحب والبغض أي الموالاة والمعاداة قال تعالى:(فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[الروم: 30] فإن استقامت النفس البشرية على منهج الله، أعطت ولاءها لله ورسوله ثم للمؤمنين بهذا الدين، وإن انحرفت على منهج الفطرة، وانتكست في مفاهيمها وتصوراتها، وران عليها ما اكتسبت من سيئات وذنوب، وتبلد إحساسها، أعطت ولاءها لمخلوقات هزيلة، ومفاهيم عفنة، وأعراف ظالمة، فلو نظرنا إلى تاريخ الأمم مع الرسل والأنبياء والصالحين، قبل الرسالة المحمدية، لتبدت لنا تلك الحقيقة ناصحة ظاهرة لا لبس فيها ولا غموض.

فهذا إبراهيم عليه السلام، يعلن بكل قوة وصراحة وحزم، وعداوته للكفر وأهله، واعتزالهم وما يعبدون، وانحيازه إلى الله عز وجل وموالاته.

ص: 57

له، وذلك فيما حكاه عنه القرآن الكريم في قوله الله تعالى:(يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا)[مريم: 44 - 49] وفيما ذكر الله عنه أيضا في قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4] وفي قصة أصحاب الكهف موقف يماثل موقف إبراهيم عليه السلام في عداوة الكفر وأهله ومفاصلة الكفر مفاصلة تامة، فقد ذكر الله تعالى حكاية بعضهم لبعض قال تعالى:(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا)[الكهف: 16] إن في تلك الآيات تنويها، بأثر الإيمان بالله في النفوس مما جعلها تعادي أعداءه، وتمنحه ودها وولاءها، فتختار الهجرة فرارا بدينها من بطش الحكام الظالمين، وتجعل العداوة لهم في الله سببا في عدم الرضوخ لمشيئتهم وجبروتهم.

وفي قصة مؤمن آل فرعون، الذي كتم إيمانه بالحق في قلبه، لفترة من الزمن، نجده عند ساعة الخطر والشدة، يبوح بمكنون سره، ويندفع يدافع عن موسى عليه السلام بمنطق الفطرة المؤمنة، في حذر ومهارة، وقوة وذكاء قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ

ص: 58

أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28] وهكذا استمر الصراع بين الحق والباطل واستمر الولاء والعداء، تتقاذفه الأعراف، وتكيفه المفاهيم، حتى نصل إلى العرب قبل الإسلام، فنجد أنهم لا يختلفون عن أي مجتمع جاهلي، سبقهم أو لحقهم، في سوء التصور، وفساد الاعتقاد بالموالاة والمعاداة حتى وصل بهم الأمر إلى أن يعادي الإنسان منهم ابنته، فلذة كبده، فيقتلها موالاة للعرف الجاهلي، ولكسب رضا العشيرة والقبيلة، وخوفا من شماتتها وعدائها، فقد روي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مالك تكون محزونا؟» فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبرني عن ذنبك؟» فقال: يا رسول الله أني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنتا فشفعت إلي أمها أن أتركها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء، فخطبها الناس، فدخلتني الغيرة والحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زوج فقلت لامرأتي أني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بأجمل الثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر بحجة أن نرتوي منه فلما وصلنا نظرت إلى البئر ففطنت البنت أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت أي شيء تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر فأهم بإلقائها ومرة انظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر، وهي تنادي قتلتني يا أبي، فمكثت غير

ص: 59

بعيد عنها حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال: «لو كنت أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك» (1). اهـ. فهذه القصة وأمثالها تمثل مدى الولاء للعرف الجاهلي في ظلمه وقسوته ووحشيته وهي واحدة من عشرات بل مئات المهازل والسخافات التي كانت تزجر بها حياة أهل الجاهلية الأولى وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (2) وانحرافهم في ولاء العبادة، لا يقل عن انحرافهم في ولائهم الاجتماعي ففي مجال العبادة يوالون ويعادون من أجل مخلوقات جامدة صماء لا تنفع ولا تضر قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[الحج: 73] وقوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا)[الفرقان: 3].

وفي مجال التعاون والمحبة، نجد الموالاة العمياء للعشيرة والقرابة سواء كانت على حق أم على باطل، ظالمة أم مظلومة، هذا ما عبر عنه شاعرهم بقوله:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وقال الشاعر الجاهلي أيضا:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

فما معنى قولهم ذلك؟ أليس هو الولاء الأعمى لمن يستحق ومن لا

(1) انظر تفسير القرطبي (4/ 7/ 97).

(2)

انظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني (1/ 624).

ص: 60

يستحق؟ للظالم أو المظلوم على حد سواء، لقد بقيت تلك المقاييس العوجاء في الموالاة والمعاداة، أحقابا من الزمن، حتى اشرقت عليهم شمس الإسلام بعدالة الملك العلام، فسما الوحي الإلهي بنزعة الولاء والعداء من أفقها الضيق الظالم المحدود إلى أن ترتبط بخالق هذا الكون العظيم وبالناس جميعا، في هذه الأرض، وهذا ما عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه، في إيوان كسرى حيث قال:(الله ابتعثنا لنخرج من شائن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)(1).

فوجد الذين وفقهم الله إلى هذا الدين، بغيتهم وضالتهم المنشودة، حتى أحبوهم أكثر من أنفسهم وأموالهم وأولادهم ووالديهم.

ورحب الناس بالإسلام حين رأوا

أن الإخاء وأن العدل مغزاه

أرواحنا تتلاقى فيه خافقة

كالنحل إذا يتلاقى في خلاياه

دستوره الوحي والمختار عاهله

والمسلمون وإن شتوا رعاياه (2)

وتحقق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة رضي الله عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (3).

أي مضاهاة بين المجتمع الإسلامي السليم التكوين، وبين الجسد البشري الواحد يمكن أن تكون أكثر أحكاما ودقة رؤية، ومن هذه المضاهاة والماثلة التي دل عليها الحديث.

إن ردود الفعل لعوادي الألم وسهام الأذى في الجسم الواحد، تكون

(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (7/ 39).

(2)

شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث أحمد الجدوع وحسني جرار (2/ 65، 67).

(3)

صحيح البخاري (8/ 12)(دار التراث العربي بيروت).

ص: 61

عفوية فورية، وتظل دائمة ماثلة، ما دام العضو المتألم يقاسي الألم ويشعر بالأذى.

ذلك هو المجتمع المؤمن المسلم، الذي من دلائل إيمانه وصحة إسلامه، تواده وتعاطفه وتراحمه، ذلك هو الالتحام الحقيقي بين أفراد الأمة المسلمة الأمة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم وتبعه في السهر عليها خلفاؤه الراشدون من بعده فهذا التلاحم قد أورث المسلمين وضعا فذا فريدا دام مئات السنين، فلا تحل نكبة بطرف من أطراف المسلمين، إلا ويفزع المجتمع المسلم لذلك الحدث ويتألم ويسهر لذلك ويقدم من نفسه وماله ووقته الشيء الكثير، ولم يعرف للراحة طعما، إلا بزوال النكبة الحاصلة على جزء منه، وبراءة ذلك العضو المصاب كما هو شأن الجسد البشري، وهذا التصرف والموقف، من أشد ما كان يغيظ أعداء الإسلام ويرهبهم، جميعا، ذلك أنهم يجدون أنفسهم في مواجهة أمة قوية متماسكة متناصرة تدافع عن الجزء منها كما تدافع عن الكل، وتعتبر ما يصيب الجزء واقعا على الكل ولكن هذه الصفة وتلك السمة الفريدة التي تميزت بها هذه الأمة، أصابها الضعف والوهن عند قلة قليلة من المسلمين، وماتت موتا تاما عند معظمهم، وذلك حين أصيبت هذه الأمة بالشلل المزمن، نتيجة جرعات من وسائل التحدير حقنها الأعداء في جسمها أدى إلى فقدان الإحساس لديها، بما يعانيه أفرادها من ويلات ونكبات، لقد تم ذلك بمكر خبيث وخطة مرسومة من أعداء الإسلام، اتفق في تنفيذها علينا كل من الشرق والغرب، وذلك لما تتمتع به بلاد المسلمين من كونها منبع الرسالة الخالدة، وتحتوي على أهم مصادر الثروة في العالم، ولا يتسنى لهم الحصول على ذلك إلا بزرع أسباب الفرقة بين المسلمين وإضعاف روح الموالاة بينهم.

فخرج علينا الغرب بنظرية عبادة المادة والشهوة والشهرة فمن أجلها يوالى وعليها يعادى، فالمال هو الذي يحرك حب الإنسان وبغضه في

ص: 62

المجتمع الرأسمالي، وقد سرت إلينا عدوى هذه الأفكار الأثمية نتيجة الاختلاط مع الكفار على أسس وتصورات غير إسلامية، كما تسربت إلينا أيضا عدوى الأفكار الشيوعية وحيث يعطي الفرد في المجتمعات الشيوعية ولاءه للنظام الحاكم، فهو عبد مملوك للدولة، وآلة صماء في يدها يواليها قهرا، ويعادي من عاداها جبرا، فتأثرت بلاد المسلمين بتلك النزعة، فصار معظم المسلمين يوالون الدولة أو الحزب الحاكم أو الشخص الحاكم موالاة عمياء، إما بدافع المصلحة الشخصية، أو خوفا من سلطة المتسلطين وطغيان الطغاة الظالمين، إن معظم المسلمين اليوم، لا يتحملون من واجب الموالاة والمعاداة في الله شيئا، نظرا لأنهم يعيشون في عزلة تامة عن دينهم وما يوجب عليهم من حب وبغض وموالاة ومعاداة.

فمن المسلمين من شغله ماله ومنصبه وجاهه عن الموالاة في الله والمعادة فيه، فصار من أجل هذه الأشياء يوالي وعليها يعادي، وكم رأينا من الإحن والخصومات والعدوات بين ذوي القربى من أجل حطام الدنيا ومتاعها الفاني.

وهناك فئة ثانية توالي أهل الرذائل وتعادي أهل الفضائل، وهي فئة تعبد الأهواء والشهوات، فهي توالي كل من يوصلها إلى المرأة المبتذلة، والكأس المترعة، والأصوات الماجنة، والفئة الثالثة وهي الأكثر خطورة من هذه وتلك، أولئك الذين اتخذوا الرياضة إلها لهم من دون الله، فعليها يوالون ومن أجلها يعادون فقد أحبها البعض أكثر من حبه لله ورسوله والمؤمنين وهذا شرك أكبر قال تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ)[البقرة: 165] وقد يظن البعض أن هذا الكلام تهجم على الرياضة واستخفاف بها، والحقيقة أنني لست ضد الرياضة كوسيلة تقوية، وتهذيب، وترويح، ولكنني ضدها كوسيلة

ص: 63

لإلهاء الشعوب واستعباد العقول، وتبديد الثروات، وإهدار الطاقات، فيما لا طائل تحته.

وقد شغلت هذه اللعبة اليهودية (1) أبناء المسلمين عن دراسة القرآن الكريم، وعن آحاديث الرسول المصطفى العظيم، وعن التحصيل العلمي في مختلف جوانب المعرفة كما شغلت الناس عن متاجرهم ومصانعهم ومزارعهم وعن مهن أخرى لا تعد ولا تحصى، كان من الممكن أن يستثمر هذا الوقت الطويل فيها، فالأمة بحاجة إلى كل شاب في المجتمع، كي يكون عضوا فعالا لا يهدر دقيقة فضلا عن ساعات طوال في سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، لقد وصل الهوس والغلو والتنطع عند أصحاب الرياضة، إلى درجة الجنون والعبادة لهذه اللعبة، فقد اعتزل كثير منهم صلاة الجمعة والجماعة، وانقطع للرياضة صياحا وصفيرا في الملاعب، واعتكافا في مقر النادي، وجدلا سقيما عقيما مع خلانه في السهر، وزملائه في العمل، وقراءة للصحف والمجلات الرياضية، واستماعا للمباريات المحلية والدولية والإقليمية المرئية منها والمسموعة، بل لقد وصلت الموالاة والمعاداة بين اللاعبين إلى درجة الكفر والعياذ بالله وذلك أنه إذا كان في أحد النوادي من أعضائه أو من اللاعبين شخص كافر، فإن المنتسبين إلى هذا النادي على مختلف المستويات يحبون ويناصرون ويساعدون هذا الكافر بالقول والعمل، ويمنحونه خالص مودتهم القلبية، بينما يكنون أعظم الحقد والغل والاستخفاف والإزدراء للمسلم الذي ينتمي إلى نادي آخر، ولو كان شابا نشأ في عبادة الله، ويعرفون عن حياة اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين أكثر مما يعرفون عن حياة العشرة المبشرين بالجنة.

فكيف يدعي الإسلام من هذه حالهم والله عز وجل يقول: (لا تَجِدُ قَوْمًا

(1) انظر بروتوكولات حكماء صهيون البروتوكول الثالث عشر (168) ترجمة محمد خليفة التونسي.

ص: 64

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22].

فإذا كان الآباء والأبناء الكفار المحادون لله ورسوله، لا تجوز مودتهم فكيف بهؤلاء الكفار الذين هم أعداء لله ورسوله والذين آمنوا أمثال (بيليه وريفيليون، وتوماس، وغيرهم من أدوات الكفر ومخالبه) لقد أصبحت فرحة أعضاء النادي بانتصارهم الموهوم المزعوم أعظم مكانة وأجل قدرا من الانتصار على اليهود في فلسطين، وعلى الشيوعيين في أفغانستان، وعلى الصليبين في ارتريا والفلبين، كما أن هزيمتهم، أما أحد النوادي أشد وقعا من اغتصاب تلك الأماكن وتشريد ملايين اللاجئين من المسلمين، إن السواد الأعظم من المسلمين قد انحرفوا بواجب الموالاة والمعاداة عن منهجه الصحيح وبدأوا يوالون ويعادون في قضايا سطحية ساذجة تافهة هزيلة، أشبه ما تكون بتصرفات صبيانية، وهذا النمط من التفكير، من الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من ذلة ومهانة، وازدراء، وقطيعة (1).

ونحن أمة قد شرفها الله بحمل رسالة الإسلام، وإبلاغها للناس كافة وهذا يتطلب منا جهدا وتضحية والتزاما وجدية في الحياة حيث نختلف في غايتنا ووسيلتنا عن الأمم العابثة الهابطة الغارقة في أوحال الشهوات والشبهات.

لقد حول أعداء الإسلام قضية الموالاة والمعاداة عن مسارها الصحيح

(1) لقد شبه أحد المشجعين المنتخب الكويتي بعد تصدره على فرق أسيا وذهاب إلى أسبانيا بأنه شبيه بفتح الأندلس، وعقد مقارنة بين صقر قريش عبد الرحمن الداخل واللاعب فيصل الدخيل وجعل أفراد المنتخب في مصاف الصحابة الأجلاء فقال:«رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» إنها مأساة جيل ربي على السخافة والسفاهة واللهو والولاء لغير الله انظر المجتمع عدد (552) في (19/ 2/ 1402) ص (7).

ص: 65

إلى مسار تافه هزيل، فقد أفرغت قلوب الأجيال إلا من عصم الله من حب الله ورسوله، وحب أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ومن حب العلماء العاملين وكتب العلم، وحب القوة وأسبابها الحقيقية إلى حب أعداء الله، وما يخدم أعداء الله من تافه القول وساقط العمل.

إنه لا يجوز ولا يصح من المسلم أن يحب لعبة من اللعب، ولا كتاب من الكتب، ولا شخصا، أو جماعة من الناسن ولا نظاما من الأنظمة، ولا مذهبا من المذاهب ولا عملا من الأعمال، ما لم يكن ذلك موافقا لما يحبه الله ورسوله، ومستمدا محبته من محبتها، قال تعالى:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 31، 32].

فالمسلم بحكم إيمانه بالله تعالى لا يحب إذًا أحبّ إلا في الله، ولا يبغض إذًا أبغض إلا في الله، لأنه لا يحب إلا ما يحب الله ورسوله، ولا يكره إلا ما يكره الله ورسوله، فهو إذًا يحب الله ورسوله بحب ويبغضهما ببغض ودليل هذا الآية السابقة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم «من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (1).

وبناء على هذا فجميع عباد الله الصالحين يحبهم المسلمين ويواليهم وجميع الخارجين عن أمر الله ورسوله يبغضهم ويعاديهم.

إن الواجب علينا إذا كنا مسلمين صادقين، أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نضع الخطط التي تتفق مع أهداف ديننا وطموحات أمتنا، وأن نوالي ونعادي وفق مفهوم الإسلام وتصوره الصحيح، بدلا من الموالاة والمعاداة على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 112) رقم الحديث (380).

ص: 66

فهل يستيقظ النائمون وينتبه الغافلون والمخدوعون من هذه الأمة أم (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}؟ [الحجر: 72].

ص: 67