الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: المرتبة الأولى، الإيمان بعلم الله الشامل
وقد كثر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تقرير هذا الأصل العظيم، فعلم الله محيط بكل شيء، يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجود والمعدوم، والممكن والمستحيل.
وهو عالم بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم، ويخلق السماوات والأرض.
وكل ذلك مقتضى اتصافه – تبارك وتعالى – بالعلم، ومقتضى كونه – تبارك وتعالى – هو العليم الخبير السميع البصير. قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22] وقال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]. وقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]. وقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]. وقال الحق مقرراً علمه بما لم يكن لو كان كيف سيكون وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [الأنعام:28]، فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم. وقال في الكفار الذين لا يطيقون سماع الهدى: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال:23]. ومن علمه تبارك وتعالى بما هو كائن علمه بما كان الأطفال الذين توفوا صغاراً عاملين لو أنهم كبروا قبل مماتهم. روى البخاري في (صحيحه) عن ابن عباس قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)) (1). وروى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدرين أن الله خلق الجنة والنار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً)) (2). وفي رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة قالت: ((دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) (3). وهذه الأحاديث تتحدث عن علم الله في من مات صغيراً، لا أنّ هؤلاء يدخلهم الله النار بعلمه فيهم من غير أن يعملوا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم في أبناء المشركين:((الله أعلم بما كانوا عاملين)) (أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، ويبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار)) فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم). (4)
(1) رواه البخاري (6597).
(2)
رواه مسلم (2662).
(3)
رواه مسلم (2662).
(4)
((مجموع الفتاوى)) (4/ 246).
الأدلة العقلية على أن الله علم مقادير الخلائق قبل خلقهم: والحق أن وجود هذا الكون، ووجود كل مخلوق فيه يدل دلالة واضحة على أن الله علم به قبل خلقه، (فإنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، لأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم). وأيضاً فإن (المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم). واستدل العلماء على علمه تبارك وتعالى بقياس الأولى: (فالمخلوقات فيها ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً).
والاستدلال بهذا الدليل له صيغتان:
أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين:
أحدهما عالم والآخر غير عالم، كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: كل علم في المخلوقات فهو من الله تبارك وتعالى، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه، بل هو أحق به، ذلك أن كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به، وكلَ نقص تنزه عنه مخلوق ما، فتنزه الخالق عنه أولى. وكل هذه الأدلة يمكنك أن تلمحها في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. ويستدل على علمه – تبارك وتعالى – بإخباره بالأشياء والأحداث قبل وقوعها وحدوثها، فقد أخبر الحق في كتبه السابقة عن بعثة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وصفاته وأخلاقه وعلاماته، كما أخبر عن الكثير من صفات أمته، وأخبر في محكم كتابه أن الروم سينتصرون في بضع سنين على الفُرس المجوس، ووقع الأمر كما أخبر، والإخبار عن المغيبات المستقبلة كثير في الكتاب والسنة. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص26